باب صلاة التطوع في الكعبة

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على قائد الغُر المحجلين نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ومرحبًا بحضراتكم إلى درسٍ جديدٍ من دروس "المنتقى".

ضيف اللِّقاء هو سماحة العلامة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، المفتي العام للمملكة العربية السعودية، ورئيس هيئة كبار العلماء.

مع مطلع هذا اللِّقاء نُرحب بسماحة الشيخ، فأهلًا ومرحبًا يا سماحة الشيخ.

الشيخ: حيَّاكم الله وبارك فيكم.

المقدم:

بَابُ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فِي الْكَعْبَةِ

- عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْبَيْتَ هُوَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَبِلَالٌ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِم الْبَابَ، فَلَمَّا فَتَحُوا كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ وَلَجَ، فَلَقِيتُ بِلَالًا فَسَأَلْتُه: هَلْ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؟ قَالَ: نَعَمْ، بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِبِلَالٍ: هَلْ صَلَّى النَّبِيُّ ﷺ فِي الْكَعْبَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ عَنْ يَسَارِك إذَا دَخَلْتَ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى فِي وُجْهَةِ الْكَعْبَةِ رَكْعَتَيْنِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ.

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلَّى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.

أما بعد: فهذا الحديثُ يدل على شرعية الصلاة في الكعبة، وأنه يُستحب دخولها وصلاة ركعتين فيها، كما دخل النبيُّ ﷺ، وذلك عام الفتح، ولم يدخلها في حجَّة الوداع، ولا في عمرة القضاء، وإنما دخلها عام الفتح، ومحا ما فيها من الصور عليه الصلاة والسلام، فمَن دخلها شُرع له أن يُصلي ركعتين، ومَن صلَّى في الحِجْر كفى؛ لأنَّ الحجر من البيت، وقد سألته عائشةُ رضي الله عنها أن تدخل الكعبة فقال: صلِّ في الحِجْر؛ فإنه من البيت.

والسنة أن يُصلي أمامه، إذا دخل يُصلي أمامه، يجعل بينه وبين الجدار الغربي نحو ثلاثة أذرع، كما فعل النبيُّ ﷺ.

وجاء في حديث ابن عباسٍ: أنه كبر في نواحي الكعبة، ودعا. يعني: صلَّى ركعتين وكبَّر في نواحي الكعبة ودعا عليه الصلاة والسلام، فيُستحب التَّكبير في نواحيها والدعاء، مع صلاة الركعتين.

س: الصلاة إذًا داخل الكعبة سنة؟

الشيخ: مستحبّ؛ لفعل النبي ﷺ، لكنها غير متأكدةٍ؛ لأنَّ النبي ﷺ ما أكَّدها في حجة الوداع، ولا في عمرة القضاء، ويُروى عنه أنه حزن لما خرج وقال: أخشى أن أكون شققتُ على أمتي.

فالحاصل أنَّ مَن تيسر له دخولها استحبَّ له ذلك، ومَن لم يتيسر له ذلك فلا يُزاحم، ولا يتكلَّف، يُصلي في الحِجْر والحمد لله، والحِجْر كافٍ.

بَابُ الصَّلَاةِ فِي السَّفِينَةِ

- عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ: كَيْفَ أُصَلِّي فِي السَّفِينَةِ؟ قَالَ: صَلِّ فِيهَا قَائِمًا، إلَّا أَنْ تَخَافَ الْغَرَقَ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِاللَّهِ فِي "الْمُسْتَدْرَكِ" عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ.

الشيخ: الصلاة في السَّفينة، وفي السيارة، وفي الطائرة لا بأس بها، إذا استطاع أن يُصلي قائمًا صلَّى قائمًا، فإن لم يستطع صلَّى قاعدًا وأومأ، وإن استطاع أن يُصلي قائمًا ويركع ويسجد فعل ذلك؛ لأنَّ الله يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، ولا يجوز له تأخير الصلاة عن وقتها، إذا كانت الطائرةُ أو السَّفينة أو الباخرة لا تقف قبل خروج الوقت، بل سفرها مستمر فإنه يُصلي الصلاة لوقتها على حسب الطاقة: إن استطاع أن يُصلي قائمًا صلَّى قائمًا وركع وسجد، فإن لم يستطع صلَّى جالسًا وركع وسجد، فإن لم يستطع السجود صلَّى وأومأ بالسجود والركوع، لكن يكون السجودُ أخفض من الركوع.

وهكذا على الدَّابة، وهكذا في السيارة، الحكم واحد: الباخرة والسَّفينة والطائرة والسيارة والبعير، كله واحد، لكن إذا استطاع أن يُصلي في الوقت أخَّرها حتى يُصلي في الوقت الفريضة، كان النبيُّ ﷺ يُصلي الفريضة على الأرض، لا يُصلي على الدابة إلا النافلة: التهجد بالليل، أما الفريضة فكان ينزل ويُصلي في الأرض.

فإذا تيسر لصاحب الباخرة أو الطائرة أو السَّفينة أو السيارة أن يُصلي في الأرض قبل خروج الوقت صبر حتى يُصلي في الوقت؛ حتى يتمكن من إكمال صلاته، فإن لم يتيسر ذلك صلَّى حسب طاقته: في السَّفينة، أو في الباخرة، أو في السيارة، أو في الطائرة، على حسب حاله؛ لأنَّ الله يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، أما النافلة فيُصلي إلى جهة سيره: في الطائرة، في السفينة، يُصلي إلى جهة سيره قاعدًا لا بأس، وأما الفريضة فلا بد أن يستقبل القبلة، إذا دعت الحاجةُ إلى هذا يستقبل القبلة، يدور مع السفينة، ويدور مع الطائرة إلى القبلة.

بَابُ صَلَاةِ الْفَرْضِ عَلَى الرَّاحِلَةِ لِعُذْرٍ

- عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ انْتَهَى إلَى مَضِيقٍ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَالسَّمَاءُ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَالْبِلَّةُ مِنْ أَسْفَل مِنْهُمْ، فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَأَمَرَ الْمُؤَذِّنَ فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَصَلَّى بِهِمْ، يُومِئُ إيمَاءً، يَجْعَلُ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ.

الشيخ: هذا هو الواجب عند الحاجة، إذا عجز عن النُّزول صلَّى على الراحلة، أو في السفينة، أو في الباخرة، أو في الطائرة، على حسب طاقته، إن استطاع الركوع والسجود فعل، وإلا كفى الإيماء.

- روى أبو سعيدٍ الخدري قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ يُسَبِّحُ، يُومِئُ بِرَأْسِهِ قِبَلَ أَيِّ وِجْهَةٍ تَوَجَّهَ، وَلَمْ يَكُنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الشيخ: وهذا يدل على أنه لا بأس بالصلاة على الراحلة والسفينة، إلى أي جهةٍ سارت السفينة أو الراحلة، إذا كانت نافلةً، أما الفريضة فينزل في الأرض، يُصلي في الأرض ويستقبل القبلة، هكذا كان يفعل عليه الصلاة والسلام.

وأما الصلاة التي رأى أبو سعيدٍ أثرًا من الطين، فهذه كانت في المدينة، صلَّى في المدينة، ووكف المسجد، وصار المصلَّى فيه طين يسجد عليه عليه الصلاة والسلام في رمضان، أما في الباخرة، أو في الطائرة، أو في السيارة، أو على البعير فإنه يُصلي النافلة فقط، ويُومئ إيماءً، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه، إلى جهة سيره، لكن يُستحب له عند الإحرام أن يستقبل القبلة أولًا، ثم يُوجه إلى جهةٍ ويُصلي إلى جهته إذا تيسر ذلك، أما الفريضة فلا بدّ أن ينزل على الأرض إن استطاع، إن تيسر، فإن لم يتيسر هذا صلَّى في الباخرة والسفينة والطائرة على حسب طاقته في الفريضة، يدور معها إلى جهة القبلة، ويسجد ويركع إن استطاع، وإن لم يستطع أومأ بالركوع والسجود؛ ركع وسجد في الهواء، وجعل السجود أخفض من الركوع؛ لأنَّ الله يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].

س: إذا كانت الطائرةُ أو القطارُ واقفًا هل يُطلق عليه اسم: راحلة؟

الشيخ: إذا كان واقفًا ينزل ويُصلي في الأرض، هو راحلة في المعنى، وإلا الراحلة إذا أُطلقت فهي راحلة الإبل، لكن هو في المعنى راحلة.

س: إذا كانت الصلاةُ مما يجوز جمعها إلى ما بعدها، هل الأحسن أن أنتظر حتى أنزل، أم أُصلي في السيارة أو الطائرة أو القطار؟

الشيخ: إذا كان في السفر فالجمع أولى في مثل هذا، كونه يُؤخرها جمع تأخيرٍ حتى يُصلي في الأرض الفريضة هذا أفضل وأولى.

س: هل يفرق في جواز النَّافلة على الراحلة بين السفر والحضر؟

الشيخ: المعروف أنه كان يفعلها في السفر عليه الصلاة والسلام، لا في الحضر، الصلاة على الراحلة كان يفعلها في السفر.

 

بَابُ اتِّخَاذِ مُتَعَبَّدَات الْكُفَّارِ وَمَوَاضِع الْقُبُورِ إذَا نُبِشَتْ مَسَاجِد

- عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَهُ أَنْ يَجْعَلَ مَسَاجِدَ الطَّائِفِ حَيْثُ كَانَ طَوَاغِيتُهُمْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ.

قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ عُمَرُ: إنَّا لَا نَدْخُلُ كَنَائِسَهُمْ مِنْ أَجْلِ التَّمَاثِيلِ الَّتِي فِيهَا الصُّوَرُ.

قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُصَلِّي فِي الْبِيعَةِ، إلَّا بِيْعَةً فِيهَا التَّمَاثِيلُ.

- وَعَنْ قَيْسِ بْنِ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجْنَا وَفْدًا إلَى النَّبِيِّ ﷺ فَبَايَعْنَاهُ وَصَلَّيْنَا مَعَهُ، وَأَخْبَرْنَاهُ أَنَّ بِأَرْضِنَا بِيعَةً لَنَا، وَاسْتَوْهَبْنَاهُ مِنْ فَضْلِ طَهُورِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ وَتَمَضْمَضَ، ثُمَّ صَبَّهُ فِي إدَاوَةٍ وَأَمَرَنَا فَقَالَ: اخْرُجُوا فَإِذَا أَتَيْتُمْ أَرْضَكُمْ فَاكْسِرُوا بِيعَتَكُمْ، وَانْضَحُوا مَكَانَهَا بِهَذَا الْمَاءِ، وَاتَّخِذُوهَا مَسْجِدًا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

- وَعَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يُصَلِّيَ حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ، وَيُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، وَأَنَّهُ أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَأَرْسَلَ إلَى مَلَأ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، فَقَالَ: يَا بَنِي النَّجَّارِ، ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا، قَالُوا: لَا وَاللَّهِ مَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إلَّا إلَى اللَّهِ، فَقَالَ أَنَسٌ: وَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ لَكُمْ: قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ، وَفِيهِ خِرَبٌ، وَفِيهِ نَخْلٌ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، ثُمَّ بِالْخربِ فَسُوِّيَتْ، ثُمَّ بِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ، وَجَعَلُوا عَضَادَتَيْهِ الْحِجَارَةَ، وَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ الصَّخْرَ وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ، وَالنَّبِيُّ ﷺ مَعَهُمْ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إلَّا خَيْرُ الْآخِرَةِ، فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَةِ مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ.

الشيخ: وهذا يدل على أنه لا بأس بنبش القبور عند الحاجة -قبور المشركين- وقطع النخل، وجعلها مسجدًا، كما فعل النبيُّ ﷺ في موضع مسجده، فإنَّ مسجده في المدينة كان فيه قبور المشركين، وكان فيه الخرب -يعني: حفرًا تُسمَّى خرب- وكان فيه نخل، فأمر بقطع النخل، وأمر بالخربات، وأمر بنبش القبور، وبُني مسجده في محلها، هذا يدل على جواز مثل هذا، وأنه لا حرج في ذلك: أن تُنبش قبور المشركين، وأن يتّخذ مكانها مسجد أو بيوت أو غير ذلك مما يحتاجه المسلمون.

وهكذا إذا دعت الحاجةُ إلى قطع النَّخل يقطع النخل؛ ليجعل مكانه مسجدًا، لا بأس بذلك.

كل هذا لا حرجَ فيه والحمد لله، أما قبور المسلمين فلا تُنبش، قبور المسلمين تبقى في محلِّها لا تُنبش؛ لأنها محترمة، والمسلم محترم حيًّا وميتًا، أما قبور المشركين فلا بأس بنبشها عند الحاجة إلى ذلك.

بَابُ فَضْلِ مَنْ بَنَى مَسْجِدًا

- عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ لِبَيْضِهَا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ رَوَاهُ أَحْمَدُ.

الشيخ: فيه الحثّ على بناء المساجد، وأنَّ له فضلًا عظيمًا: مَن بنى لله مسجدًا بنى الله له بيتًا في الجنة، وفي اللفظ الآخر: بنى اللهُ له بيتًا في الجنة، فهذا يدل على أنه ينبغي ويُشرع للمؤمنين العناية بالمساجد وتعميرها إذا دعت الحاجةُ إليها؛ لما فيها من إقامة ذكر الله، والتعاون على البرِّ والتقوى.

أما رواية: ولو كمفحص قطاةٍ فهذا من باب المبالغة، من باب الحثِّ على التعمير، ولو كانت المساجد ما هي كبيرة؛ لفضل المساجد، والإعانة على إقامة الصلاة فيها، فالتعاون على البرِّ والتقوى مطلوب، وتعمير المساجد من باب التعاون على البر والتَّقوى.

س: مَن شارك بمبلغٍ بسيطٍ هل يُعتبر بنى مسجدًا؟

الشيخ: يُرجا له فضل المشاركة في بناء المساجد، واستدل بعضُ أهل العلم بقوله: ولو كمفحص قطاةٍ أنه بمشاركته يكون له الأجر الموعود: بنى الله له بيتًا في الجنة؛ لأنه إذا شارك يكون له نصيبٌ من المسجد.

س: ما رأيكم في وقف مبلغٍ بسيطٍ من المال لبناء المساجد في حياة الإنسان؟

الشيخ: اتَّقوا النار ولو بشقِّ تمرةٍ، مَن شارك في المساجد ولو بالقليل فهو على نصيبٍ من الخير، يُرجا له الفضل العظيم في التَّعاون في بناء المساجد وتعميرها، كلٌّ على قدره، مَن أنفق الكثير فله أجره، ومَن أنفق القليل فله أجره، يقول النبي ﷺ: ما من عبدٍ يتصدق بعدل تمرةٍ من كسبٍ طيبٍ، ولا يقبل الله إلا الطيب، إلا تقبَّلها الله بيمينه، فيُربيها لصاحبها كما يُربي أحدُكم فلوه وفصيله، حتى تكون مثل الجبل، والنبي يقول في الحديث الآخر: اتَّقوا النار ولو بشقِّ تمرةٍ.

المسلم لا يزهد في القليل، يتبرع ولو بالقليل في وجوه البرِّ: لبناء المساجد، في بناء البيوت التي للمساجد للإمام والمؤذن، في بناء المدارس، في بناء الربط التي للفقراء، يُشارك فيها ولو بالقليل.

س: إذا بُني مسجد وبقي بناء المساكن الخاصَّة في وقتنا الحاضر للإمام والمؤذن، فهل الأفضل المشاركة في بناء المسجد أم في بناء المساكن؟

الشيخ: المساكن تابعة للمسجد، المساكن عمارتها من عمارة المسجد؛ لأنه إذا عمّر للإمام والمؤذن هذا كان من أسباب عمارة المسجد، ومن أسباب المواظبة، فالمشاركة في بناء بيت الإمام والمؤذن مشاركة في أعمال المسجد: كالمنارة وكالسور وأشباه ذلك، كل هذا في طريق المسجد؛ لأنَّ الإمام إذا كان قريبًا، والمؤذن إذا كان قريبًا من المسجد كان هذا أكمل في المواظبة.

س: الأحاديث المتواترة، ما هو الحديث المتواتر، مع التَّمثيل له؟

الشيخ: التَّمثيل: الذي يرويه الجماعةُ الكثيرة الذين يستحيل عادةً تواطؤهم على الكذب، من أوله إلى آخره، هذا المتواتر، مثل حديث: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى هذا متواتر إلى يحيى بن سعيدٍ، رواه مئتان أو أكثر بأسانيد كثيرةٍ إلى يحيى بن سعيدٍ الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص الليثي، عن عمر ، فهو متواتر إلى يحيى بن سعيدٍ.

س: وحديث مَن بنى لله مسجدًا هل هو من الأحاديث المتواترة؟

الشيخ: ما يظهر لي، الظاهر أنه من الأحاديث المشهورة المستفيضة.

س: هل المتواتر المعنوي له حكم المتواتر اللَّفظي؟

الشيخ: نعم، حُجَّة، حجة قطعية، يُقطع بصحته، وكلما صحَّ سنده وجب العملُ به ولو كان غريبًا، ولو كان عزيزًا أو غريبًا فردًا، متى كان رجاله ثقات وكان متَّصل السند فإنه يجب العملُ به.

س: دفع الأرض لمن يبني عليها مسجدًا ما ثوابه؟

الشيخ: يُرجا له أن يكون ممن شارك في المسجد؛ لأنَّ الأرض وحدها ما تكفي، يكون مشاركًا، فالباني مشارك ..... الأرض مشارك، كلهم مشاركون، كلهم يُرجا له أجر بناية المسجد.

بَابُ الِاقْتِصَادِ فِي بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ

- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا أُمِرْتُ بِتَشْيِيدِ الْمَسَاجِدِ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد.

- وَعَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: كَانَ سَقْفُ الْمَسَاجِدِ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ، وَأَمَرَ عُمَرُ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: أَكِنَّ النَّاسَ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَو تُصفِّر فتفتن الناس.

الشيخ: السنة عدم المبالغة في بناء المساجد، وأن تكون العنايةُ بقوتها وثباتها من غير تزويقٍ وأشياء يحصل بها التَّلف من دون حاجةٍ إليها؛ لهذا في الحديث الصَّحيح: لا تقوم الساعةُ حتى يتباهى الناسُ بالمساجد، وكذلك قول ابن عباس: "لتُزخرفنها كما زخرفت اليهودُ والنصارى".

فالسنة ألا تُزخرف، وألا يتكلّف فيها، بل يكون البناءُ مُتقنًا ومُعتنًى به؛ حتى لا يقع على الناس ولا يضرّهم، ولكن لا حاجةَ إلى التشييد والتَّزيين والزخرفة؛ حذرًا من مشابهة أهل الكتاب.

أما كونه يبني بنايةً قويةً ثابتةً تُشجع الناس على حضور المسجد، وتُشجع الناس على المداومة على الصلاة في المسجد، وتطمئن إلى أنها بناية قوية سليمة لا خطرَ منها، فهذا أمر مطلوب.

س: بالنسبة لحكم بناء المنارة؟

الشيخ: مطلوب هذا؛ لأنه إعانة على إبلاغ الصوت، فالمنارة تبع المسجد، فبناء المنارة والسور للمسجد، وبيت الإمام وبيت المؤذن والمغاسل التي تبع المساجد، كل هذه من تبع المسجد، ويُرجا لصاحبها أجر بناء المسجد.

س: والهلال الموضوع على المنارة؟

الشيخ: هذا ما له أصل، ما له حاجة، الهلال هذا ما أعرف له أصلًا.

س: المحاريب الموجودة قديمًا، هل المحاريب موجودة قديمًا؟

الشيخ: نعم، من عهد السلف؛ لأجل بيان موقف محل الإمام، وبيان أنه مسجد.

س: ما رأي سماحتكم حفظكم الله في تقارب المساجد بعضها من بعضٍ في الأحياء القريبة؟

الشيخ: لا يجوز تقاربها، بل يجب أن يُبنى في الحارة أو في الحيِّ ما يكفيهم، فإذا كان يكفيهم فلا يُبنى مسجد حوله، إلا إذا كان هناك كثرة يُبنى مسجد آخر إذا كان الأولُ لا يكفيهم، وإلا فالواجب الاكتفاء بالواحد؛ حتى لا يتفرّقوا، فإذا كثر الناسُ حوله وصار لا يكفي إلا بعضهم بُني مسجد آخر، وهكذا الثالث، وهكذا الرابع، على حسب كثرة الناس.

س: ما الأجر الذي يتحصل عليه مَن أذهب الأذى عن المساجد؟

الشيخ: يُرجا له الخير، تنظيف المساجد وتنقيتها فيه أجر، يقول ﷺ: عُرضت عليَّ أجور أمتي، حتى القذاة يُخرجها الرجلُ من المسجد، ولما رأى نخامةً في قبلة المسجد حكَّها ﷺ، ونهى عن البصاق في المسجد.

فالذي يُزيل الأذى من المسجد له أجر عظيم، وذلك من الأجور: عُرضت عليَّ أجور أمتي، حتى القذاة يُخرجها الرجلُ من المسجد، فإذا أزال القذاةَ من المسجد، أو حفرة سواها، أو عيب في المسجد أصلحه؛ فله أجره.

بَابُ كَنْسِ الْمَسَاجِدِ وَتَطْيِيبِهَا وَصِيَانَتِهَا مِنَ الرَّوَائِحِ الْكَرِيهَةِ

- عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتِي، حَتَّى الْقَذَاة يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَعُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي، فَلَمْ أَرَ ذَنْبًا أَعْظَمَ مِنْ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ آيَةٍ أُوتِيهَا رَجُلٌ ثُمَّ نَسِيَهَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ، وَأَنْ تُنَظَّفَ وَتُطَيَّبَ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيَّ.

- وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ نَتَّخِذَ الْمَسَاجِدَ فِي دِيَارِنَا، وَأَمَرَنَا أَنْ نُنَظِّفَهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلَفْظُهُ: كَانَ يَأْمُرُنَا بِالْمَسَاجِدِ أَنْ نَصْنَعَهَا فِي دِيَارِنَا، وَنُصْلِحَ صَنْعَتَهَا وَنُطَهِّرَهَا.

- وَعَنْ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: مَنْ أَكَلَ الثُّومَ وَالْبَصَلَ وَالْكُرَّاثَ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الشيخ: كل هذا يدل على شرعية تنظيف المساجد؛ ولهذا يقول ﷺ: عُرضت عليَّ أجور أمتي، حتى القذاة، القذاة: الشيء القليل الذي يقع في المسجد من خرقةٍ أو عودٍ أو أشباه ذلك، يُخرجه من المسجد.

فالسنة أن يُلاحظ المسجد ويُخرج ما به من الأذى: بصاق، أو خرق، أو أعواد، أو ما أشبه ذلك، يُنظف المسجد.

وكانت امرأةٌ تقمّ المسجد، فلما تُوفيت صلوا عليها ليلًا، فلما أخبروا النبيَّ صباحًا قال: أفلا كنتم آذنتُموني، دلوني على قبرها، فدلوه، فصلَّى عليها.

فالسنة أن تُنظف المساجد وتُطيب، كما في حديث عائشة: أمر النبيُّ ﷺ ببناء المساجد في الدور، وأن تُنظف وتُطيب.

والدور يعني: الحارات، دار بني فلان يعني: حارتهم، يكون في الحارات، كل حارةٍ فيها مسجد لأهلها، وتُنظف من الأذى وتُطيب، هذا السنة.

فالمساجد مشروع تطييبها وتنظيفها من الأذى، وأن تُبنى على حسب الحاجة، فإذا كانت حارات كبيرة كل حارةٍ يُبنى فيها مسجد، فإذا كانت متقاربةً وكفاها واحد فلا بأس، وإن كانت حارات كبيرة كل حارةٍ يكون فيها مسجد يُصلي أهلُ الحارة فيه، وهذا يُسمَّى: حيًّا، ويُسمَّى: دارًا، إذا كان للناس محلات، كل واحدٍ ..... يسكنها جماعةٌ تُسمَّى: دورًا، مثل: دور الأنصار، يعني: حارات الأنصار وأحياؤها، كل دارٍ يكون فيها مسجد يُصلَّى فيه، يعني: كل حيٍّ، وكل حارةٍ، مثلما يُسمَّى الآن فيها جماعة يشقّ عليهم الذَّهاب إلى مسجدٍ آخر؛ يُبنى عندهم مسجد.

س: في حديث أنسٍ: فلم أرَ ذنبًا أعظم من سورةٍ من القرآن أو آيةٍ أُوتيها رجلٌ ثم نسيها، نرجو شرح هذه العبارة؟

الشيخ: هذا فيه الحثُّ على حفظ القرآن، وأنَّ مَن حفظه يتعاهده، ولكن الحديثَ في سنده ضعف، فإذا نسي فلا حرج عليه، النسيان ما هو باختياره، لكن يُستحب للمؤمن إذا مَنَّ الله عليه بحفظ القرآن أو ما تيسر منه أن يُواظب عليه، وأن يجتهد في حفظه؛ حتى لا ينسى، فلو نسي فلا شيء عليه.

س: سماحة الشيخ حفظكم الله وسدد خُطاكم، يتورع بعضُ الشباب من حفظ القرآن الكريم؛ خوفًا من الوعيد الذي ينتظرونه من النسيان، فما توجيهكم للشَّباب؟

الشيخ: السنة حفظ القرآن، وتوجيه الاجتهاد في حفظ القرآن؛ حتى تتيسر له قراءته أينما كان، ولو قدر ونسي شيئًا منه لا يضرّه والحمد لله، الصحيح أنه لا يضرّه؛ لأنَّ النسيان ليس باختيار الإنسان، يقول الله جلَّ وعلا: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، وصحَّ عن الرسول أنَّ الله قال: قد فعلتُ، فلا مُؤاخذة بالنسيان، فالإنسان لا يتكاسل عن هذا بسبب أنه قد يقع وينسى، بل يُشرع له العناية بحفظ القرآن؛ حتى يقرأه ليلًا أو نهارًا متى شاء، وليتمكن من تدبره وتعقله دون الحاجة إلى المصحف.

المقدم: شكر الله لكم سماحة الشيخ، وبارك الله فيكم وفي علمكم، ونفع بكم الإسلام والمسلمين.