فَصْلٌ
فِي أَمْرِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ الَّذِي نَهَى اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَقُومَ فِيهِ، فَهَدَمَهُ ﷺ
وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ تَبُوكَ حَتَّى نَزَلَ بِذِي أَوَانَ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ سَاعَةٌ، وَكَانَ أَصْحَابُ مَسْجِدِ الضِّرَارِ أَتَوْهُ وَهُوَ يَتَجَهَّزُ إِلَى تَبُوكَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا قَدْ بَنَيْنَا مَسْجِدًا لِذِي الْعِلَّةِ وَالْحَاجَةِ وَاللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ الشَّاتِيَةِ، وَإِنَّا نُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَنَا فَتُصَلِّيَ لَنَا فِيهِ. فَقَالَ: إِنِّي عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ وَحَالِ شُغْلٍ، وَلَوْ قَدِمْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَأَتَيْنَاكُمْ فَصَلَّيْنَا لَكُمْ فِيهِ، فَلَمَّا نَزَلَ بِذِي أَوَانَ جَاءَهُ خَبَرُ الْمَسْجِدِ مِنَ السَّمَاءِ، فَدَعَا مالك بن الدّخشم، أَخَا بَنِي سَلَمَةَ بْنِ عَوْفٍ، ومعن بن عدي العجلاني، فَقَالَ: انْطَلِقَا إِلَى هَذَا الْمَسْجِدِ الظَّالِمِ أَهْلُهُ فَاهْدِمَاهُ وَحَرِّقَاهُ، فَخَرَجَا مُسْرِعَيْنِ حَتَّى أَتَيَا بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، وَهُمْ رَهْطُ مالك بن الدّخشم، فَقَالَ مالكٌ لمعن: أَنْظِرْنِي حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْكَ بِنَارٍ مِنْ أَهْلِي، وَدَخَلَ إِلَى أَهْلِهِ، فَأَخَذَ سَعَفًا مِنَ النَّخْلِ فَأَشْعَلَ فِيهِ نَارًا، ثُمَّ خَرَجَا يَشْتَدَّانِ حَتَّى دَخَلَاهُ وَفِيهِ أَهْلُهُ، فَحَرَّقَاهُ وَهَدَمَاهُ، فَتَفَرَّقُوا عَنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة:107] إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ الَّذِينَ بَنَوْهُ، وَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، مِنْهُمْ ثعلبة بن حاطب.
وَذَكَرَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ: حَدَّثَنَا عبدالله بن صالح: حَدَّثَنِي معاوية بن صالح، عَنْ علي ابن أبي طلحة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا: هُمْ أُنَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ ابْتَنَوْا مَسْجِدًا، فَقَالَ لَهُمْ أبو عامر: ابْنُوا مَسْجِدَكُمْ وَاسْتَمِدُّوا مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ سِلَاحٍ، فَإِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ، فَآتِي بِجُنْدٍ مِنَ الرُّومِ، فَأُخْرِجُ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ مَسْجِدِهِمْ أَتَوُا النَّبِيَّ ﷺ فَقَالُوا: إِنَّا قَدْ فَرَغْنَا مِنْ بِنَاءِ مَسْجِدِنَا، فَنُحِبُّ أَنْ تُصَلِّيَ فِيهِ وَتَدْعُوَ بِالْبَرَكَةِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ : لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ يَعْنِي: مَسْجِدَ قِبَاءٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ إِلَى قَوْلِهِ: فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ [التوبة:108، 109] يَعْنِي: قَوَاعِدَهُ لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ يَعْنِي: الشَّكَّ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ [التوبة:110] يَعْنِي: بِالْمَوْتِ.
الطالب: في الحاشية: عبدالله بن صالح هو كاتب اللَّيث، ضعيف، وعلي ابن أبي طلحة لم يُدرك ابن عباسٍ رضي الله عنهما، وقال ابنُ جرير في تفسير هذه الآية: يقول تعالى ذكره: لا يزال بنيانُ هؤلاء الذين اتَّخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا ريبةً، يقول: لا يزال مسجدُهم الذي بنوه ريبةً في قلوبهم، يعني: شكًّا ونفاقًا في قلوبهم، يحسبون أنهم كانوا في بنائه مُحسنين، إلا أن تقطع قلوبهم، يعني: إلا أن تتصدع قلوبهم فيموتوا، والله عليم بما عليه هؤلاء المنافقون الذين بنوا مسجد الضِّرار من شكِّهم في دينهم، وما قصدوا في بنائهم وأرادوا، وما إليه صائر أمرهم في الآخرة، وفي الحياة ما عاشوا، وبغير ذلك من أمرهم وأمر غيرهم، حكيم في تدبيره إياهم، وتدبير جميع خلقه.
الشيخ: وهذا من جنس أفعال المنافقين، المنافقون أعمالهم الخبيثة كثيرة، ولكنَّ الله أبطل كيدَهم، وأضلَّ سعيهم، وباءوا بالخيبة والخسران، وفضحهم الله، ومن ذلك عملهم في هذا المسجد الذي لبسوا فيه وقالوا للنبي: إنهم أرادوا به الضَّعيف والمسكين وأصحاب الحاجة، وفي الليلة المطيرة، وأشباه ذلك، وهم قصدوا به إرصادًا لمن حارب الله ورسوله، جعله حصنًا له يأوي إليه، وهو أبو عامر الراهب المعروف، الذي فرَّ من الإسلام إلى مكة، ثم إلى الروم، ويُقال له سابقًا: الراهب، فلما كفر بالحقِّ قيل له: أبو عامر الفاسق الضَّال، فضحهم الله، وأنزل في مسجدهم ما أنزل، وهدمه النبيُّ ﷺ، وبيَّن ضلالهم، وهكذا المساجد التي تُبنى على غير وجهٍ شرعي يجب أن تُزال وتُهدم، وألا تُبنى إلا على الوجه الشَّرعي.
المقصود أنَّ الله جلَّ وعلا فضح المنافقين في مواضع كثيرةٍ من أعمالهم الخبيثة، فذلك منه جلَّ وعلا نصرًا لنبيه، وتأييدًا لنبيه، وفضيحة لأعدائه، وهكذا يقول جلَّ وعلا: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ [الحج:40]، ويقول جلَّ وعلا: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [غافر:51]، ويقول جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، فالمؤمنون إذا استقاموا ونصروا دينَ الله نصرهم الله وأيَّدهم وإن قلّوا، وإنما يُؤخذ الناس بذنوبهم وسيئاتهم وتفريطهم: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].
فالواجب على المؤمن أن يُراقب الله، والواجب على كل مسلمٍ، وعلى كل مُكلَّفٍ أن يتَّقي الله، وأن يُراقب الله فيما يأتي ويذر، وأن يحذر عقوبةَ الله العاجلة والآجلة، ولا يحسبنَّ الله تخفى عليه خافية، إنَّ الله جلَّ وعلا يعلم ما تُخفيه الصدور: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:119].
فالواجب الحذر من مغبة السيئات والأعمال الخبيثة، والله يقول سبحانه: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28]، ويقول جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71]، فلا ينبغي للعاقل أن يغترَّ بما يتظاهر به بعضُ الناس حتى يسبر الأمر وينظر، حتى تبين المصلحة، وحتى تندفع المفسدة.
س: ...............؟
ج: مسجد قباء ومسجد النبي، كلاهما، مسجد قباء بُني على التَّقوى من أول يوم، ومسجد الرسول من باب أولى؛ ولهذا قال لما سألوه قال: مسجدي هذا يعني: مسجدي ومسجد قباء كلاهما أُسس على التَّقوى.
...............
فَصْلٌ
فَلَمَّا دَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الْمَدِينَةِ خَرَجَ النَّاسُ لِتَلَقِّيهِ، وَخَرَجَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَالْوَلَائِدُ يَقُلْنَ:
طَلَعَ الْبَدْرُ عَلَيْنَا | مِنْ ثَنِيَّاتِ الْوَدَاعِ |
وَجَبَ الشُّكْرُ عَلَيْنَا | مَا دَعَا لِلَّهِ دَاعِ |
وَبَعْضُ الرُّوَاةِ يَهِمُ فِي هَذَا وَيَقُولُ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ مَقْدِمِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ مَكَّةَ، وَهُوَ وَهْمٌ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ ثَنِيَّاتِ الْوَدَاعِ إِنَّمَا هِيَ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّامِ، لَا يَرَاهَا الْقَادِمُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَا يَمُرُّ بِهَا إِلَّا إِذَا تَوَجَّهَ إِلَى الشَّامِ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: هَذِهِ طَابَةُ، وَهَذَا أُحُدٌ، جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ.
الطالب: متَّفق عليه من حديث أنسٍ.
الشيخ: طابة من أسماء المدينة، طابة وطيبة من أسماء المدينة، وفي هذا دلالة على أنَّ بعض البقاع والجبال لها إحساس في حبِّ الله ورسوله: هذا جبلٌ يُحبنا ونُحبه، الله يجعل فيها ما يشاء .
س: ...............؟
ج: مثلما سمعت، الله أعلم.
فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ العباسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي أَمْتَدِحْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: قُلْ لَا يَفْضُضِ اللَّهُ فَاكَ، فَقَالَ:
مِنْ قَبْلِهَا طِبْتَ فِي الظِّلَالِ وَفِي | مُسْتَوْدَعٍ حَيْثُ يُخْصَفُ الْوَرَقُ |
ثُمَّ هَبَطْتَ الْبِلَادَ لَا بَشَرٌ | أَنْتَ وَلَا مُضْغَةٌ وَلَا عَلَقُ |
بَلْ نُطْفَةٌ تَرْكَبُ السَّفِينَ وَقَدْ | أَلْجَمَ نَسْرًا وَأَهْلَهُ الْغَرَقُ |
تُنْقَلُ مِنْ صَالِبٍ إِلَى رَحِمٍ | إِذَا مَضَى عَالَمٌ بَدَا طَبَقُ |
حَتَّى احْتَوَى بَيْتُكَ الْمُهَيْمِنُ مِنْ | خِنْدِفَ عَلْيَا تَحْتَهَا النُّطُقُ |
وَأَنْتَ لَمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الْـ | أَرْضُ وَضَاءَتْ بِنُورِكَ الْأُفُقُ |
فَنَحْنُ فِي ذَلِكَ الضِّيَاءِ وَفِي النّـ | نُورِ وَسُبْلِ الرَّشَادِ نَخْتَرِقُ |
الشيخ: ما علَّق بشيءٍ؟
الطالب: نسبه إلى "المستدرك"، والبيهقي في "الدلائل" فيما ذكره الحافظُ فقط.
فَصْلٌ
وَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمَدِينَةَ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ، فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ، فَجَاءَهُ الْمُخَلَّفُونَ، فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ، وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا، فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَانِيَتَهُمْ، وَبَايَعَهُمْ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ.
وَجَاءَهُ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، فَلَمَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: تَعَالَ، قَالَ: فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لِي: مَا خَلَّفَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟! فَقُلْتُ: بَلَى، إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنْ أَخْرُجَ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا، وَلَكِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ إِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَلَيَّ، لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ، إِنِّي لَأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ عَنِّي، وَاللَّهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ، فَقُمْتُ.
وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ فَاتَّبَعُونِي يُؤَنِّبُونِي، فَقَالُوا لِي: وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا، وَلَقَدْ عَجَزْتَ أَلَّا تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِمَا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ الْمُخَلَّفُونَ، فَقَدْ كَانَ كَافِيكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَكَ! قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونِي حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ فَأُكَذِّبَ نَفْسِي، ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ: هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِي أَحَدٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ، رَجُلَانِ قَالَا مِثْلَمَا قُلْتَ، فَقِيلَ لَهُمَا مِثْلَمَا قِيلَ لَكَ، فَقُلْتُ: مَنْ هُمَا؟ قَالُوا: مرارة بن الربيع العامري، وهلال بن أمية الواقفي. فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ شَهِدَا بَدْرًا، فِيهِمَا أُسْوَةٌ، فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي.
وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ، فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ وَتَغَيَّرُوا لَنَا، حَتَّى تَنَكَّرَتْ لِيَ الْأَرْضُ، فَمَا هِيَ بِالَّتِي أَعْرِفُ، فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ، وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ الْقَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ، فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلَاةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَطُوفُ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ.
الشيخ: وفي هذا دلالة على عظيم طاعة الصحابة للرسول ﷺ، وعنايتهم بالسمع والطاعة، لما أمرهم بهجر الثلاثة اجتنبوهم وهجروهم، فدلَّ على كمال الإيمان، وقوة الإيمان، والعناية بالسمع والطاعة للرسول عليه الصلاة والسلام.
وفي ذلك حكمة: حتى يرتدع الناسُ عن إظهار المعاصي والإصرار عليها، وأنَّ صاحبها على خطرٍ.
وفي ذلك من الفوائد: أنها وإن عظمت فإنَّ الله يمحوها بالتوبة الصَّادقة، فهؤلاء تاب الله عليهم، وربحوا الدنيا والآخرة، وأولئك المخلَّفون الكاذبون خسروا الدنيا والآخرة، نسأل الله العافية.
فالواجب الصبر على الحقِّ وإن كانت فيه غضاضة، لا بدَّ من الصبر على الحقِّ والثبات عليه، وإن أصابك ما أصابك، والحذر من الباطل، وإن تزخرفت به الدنيا، وحصل به ما قد يحصل لأهل الدنيا، فالحق أحق بالاتباع وأولى، والعاقبة لأهل التقوى، كما قال تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49]، فهؤلاء جعل الله لهم العاقبة الحميدة، وأنزل فيهم: وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا [التوبة:118]، وأولئك باءوا بالخيبة والخسارة، نسأل الله العافية.
وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ الْقَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ، فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلَاةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَطُوفُ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ، وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَامِ عَلَيَّ أَمْ لَا؟ ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ، فَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ، فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلَاتِي أَقْبَلَ إِلَيَّ، وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا طَالَ عَلَيَّ ذَلِكَ مِنْ جَفْوَةِ الْمُسْلِمِينَ مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أبي قتادة، وَهُوَ ابْنُ عَمِّي، وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَوَاللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ، فَقُلْتُ: يَا أبا قتادة، أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُنِي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﷺ؟ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ فَنَاشَدْتُهُ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ فَنَاشَدْتُهُ فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَفَاضَتْ عَيْنَايَ، وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ.
فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي بِسُوقِ الْمَدِينَةِ إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ أَنْبَاطِ الشَّامِ مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؟ فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ، حَتَّى إِذَا جَاءَنِي دَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ، فَإِذَا فِيهِ: "أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ، وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ، فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ"، فَقُلْتُ لَمَّا قَرَأْتُهَا: وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْبَلَاءِ، فَتَيَمَّمْتُ بِهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهَا، حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً مِنَ الْخَمْسِينَ إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَأْتِينِي، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ، فَقُلْتُ: أُطَلِّقُهَا أَمْ مَاذَا؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنِ اعْتَزِلْهَا وَلَا تَقْرَبْهَا، وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي: الْحَقِي بِأَهْلِكِ فَكُونِي عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ.
فَجَاءَتِ امْرَأَةُ هلال بن أمية فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هلال بن أمية شَيْخٌ ضَائِعٌ، لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ، فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدُمَهُ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ لَا يَقْرَبُكِ، قَالَتْ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا بِهِ حَرَكَةٌ إِلَى شَيْءٍ، وَاللَّهِ مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ إِلَى يَوْمِهِ هَذَا.
قَالَ كعب: فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي: لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي امْرَأَتِكَ كَمَا أَذِنَ لِامْرَأَةِ هلال بن أمية أَنْ تَخْدُمَهُ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَسْتَأْذِنُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، وَمَا يُدْرِينِي مَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ فِيهَا وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ.
وَلَبِثْتُ بَعْدَ ذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ حَتَّى كَمُلَتْ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ كَلَامِنَا، فَلَمَّا صَلَّيْتُ صَلَاةَ الْفَجْرِ صُبْحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً عَلَى سَطْحِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا، بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي، وَضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى عَلَى جَبَلِ سَلْعٍ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ، أَبْشِرْ، فَخَرَرْتُ سَاجِدًا، فَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ مِنَ اللَّهِ، وَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى الْفَجْرَ، فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا، وَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ، وَرَكَضَ إِلَيَّ رَجُلٌ فَرَسًا، وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ فَأَوْفَى عَلَى ذِرْوَةِ الْجَبَلِ، وَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنَ الْفَرَسِ.
فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي نَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُ إِيَّاهُمَا بِبُشْرَاهُ، وَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا، وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا، فَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنِّئُونِي بِالتَّوْبَةِ، يَقُولُونَ: لِيَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ.
قَالَ كعب: حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ حَوْلَهُ النَّاسُ، فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِاللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي، وَاللَّهِ مَا قَامَ إِلَيَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ، وَلَسْتُ أَنْسَاهَا لطلحة، فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ: أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ، قَالَ: قُلْتُ: أَمِنْ عِنْدكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا، بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ، وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، فَقَالَ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ، قُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِيَ الَّذِي بِخَيْبَرَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا نَجَّانِي بِالصِّدْقِ، وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَلَّا أُحَدِّثَ إِلَّا صِدْقًا مَا بَقِيتُ، فَوَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَبْلَاهُ اللَّهُ فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَى يَوْمِي هَذَا مَا أَبْلَانِي، وَاللَّهِ مَا تَعَمَّدْتُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِي هَذَا كَذِبًا، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِيَ اللَّهُ فِيمَا بَقِيتُ.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ إِلَى قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:117- 119]، فَوَاللَّهِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ نِعْمَةً قَطُّ بَعْدَ أَنْ هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ أَعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، أَنْ لَا أَكُونَ كَذَبْتُهُ فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا، فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ لِلَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ أَنْزَلَ الْوَحْيَ شَرَّ مَا قَالَ لِأَحَدٍ، قَالَ: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [التوبة:95، 96].
قَالَ كعب: وَكَانَ تَخَلُّفُنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ عَنْ أَمْرِ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ حَلَفُوا لَهُ فَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَأَرْجَأَ أَمْرَنَا حَتَّى قَضَى اللَّهُ فِيهِ، فَبِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ: وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا [التوبة:118]، وَلَيْسَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ مِمَّا خَلَّفَنَا عَنِ الْغَزْوِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْلِيفُهُ إِيَّانَا وَإِرْجَاؤُهُ أَمْرَنَا عَمَّنْ حَلَفَ لَهُ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقَبِلَ مِنْهُ.
الشيخ: وفي هذه القصة -قصة الثلاثة: كعب وصاحبيه: مرارة بن الربيع العامري، وهلال بن أمية الواقفي- الدلالة العظيمة على وجوب الصِّدق، والحذر من الكذب، وأنَّ عاقبةَ الصدق حميدة، وعاقبة الكذب وخيمة؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]، وقال جلَّ وعلا في آخر سورة المائدة: قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [المائدة:119].
وقال النبي ﷺ: عليكم بالصدق، فإنَّ الصِّدق يهدي إلى البرِّ، وإنَّ البرَّ يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجلُ يصدق ويتحرى الصِّدقَ حتى يُكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذبَ، فإنَّ الكذبَ يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجلُ يكذب ويتحرى الكذبَ حتى يُكتب عند الله كذَّابًا.
وقال في هؤلاء الكذَّابين: يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [التوبة:96].
المقصود أنَّ الله جلَّ وعلا أثنى على الصَّادقين، وذمَّ الكذَّابين، وحذَّر من أخلاقهم الذَّميمة.
فالواجب على المؤمن في جميع أموره أن يتحرى الصِّدقَ، وأن يحذر الكذبَ في أعماله وأقواله؛ طاعةً لله جلَّ وعلا، والتماسًا لمرضاته، وحذرًا من عاقبة الكذب، ولا يجوز الكذبُ إلا في الأمور التي رخَّص فيها الربُّ : كالحرب، وحديث الرجل امرأته، والمرأة زوجها، والإصلاح بين الناس، كما جاء في الحديث الصحيح عن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط قالت: لم أسمع النبيَّ يُرخص في شيءٍ من الكذب إلا في ثلاثة: الإصلاح بين الناس، والحرب، وحديث الرجل امرأته، والمرأة زوجها. فلا بأس بهذا الكذب: للإصلاح بين الناس، أو في الحرب: الحرب خدعة، أو فيما يتعلق بين الرجل وأهله فيما يكون بينهما، إذا كذبت عليه أو كذب عليها للإصلاح بينهما فيما يتعلق بهما أنفسهما، والحرب كونه يُظهر شيئًا من الكذب، ليس فيه إخلاف عهدٍ، فليس فيه نقضٌ للعهد، وليس فيه خيانة، ولكن فيه مصلحة للمسلمين، وكان ﷺ إذا أراد غزوةً ورَّى بغيرها؛ حتى يهجم على العدو على غِرَّةٍ، غير مُستعدٍّ، فإذا رأى في الكذب مصلحةً من غير إخلالٍ بعهدٍ ولا غدرٍ فلا بأس، كأن يكون العدو متحصنًا مثلًا فيُظهر ولي الأمر ورئيس الجيش أنه قافل؛ حتى يخرج العدو، حتى يبرز، فيقول: إنا قافلون. فإذا مشى وتجاوز المحلَّ وخرج العدو من حصنه كرَّ عليهم؛ لأنَّ هذا فيه مصلحة الجهاد، ومصلحة المسلمين، وليس فيه إخلالٌ بعهدٍ، وإنما فيه مكيدة للعدو.
س: ...............؟
ج: لا، لا يكذب في الرؤيا، جاء فيها الوعيد، لكن يُصلح بين الناس بالأشياء الأخرى غير الرؤيا.
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ: حَدَّثَنَا عبدالله بن صالح: حَدَّثَنِي معاوية بن صالح، عَنْ علي ابن أبي طلحة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا [التوبة:102] قَالَ: كَانُوا عَشَرَةَ رَهْطٍ تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَلَمَّا حَضَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَوْثَقَ سَبْعَةٌ مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِسَوَارِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ يَمُرُّ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا رَجَعَ فِي الْمَسْجِدِ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا رَآهُمْ قَالَ: مَنْ هَؤُلَاء الْمُوثِقُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالسَّوَارِي؟ قَالُوا: هَذَا أبو لبابة وَأَصْحَابٌ لَهُ تَخَلَّفُوا عَنْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْثَقُوا أَنْفُسَهُمْ حَتَّى يُطْلِقَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ وَيَعْذِرَهُمْ، قَالَ: وَأَنَا أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَا أُطْلِقُهُمْ وَلَا أَعْذِرُهُمْ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يُطْلِقُهُمْ، رَغِبُوا عَنِّي وَتَخَلَّفُوا عَنِ الْغَزْوِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا بَلَغَهُمْ ذَلِكَ قَالُوا: وَنَحْنُ لَا نُطْلِقُ أَنْفُسَنَا حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يُطْلِقُنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، وَعَسَى مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:37]، فَلَمَّا نَزَلَتْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ ﷺ فَأَطْلَقَهُمْ وَعَذَرَهُمْ، فَجَاءُوا بِأَمْوَالِهِمْ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ أَمْوَالُنَا فَتَصَدَّقْ بِهَا عَنَّا، وَاسْتَغْفِرْ لَنَا. قَالَ: مَا أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ أَمْوَالَكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ يَقُولُ: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103]، فَأَخَذَ مِنْهُمُ الصَّدَقَةَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ.
وَكَانَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ لَمْ يُوثِقُوا أَنْفُسَهُمْ بِالسَّوَارِي، فَأُرْجِئُوا لَا يَدْرُونَ: أَيُعَذَّبُونَ أَمْ يُتَابُ عَلَيْهِمْ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ إِلَى قَوْلِهِ: وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة:117، 118]. تَابَعَهُ عَطِيَّةُ بْنُ سَعْدٍ.
الطالب: في الحاشية: إسناده ضعيف؛ لضعف عبدالله بن صالح، وعلي ابن أبي طلحة روايته عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما مُرسلة.
الشيخ: الأثر ضعيف لا شكّ؛ لانقطاعه، ولضعف عطية أيضًا العوفي، أما عبدالله بن صالح فهو فيه بعض النَّقص، ولكنه من شيوخ البخاري رحمه الله، وليس على إطلاقه ما قاله المحشي، بل له بعض الأغلاط والنَّقص، وليس بمطلق الضَّعف، انظر كلامه في "التقريب" عن عبدالله بن صالح، كاتب الليث.
س: ...............؟
ج: ضعيفة نعم.
الطالب: عبدالله بن صالح بن محمد بن مسلم الجهني، أبو صالح المصري، كاتب الليث، صدوق كثير الغلط، ثبت في كتابه، وكانت فيه غفلة، من العاشرة، مات سنة اثنتين وعشرين، وله خمس وثمانون سنة. (خت، د، ت، ق).
الشيخ: نعم، هذا هو الصواب، فيه بعض الأغلاط، وثبت في كتابه رحمه الله.
الطالب: إذا حدَّث من كتابه؟
الشيخ: نعم، ثقة من كتابه، لا بأس به.