تفسير قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ..}

فصل

ذكر الشيخ علم الدين السّخاوي في جزءٍ جمعه سمَّاه: "المشهور في أسماء الأيام والشهور" أنَّ المحرم سُمي بذلك لكونه شهرًا مُحرَّمًا، وعندي أنه سُمي بذلك تأكيدًا لتحريمه؛ لأنَّ العرب كانت تتقلب به فتُحلّه عامًّا، وتُحرّمه عامًا.

قال: ويُجمع على مُحرّمات، ومحارم، ومحاريم.

وصفر سُمي بذلك لخلو بيوتهم منهم حين يخرجون للقتال والأسفار، يقال: صفر المكان، إذا خلا، ويُجمع على أصفار، كجمل وأجمال.

وشهر ربيع الأول سُمي بذلك لارتباعهم فيه، والارتباع: الإقامة في عمارة الربع، ويُجمع على أربعاء، كنصيب وأنصباء، وعلى أربعة، كرغيف وأرغفة، وربيع الآخر كالأول.

جمادى سُمي بذلك لجمود الماء فيه.

قال: وكانت الشهور في حسابهم لا تدور. وفي هذا نظر؛ إذ كانت شهورهم منوطة بالأهلة فلا بدَّ من دورانها، فلعلهم سمّوه بذلك أول ما سُمي عند جمود الماء في البرد، كما قال الشاعر:

وليلة من جمادى ذات أندية لا يبصر العبد في ظلمائها الطنبا
لا ينبح الكلب فيها غير واحدةٍ حتى يلفّ على خرطومه الذنبا

ويُجمع على جماديات، كحبارى وحباريات، وقد يُذكر ويُؤنث فيُقال: جمادى الأولى، والأول، جمادى الآخر، والآخرة.

رجب من الترجيب، وهو التعظيم، ويُجمع على أرجاب، ورجاب، ورجبات.

شعبان من تشعب القبائل وتفرّقها للغارة، ويُجمع على شعابين وشعبانات.

رمضان من شدّة الرّمضاء، وهو الحرّ، يُقال: رمضت الفصال، إذا عطشت، ويُجمع على رمضانات، ورماضين، وأرمضة.

قال: وقول مَن قال: إنه اسمٌ من أسماء الله، خطأ، لا يُعرج عليه، ولا يُلتفت إليه.

قلت: قد ورد فيه حديثٌ، ولكنه ضعيف، وبيّنته في أول كتاب الصيام.

شوال من شالت الإبل بأذنابها للطراق، قال: ويُجمع على شواول، وشواويل، وشوالات.

القَعدة بفتح القاف. قلت: وكسرها. لقعودهم فيه عن القتال والترحال، ويُجمع على ذوات القعدة.

الحِجة بكسر الحاء. قلت: وفتحها. سُمي بذلك لإقامتهم الحجّ فيه، ويُجمع على ذوات الحجّة.

أسماء الأيام: أولها الأحد، ويُجمع على آحاد، وأوحاد، ووحود. ثم يوم الاثنين، ويُجمع على أثانين. الثلاثاء يمدّ ويُذكر ويُؤنث، ويُجمع على ثلاثاوات، وأثالث. ثم الأربعاء بالمدّ، ويُجمع على أربعاوات، وأرابيع. والخميس يُجمع على أخمسة، وأخامس. ثم الجمعة بضمّ الميم وإسكانها وفتحها أيضًا، ويُجمع على جمع، وجماعات. السبت مأخوذٌ من السبت، وهو القطع؛ لانتهاء العدد عنده.

وكانت العرب تُسمّي الأيام: أول، ثم أهون، ثم جبار، ثم دبار، ثم مؤنس، ثم العروبة، ثم شيار.

قال الشاعر من العرب العرباء العاربة المتقدمين:

أرجي أن أعيش وأن يومي بأول أو بأهون أو جبار
أو التالي دبار فإن أفته فمؤنس أو عروبة أو شيار

وقوله تعالى: مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [التوبة:36] فهذا مما كانت العربُ أيضًا في الجاهلية تُحرمه، وهو الذي كان عليه جمهورهم، إلا طائفة منهم يُقال لهم: البسل، كانوا يُحرّمون من السنة ثمانية أشهر تعمّقًا وتشديدًا.

وأما قوله: ثلاثة مُتواليات: ذو القعدة، وذو الحجّة، والمحرم، ورجب مُضر الذي بين جمادى وشعبان، فإنما أضافه إلى مضر ليُبين صحّة قولهم في رجب: أنَّه الشهر الذي بين جمادى وشعبان، لا كما تظنّه ربيعة من أنَّ رجب المحرم هو الشهر الذي بين شعبان وشوال، وهو رمضان اليوم، فبين ﷺ أنَّه رجب مضر، لا رجب ربيعة.

وإنما كانت الأشهر المحرّمة أربعة: ثلاثة سرد، وواحد فرد؛ لأجل أداء مناسك الحجّ والعمرة، فحرم قبل أشهر الحجّ شهرًا، وهو ذو القعدة؛ لأنَّهم يقعدون فيه عن القتال، وحرم شهر ذي الحجّة لأنَّهم يُوقعون فيه الحجّ، ويشتغلون فيه بأداء المناسك، وحرم بعده شهرًا آخر، وهو المحرم؛ ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين، وحرم رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمنًا.

وقوله: ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [التوبة:36] أي: هذا هو الشرع المستقيم من امتثال أمر الله فيما جعل من الأشهر الحرم، والحذو بها على ما سبق من كتاب الله الأول.

قال تعالى: فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة:36] أي: في هذه الأشهر المحرمة؛ لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها، كما أنَّ المعاصي في البلد الحرام تُضاعف؛ لقوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25].

الشيخ: يعني: تضعف من جهة الكيفية، تضعف في الأشهر الحرم، وفي رمضان، وفي البلد الحرام من جهة الكيفية، أما العدد فواحدة، السيئة بواحدة، لكن سيئة في الحرم أو في رمضان ليست مثل السيئة التي في الطائف، أو في شعبان، أو نحو ذلك، نعم.

س: يعني: تعظم السيئة؟

ج: تعظم من جهة الإثم، لا من جهة العدد، نعم.

وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام؛ ولهذا تغلظ فيه الدّية في مذهب الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء، وكذا في حقِّ مَن قتل في الحرم، أو قتل ذا محرم.

الشيخ: والصواب أنها لا تغليظ فيها، لا في الحرم، ولا في .....، الدية واحدة: مئة من الإبل، الجمهور على أنَّ هذا منسوخٌ بالأشهر الحرم، وأنها يجوز فيها القتال في سبيل الله، وأنَّ الدية لا تغلظ: لا فيها، ولا في غيرها، ولا مع الأقارب، إنما تغلظ على حسب الجناية، فالمغلظة في العمد، وفي شبه العمد، ودون ذلك الخطأ المحض.

س: قضاء عثمان أنه يغلظ دية الحرم؟

ج: محل نظرٍ، وإذا ثبت فهو من اجتهاده ، إن ثبت.

وقال حماد بن سلمة: عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباسٍ في قوله: فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ قال: في الشهور كلّها.

وقال علي ابن أبي طلحة: عن ابن عباسٍ: قوله: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ [التوبة:36] الآية، فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ في كلهن، ثم اختصّ من ذلك أربعة أشهر فجعلهنَّ حرامًا، وعظم حرماتهنَّ، وجعل الذَّنب فيهنَّ أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم.

وقال قتادة في قوله: فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ: إنَّ الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئةً ووزرًا من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلمُ على كل حالٍ عظيمًا، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء.

وقال: إنَّ الله اصطفى صفايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسلًا، ومن الناس رسلًا، واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فعظّموا ما عظّم الله، فإنما تعظيم الأمور بما عظّمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل.

وقال الثوري: عن قيس بن مسلم، عن الحسن بن محمد ابن الحنفية: بأن لا تحرموهنَّ كحرمتهن.

الشيخ: المعنى: أي نبّهكم لئلا تقصروا في حُرمتهن. أو بأن لا، أو بأن تحرّموا؟

الطالب: بأن لا.

الشيخ: عندكم: لا؟

الطالب: إيه، نعم: بأن لا تُحرموهنَّ كحرمتهنَّ.

طالب آخر: في نسخةٍ: لحرمتهن.

الشيخ: سهل، أمر سهل.

وقال محمد بن إسحاق: فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ أي: لا تجعلوا حرامها حلالًا، ولا حلالها حرامًا كما فعل أهلُ الشرك، فإنما النَّسيء الذي كانوا يصنعون من ذلك: زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا [التوبة:37] الآية. وهذا القول اختيار ابن جرير.

وقوله: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً أي: جميعكم، كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً أي: جميعهم، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:36].

وقد اختلف العلماء في تحريم ابتداء القتال في الشهر الحرام: هل هو منسوخ، أو محكم؟

على قولين:

أحدهما -وهو الأشهر-: أنه منسوخ؛ لأنَّه تعالى قال هاهنا: فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ، وأمر بقتال المشركين، وظاهر السياق مُشعر بأنَّه أمر بذلك أمرًا عامًّا، ولو كان محرمًا في الشهر الحرام لأوشك أن يُقيده بانسلاخها؛ ولأنَّ رسول الله ﷺ حاصر أهل الطائف في شهر حرام، وهو ذو القعدة، كما ثبت في "الصحيحين" أنَّه خرج إلى هوازن في شوال، فلما كسرهم، واستفاء أموالهم، ورجع فلّهم، لجؤوا إلى الطائف، فعمد إلى الطائف، فحاصرهم أربعين يومًا، وانصرف ولم يفتتحها، فثبت أنَّه حاصر في الشهر الحرام.

والقول الآخر: أنَّ ابتداء القتال في الشهر الحرام حرام، وأنه لم ينسخ تحريم الشهر الحرام؛ لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ [المائدة:2]، وقال: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ الآية [البقرة:194]، وقال: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ الآية [التوبة:5].

وقد تقدّم أنها الأربعة المقررة في كل سنةٍ، لا أشهر التسيير على أحد القولين.

س: الراجح أنها منسوخة؟

ج: الأقرب أنها منسوخة؛ لأنَّ الصحابة قاتلوا فيها بعد ذلك، بعد النبي ﷺ، فدلّ على أنَّ القتال فيها قد نُسخ، كذلك ما فعله النبي مع أهل الطائف.

وأما قوله تعالى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً فيحتمل أنَّه منقطع عمَّا قبله، وأنه حكم مُستأنف، ويكون من باب التهييج والتَّحضيض، أي: كما يجتمعون لحربكم إذا حاربوكم، فاجتمعوا أنتم أيضًا لهم إذا حاربتموهم، وقاتلوهم بنظير ما يفعلون.

ويحتمل أنَّه أذنٌ للمؤمنين بقتال المشركين في الشهر الحرام إذا كانت البداءةُ منهم، كما قال تعالى: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ [البقرة:194]، وقال تعالى: وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ الآية [البقرة:191].

وهكذا الجواب عن حصار رسول الله ﷺ أهل الطائف، واستصحابه الحصار إلى أن دخل الشهر الحرام، فإنَّه من تتمة قتال هوازن وأحلافها من ثقيف، فإنَّهم هم الذين ابتدأوا القتال، وجمعوا الرجال، ودعوا إلى الحرب والنزال، فعندها قصدهم رسول الله ﷺ كما تقدّم، فلما تحصنوا بالطائف ذهب إليهم ليُنزلهم من حصونهم، فنالوا من المسلمين، وقتلوا جماعةً، واستمرّ الحصار بالمجانيق وغيرها قريبًا من أربعين يومًا، وكان ابتداؤه في شهر حلال، ودخل الشهر الحرام فاستمر فيه أيامًا، ثم قفل عنهم؛ لأنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء، وهذا أمرٌ مُقرر، وله نظائر كثيرة، والله أعلم.

ولنذكر الأحاديث الواردة في ذلك، وقد حررنا ذلك في السيرة، والله أعلم.

الشيخ: كذا عندكم: ولنذكر؟

قارئ المتن: في تعليق هنا: لم يذكر المصنف رحمه الله الأحاديث التي وعد بها، فتدبر.

الشيخ: كذا عندكم: فلنذكر، أو فلتذكر الأحاديث، بالتاء؟

الطالب: بالنون.

الشيخ: لعلّ الأصلح: ولتذكر، يعني: يقول: ينبغي لمن كتب في ذلك أن يذكر الأحاديث هنا.

مُداخلة: في تعليق أيضًا يقول: وله رسالة سمَّاها: الاجتهاد، فضل الجهاد.

الشيخ: رحمه الله، نعم.

س: أشهر التسيير؟

ج: يُقال: النبي ﷺ لما فتح مكّة قال للكفار: مَن كان له عهدٌ فهو على مدّته، ومَن كان ليس له عهدٌ فله أربعة أشهر، إن أسلم، وإلا قُوتل، سمّوها: التسيير، يعني: يسيرون فيها من بلادٍ إلى بلادٍ حتى يتمكّنوا من الوصول إلى بلادهم وحاجاتهم في الأربعة بعد فتح مكّة، عام الفتح.

س: إذا وجد بعد الأربعة الأشهر؟

ج: إذا لم يُسلم يُقاتل.

س: الذنوب تُضاعف في الأشهر الحرم؟

ج: ينبغي الحذر منها على إطلاق النصوص، ينبغي الحذر: فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ، فيها وفي غيرها من الشهور يجب الحذر.

س: ...............؟

ج: ما أعلم ذلك.