يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النساء:176].
قال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال: سمعتُ البراء قال: آخر سورةٍ نزلت براءة، وآخر آيٍ نزلت: يَسْتَفْتُونَكَ.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر: حدثنا شعبة، عن محمد بن المنكدر قال: سمعتُ جابر بن عبدالله قال: دخل عليَّ رسولُ الله ﷺ وأنا مريضٌ لا أعقل، فتوضأ ثم صبَّ عليَّ، أو قال: صبُّوا عليه، فعقلت.
الشيخ: يعني: صبُّوا عليه من وضوئه، صبّ عليه من الوضوء، وانتعش، وانتبه، وسأل، نعم.
فقلت: إنَّه لا يرثني إلا كلالة، فكيف الميراث؟ فأنزل اللهُ آيةَ الفرائض.
أخرجاه في "الصحيحين" من حديث شعبة.
ورواه الجماعة من طريق سفيان بن عيينة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، به.
وفي بعض الألفاظ: فنزلت آيةُ الميراث: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ الآية.
الشيخ: وهذه الآية تتعلق بمواريث الحواشي: الإخوة ومَن دونهم، والآية التي في أولها تتعلق بالذّرية والأصول: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ [النساء:11]، مواريث الأولاد والأصول، وميراث الإخوة لأم في آخرها، وأما آية: يَسْتَفْتُونَكَ في آخر السورة فكلّها في الإخوة.
ولهذا كان عمرُ إذا سأل عن الكلالة قال له الرسولُ: يكفيك آية الصيف، وهي آية: يَسْتَفْتُونَكَ، فإنَّ الله أوضح فيها أنَّ الكلالة: مَن ليس له ولدٌ ولا والد، ليس له والد ذكر، ولا أب، ولا جدّ، وليس له ذُرية. هذه الكلالة، نعم.
س: قول البراء أنها آخر آيةٍ نزلت؟
ج: قد يكون هذا باجتهاده، أو علمه، في علمه أيضًا، يقول ابنُ عباسٍ أنها قوله: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281] إلى آخر الآية، حسب المعلومات التي وصلت إليه، والأقرب أنَّ آخر آيةٍ قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة:3]، هذه الأقرب أنها آخر آيةٍ؛ لأنَّ فيها بيان إكمال الدِّين، ونزلت يوم الجمعة في عرفة قبل وفاة النبي ﷺ بنحو ثلاثة أشهر.
س: لم تنزل عليه بعد عودته إلى المدينة آية؟
ج: الله أعلم، ظاهر الآية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، لكن يمكن أن يكون نزل شيءٌ للعِظة والتَّذكير، لا في الأحكام، الأحكام كملت، وهي: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، كما قال ابنُ عباسٍ: أنها آخر آيةٍ، هذه في التَّذكير والوعظ، أما آية الكلالة ففي الأحكام، والأقرب أنها نزلت قبل ذلك.
وقال ابنُ أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبدالله بن يزيد: حدثنا سفيان. وقال أبو الزبير: قال –يعني: جابرًا-: نزلت في يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ، وكأنَّ معنى الكلام -والله أعلم-: يستفتونك عن الكلالة، قل: الله يُفتيكم فيها. فدلّ المذكور على المتروك.
وقد تقدّم الكلامُ على الكلالة واشتقاقها، وأنها مأخوذة من الإكليل الذي يُحيط بالرأس من جوانبه؛ ولهذا فسرها أكثرُ العلماء بمَن يموت وليس له ولدٌ ولا والد، ومن الناس مَن يقول: الكلالة: مَن لا ولدَ له، كما دلّت عليه هذه الآية: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ.
الشيخ: لأنَّه يعرف الوالد من السياق، لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ يعني: ولا والد؛ لأنَّ وجود الوالد وهو الأب أو الجدّ يمنع من كون أخته تُعطى النصف، والأختان تُعطيان الثلثين بإجماع المسلمين، بالإجماع إذا وُجد الأب ما في نصف، يسقطون، الإخوة تسقط بالإجماع عند وجود الأب، فدلّ ذلك على أنَّه نبّه لعدم وجود الولد على عدم وجود الوالد أيضًا؛ ولهذا أجمع العلماء على أنَّ الكلالة: مَن ليس له ولدٌ: لا ذكر، ولا أنثى، ولا والد ذكر، وهو الأب والجدّ.
وقد أشكل حكم الكلالة على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، كما ثبت عنه في "الصحيحين" أنَّه قال: ثلاثٌ وددتُ أنَّ رسول الله ﷺ كان عهد إلينا فيهنَّ عهدًا ننتهي إليه: الجدّ، والكلالة، وباب من أبواب الربا.
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، عن سعيد ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن سالم ابن أبي الجعد، عن معدان ابن أبي طلحة قال: قال عمر بن الخطاب: ما سألتُ رسول الله ﷺ عن شيءٍ أكثر مما سألته عن الكلالة، حتى طعن بأصبعه في صدري، وقال: يكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النِّساء. هكذا رواه مُختصرًا، وأخرجه مسلم مطولًا أكثر من هذا.
طريق أخرى: قال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم: حدثنا مالك –يعني: ابن مغول- يقول: سمعتُ الفضل بن عمرو، عن إبراهيم، عن عمر قال: سألتُ رسول الله ﷺ عن الكلالة، فقال: يكفيك آية الصيف، فقال: لأن أكون سألتُ رسول الله ﷺ عنها أحبّ إليَّ من أن يكون لي حمر النَّعم. وهذا إسنادٌ جيدٌ، إلا أنَّ فيه انقطاعًا بين إبراهيم وبين عمر، فإنَّه لم يُدركه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم: حدثنا أبو بكر، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال: جاء رجلٌ إلى النبي ﷺ فسأله عن الكلالة، فقال: يكفيك آية الصيف.
وهذا إسنادٌ جيدٌ، رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي بكر ابن عياش، به.
وكأنَّ المراد بآية الصيف: أنها نزلت في فصل الصيف، والله أعلم، ولما أرشده النبي ﷺ إلى تفهمها، فإنَّ فيها كفايةً، نسي أن يسأل النبي ﷺ عن معناها؛ ولهذا قال: فلأن أكون سألتُ رسول الله ﷺ عنها أحبّ إليَّ من أن يكون لي حمر النَّعم.
وقال ابنُ جرير: حدثنا ابنُ وكيع: حدثنا جرير، عن شيبان، عن عمرو بن مرّة، عن سعيد بن المسيب قال: سأل عمرُ بن الخطاب النبيَّ ﷺ عن الكلالة، فقال: أليس قد بيّن اللهُ ذلك؟ فنزلت: يَسْتَفْتُونَكَ.
قال قتادة: وذُكر لنا أنَّ أبا بكر الصّديق قال في خُطبته: ألا إنَّ الآية التي نزلت في أول سورة النساء في شأن الفرائض أنزلها الله في الولد والوالد، والآية الثانية أنزلها في الزوج والزوجة والإخوة من الأم، والآية التي ختم بها سورة النِّساء أنزلها في الإخوة والأخوات من الأب والأم، والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها في أولي الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب الله مما جرت الرحم من العصبة. رواه ابنُ جرير.
مُداخلة: بارك الله فيك يا شيخ، عندنا هنا: حدثنا جرير: حدثنا الشيباني، وهو قال: حدثنا شيبان.
............
الشيخ: أشكل على عمر، والأمر واضح، لكن الفاضل قد يُشكل عليه شيء، الفاضل العالم قد تُشكل عليه بعض المسائل، وهي واضحة، وهذا دليلٌ على أنَّ المسلم مهما بلغ من العلم قد تخفى عليه بعض الأشياء، وإلا فالنص واضحٌ، الجدّ واضح، والنبي ﷺ وضّح أبواب الربا، وضّحه عليه الصلاة والسلام، والكلالة وضَّحها في آخر السورة.
س: في "صحيح مسلم" قال عمر: وإن أعش أقضي .....؟
ج: ما قضى فيها بشيء، نعم.
س: الإسناد الجيد دون الحسن؟
ج: الجيد عام، يعمّ الصحيح والحسن، أقول: الإسناد الجيد عبارة تعمّ الجميع.
ذكر الكلام على معناها
وبالله المستعان، وعليه التكلان
قوله تعالى: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ أي: مات، قال الله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88] كل شيءٍ يفنى ولا يبقى إلا الله ، كما قال: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن:26-27].
قوله: لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ تمسك به مَن ذهب إلى أنَّه ليس من شرط الكلالة انتفاء الوالد، بل يكفي في وجود الكلالة انتفاء الولد، وهو رواية عن عمر بن الخطاب، رواها ابنُ جرير عنه بإسنادٍ صحيحٍ إليه، ولكن الذي يرجع إليه هو قول الجمهور وقضاء الصّديق: أنَّه الذي لا ولدَ له ولا والد، ويدلّ على ذلك قوله: وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ، ولو كان معها أبٌ لم ترث شيئًا؛ لأنَّه يحجبها بالإجماع، فدلّ على أنَّه مَن لا ولدَ له بنص القرآن، ولا والد بالنص عند التَّأمل أيضًا؛ لأنَّ الأخت لا يُفرض لها النصف مع الوالد، بل ليس لها ميراثٌ بالكلية.
الشيخ: وهذا هو الأمر الواضح من الكلالة؛ لأنَّ المسلمين أجمعوا على أنَّ الأخوات والإخوة لا يرثون مع الأب، والأب يحجبهم، فدل على أنَّ الكلالة: مَن ليس له ولد: لا ذكر، ولا أنثى، وليس له والد: لا أب، ولا جدّ.
س: الوالد -سلمك الله- يعمّ الأم والأب، وإلا الوالد الذكر؟
ج: لا، الذكر، الأم ما تحجب الإخوة، الأم ترث مع الأخوات، ومع الإخوة، نعم.
س: ما يكون قصدهم الجدّ؟
ج: الجدّ فيه خلافٌ، لكن الأب محل إجماع، والجد الذي يورثونه ما يُعطونه مع النصف، يعني: يجعلونه عاصبًا كالأخ مع أخته.
س: هل الجدّ وإن علا فيه خلاف؟
ج: نعم، فيه خلاف، والصواب أنه كالأب يحجبهم، نعم.
الشيخ: أبو بكر هذا الظاهر أنَّه ابن أبي مريم، وهو ضعيف، وفي سماع من ذكر عن زيد كذا .....، والحقّ مثلما قال، لكن تعول هنا عائلة: للزوج النصف، وللأخت النصف، وللأم الثلث، فتعول إلى ثمانية بسبب تزاحم الفروض، تقسم من ستة، وتعول إلى ثمانية: للزوج النصف ثلاثة، وللأخت الشقيقة والتي لأب النصف ثلاثة، والأم لها الثلث اثنان، وهو الحقيقة ربع؛ لأنَّه ليس هناك إخوة يمنعونها من السدس، الواحدة ما تمنع، نعم.
وقد نقل ابنُ جرير وغيره عن ابن عباسٍ وابن الزبير أنَّهما كانا يقولان في الميت ترك بنتًا وأختًا: إنَّه لا شيء للأخت؛ لقوله: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ قال: فإذا ترك بنتًا فقد ترك ولدًا، فلا شيء للأخت.
وخالفهما الجمهور فقالوا في هذه المسألة: للبنت النصف بالفرض، وللأخت النصف الآخر بالتَّعصيب، بدليل غير هذه الآية.
الشيخ: لأنَّ النصوص يُفسّر بعضُها بعضًا، إذا وُجد الولد إن كان ذكرًا منع الإخوة، حجبهم، وإن كان أنثى أُعطيت فرضها، والباقي يأخذه الإخوة تعصيبًا؛ لقوله ﷺ في الحديث الصحيح: ألحقوا الفرائضَ بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجلٍ ذكر؛ ولأنَّه ﷺ حكم في بنت وبنت ابن وأخت بأنَّ البنت لها النصف، وبنت الابن لها السدس تكملة الثلثين، والباقي أعطاه للأخت تعصيبًا.
والأحاديث تُفسر القرآن وتُبين معناه، فدلّ على أنَّ مَن ليس له ولد فيه تفصيل، فالولد إن كان ذكرًا منع الإخوة، وإن كان أنثى أخذت فرضها، والباقي للعصبة؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، فهو يُبين للناس ما نزل إليهم، قال: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً [النحل:64]، فهو مُبين للناس ما أنزل الله إليهم من قيد مُطلق، أو من تخصيص عام.
ولما ذكر المحرّمات في النِّكاح قال بعدها سبحانه: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24] هذا عامّ، فجاءت السنة بتخصيص هذا العام، وأنَّه لا يجوز الجمع بين المرأة وعمّتها، ولا بين المرأة وخالتها بالنص والإجماع، كما لا يجوز بين الأختين؛ لقوله: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ [النساء:23]، زادت السنةُ الجمع بين المرأة وعمّتها، والمرأة وخالتها.
فالرسول هو المبين ما قد يُشكل من عموم أو إطلاق في كتاب الله ، ويأتي بأحكامٍ لم تُذكر في كتاب الله أيضًا؛ ولهذا قال سبحانه: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، وقال: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النساء:59]، وقال: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، نعم.
وهذه الآية نصّت أن يفرض لها في هذه الصورة، وأما وراثتها بالتَّعصيب فلما رواه البخاري من طريق سليمان، عن إبراهيم، عن الأسود قال: قضى فينا معاذُ بن جبل على عهد رسول الله ﷺ: النصف للبنت، والنصف للأخت. ثم قال سليمان: قضى فينا. ولم يذكر: على عهد رسول الله ﷺ.
وفي "صحيح البخاري" أيضًا عن هزيل بن شرحبيل قال: سُئل أبو موسى الأشعري عن ابنةٍ وابنة ابنٍ وأختٍ، فقال: للابنة النِّصف، وللأخت النصف، وأتِ ابن مسعودٍ فسيُتابعني. فسُئل ابن مسعودٍ، وأُخبر بقول أبي موسى، فقال: لقد ضللتُ إذًا وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى النبي ﷺ: النصف للبنت، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت. فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعودٍ، فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم.
الشيخ: وهذا فيه منقبة لأبي موسى؛ حيث اعترف بفضل عبدالله، وأرشد إليه، وهكذا العالم البصير يُرشد إلى مَن هو أعلم منه، فإذا غلط يسأل، ولا يتعصّب لرأيه، وهكذا كان الصحابة، قال عبدالرحمن ابن أبي ليلى ورحمه، التابعي الجليل: أدركتُ مئةً وعشرين من أصحاب النبي ﷺ إذا وردت عليهم قضيةٌ أحبّ كلُّ واحدٍ أن يكفيه أخوه. إذا سُئل عن حديثٍ أو مسألةٍ كل واحدٍ يُحبّ أن يكفيه أخوه، نعم، من الورع والحرص والحذر .
س: قول عمر .....؟
ج: المعروف في الرِّواية ..... أشكلت عليه .
الشيخ: ومعنى "أولى" يعني: أقرب.
الشيخ: يعني: إذا كانت أختان يُعطين الثلثين، فالبنتان من باب أولى: فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ يعني: إذا كن نساء -اثنتين فما فوق- تُعطى البنتُ النصف، والبنتان وأكثر يكون لهما الثلثان كالأختين من باب أولى.
س: وإن كثرن؟
ج: ولو مئة لهم الثلثان، ولو كانوا مئةً ليس لهم إلا الثلثان، نعم.
الشيخ: وهذا بالإجماع، تقدّم الأولاد في قوله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء:11] هذا في الأولاد، وفي الإخوة هذه السورة: وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً يعني: إخوة أشقاء، أو إخوة لأب، فللذكر مثل حظِّ الأُنثيين.
أما الإخوة لأم فتقدم حكمهم في أول السورة؛ لقوله تعالى: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ يعني: من أم، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [النساء:12]، الإخوة من الأم لهم فرضٌ، ما لهم عصب، كل واحدٍ له السدس، والجماعة لهم الثلث وإن كثروا بشرط الكلالة، وهي ألا يكون له ولد ولا والد: لا ابن، ولا بنت، ولا ابن ابن، ولا بنت ابن، ولا أب، ولا جدّ، فإذا فقد الستة ورث الإخوة لأم، وإن وُجِدَ واحدٌ من الستة: ابن، أو بنت، أو ابن ابن، أو بنت ابن، أو أب، أو جد؛ حُجبوا.
س: إذا كانت الأختُ عصبةً مع البنت فهل تقوم مقام أخيها في حجب العمِّ؟
ج: نعم، تقوم مقام أخيها، الشَّقيقة تقوم مقام أخيها، وتمنع الأخ لأب، الشَّقيقة والتي للأب تمنع الأعمام وبنيهم وبني الأخوة، بمثابة الأخ.
س: هذا بالإجماع؟
ج: محل إجماعٍ، ما هو محل خلافٍ.
وقوله: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أي: يفرض لكم فرائضه، ويحدّ لكم حدوده، ويُوضّح لكم شرائعه.
وقوله: أَنْ تَضِلُّوا أي: لئلا تضلوا عن الحقِّ بعد البيان.
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي: هو عالم بعواقب الأمور، ومصالحها، وما فيها من الخير لعباده، وما يستحقّه كل واحدٍ من القرابات بحسب قُربه من المتوفى.
وقد قال أبو جعفر ابن جرير: حدثني يعقوب: حدثني ابن علية: أنبأنا ابن عون، عن محمد بن سيرين قال: كانوا في مسيرٍ، ورأس راحلة حذيفة عند ردف راحلة رسول الله ﷺ، ورأس راحلة عمر عند ردف راحلة حذيفة، قال: ونزلت: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ، فلقاها رسولُ الله ﷺ حذيفة، فلقاها حذيفة عمر، فلمَّا كان بعد ذلك سأل عمر عنها حذيفة، فقال: والله إنَّك لأحمق إن كنت ظننت أنَّه لقانيها رسول الله ﷺ، فلقيتكها كما لقانيها رسول الله ﷺ، والله لا أزيدك عليها شيئًا أبدًا. قال: فكان عمرُ يقول: اللهم إن كنت بيّنتها له، فإنها لم تبين لي.
الشيخ: هذا ضعيف منقطع؛ لأنَّ ابن سيرين ما أدرك حذيفة، ولا أدرك عمر، كلاهما، ومتنه فيه نكارة من جهة كون حذيفة قدام عمر مع النبي ﷺ، وكون حذيفة يقول: إن كنت تظن كذا فإنَّك أحمق. هذا من نكارة هذه الرِّواية، فالذي حدّث بها ابن سيرين إما كذاب، وإما ضعيف الحفظ لا يضبط، المقصود أنَّه مُنقطع، ضعيف، قال: كانوا في مسيرٍ؟
الشيخ: حتى المتن فيه نظر: "إن كنت تظن" هو لقَّاه إياها، ولقاها عمر، تلاها على حذيفة، وتلاها حذيفة على عمر، المقصود أنَّه ضعيف، ليس بجيدٍ، نعم.
س: ما تكون نافية (إن) للنَّظر؟
ج: لا، ما هو ..... يُراجع ابن جرير.
مُداخلة: ابن كثير تكلّم عليه.
الشيخ: حاضر ابن جرير.
انظر السند، هذا في آخر السورة.
الطالب: ابن كثير سيتكلم عليه.
الشيخ: نعم.
الشيخ: مُنقطع، ومتنه منكر أيضًا.
الشيخ: "المعني" نسبة إلى معن.
الشيخ: انظر: يوسف بن حماد في "التقريب".
عن محمد بن سيرين، عن أبي عبيدة ابن حذيفة، عن أبيه قال: نزلت آيةُ الكلالة على النبي ﷺ وهو في مسيرٍ له، فوقف النبي ﷺ، وإذا هو بحُذيفة، وإذا رأس ناقة حذيفة عند ردف راحلة النبي ﷺ، فلقاها إياه، فنظر حُذيفة فإذا عمر ، فلقاها إياه، فلمَّا كان في خلافة عمر نظر عمر في الكلالة، فدعا حُذيفة فسأله عنها، فقال حذيفة: لقد لقانيها رسول الله ﷺ، فلقيتكها كما لقَّاني رسول الله ﷺ، والله إني لصادق، والله لا أزيدك شيئًا أبدًا.
ثم قال البزار: وهذا الحديث لا نعلم أحدًا رواه إلا حُذيفة، ولا نعلم له طريقًا عن حذيفة إلا هذا الطريق، ولا رواه عن هشام إلا عبدالأعلى.
الشيخ: هذا فيه بيان أنَّ ابن سيرين رواه عن أبي عبيدة ابن حذيفة، يعني: يزول به الانقطاع، ولفظه أحسن من الأول السابق، ليس فيه ذكر الحماقة.
المقصود أنَّ حُذيفة قال: إني ما عندي زيادة تلاها عليَّ النبي ﷺ، وأنا تلوتها عليك، ما عندي زيادة على هذا، هذا الذي عندي، ما عندي –يعني- كلام آخر في تفسيرها، وليس عندي إلا أني سمعتُ النبي يتلوها فتلوتها عليك، رضي الله عن الجميع.
الطالب: يوسف بن حماد المعني -بفتح الميم وسكون المهملة ثم نون وتشديد الياء- ثقة، من العاشرة، مات سنة خمسٍ وأربعين. (مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه).
في آخر: يوسف بن حماد الاستراباذي، مقبول، من العاشرة أيضًا، والذي قبله أكبر منه.
الشيخ: انظر: أبا عبيدة ابن حذيفة في الكنى.
الطالب: أحسن الله إليك، ابن جرير.
الشيخ: إيه.
الطالب: ابن جرير يقول: حدثنا يعقوب بن إبراهيم: حدثنا ابن علية: حدثنا ابن عون، عن محمد بن سيرين قال: كانوا في مسيرٍ، ورأس راحلة حذيفة عند ردف راحلة رسول الله ﷺ.
الشيخ: الردف يعني: عند مُؤخّر النَّاقة.
الطالب: ورأس راحلة عمر عند ردف راحلة حذيفة، قال: ونزلت: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ، فلقاها رسولُ الله ﷺ حُذيفة، ولقاها حُذيفة عمر، فلمَّا كان بعد ذلك سأل عمرُ عنها حذيفة، فقال: والله إنَّك أحمق إن كنت ظننت أنَّه لقانيها رسول الله ﷺ، فلقنتكها كما لقانيها، والله لا أزيدك عليها شيئًا أبدًا. قال: وكان عمر يقول: اللهم إن كنت بيّنتها له، فإنها لم تبن لي.
الشيخ: هذا ما ذكر ابن كثير، كأنَّ فيه شيئًا: "إن كنت تظن".
الطالب: في إسنادٍ آخر لنفس القصّة هذه، يقول: حدثنا وكيع: وحدثنا محمد بن حميد، عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: نزلت: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ، والنبي في مسيرٍ له، وإلى جنبه حذيفة بن اليمان، فبلغها النبي ﷺ حذيفة، وبلغها حذيفة عمر بن الخطاب ، وهو يسير خلفه، فلمَّا استُخلف عمر سأل عنها حذيفة، ورجا أن يكون عنده تفسيرها، فقال له حذيفة: والله إنَّك لعاجز إن ظننت أنَّ إمارتك تحملني أن أحدثك بها بما لم أحدثك يومئذٍ! فقال عمر: لم أُرد هذا رحمك الله. انتهى.
الشيخ: ماشٍ، نعم.
س: قوله: "إن كنت ظننت" يعني: علمت؟
ج: السياق يقتضي: إن كنت ظننت أني سأزيدك شيئًا، أو أُغير شيئًا، لكن السياق .....، أو كنت ظننت أني كتمتك شيئًا، أو ما أشبه ذلك، السياق فيه بعض الشَّيء.
الطالب: أبو عبيدة ابن حذيفة بن اليمان، الكوفي، مقبول، من الثانية. (النسائي، وابن ماجه).
الشيخ: المقبول معناه كالمستور، المقبول: ما ثبتت عدالته، وثّق، نعم، لكن إذا جاءت شواهد يكون من باب الحسن لغيره، إذا شهد له شاهد.
س: المستور إذا شهد له شاهدان؟
ج: يكون من باب الحسن مثله، إذا رُوي عن مثله أو أوثق منه، يقول الحافظ في "النخبة": ومتى تُوبع السيئ الحفظ بمُعتبر وكذا المستور والمرسل والمدلس صار حديثُهم حسنًا، لا لذاته، بل بالمجموع.
س: شرط أن يكون مثله أو أوثق منه؟
ج: إيه، إما أوثق، أو مثله.
س: المجهول جهالة عينٍ؟
ج: المستور الذي ما وُثِّق ولا جُرِّح، مجهول الحال، يقول الحافظ رحمه الله: وإن روى عنه اثنان فأكثر ولم يُوثّق فمجهول الحال، وهو المستور.
وكذا رواه ابنُ مردويه من حديث عبدالأعلى.
وقال عثمان ابن أبي شيبة: حدثنا جرير، عن الشيباني، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن المسيب: أنَّ عمر سأل رسول الله ﷺ: كيف تُورث الكلالة؟ قال: فأنزل الله: يَسْتَفْتُونَكَ الآية، قال: فكأنَّ عمر لم يفهم، فقال لحفصة: إذا رأيتِ من رسول الله ﷺ طيب نفسٍ فسليه عنها. فرأت منه طيبَ نفسٍ فسألته عنها، فقال: أبوكِ ذكر لك هذا، ما أرى أباك يعلمها، قال: فكان عمر يقول: ما أراني أعلمها وقد قال رسولُ الله ما قال. رواه ابنُ مردويه.
الشيخ: وهذا سند جيد، ولعل سعيدًا سمعه من حفصة، لعلها أخبرته؛ لأنَّ سماعه من عمر قليل، كان صغيرًا، سمع منه بعض الشيء اليسير، ولعله سمع أيضًا من حفصة، وهذه من آيات الله: أنها أشكلت على عمر، هذه من آيات الله، تدلّ على أنَّ العالم لا يثق بنفسه في كل شيءٍ، بل يتّهم رأيه، إذا أشكل عليه شيء يتهم رأيه، فقد يغلط مَن هو أفضل منه، قد يجهل مَن هو أفضل منه.
فالواجب على طالب العلم وعلى العالم أن يتّهم رأيه، وأن يتثبت في الأمور حتى يعلم الحكم بدليله، حتى يطمئن، فقد يفوته بعض الشيء، فكل عالم يفوته بعض الشيء، وليس أحدٌ يُحصي العلم، ما عدا الرسل عليهم الصلاة والسلام فيما أوحى الله إليهم؛ ولهذا يقول مالك رحمه الله: "ما منا إلا رادٌّ ومردودٌ عليه إلا صاحب هذا القبر" يعني: الرسول عليه الصلاة والسلام.
ويقول الشافعي رحمه الله: "أجمع العلماء على أنَّ مَن استبانت له سنةُ رسول الله ﷺ لم يجز له أن يدعها لقول أحدٍ من الناس كائنًا مَن كان"، نعم.
ويدلّ على هذا المعنى قوله تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، وقوله جلَّ وعلا: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى:10]، فمن آيات الله: كون عمر توقف في الكلالة وأشكلت عليه مع وضوحها.
س: جهة إرسال الحديث؟
ج: من جهة سعيد، أغلب رواياته مرسلة؛ لأنه صغير، أعد سنده.
الشيخ: هذا مرسل من جهة طاوس، ما سمع من عمر، طاوس متأخر، ما أدرك عمر.
س: أحسن الله إليك، من طريق ابن عيينة، وعن عمر، عن طاوس؟
ج: عن عمرو، يعني: عمرو بن دينار، عن عمرو –بالواو-، عن عمرو بن دينار، عن طاوس.