تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ..} (2)

إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ۝ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ۝ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأنعام:95-97].

يُخبر تعالى أنَّه فالقُ الحَبِّ والنَّوى، أي: يشُقُّه في الثَّرَى، فتنبتُ منه الزُّروعُ على اختلافِ أصنافها، من الحبوبِ والثِّمار على اختلاف ألوانها وأشكالها وطُعُومها من النَّوى؛ ولهذا فسَّر قوله: فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى بقوله: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ أي: يُخرج النَّباتَ الحيَّ من الحَبِّ والنَّوى الذي هو كالجماد الميت، كقوله: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ إلى قوله: وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ [يس:33- 36].

وقوله: وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ معطوفٌ على فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى، ثمَّ فسَّره، ثمَّ عطف عليه قولَهُ: وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ، وقد عبَّروا عن هذا وهذا بعباراتٍ كلها مُتقاربةٌ مُؤدِّيةٌ للمعنى، فمن قائلٍ: يُخْرِجُ الدَّجَاجَةَ من البيضةِ، وعكسه. ومن قائل: يُخْرِجُ الولد الصالح من الفاجر، وعكسه. وغير ذلك من العبارات التي تَنْتَظِمُها الآية وتشملها.

ثم قال تعالى: ذَلِكُمُ اللَّهُ أي: فاعل هذا هو الله وحده لا شريكَ له، فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي: كيف تُصرفون عن الحقِّ وتعدلون عنه إلى الباطل، فتعبدون معه غيره.

الشيخ: والمقصود من هذا بيان أنَّه جلَّ وعلا المتصرف في خلقه، المدبّر لهم، وأنَّه المستحقّ لأن يُعبد، فيُنبّه عباده على نِعَمِه العظيمة، وآياته العظيمة، من كونه فالق الحبِّ والنَّوى، يُخرج الحيَّ من الميت، ويُخرج الميت من الحيِّ، كلّ هذا من آياته العظيمة الدالة على قُدرته العظيمة، وأنه ربّ العالمين، وأنَّه الخلَّاق العليم.

فالواجب أن يُعبد وحده لا شريكَ له، وأن يُطاع أمره، وأن تُتبع رسله، وأن يُحذر ما نهى؛ لأنَّه أعلم بمصالح عباده، ولأنَّه المستحقّ لأن يعظم ويُطاع أمره، فالذي فعل هذه الأشياء وأوضح لكم هذه الأشياء هو المستحقّ لأن تعبدوه، وتُطيعوه، وتتبعوا رسله، وتنقادوا لشرعه، حتى تفوزوا بنعيمه وجنَّته وكرامته، الله المستعان، نعم.

س: صحيح التفسير: يُخرج الولد الصالح من الكافر؟

ج: الكافر بمنزلة الميت، والمسلم بمنزلة الحيّ، لكنَّه الأمر الحسيّ: البيضة من الدَّجاجة، البيضة في حكم الميتة، جماد، والدَّجاجة حيّ، والعكس، البيضة الميتة التي في حكم الميت يخرج منها الفرخُ الصَّغير، نعم.

وقوله: فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا أي: خالقُ الضِّياء والظَّلام، كما قال في أوَّل السورة: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1] أي: فهو سبحانه يَفْلِقُ ظلام اللَّيل عن غُرَّةِ الصَّباح فيُضِيء الوجود، ويستنير الأُفُقُ، ويَضْمَحِلُّ الظَّلام، ويذهب الليل بسواده وظلام رواقه، ويجيء النَّهار بضيائه وإشراقه، كقوله: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا [الأعراف:54]، فبيَّن تعالى قُدرته على خلق الأشياء المُتضادَّة المختلفة الدَّالَّة على كمال عظمته وعظيم سلطانه، فذكر أنَّه فالق الإصباح، وقابل ذلك بقوله: وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا أي: ساجيًا، مُظلمًا، لتسكن فيه الأشياءُ، كما قال: وَالضُّحَى ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضحى:1-2]، وقال: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ۝ وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى [الليل:1-2]، وقال: وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا [الشمس:3-4].

وقال صُهيبٌ الرُّوميُّ رضي الله عنه لامرأته وقد عاتبتهُ في كثرةِ سهرِهِ: إِنَّ الله جعل اللَّيْلَ سكنًا إلَّا لصُهَيْبٍ، إِنَّ صُهَيْبًا إذا ذكر الجَنَّةَ طَالَ شَوْقُهُ، وَإِذَا ذَكَرَ النَّارَ طَارَ نَوْمُهُ. رواه ابنُ أبي حاتمٍ.

الشيخ: يعني: في التَّعبد والتَّهجد، الله المستعان.

س: هذا ما يُخالف قوله: إنَّ لنفسك عليك حقًّا؟

ج: بلى، الصواب ما أمر به النبيُّ ﷺ، الإنسان يأخذ من الليل قسطًا، ويجعل بقيته مع أهله: إنَّ لأهلك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولضيفك عليك حقًّا، ولبدنك عليك حقًّا، فأعطِ كلّ ذي حقٍّ حقَّه، لا يسهر.

س: أما يكون هذا من اجتهاد صُهيب؟

ج: من اجتهاده عفا الله عنه، مثلما قال بعضُ الصحابة لما سألوا عن أعمال النبي ﷺ في السّر وأُخبروا بها، كأنَّهم تقالّوها، فقال بعضُهم: أما أنا فأُصلي ولا أنام. وقال آخر: وأما أنا فأصوم ولا أُفطر. وقال الآخر: وأما أنا فلا أتزوج النِّساء. وقال آخر: أما أنا فلا آكل اللحم. فبلغ النبيّ ﷺ ذلك، فخطب الناس وذكّرهم وقال: ما بال أقوامٍ قالوا كذا وكذا؟! إني لأرجو أن أكون أتقاكم لله، وأخشاكم لله، وإني أُصلي وأنام، وأصوم وأُفطر، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمَن رغب عن سُنتي فليس مني، اللهم صلِّ عليه وسلّم.

س: لكن يا شيخ في الحاشية يقول: ما له سند؟

ج: نعم، نعم.

وقوله: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا [الأنعام:96] أي: يجريان بحسابٍ مُقَنَّنٍ مُقَدَّرٍ، لا يتغير، ولا يضطرب، بل لكلِّ منهما منازل يسلكها في الصيف والشتاء، فيترتَّب على ذلك اختلافُ اللَّيل والنَّهار طُولًا وقصرًا، كما قال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ الآية [يونس:5]، وكما قال: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:40]، وقال: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ [الأعراف:54].

وقوله: ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أي: الجميع جارٍ بتقدير العزيزِ الذي لا يُمانع، ولا يُخالَف، العليم بكلِّ شيءٍ، فلا يَعْزُبُ عن علمه مثقالُ ذرَّةٍ في الأرض ولا في السَّماء.

وكثيرًا ما إذا ذكر الله تعالى خلق اللَّيل والنَّهار والشَّمس والقمرِ يختم الكلامَ بالعزَّةِ والعلمِ، كما ذكر في هذه الآية، وكما في قوله: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ ۝ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [يس:37-38].

ولما ذكر خلق السماوات والأرض وما فيهنَّ في أوَّل سورة (حم) السَّجدة قال: وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [فصلت:12].

وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قال بعضُ السلف: مَن اعتقد في هذه النُّجومِ غير ثلاثٍ فقد أخطأ وكذب على الله سبحانه: أنَّ الله جعلها زينةً للسَّماء، ورجومًا للشَّياطين، ويُهتدى بها في ظلمات البَرِّ والبحرِ.

وقوله: قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ أي: قد بَيَّنَّاها ووضَّحْنَاها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي: يعقلون ويعرفون الحقَّ، ويتجنبون الباطل.

الشيخ: كلّ هذا من آياته جلَّ وعلا لإقامة الحجّة، وقطع المعذرة، فالذي خلق هذه الأشياء ونظمها ودبّرها لمصالح عباده هو المستحقّ لأن يُعبد، وأن يُطاع أمره، وأن يُجتنب نهيه، وأن يُوقف عند حدوده؛ رجاء رحمته وإحسانه، وحذر غضبه وعقابه. نعم.

س: السَّاتر هل هو من أسماء الله؟

ج: جاء في الحديث "الستير"، أما "ساتر" فما بلغني، جاء: «إنَّ ربَّكم حيي ستير، يستحي من عبده إذا رفع يديه أن يردّهما صفرًا»، وهو لا بأسَ به، رواه أبو داود وجماعة، صفة مُبالغة.

س: لكن من حيث المعنى؟

ج: من حيث المعنى هو الساتر، وهو الستار من جهة المعنى، لكن ما أعرف أنَّه ورد فيه شيء من الأحاديث، ولكنه في المعنى هو الستار، وهو السَّاتر.