أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ [التوبة:126-127].
يقول تعالى: أولا يرى هؤلاء المنافقون أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ أي: يُختبرون فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ أي: لا يتوبون من ذنوبهم السَّالفة، ولا هم يذكرون فيما يستقبل من أحوالهم.
قال مجاهد: يُختبرون بالسنة والجوع.
وقال قتادة: بالغزو في السنة مرةً أو مرتين.
وقال شريك: عن جابرٍ -هو الجعفي-، عن أبي الضُّحى، عن حذيفة في قوله: أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ قال: كنا نسمع في كل عامٍ كذبةً أو كذبتين، فيضلّ بها فئامٌ من الناس كثير. رواه ابنُ جرير.
وفي الحديث عن أنسٍ: لا يزداد الأمرُ إلا شدّةً، ولا يزداد الناسُ إلا شحًّا، وما من عامٍ إلا والذي بعده شرٌّ منه، سمعته من نبيكم ﷺ.
وقوله: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ هذا أيضًا إخبارٌ عن المنافقين أنَّهم إذا أُنزلت سورة على رسول الله ﷺ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ أي: تلفتوا هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا أي: تولوا عن الحقِّ وانصرفوا عنه، وهذا حالهم في الدِّين: لا يثبتون عند الحقِّ، ولا يقبلونه، ولا يفهمونه، كقوله تعالى: فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر:49-51]، وقوله تعالى: فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ [المعارج:36-37] أي: ما لهؤلاء القوم يتفللون عنك يمينًا وشمالًا؟
مُداخلة: عندنا: يتقللون.
مُداخلة: ذكر -أحسن الله إليك- في نسخةٍ: "يتفللون"، وذكر تعليقًا: يُريد يبتعدون، وأصل معنى "تفلل" انهزم، قال ابنُ منظور: وفلّ القوم يفلّهم فلًّا، هزمهم، فانفلّوا، وتفللوا، ومن شأن المنهزم أن يفرّ ويبتعد.
الشيخ: نعم.
هروبًا من الحقِّ، وذهابًا إلى الباطل.
وقوله: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} كقوله: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5].
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ أي: لا يفهمون عن الله خطابه، ولا يقصدون لفهمه، ولا يُريدونه، بل هم في شغلٍ عنه، ونفورٍ منه؛ فلهذا صاروا إلى ما صاروا إليه.
الشيخ: وهذا كلّه من عدم إيمانهم، وما في قلوبهم من الإنكار والكراهة، مع التَّكذيب، هكذا يكونون، إذا نزلت السور نفروا، وانقلبوا على أعقابهم .....، وتخاطبوا فيما بينهم بمثل ذلك؛ ليجتمع رأيهم على الفراق والهروب من الحقِّ، نسأل الله العافية.
س: المقصود بالكذبة والكذبتين؟
ج: قول بعض السَّلف.
مُداخلة: حديث أنسٍ: لا يزداد الأمر إلا شدّة، عندي حاشية عليه يا شيخ، أقرأها عليكم؟
الشيخ: نعم.
الطالب: يقول: هذا الحديث مُركّب من حديثين عن أنسٍ: الأول رواه ابنُ ماجه في "السنن" والحاكم في "المستدرك" من طريق محمد بن خالد الجندي، عن أبان بن صالح، عن الحكم، عن أنسٍ مرفوعًا: لا يزداد الأمر إلا شدّة، ولا الدنيا إلا إدبارًا، ولا الناس إلا شُحًّا، ولا تقوم الساعةُ إلا على شرار الناس، وما المهدي إلا عيسى ابن مريم، ففيه ضعفٌ ونكارة بيّنها المؤلف الحافظ ابن كثير في "النِّهاية في الفتن والملاحم".
وأما الثاني: فرواه البخاري في "صحيحه" من طريق سفيان، عن الزبير بن عدي قال: أتينا أنس بن مالك فشكونا إليه ما يلقون من الحجاج، فقال: اصبروا، فإنَّه لا يأتي عليكم زمانٌ إلا والذي بعده أشرّ منه حتى تلقوا ربَّكم، سمعته من نبيكم ﷺ.
الشيخ: الثاني يشهد له الأول، والمعنى: أنَّ الشيء لا يزداد إلا شدّة وشرًّا من حيث العموم، ولكن لا يُنافي أن تكون بعض الجهات أحسن من بعض الجهات في بعض السنوات المتأخرة، قد يقع هذا، مثلما وقع في وقت عمر بن عبدالعزيز، وبعده في أوقات كثيرة، ومثلما وقع في نجدٍ في عهد الشيخ محمد بن عبدالوهاب وبعده رحمه الله، لكن من جهة العموم -عموم الدنيا- لا يزداد الأمر إلا شدّة، مثلما قال ﷺ لا يزداد إلا غُربةً: بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ.
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة:128-129].
يقول تعالى مُمتنًّا على المؤمنين بما أرسل إليهم رسولًا من أنفسهم، أي: من جنسهم، وعلى لغتهم، كما قال إبراهيم عليه السلام: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129]، وقال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران:164]، وقال تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي: منكم، وبلغتكم.
كما قال جعفر ابن أبي طالب للنَّجاشي، والمغيرة بن شُعبة لرسول كسرى: "إنَّ الله بعث فينا رسولًا منا، نعرف نسبه، وصفته، ومدخله، ومخرجه، وصدقه، وأمانته". وذكر الحديث.
وقال سفيان بن عيينة: عن جعفر بن محمد، عن أبيه في قوله تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ قال: لم يُصبه شيء من ولادة الجاهلية. وقال ﷺ: خرجتُ من نكاحٍ، ولم أخرج من سفاحٍ.
وقد وصل هذا من وجهٍ آخر كما قال الحافظ أبو محمد الحسن بن عبدالرحمن الرامهرمزي في كتابه "الفاصل بين الراوي والواعي": حدثنا أبو أحمد يوسف بن هارون بن زياد: حدثنا ابنُ أبي عمر: حدثنا محمد بن جعفر بن محمد قال: أشهد على أبي لحدثني عن أبيه، عن جدِّه، عن عليٍّ قال: قال رسولُ الله ﷺ: خرجتُ من نكاحٍ، ولم أخرج من سفاحٍ، من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي لم يمسّني من سفاح الجاهلية شيءٌ.
وقوله تعالى: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ أي: يعزّ عليه الشَّيء الذي يُعنت أمّته ويشقّ عليها؛ ولهذا جاء في الحديث المروي من طرقٍ عنه أنَّه قال: بُعثتُ بالحنيفية السَّمحة، وفي الصحيح: إنَّ هذا الدِّينَ يسرٌ، وشريعته كلّها سهلة، سمحة، كاملة، يسيرة على مَن يسّرها الله تعالى عليه.
حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أي: على هدايتكم ووصول النَّفع الدّنيوي والأُخروي إليكم.
وقال الطّبراني: حدثنا محمد بن عبدالله الحضرمي: حدثنا محمد بن عبدالله بن يزيد المقري: حدثنا سفيان بن عيينة، عن فطر، عن أبي الطُّفيل، عن أبي ذرٍّ قال: تركنا رسول الله ﷺ وما طائرٌ يُقلّب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكر لنا منه علمًا. قال: وقال رسولُ الله ﷺ: ما بقي شيءٌ يُقرّب من الجنة ويُباعد من النار إلا وقد بيّن لكم.
الشيخ: وهذا من نُصحه عليه الصلاة والسلام، فإنَّه بلّغ الأمّة كلّ ما فيه نفعها، وهكذا كلّ نبيٍّ، يقول ﷺ: إنَّ حقًّا على كل نبيٍّ أن يُبلّغ أمّته خير ما يعلمه لهم، ويُنذرهم شرّ ما يعلمه لهم، ما بعث الله من نبيٍّ إلا كان حقًّا عليه أن يُبلغ أمّته خير ما يعلمه لهم، ويُنذرهم شرّ ما يعلمه لهم، وهو أفضلهم وأكملهم بيانًا عليه الصلاة والسلام، قد بلّغ البلاغ المبين، ونصح الأمّة، وجاهد في الله حقَّ جهاده.
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ يعني: تعرفون نسبه وصدقه وأمانته، حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ يعني: حريص على هدايتكم، وعلى إنقاذكم من النار، فهذا شأنه عليه الصلاة والسلام: يشقّ عليه ما يعنت أمّته: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ، فهو بالمؤمنين رؤوف رحيم، حريصٌ على هداية الأمّة ونجاتها من النار، يشقّ عليه ما يعنتها ويشقّ عليها؛ ولهذا دعاها لكل خيرٍ، وحرص على كل خيرٍ عليه الصلاة والسلام.
وقال الإمام أحمد: حدثنا قطن: حدثنا المسعودي، عن الحسن بن سعد، عن عبدة الهذلي، عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسولُ الله ﷺ: إنَّ الله لم يُحرم حرمة إلا وقد علم أنَّه سيطلعها منكم مطلع، ألا وإني آخذٌ بحجزكم أن تهافتوا في النار كتهافت الفراش، أو الذّباب.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى: حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباسٍ: أنَّ رسول الله ﷺ أتاه ملكان فيما يرى النَّائم، فقعد أحدُهما عند رجليه، والآخر عند رأسه، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: اضرب مثل هذا ومثل أمّته. فقال: إنَّ مثله ومثل أمّته كمثل قومٍ سفرٍ انتهوا إلى رأس مفازةٍ، ولم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة، ولا ما يرجعون به، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجلٌ في حُلَّةٍ حبرةٍ، فقال: أرأيتم إن وردت بكم رياضًا مُعشبةً، وحياضًا رواء، تتبعوني؟ فقالوا: نعم. قال: فانطلق بهم فأوردهم رياضًا مُعشبةً، وحياضًا رواء، فأكلوا، وشربوا، وسمنوا، فقال لهم: ألم ألفكم على تلك الحال، فجعلتم لي إن وردت بكم رياضًا مُعشبةً وحياضًا رواء أن تتبعوني؟ فقالوا: بلى. فقال: فإنَّ بين أيديكم رياضًا هي أعشب من هذه، وحياضًا هي أروى من هذه، فاتّبعوني. فقالت طائفةٌ: صدق والله، لنتبعه. وقالت طائفةٌ: قد رضينا بهذا، نُقيم عليه.
الشيخ: اللهم صلِّ عليه وسلّم، لا خيرَ إلا دلَّ عليه، ولا شرَّ إلا حذَّر منه عليه الصلاة والسلام، اللهم صلِّ عليه، جزاه الله عن أمّته أفضل الجزاء وخير الجزاء، اللهم صلِّ عليه.
س: ..... في الحديث: اللهم اغسلهم بالماء والثَّلج والبرد، والعادة أنَّ الثلج والبرد ما يُنظف، يُنظفه الحار، فما وجه المناسبة؟
ج: الله أعلم.