تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ..}

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ۝ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34-35].

قال السدي: الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى.

وهو كما قال؛ فإنَّ الأحبار هم علماء اليهود، كما قال تعالى: لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ [المائدة:63]، والرُّهبان: عباد النَّصارى، والقسيسون: علماؤهم، كما قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا [المائدة:82].

والمقصود التَّحذير من علماء السُّوء وعباد الضَّلال، كما قال سفيان بن عيينة: مَن فسد من عُلمائنا كان فيه شبهٌ من اليهود، ومَن فسد من عبادنا كان فيه شبهٌ من النصارى.

وفي الحديث الصحيح: لتركبن سنن مَن كان قبلكم حذو القذّة بالقذّة، قالوا: اليهود والنَّصارى؟ قال: فمَن؟ وفي روايةٍ: فارس والروم. قال: فمَن الناس إلا هؤلاء؟.

والحاصل التحذير من التَّشبه بهم في أقوالهم وأحوالهم.

الشيخ: وما ذاك إلا لأنَّ الناس يتأسّون بعلمائهم وعُبَّادهم، فحذَّرهم اللهُ جلَّ وعلا من التَّأسي بعلماء الشَّر وعُبَّاد الشر الذين ينتسبون إلى العلم وهم براء منه، وأنَّ العبادة براء منهم؛ لكفرهم وشركهم وضلالهم، قال جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ، ما قال: كلهم، قال: كَثِيرًا مِنَ فيهم علماء صالحون، وفيهم عباد صالحون، ولكن الأكثرون ضلال.

وهنا قال: إِنَّ كَثِيرًا، وفي الآية الأخرى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31]، اتّخذ عامَّتُهم أحبارَهم ورُهبانهم أربابًا من دون الله، وأحلّوا ما أحلّوا، وحرَّموا ما حرَّموا بغير برهانٍ، كما في حديث عدي لما قال: يا رسول الله، لسنا نعبدهم. قال: أليسوا يُحلّون ما حرّم الله فتُحلّونه، ويُحرّمون ما أحلَّ الله فتُحرِّمونه؟ قال: بلى. قال: فتلك عبادتهم.

فالواجب على المسلمين الأخذ بالحق، وإذا أخطأ العالم وجب ترك الخطأ، والأخذ بالحق، فالعالم يُخطئ ويُصيب، والعابد يُخطئ ويُصيب.

فالواجب هو الأخذ بالحق، فإذا غلط العالم، أو أخطأ العابد، أو ضلَّ عن السبيل؛ وجب أن يحذر، ولا يجوز التَّشبه بأهل الكتاب في ذلك، لا يجوز التَّشبه بهم في اتِّخاذ أحبارهم ورُهبانهم أربابًا من دون الله، ولا يجوز التَّأسي بهم في الانحراف عن .....؛ لأجل الطَّمع والدنيا والحظّ العاجل، بل يجب على العالم أن يتَّقي الله، وأن يُراقب الله، وأن يقبل الحقّ أينما كان، لا يخاف في الله لومة لائم.

وعلى العالم، وعلى كل مسلمٍ أن يتَّقي الله، وأن يستقيم على الحقِّ، ويخلص لله العمل، ولا يتعبد الله على جهالةٍ، بل يتعلم ويتبصر حتى يعبد الله على بصيرةٍ.

ولهذا قال تعالى: لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وذلك أنهم يأكلون الدنيا بالدِّين، ومناصبهم ورئاستهم في الناس يأكلون أموالهم بذلك، كما كان لأحبار اليهود على أهل الجاهلية شرفٌ، ولهم عندهم خرج وهدايا وضرائب تجيء إليهم، فلمَّا بعث اللهُ رسولَه ﷺ استمرّوا على ضلالهم وكفرهم وعنادهم؛ طمعًا منهم أن تبقى لهم تلك الرّياسات، فأطفأها الله بنور النبوة، وسلبهم إياها، وعوّضهم الذل والصَّغار، وباءوا بغضبٍ من الله تعالى.

وقوله تعالى: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: وهم مع أكلهم الحرام يصدون الناسَ عن اتِّباع الحقِّ، ويلبسون الحقّ بالباطل، ويُظهرون لمن اتَّبعهم من الجهلة أنَّهم يدعونه إلى الخير، وليسوا كما يزعمون، بل هم دُعاة إلى النار، ويوم القيامة لا يُنصرون.

الشيخ: وأخبر النبي ﷺ في حديث حُذيفة: أنَّ في آخر الزمان أناسًا دُعاة إلى جهنم، مَن أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله، صفهم لنا. قال: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا.

فالواجب الحذر، وأن تُوزن أقوال الناس وأعمالهم بالكتاب والسُّنة، فما شهد له الكتاب أو السنة الصَّحيحة بأنَّه حقٌّ وجب الأخذ به، وما شهد له الكتاب أو السنة أو كلاهما بأنه باطلٌ وجب تركه، ولو قاله مَن قاله من الكبار والعُظماء، قال تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء:59] يعني: العاقبة، وقال سبحانه: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى:10].

هذان ميزانان: الكتاب والسنة، تُوزن بهما أعمال الناس وأقوالهم ودعواتهم، فما رجح فيهما أو في أحدهما فهو الحقّ، وما خالفهما فهو الباطل.

س: يدخل في ذلك دُعاة المعاصي؟

ج: كذلك دعاة المعاصي مثلهم، حتى دعاة المعاصي يجب الحذر منهم، لكن دعاة الكفر أشدّ وأخطر، ودعاة المعاصي: دعاة الزنى، دعاة الربا، دعاة القمار، دعاة الفواحش الأخرى كلّهم يجب الحذر منهم.

س: وهم دُعاة على أبواب جهنم؟

ج: نعم؛ لأنَّ المعاصي .....

وقوله: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ هؤلاء هم القسم الثالث من رؤوس الناس، فإنَّ الناس عالة على العلماء، وعلى العباد، وعلى أرباب الأموال، فإذا فسدت أحوالُ هؤلاء فسدت أحوالُ الناس، كما قال ابنُ المبارك:

وهل أفسد الدين إلا الملو ك وأحبار سوءٍ ورُهبانها

وأما الكنز فقال مالك: عن عبدالله بن دينار، عن ابن عمر: هو المال الذي لا تُؤدّى زكاته.

وروى الثوري وغيره، عن عبيدالله، عن نافع، عن ابن عمر قال: ما أُدِّي زكاته فليس بكنزٍ، وإن كان تحت سبع أرضين، وما كان ظاهرًا لا تُؤدَّى زكاته فهو كنزٌ.

وقد رُوي هذا عن ابن عباسٍ وجابر وأبي هريرة موقوفًا ومرفوعًا.

الشيخ: وجاء هذا المعنى من حديث أم سلمة رضي الله عنها: أنها قالت للنبي ﷺ في حُليها: أكنزٌ هذا؟ قال ﷺ: ما أُدِّي زكاته فليس بكنزٍ، وهو حديثٌ جيد الإسناد، والمعنى: أنَّ ما لم تخرج زكاته يُسمّى: كنزًا، وإن كان على ظهر الأرض، وإن كان بين يديه يراه الناس، هو كنزٌ يُعذَّب به صاحبه إذا لم يُؤدِّ حقَّه، وما أُدِّيت زكاته فليس بكنزٍ، ولو كان تحت الأرض.

وقال عمر بن الخطاب نحوه: أيما مالٍ أُدِّيت زكاته فليس بكنزٍ، وإن كان مدفونًا في الأرض، وأيما مالٍ لم تُؤدّ زكاته فهو كنزٌ يُكوى به صاحبه، وإن كان على وجه الأرض.

وروى البخاري من حديث الزهري، عن خالد بن أسلم.

الشيخ: انظر "التقريب": خالد بن أسلم.

قال: خرجنا مع عبدالله بن عمر فقال: هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلمَّا نزلت جعلها اللهُ طهرةً للأموال.

وكذا قال عمر بن عبدالعزيز وعراك بن مالك: نسخها قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً الآية [التوبة:103].

الشيخ: ومعنى "نسخها" يعني: أوضح معناها، النَّسخ هنا بمعنى: البيان والإيضاح، بيّن تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا، فما زُكِّي فهو طاهر، والذي لم يُزَكّ فهو الكنز الذي يضرّ.

س: بعض الناس يتمسّك برأي أبي ذر في هذه المسألة؟

ج: لا، رأي أبي ذر هو اجتهادٌ منه غلط فيه، ليس قوله صوابًا، وإنما الصواب ما دلَّت عليه الأدلة الشَّرعية: إذا أخرج العبدُ حقَّ المال فليس بكنزٍ، وإذا لم يُخرج حقَّه فهو كنزٌ.

الطالب: خالد بن أسلم، القرشي، العدوي، أخو زيد بن أسلم، مولى عمر، صدوق، من الخامسة. (البخاري تعليقًا، والبخاري في "الأدب"، وابن ماجه).

الطالب: في "الخلاصة" قال: ابن أسلم العدوي، المدني، عن ابن عمر، وعنه أخوه زيد والزهري، وثَّقه البستي.

الشيخ: بارك الله فيك، نعم.

وقال سعيد: عن محمد بن زياد، عن أبي أمامة أنَّه قال: حلية السيوف من الكنز. ما أُحدّثكم إلا ما سمعتُ من رسول الله ﷺ.

وقال الثوري: عن أبي حصين، عن أبي الضُّحى، عن جعدة بن هبيرة، عن عليٍّ قال: أربعة آلافٍ فما دونها نفقة، فما كان أكثر من ذلك فهو كنزٌ. وهذا غريبٌ.

الشيخ: انظر: جعد بن هبيرة، وهذا إن صحَّ فمعناه أنه قاله لقومٍ ..... المال يُنفقونه في سنة يأكلونه ليس بكنزٍ؛ لأنَّه لا يحول عليه الحول، وإلا إذا حال عليه الحول فهو كنزٌ، ولو كان مُعدًّا للنَّفقة، لكن لو صحَّ هذا فالمراد –يعني- بالنسبة إلى هذا الشخص المعين، أو البيت المعين: أنهم يأكلونها، إذا كانوا يأكلونها فهي لا زكاةَ فيها؛ لأنها لا يحول عليها الحول، بل يُنفقونها، وبكل حالٍ فهو غريبٌ مثلما قال المؤلف، لكن يُحمل على أحسن المحامل إن صحَّ.

الطالب: جعد بن هبيرة ابن أبي وهب، المخزومي، صحابي صغير، له رؤية، وهو ابن أم هانئ بنت أبي طالب، وقال العجلي: تابعي ثقة. (النسائي في "مناقب علي").

الشيخ: نعم.

وقد جاء في مدح التَّقلل من الذَّهب والفضّة، وذمّ التَّكثر منهما أحاديث كثيرة.

ولنورد منها هنا طرفًا.

الشيخ: قف على هذا، اللهم اغفر له، غفر الله له.