يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [النساء:171].
ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء، وهذا كثيرٌ في النَّصارى، فإنَّهم تجاوزوا الحدَّ في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه اللهُ إياها، فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتّخذوه إلهًا من دون الله يعبدونه كما يعبدونه.
الشيخ: لفظ الجلالة ساقطٌ، يعني: يعبدون عيسى كما يعبدون الله، يعني: أشركوه مع الله في العبادة، نعم، ساقطة: كما يعبدون الله.
قبله أيش؟ أعد الكلمة التي قبله.
الشيخ: يعني: كما يعبدون الله، نعم.
الشيخ: والمقصود من هذا التَّحذير من عملهم السيئ، الخطاب لهم، ولكن المقصود نحن، مثلما قال حُذيفة: "مضى القوم ولم يُعْنَ به سواكم"، يقول في أهل الكتاب: لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ يعمّ اليهود والنَّصارى، وهو تحذيرٌ لنا، فالنَّصارى غلوا في عيسى، واليهود غلوا في عزير، وغلوا في أحبارهم ورُهبانهم، كلّهم غلوا في أحبارهم ورهبانهم، وعبدوهم من دون الله، فالمعنى: احذروا يا أمّة محمد أن يُصيبكم ما أصاب أولئك، وأن تفعلوا فعلهم.
والغلو هو: الزيادة في القول والعمل، والإطراء يكون في القول، والغلو يعمّهما: في القول والعمل.
والغلو والإطراء هو: الزيادة في وصف المغلو فيه بإنزاله منزلةً لا يستحقّها، فقد ينتقل ويرتفع إلى الشِّرك الأكبر، وقد يكون ما هو دونه، فهم جعلوه الله .....، وثالث ثلاثة .....، وهكذا اليهود مع عُزير، وهكذا مع أحبارهم ورُهبانهم استغاثوا بهم، ونذروا لهم، وذبحوا لهم، فكانت تلك خصالًا كُفريةً وأعمالًا شركيَّةً خرجوا بها من دائرة الإسلام التي خُلقوا لها.
فالواجب على أمّة محمدٍ ﷺ أن يحذروا هذا العمل السيئ، وأن يتناصحوا في ذلك؛ لئلا يُصيبهم ما أصاب أولئك الهالكين من المغضوب عليهم والضَّالين، نسأل الله العافية.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم، قال: زعم الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباسٍ، عن عمر: أنَّ رسول الله ﷺ قال: لا تُطروني كما أطرت النَّصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبدالله ورسوله.
ثم رواه هو وعلي بن المديني، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري كذلك، ولفظه: إنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبدالله ورسوله.
وقال علي بن المديني: هذا حديثٌ صحيحٌ سنده.
وهكذا رواه البخاري عن الحميدي، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، به، ولفظه: فإنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبدالله ورسوله.
الشيخ: والإطراء هو مُجاوزة الحدّ في القول؛ ولهذا لما قالوا: أنت سيدنا. قال: السيد الله، يا أيها الناس، قولوا بقولكم، أو بعض قولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، ومن طبيعة الشيطان، من خلقه: تزيين الباطل للناس، فكل قومٍ يأتيهم من الجهة التي يرجو أن يستجيبوا له فيها ويطمع، فتارةً من جهة الغلو، وتارةً من جهة الجفاء، فمَن رأى عنده رغبة في الدِّين جاءه من جهة الغلو، ومَن كانت عنده خصال الجفاء جاءه من جهة الجفاء، وزاده جفاء.
فالواجب على المكلّف الحذر والتوسط في الأمور، والحذر من الميل إلى غلو وإطراء، أو إلى جفاء وتفريط، وهذا هو الحقّ، فالرسل والأنبياء والأخيار لهم حقّهم وصفاتهم الكريمة، وتعظيمهم التَّعظيم الذي شرعه الله: باتِّباع ما جاءوا به، والسير على منهاجهم، والدعوة إلى ما جاءت به الرسل، مع الحذر من التعظيم الذي يختصّ بالله، فهذا إلى الله، وليس لغيره من دعوتهم، والاستغاثة بهم، واعتقاد أنهم يعلمون الغيب، أو أنهم يتصرَّفون في الكون، أو ما أشبه ذلك مما يعتقده الضّلال.
س: وصف العالِم في بعض التراجم بأنَّه حُجّة الله على الناس، فهل في هذا غلو؟
ج: هذا محتمل، حُجّة الله من جهة ما عنده من العلم، وأنه يُقيم الحجّة على الناس حتى يعرفوا حقّ الله، هذا مُرادهم، يعني: أنه يُقيم الحجج، وتقوم به الحجّة على الناس.
س: الغلو في العلماء حتى ولو ظهرت منهم أخطاء تُخالف الشَّرع؟
ج: الغلو: مُجاوزة الحدّ في القول والفعل، هذا هو الغلو، إذا وصفوا بما لا يليق بهم من الغلو صار غلوًّا، فإذا قيل: إنَّ هذا العالِم لا يُخطئ، وأنَّه يعلم الغيب، وأنه يسمح أن يُدعا من دون الله، أو ما أشبه ذلك، هذا هو الغلو، هذا جنس الغلو، نسأل الله العافية.
س: ما يقع في الموالد كالمولد النَّبوي؟
ج: الموالد قد يقع فيها شرٌّ، قد يقع فيها كثيرٌ من الغلو.
س: من قال أنَّ عالِمًا لا يُخطئ، فهل يكفر؟
ج: الذي يظهر أنَّه إذا بُيِّنَ له الأمر وأصرّ يكفر؛ لأنَّ العلماء أجمعوا على أنَّه ليس أحدٌ معصومًا سوى الرسل، فمَن كذَّب الإجماع، وكذَّب ما عُلِمَ من الدِّين بالضَّرورة، وأصرّ عليه بعد إقامة الحجّة؛ يكفر، نسأل الله العافية.
س: ..............؟
ج: "زعم" بمعنى: قال، لغتان، "زعم" تُستعمل بمعنى: قال، وتُستعمل بمعنى الكذب، مثل قول ضمام بن ثعلبة: زعم رسولك أنَّك تأمر بكذا. زعم رسولك أنَّك تأمر بالصلوات، زعم رسولك أنَّ علينا زكاة، يعني: قال رسولك.
الشيخ: وهو إسنادٌ صحيحٌ، وهذا من باب التواضع، وسدِّ وسائل الشِّرك، وسدِّ طرق الشرك، وإلا فهو سيد ولد آدم، لكن خاف عليهم أن ينقلهم هذا إلى أن يدعوه ويستغيثوا به، أو يعتقدوا فيه ما لا يجوز، فقال: قولوا بقولكم، أو بعض قولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، وهو سيد ولد آدم، وهو خير الناس عليه الصلاة والسلام، لكن من باب التواضع وسدّ الذَّرائع المفضية إلى الشِّرك نبَّههم عليه الصلاة والسلام.
س: .............؟
ج: أنكر عليهم: قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، هذا إنكارٌ، ما هو بإقرارٍ، هذا إنكارٌ في الجميع.
س: ..... قول: "سيدنا محمد" في الخطب والمواعظ .....؟
ج: تارةً، وتارةً، إذا قاله تارةً لبيان الحقِّ، وتارةً لئلا يظن أحدٌ الغلو، تارةً، وتارةً، مثلما قال ﷺ: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر.
س: السند صحيحٌ؟
ج: نعم، في "الصحيحين" وغيرهما.
وقوله تعالى: وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ أي: لا تفتروا عليه وتجعلوا له صاحبةً وولدًا، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، وتنزّه وتقدّس وتوحد في سُؤدده وكبريائه وعظمته، فلا إله إلا هو، ولا ربّ سواه؛ ولهذا قال: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ أي: إنما هو عبدٌ من عباد الله، وخلقٌ من خلقه، قال له: "كن" فكان، ورسولٌ من رسله: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ أي: خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبريل عليه السلام إلى مريم، فنفخ فيها من روحه بإذن ربه ، فكان عيسى بإذنه ، وكانت تلك النَّفخة التي نفخها في جيب درعها، فنزلت حتى ولجت فرجها، بمنزلة لقاح الأب والأم، والجميع مخلوق الله ؛ ولهذا قيل لعيسى: إنَّه كلمة الله وروحٌ منه؛ لأنَّه لم يكن له أبٌ تولد منه، وإنما هو ناشئٌ عن الكلمة التي قال له بها: "كن" فكان، والروح التي أرسل بها جبريل، قال الله تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ [المائدة:75]، وقال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59]، وقال تعالى: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:91]، وقال تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا [التحريم:12] إلى آخر السورة، وقال تعالى إخبارًا عن المسيح: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ [الزخرف:59].
وقال عبدُالرزاق: عن معمر، عن قتادة: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ هو قوله: "كن" فيكون.
الشيخ: والمعنى: أنَّه من جملة الأرواح التي خلقها وأوجدها، "روح الله" من باب إضافة التَّشريف، مثل: بيت الله، وناقة الله، ورسول الله، فجميع الأرواح كلها خلقه وإيجاده، جميع أرواح ذوات الأرواح كلّها من خلقه وإيجاده سبحانه، فروح عيسى، وروح آدم، وروح جميع الرسل، وروح جميع الناس كلّها منه خلقًا وإيجادًا، لكن روح عيسى وأرواح الأخيار تُضاف إليه إضافة تشريفٍ وتكريمٍ، كما يقال: بيت الله، وناقة الله، ورسول الله.
وقال ابنُ أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي، قال: سمعتُ شاذان بن يحيى يقول في قول الله: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ قال: ليس الكلمة صارت عيسى، ولكن بالكلمة صار عيسى.
وهذا أحسن مما ادّعاه ابنُ جرير في قوله: أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ أي: أعلمها بها، كما زعمه في قوله: إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ [آل عمران:45] أي: يعلمك بكلمةٍ منه، ويجعل ذلك كقوله تعالى: وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [القصص:86]، بل الصحيح أنها الكلمة التي جاء بها جبريلُ إلى مريم، فنفخ فيها بإذن الله، فكان عيسى .
وقال البخاري: حدثنا صدقة بن الفضل: حدثنا الوليد: حدثنا الأوزاعي: حدثني عُمير بن هانئ: حدثنا جنادة ابن أبي أمية، عن عبادة بن الصَّامت، عن النبي ﷺ قال: مَن شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، وأنَّ عيسى عبدالله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، وأنَّ الجنةَ حقٌّ، والنار حقٌّ، أدخله اللهُ الجنة على ما كان من العمل.
وقال الوليد: فحدثني عبدالرحمن بن يزيد بن جابر، عن عمير بن هانئ، عن جنادة، زاد: من أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيّها شاء.
وكذا رواه مسلم، عن داود بن رشيد، عن الوليد، عن ابن جابر، به. ومن وجهٍ آخر عن الأوزاعي، به.
فقوله في الآية والحديث: وروحٌ منه كقوله: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية:13] أي: من خلقه، ومن عنده، وليست "من" للتبعيض كما تقوله النصارى -عليهم لعائن الله المتتابعة-، بل هي لابتداء الغاية كما في الآية الأخرى.
وقد قال مجاهد في قوله: وَرُوحٌ مِنْهُ أي: ورسوله منه. وقال غيره: ومحبّة منه.
والأظهر الأول: وهو أنَّه مخلوقٌ من روحٍ مخلوقةٍ، وأُضيفت الروح إلى الله على وجه التَّشريف، كما أُضيفت النَّاقة والبيت إلى الله في قوله: هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ [الأعراف:73]، وفي قوله: أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ [البقرة:125].
الشيخ: وهذا كلّه من باب التَّشريف والتَّكريم كما تقدّم، فقوله في هذه الشَّهادة: مَن شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، وأنَّ عيسى عبدالله ورسوله، "عبدالله" في الردِّ على النَّصارى، "ورسوله" ردٌّ على اليهود المكذّبين، وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه بيان أنَّه عبدٌ من عباد الله، مخلوقٌ من خلق الله، وشهد أنَّ الجنة حقٌّ، والنار حقٌّ؛ أدخله اللهُ الجنةَ على ما كان من العمل يعني: مَن أتى بهذه الشَّهادة صادقًا -مات على التوحيد والإيمان- فله الجنة: إمَّا من أول وهلةٍ إن سلم من الكبائر، وإلا بعد التَّطهير والتَّمحيص، فإنَّ النصوص يصدق بعضها بعضًا، ويفسّر بعضها بعضًا، ويُقيد مُقيدها مُطلقها، ويُقيد خاصّها عامّها.
فأحاديث فضل التوحيد المطلقة مُقيدة بالأحاديث التي فيها الشِّرك، وأنَّ مَن مات على الشِّرك دخل النار، وأنَّ مَن مات على الكبائر فهو تحت المشيئة، وهذا من جنس قوله جلَّ وعلا: هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7] كما في القرآن.
هكذا في السنة: فالتفصيل والتَّقييد يُزيل التَّشابه، والمشتبه يرد إلى المحكم، هكذا قال أهل السنة والجماعة وأهل الحقِّ، فما أشكل من عامٍّ أو مُطلق فُسِّر بالمقيد والخاصّ، فما جاء في فضل التوحيد، وفضل شهادة أن لا إله إلا الله، وما أشبه ذلك مُقيد بالنصوص الأخرى التي فيها أداء فرائض الله، وترك محارم الله، فلا بد من هذا، فإذا أتى بالتوحيد الخالص الصَّادق فإنَّ هذا الصدق يحمله على أداء الواجبات، وترك المحارم، وإلا كان توحيده ضعيفًا، وإيمانه ناقصًا، لكن متى استقام على أمر التوحيد وأمر الإيمان وكمل لم يقدم صاحبه على المعاصي، ولم يصرّ عليها؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ [آل عمران:135-136].
وفي الحديث الصحيح: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مُكفّرات لما بينهنَّ إذا اجتنب الكبائر، وفي اللَّفظ الآخر: ما لم تغشَ الكبائر، وهي الصّلوات الخمس التي هي عمود الإسلام، وأعظم الأركان بعد الشهادتين، فمَن مات عليها وهو مُصرٌّ على بعض الكبائر صار تحت المشيئة.
وهكذا قوله جلَّ وعلا: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء:31] فنص جلَّ وعلا على أنَّ العباد باجتنابهم الكبائر تُكفّر عنهم السّيئات الصِّغار، وكل إنسانٍ على خطرٍ من هذه الكبائر، فالواجب الحذر دائمًا، وأن يكون على حذرٍ من جميع السيئات، وكلما أحسّ بشيءٍ أو علم شيئًا بادر بالتوبة والإقلاع والنَّدم، حتى لا يكون مُصرًّا.
س: الدار في حديث: فأدخل على ربي في داره؟
ج: يعني: محلّه.
س: قوله في الحديث: وأنَّ عيسى عبدالله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، بعض الناس حينما يُسْلِم نصراني يُلزمه أن ينطق بهذه الكلمة مع الشَّهادتين؟
ج: يُبين له حتى لا تبقى العقيدةُ في قلبه، يُبين له ما دلَّ عليه الحديث.
س: يستنطقه بها مع الشهادتين؟
ج: حتى يعرف أمر عيسى، ويزول ما في قلبه من الغلو، فتوضيح هذا له مهم؛ لأنَّ هذا من عقيدته، فإذا وضح له أنَّ عيسى عبدالله ورسوله، وكلمته وروحٌ منه، وأنه ليس بإلهٍ، وليس بولدٍ لله، وليس ثالث ثلاثةٍ، يكون الأمر أوضح.
س: لكن هل يلزمه أن ينطق بها عند الشَّهادتين؟
ج: يلزمه أن يقرّ بذلك، يلزمه أن يعلم ذلك، ويلزمه أن يقرّ بذلك، يعتقد ذلك، يقرّ أنَّ عيسى عبدالله ورسوله، وليس هو ابن الله، وليس هو الله، وليس هو ثالث ثلاثةٍ، يعني: لا بد أن يعتقد هذا حتى يزول من قلبه ما كان من عقيدة النَّصارى. والمعلم إذا علَّمه هذا يكون من تمام التوجيه إلى الخير.
وكما رُوي في الحديث الصحيح: فأدخل على ربي في داره، أضافها إليه إضافة تشريفٍ، وهذا كله من قبيلٍ واحدٍ، ونمطٍ واحدٍ.
وقوله: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أي: فصدقوا بأنَّ الله واحدٌ أحد، لا ولدَ له ولا صاحبة، واعلموا وتيقّنوا بأنَّ عيسى عبدالله ورسوله؛ ولهذا قال تعالى: وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ أي: لا تجعلوا عيسى وأمّه مع الله شريكين، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
وهذه الآية كالتي في سورة المائدة، حيث يقول تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ [المائدة:73]، وكما قال في آخر السورة المذكورة: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي [المائدة:116]، وقال في أوَّلها: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة:17]، فالنصارى -عليهم لعائن الله- من جهلهم ليس لهم ضابطٌ، ولا لكفرهم حدٌّ، بل أقوالهم وضلالهم مُنتشر، فمنهم مَن يعتقده إلهًا، ومنهم مَن يعتقده شريكًا، ومنهم مَن يعتقده ولدًا، وهم طوائف كثيرة، لهم آراء مُختلفة، وأقوال غير مُؤتلفة.
ولقد أحسن بعضُ المتكلمين حيث قال: لو اجتمع عشرةٌ من النَّصارى لافترقوا على أحد عشر قولًا.
الشيخ: يعني: من فساد عقولهم وفساد تصوراتهم لو اجتمع عشرةٌ لاختلفوا حتى يزيد الاختلافُ على عددهم من اضطرابهم، بدل "عشرة" يكون أحد عشر.
ولقد ذكر بعضُ علمائهم المشاهير عندهم، وهو سعيد بن بطريق -بترك الإسكندرية في حدود سنة أربعمئة من الهجرة النبوية- أنهم اجتمعوا المجمع الكبير الذي عقدوا فيه الإمامة الكبيرة التي لهم -وإنما هي الخيانة الحقيرة الصَّغيرة-، وذلك في أيام قُسطنطين -باني المدينة المشهورة-، وأنَّهم اختلفوا عليه اختلافًا لا ينضبط ولا ينحصر، فكانوا أزيد من ألفين أسقفًا، فكانوا أحزابًا كثيرةً، كل خمسين منهم على مقالةٍ، وعشرون على مقالةٍ، ومئة على مقالةٍ، وسبعون على مقالةٍ، وأزيد من ذلك وأنقص.
فلمَّا رأى منهم عصابةً قد زادوا على الثلاثمئة بثمانية عشر نفر، وقد توافقوا على مقالةٍ، فأخذها الملكُ ونصرها وأيّدها، وكان فيلسوفًا داهيةً، ومحق ما عداها من الأقوال.
الشيخ: وهذا الاضطراب يدلّ على فساد أقوالهم، وفساد تصوراتهم، وفساد عقولهم، نسأل الله السلامة.
وانتظم دست أولئك الثلاثمئة والثمانية عشر، وبُنيت لهم الكنائس، ووضعوا لهم كتبًا وقوانين، وأحدثوا فيها الأمانة التي يُلقنونها الولدان من الصِّغار؛ ليعتقدوها ويعمدونهم عليها، وأتباع هؤلاء هم الملكانية.
ثم إنَّهم اجتمعوا مجمعًا ثانيًا، فحدث فيهم اليعقوبيَّة، ثم مجمعًا ثالثًا، فحدث فيهم النّسطورية.
وكلّ هذه الفِرق تُثبت الأقاليم الثلاثة في المسيح، ويختلفون في كيفية ذلك، وفي اللَّاهوت والنَّاسوت على زعمهم: هل اتّحدا، أو ما اتّحدا، أو امتزجا، أو حلّ فيه؟ على ثلاث مقالات، وكلّ منهم يُكفّر الفرقة الأخرى، ونحن نُكفّر الثلاثة؛ ولهذا قال تعالى: انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ أي: يكن خيرًا لكم.
الشيخ: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء:82] فهم في أمرٍ مريجٍ، مَن حاد عن الحقِّ صار إلى الأمر المريج، وصار إلى الاضطراب والاختلاف؛ ولهذا لما حادوا عن الحقِّ والصواب والأمر الواضح مرج أمرهم، وهكذا أصحاب البدع -أصحاب الكلام- لما حادوا عن الحقِّ مرج أمرُهم واختلفوا: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ [ق:5]، نسأل الله العافية والسلامة.
س: عندما يموت أحدُ المستشرقين الكفرة هل يجوز لي تخصيصه باللَّعن؟
ج: ما ينبغي، لا، يقول النبي ﷺ: لا تسبّوا الأموات، فإنَّهم قد أفضوا إلى ما قدَّموا، أما اللَّعن على العموم: لعن الله الكافرين، لعن الله النصارى، لعن الله اليهود، لعن الله الكفَّار، لعن الله العُصاة، لا بأس.
س: نسبة الجهل إلى النَّصارى؟
ج: هم أجهل –النَّصارى-؛ ولهذا هم مُضطربون، لا يستقيم لهم أمرٌ، وهل أجهل ممن يقول: إنَّ عيسى المولود من امرأةٍ أنَّه الله، أو ثالث ثلاثةٍ؟! سبحان الله!