تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا..}

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ۝ وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الأنفال:70-71].

قال محمد بن إسحاق: حدثني العباس بن عبدالله بن معبد، عن بعض أهله، عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله ﷺ قال يوم بدر: إني قد عرفت أنَّ أناسًا من بني هاشم وغيرهم قد أُخرجوا كرهًا، لا حاجةَ لهم بقتالنا، فمَن لقي منكم أحدًا منهم –أي: من بني هاشم- فلا يقتله، ومَن لقي أبا البختري ابن هشام فلا يقتله، ومَن لقي العباس بن عبدالمطلب فلا يقتله، فإنَّه إنما أُخرج مُسْتَكْرَهًا.

فقال أبو حُذيفة ابن عتبة: أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشائرنا ونترك العباس! والله لئن لقيته لألجمنَّه بالسيف. فبلغت رسول الله ﷺ، فقال لعمر بن الخطاب: يا أبا حفص، قال عمر: والله إنَّه لأول يومٍ كنَّاني فيه رسولُ الله ﷺ: أبا حفص، أيُضرب وجه عمِّ رسول الله ﷺ بالسيف؟! فقال عمر: يا رسول الله، ائذن لي فأضرب عنقه، فوالله لقد نافق. فكان أبو حُذيفة يقول بعد ذلك: والله ما آمن من تلك الكلمة التي قلت، ولا أزال منها خائفًا، إلا أن يُكفّرها الله تعالى عني بشهادةٍ. فقُتل يوم اليمامة شهيدًا .

الطالب: عباس بن عبدالله بن معبد بن عباس بن عبدالمطلب، الهاشمي، ثقة، من السادسة. (د).

الشيخ: وأنت عندك؟

الطالب: عبدالله بن معبد بن العباس، الهاشمي، عن عمه عبدالله، وعنه ابنه إبراهيم، وثَّقه أبو زرعة، له عندهم فرد حديث.

الشيخ: ابن معبد هذا ضعيف، هذا خبرٌ ضعيفٌ؛ لأنَّه عن بعض أهله.

وبه عن ابن عباسٍ قال: لما أمسى رسولُ الله ﷺ يوم بدر، والأسارى محبوسون بالوثاق، بات رسولُ الله ﷺ ساهرًا أول الليل، فقال له أصحابُه: يا رسول الله، ما لك لا تنام؟ وقد أسر العباسَ رجلٌ من الأنصار، فقال رسولُ الله ﷺ: سمعتُ أنين عمّي العباس في وثاقه، فأطلقوه فسكت، فنام رسول الله ﷺ.

قال محمد بن إسحاق: وكان أكثر الأسارى يوم بدرٍ فداء العباس بن عبدالمطلب، وذلك أنَّه كان رجلًا مُوسِرًا، فافتدى نفسه بمئة أوقية ذهبًا.

وفي "صحيح البخاري" من حديث موسى بن عقبة، قال ابنُ شهاب: حدثنا أنس بن مالك: أنَّ رجالًا من الأنصار قالوا: يا رسول الله، ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس فداءه. قال: لا، والله لا تذرون منه درهمًا.

وقال يونس بن بكير: عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن رومان، عن عروة، عن الزهري.

الشيخ: عن عروة، عن الزهري، أو عن عروة، وعن الزهري؟

الطالب: عندنا "واو": وعن.

الشيخ: نعم، عن عروة، وعن الزهري؛ لأنَّ عروة ما يروي عن الزُّهري.

عن يزيد بن رومان، عن عروة، وعن الزهري، عن جماعةٍ سمَّاهم، قالوا: بعثت قريش إلى رسول الله ﷺ في فداء أسراهم، ففدى كل قومٍ أسيرهم بما رضوا، وقال العباس: يا رسول الله، قد كنتُ مسلمًا. فقال رسولُ الله ﷺ: الله أعلم بإسلامك، فإن يكن كما تقول فإنَّ الله يجزيك، وأما ظاهرك فقد كان علينا، فافتدِ نفسك وابني أخيك: نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب، وعقيل ابن أبي طالب ابن عبدالمطلب، وحليفك عتبة بن عمرو، أخي بني الحارث بن فهر، قال: ما ذاك عندي يا رسول الله. قال: فأين المال الذي دفنته أنت وأمّ الفضل؟ فقلت لها: إن أصبت في سفري هذا فهذا المال الذي دفنته لبني الفضل وعبدالله وقثم، قال: والله يا رسول الله، إني لأعلم أنَّك رسول الله، إنَّ هذا لشيء ما علمه أحدٌ غيري وغير أم الفضل، فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني عشرين أوقية من مالٍ كان معي. فقال رسولُ الله ﷺ: لا، ذاك شيء أعطانا الله تعالى منك، ففدى نفسَه وابني أخويه وحليفه، فأنزل الله : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنفال:70]. قال العباس: فأعطاني الله مكان العشرين الأوقية في الإسلام عشرين عبدًا كلّهم في يده مال يضرب به، مع ما أرجو من مغفرة الله .

الشيخ: وهذا من فضله وجوده، الأسرى إذا علم اللهُ فيهم خيرًا ورغبةً في الخير أخلف الله عليهم الفداء وغفر لهم: إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ، فالفداء الذي قدَّموه لمن أسرهم من المسلمين إذا صدقوا وآمنوا، فالله جلَّ وعلا يخلف عليهم هذا المال بخيرٍ منه: وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]، ويغفر لهم بسبب إسلامهم ودخولهم في الحقِّ.

س: هذا عام في الأسرى؟

ج: نعم، كل الأسرى، نعم، عام، أسرى بدر وغيرهم.

وقد روى ابنُ إسحاق أيضًا عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن ابن عباسٍ في هذه الآية بنحو مما تقدّم.

وقال أبو جعفر ابن جرير: حدثنا ابنُ وكيع: حدثنا ابن إدريس، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد.

مُداخلة: عندنا: عن ابن إسحاق، عن ابن أبي نجيح.

الشيخ: عن ابن إسحاق، عن أبي نجيح. ابن إسحاق صاحب "السيرة".

حدثنا ابن وكيع: حدثنا ابن إدريس، عن ابن إسحاق، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباسٍ قال: قال العباس: فيَّ نزلت: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ [الأنفال:67]، فأخبرت النبي ﷺ بإسلامي، وسألته أن يُحاسبني بالعشرين الأوقية التي أُخذت مني، فأبى، فأبدلني الله بها عشرين عبدًا كلّهم تاجر مالي في يده.

الشيخ: "مالي" مال العباس، يعني: يتصرفون له، يعملون، ويتَّجرون.

وقال ابنُ إسحاق أيضًا: حدثني الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، عن جابر بن عبدالله بن رباب.

مُداخلة: رئاب.

الشيخ: حطّ نسخة، ابحث عنه، موجود ابن جرير؟

الطالب: موجود، نعم: حدثنا بهذا الحديث ابنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، قال محمد: حدثني الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباسٍ، عن جابر بن عبدالله بن رئاب.

الشيخ: "رئاب" زين، صلحها: "رئاب" بالهمزة.

قال: كان العباسُ بن عبدالمطلب يقول: فيَّ نزلت واللهِ حين ذكرتُ لرسول الله ﷺ إسلامي. ثم ذكر نحو الحديث كالذي قبله.

وقال ابنُ جريج: عن عطاء الخراساني، عن ابن عباسٍ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى عباس وأصحابه. قال: قالوا للنبي ﷺ: آمنا بما جئتَ به، ونشهد أنَّك رسول الله، لننصحنَّ لك على قومنا. فأنزل اللهُ: إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ إيمانًا وتصديقًا، يُخلف لكم خيرًا مما أُخذ منكم، ويغفر لكم الشِّرك الذي كنتم عليه.

قال: فكان العباسُ يقول: ما أحبّ أنَّ هذه الآية لم تنزل فينا وأنَّ لي الدنيا.

الشيخ: يعني: ما أكره نزولها، الحمد لله، فيها وعدٌ عظيمٌ: يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ.

س: كيف يستقيم هذا والعباس تأخّر إسلامه إلى الفتح؟

ج: هذا في وقت بدر، فدى نفسه، وفدى ابن أخيه وحليفه، أما إظهار إسلامه فتأخّر إلى يوم الفتح، خلف اللهُ عليه، ونيّته الإسلام نفعته، حتى أظهره يوم الفتح.

س: يكون مسلمًا في يوم بدر .....؟

ج: لا يمكن، نوى عند الهزيمة، ولكن ما بعد أسلم، ما أظهر إسلامه إلا يوم الفتح.

لقد قال: يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ فقد أعطاني خيرًا مما أُخذ مني مئة ضعف، وقال: وَيَغْفِرْ لَكُمْ، وأرجو أن يكون قد غفر لي.

وقال علي ابن أبي طلحة: عن ابن عباسٍ في هذه الآية: كان العباسُ أسر يوم بدر، فافتدى نفسَه بأربعين أوقية من ذهبٍ، فقال العباسُ حين قُرئت هذه الآية: لقد أعطاني الله خصلتين ما أحبّ أنَّ لي بهما الدنيا: إني أُسرتُ يوم بدرٍ ففديتُ نفسي بأربعين أوقية، فآتاني أربعين عبدًا، وإني لأرجو المغفرة التي وعدنا الله .

وقال قتادة في تفسير هذه الآية: ذكر لنا أنَّ رسول الله ﷺ لما قدم عليه مالُ البحرين ثمانون ألفًا، وقد توضّأ لصلاة الظهر، فما أعطى يومئذٍ شاكيًا، ولا حرم سائلًا.

مُداخلة: في بعض النُّسخ: ساكتًا.

الشيخ: ذكر السَّائل هنا يقتضي أنَّه ساكت، إنسان مُستحقّ ساكت، وإنسان سائل، لكن "شاك" لها وجه، حطّها نسخة أحسن، يعني: يشكو حاله، إنسان يشكو حاله، ولا سأل.

وما صلّى يومئذٍ حتى فرَّقه، فأمر العباس أن يأخذ منه فيحتثي، فكان العباسُ يقول.

س: مُستقيم هذا: فما أعطى؟

ج: فما أعطى، ولا حرم سائلًا إلا بعدما صلَّى، كان هذا بعد الصلاة، ما أعطَى أحدًا ولا شيء إلا بعد الصَّلاة.

فكان العباسُ يقول: هذا خيرٌ مما أُخذ منا، وأرجو المغفرة.

س: لكن قوله: "فما صلَّى حتى فرَّقه" ما يفهم أنَّ التفريق قبل الصَّلاة؟

ج: إيه! فما أعطى شاكيًا؟

فما أعطى يومئذٍ شاكيًا، ولا حرم سائلًا، وما صلى يومئذٍ حتى فرَّقه.

الشيخ: محتمل، العبارة فيها ..... قليلًا، نعم. المقصود أنَّه فرَّقه عليه الصلاة والسلام في الحال.

وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا عمرو بن عاصم: حدثنا سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال قال: بعث ابنُ الحضرمي إلى رسول الله ﷺ من البحرين ثمانين ألفًا، ما أتاه مالٌ أكثر منه: لا قبل، ولا بعد.

قال: فنثرت على حصيرٍ، ونُودي بالصلاة. قال: وجاء رسولُ الله ﷺ فمثل قائمًا على المال، وجاء أهلُ المسجد، فما كان يومئذٍ عدد ولا وزن، ما كان إلا فيضًا، وجاء العباسُ بن عبدالمطلب فحثا في خميصةٍ عليه، وذهب يقوم فلم يستطع.

قال: فرفع رأسَه إلى رسول الله ﷺ، فقال: يا رسول الله، ارفع عليَّ. قال: فتبسم رسولُ الله ﷺ حتى خرج ضاحكه أو نابه، وقال له: أعد من المال طائفةً، وقم بما تُطيق، قال: ففعل، وجعل العباسُ يقول وهو مُنطلق: أما إحدى اللَّتين وعدنا اللهُ فقد أنجزنا، وما ندري ما يصنع اللهُ في الأخرى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى الآية.

ثم قال: هذا خيرٌ مما أُخذ منا، وما أدري ما يصنع الله في الأخرى. فما زال رسولُ الله ﷺ ماثلًا على ذلك المال حتى ما بقي منه درهمٌ، وما بعث إلى أهله بدرهم، ثم أتى الصَّلاة فصلَّى.

حديثٌ آخر في ذلك: قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبدالله الحافظ: أخبرني أبو الطيب محمد بن محمد بن عبدالله السعيدي.

الشيخ: قف على هذا.

س: جابر بن عبدالله بن رئاب صحابي؟

ج: ما أدري، ما أتذكر.

مُداخلة: بالنسبة لجابر بن عبدالله بن رئاب في كتب السيرة، "سيرة ابن هشام": هو من بني عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة، جابر بن عبدالله بن رئاب بن النعمان بن سلام بن عبيد، بالنسبة للعنوان: النبي يعرض نفسَه على نفرٍ من الخزرج فيُؤمنون به.

الشيخ: نعم، ظاهر أنَّه من الصحابة.

س: ..............؟

ج: الآية نزلت فيهم، وغيرهم كذلك إذا رزقهم اللهُ نيةَ الخير وقصده: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2]، النيات لها شأنٌ عظيم، يُرجى لصاحب النية الطيبة أنَّ الله يبلغه نيّته، لكن هذه في الأسارى: يُطمئنهم ويُبشّرهم بأنَّ الله سيخلف عليهم، مع المغفرة.

مُداخلة: يقول ابنُ هشام: شهد بدرًا، وقُتل يوم أحدٍ.

الشيخ: رحمه الله ورضي عنه.