تفسير قوله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ}

وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ۝ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ [التوبة:56-57].

يُخبر الله تعالى نبيّه ﷺ عن جزعهم وفزعهم وفرقهم وهلعهم أنَّهم يحلفون بالله: إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ يمينًا مُؤكّدة، وَمَا هُمْ مِنْكُمْ أي: في نفس الأمر، وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ أي: فهو الذي حملهم على الحلف.

لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أي: حصنًا يتحصَّنون به، وحرزًا يتحرَّزون به، أَوْ مَغَارَاتٍ وهي التي في الجبال، أَوْ مُدَّخَلًا وهو السّرب في الأرض والنَّفق. قال ذلك في الثلاثة ابنُ عباسٍ ومجاهد وقتادة.

لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ أي: يُسرعون في ذهابهم عنكم؛ لأنَّهم إنما يُخالطونكم كرهًا، لا محبَّةً، وودُّوا أنَّهم لا يُخالطونكم، ولكن للضَّرورة أحكام؛ ولهذا لا يزالون في همٍّ وحزنٍ وغمٍّ؛ لأنَّ الإسلام وأهله لا يزال في عزٍّ ونصرٍ ورفعةٍ؛ فلهذا كلما سُرّ المسلمون ساءهم ذلك، فهم يودّون أن لا يُخالطوا المؤمنين؛ ولهذا قال: لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ.

الشيخ: وهذا فعل المنافقين؛ لمرض قلوبهم وفسادها، هذا شأنهم: يُجاملون الناس، ويُراؤون الناس، وهم في الباطن من أضلِّ الناس، وأكفر الناس؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ من شدّة نفاقهم وبُغضهم للحقِّ وكفرهم وضلالهم؛ ولهذا توعدهم الله بالدَّرك الأسفل من النار تحت الكفَّار، نعوذ بالله، نسأل الله العافية.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ۝ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ [التوبة:58-59].

يقول تعالى: وَمِنْهُمْ أي: ومن المنافقين مَنْ يَلْمِزُكَ أي: يعيب عليك في قسم الصّدقات إذا فرَّقتها، ويتّهمك في ذلك، وهم المتّهمون، المأبونون، وهم مع هذا لا يُنكرون للدِّين، وإنما يُنكرون لحظِّ أنفسهم؛ ولهذا: فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ.

الشيخ: لأنَّ عيبهم ولمزهم كلّه بأهوائهم، لا بدينٍ وغيرةٍ، ولكن بأهوائهم وما في قلوبهم من المرض، فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا سكتوا، وإلا سخطوا وتكلّموا، نسأل الله العافية.

أي: يغضبون لأنفسهم.

قال ابنُ جريج: أخبرني داود ابن أبي عاصم قال: أُتي النبي ﷺ بصدقةٍ، فقسمها هاهنا وهاهنا حتى ذهبت. قال: ووراءه رجلٌ من الأنصار، فقال: ما هذا بالعدل! فنزلت هذه الآية.

وقال قتادة في قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ يقول: ومنهم مَن يطعن عليك في الصدقات. وذكر لنا أنَّ رجلًا من أهل البادية حديث عهدٍ بأعرابية أتى النبي ﷺ وهو يقسم ذهبًا وفضَّةً، فقال: يا محمد، والله لئن كان اللهُ أمرك أن تعدل ما عدلتَ. فقال نبيُّ الله ﷺ: ويلك! فمَن ذا الذي يعدل عليك بعدي؟! ثم قال نبيُّ الله: احذروا هذا وأشباهه، فإنَّ في أمتي أشباه هذا؛ يقرؤون القرآن لا يُجاوز تراقيهم، فإذا خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم. وذكر لنا أنَّ نبي الله ﷺ كان يقول: والذي نفسي بيده، ما أُعطيكم شيئًا، ولا أمنعكموه، إنما أنا خازن.

وهذا الذي ذكره قتادةُ يُشبه ما رواه الشيخان من حديث الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي سعيدٍ في قصّة ذي الخُويصرة، واسمه: حرقوص، لما اعترض على النبي ﷺ حين قسم غنائم حنين، فقال له: اعدل، فإنَّك لم تعدل! فقال: لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل، ثم قال رسولُ الله ﷺ وقد رآه مُقفيًّا: إنَّه يخرج من ضئضئ هذا قومٌ يحقر أحدُكم صلاتَه مع صلاتهم، وصيامَه مع صيامهم، يمرقون من الدِّين مروق السَّهم من الرَّمية، فأينما لقيتُموهم فاقتلوهم، فإنَّهم شرُّ قتلى تحت أديم السَّماء.

الشيخ: وهم الخوارج، خرجوا في زمن عليٍّ ومعاوية، وقاتلهم علي ، هذا .....، نسأل الله العافية.

س: لكن في الرِّواية السابقة قال: أنَّه رجلٌ أعرابي؟

ج: ..... أعرابي.

س: يعني: هذه الرِّواية هي نفسها السَّابقة؟

ج: الروايات يُفسّر بعضُها بعضًا.

س: ما الصحيح في كفر الخوارج؟

ج: الصحيح أنَّهم كفَّار مثلما قال ﷺ: يمرقون من الإسلام مروق السَّهم من الرمية، والأكثرون يقولون: إنَّهم ليسوا بكفَّارٍ، ولكنَّهم أتوا كبيرةً عظيمةً، وبدعةً عظيمةً يستحقّون عليها القتل. ولكن ظاهر النصوص كفرهم، نسأل الله العافية.

س: جميع فرقهم؟

ج: مَن قال بقولهم: كفَّروا المسلمين، وأساءوا بهم الظنّ، نسأل الله العافية، وجعل دينَه تكفير مَن أتى المعصية، نسأل الله العافية.

س: .............؟

ج: هم كفَّار بعملهم، كفَّار؛ لأنَّهم يُكفِّرون المسلمين، ويُقاتلونهم، ويَدَعون أهل الأوثان، ومن هذا أنَّهم قاتلوا عليًّا، وقاتلوا معاوية .....، ويقول النبي ﷺ: يُقاتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، نسأل الله العافية.

س: .............؟

ج: المعتزلة ..... منزلة بين المنزلتين، لكنَّهم يُشبهونهم، يجتمعون معهم في أنَّ الأصل مُخلّد في النَّار.

س: وعلى أي شيءٍ يُحمل قول عليٍّ: إخواننا بغوا علينا؟

ج: هؤلاء البُغاة معاوية وأصحابه، ما هم الخوارج، هذا كان في معاوية وأصحابه.

س: ما المقصود بالقتل هنا؟

ج: قتل المرتدين.

س: خبت وخسرت .....؟

ج: يعني: خبتَ وخسرتَ إن كان نبيُّك لا يعدل.

س: عدم سبيهم من الصَّحابة ؟

ج: لأجل شُبهة الإسلام، كما في البُغاة.

ثم قال تعالى مُنَبِّهًا لهم على ما هو خيرٌ لهم من ذلك فقال: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ [التوبة:59]، فتضمنت هذه الآية الكريمة أدبًا عظيمًا، وسرًّا شريفًا، حيث جعل الرِّضا بما آتاه الله ورسوله، والتوكل على الله وحده، وهو قوله: وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ، وكذلك الرَّغبة إلى الله وحده في التوفيق لطاعة الرسول ﷺ، وامتثال أوامره، وترك زواجره، وتصديق أخباره، والاقتفاء بآثاره.