تفسير قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ..}

وقال ابنُ جرير: حدثنا القاسم: حدثنا الحسين، عن حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة في قوله: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ الآية [الأنعام:51]، قال: جاء عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ومطعم بن عدي، والحارث بن نوفل، وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل في أشرافٍ من بني عبد مناف من أهل الكفر إلى أبي طالب، فقالوا: يا أبا طالب، لو أنَّ ابن أخيك محمدًا يطرد عنه موالينا وحلفاءنا، فإنما هم عبيدنا وعُتقاؤنا، كان أعظم في صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدنى لاتِّباعنا إياه، وتصديقنا له. قال: فأتى أبو طالب النبي ﷺ فحدّثه بذلك، فقال عمرُ بن الخطاب : لو فعلتَ ذلك حتى تنظر ما الذي يُريدون؟ وإلى ما يصيرون من قولهم؟ فأنزل الله هذه الآية: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إلى قوله: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام:51-53].

قال: وكانوا بلالًا، وعمَّار بن ياسر، وسالـمًا مولى أبي حُذيفة، وصبيحًا مولى أسيد، ومن الحلفاء: ابن مسعود، والمقداد بن عمرو، ومسعود بن القارئ، وواقد بن عبدالله الحنظلي، وعمرو بن عبد عمرو، وذو الشّمالين، ومرثد ابن أبي مرثد، وأبو مرثد الغنوي حليف حمزة بن عبدالمطلب، وأشباههم من الحلفاء.

فنزلت في أئمّة الكفر من قريش والموالي والحلفاء: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا الآية [الأنعام:53].

فلمَّا نزلت أقبل عمرُ ، فأتى النبي ﷺ فاعتذر من مقالته، فأنزل الله : وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا الآية [الأنعام:54].

وقوله: وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ أي: فأكرمهم برد السلام عليهم، وبشَّرهم برحمة الله الواسعة الشَّاملة لهم؛ ولهذا قال: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أي: أوجبها على نفسه الكريمة؛ تفضُّلًا منه، وإحسانًا، وامتنانًا، أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ [الأنعام:54].

قال بعضُ السلف: كل مَن عصى الله فهو جاهل.

وقال معتمر بن سليمان: عن الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله: مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ قال: الدنيا كلها جهالة. رواه ابنُ أبي حاتم.

ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ أي: رجع عمَّا كان عليه من المعاصي، وأقلع وعزم على أن لا يعود، وأصلح العمل في المستقبل: فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:54].

الشيخ: وهذا من فضل الله؛ لأنَّ مَن تاب إليه وأناب فالله غفورٌ رحيمٌ، وإنما الشَّأن في التوبة هو الصّدق فيها، فإذا صدق في التوبة وأصلح فالله غفورٌ رحيمٌ، كما قال جلَّ وعلا: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ۝ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ۝ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ [الفرقان:68-70].

فالمقصود أنَّه إذا تاب توبةً صادقةً تاب اللهُ عليه: فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:70].

فالمؤمن يُبادر بالتوبة، ويعلم أنَّه مسئول، وأنَّه قد جهل وأخطأ، فيُبادر بالتوبة، كل الذنوب جهالة، كل مَن عصى فهو جاهل فيما عصى الله فيه، فالواجب البدار والمسارعة إلى التوبة: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97]، ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

فالتوبة هي سبب السَّعادة والنَّجاة في الدنيا والآخرة، فينبغي للمؤمن أن يلزمها ويحرص عليها؛ لأنَّه خطاء: كل بني آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التَّوابون، وهي ندمٌ على الماضي، وهي السيئات، وإقلاعٌ منها، وحذرٌ منها، وعزم ألا يعود فيها؛ خوفًا من الله، وتعظيمًا له، وإخلاصًا له، مع ردِّ الحقوق إلى أهلها إذا كان هناك شيء يتعلق بالمخلوقين، قد طلبوا حقوقهم، أو تحللوه منها.

فينبغي للمؤمن أن يكون في جميع أوقاته على توبةٍ، على حذرٍ، على صدقٍ وانتباهٍ، فإنَّ هذه الدار هي دار العمل، وهي دار التوبة، وهي دار المسارعة إلى الخيرات، وهي دار المحاسبة، نعم.

س: عفا الله عنك: وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، مع أنهم هم الذين أتوا، يُلقي هو السلام عليهم؟

ج: على ظاهر القرآن، يعني: خاطبهم بالتي هي أحسن، سلَّم عليهم، قد يبدأهم، وقد يبدأوا هم.

س: تبديل السّيئات المقصود به: أن يُوفق لأعمال صالحة أخرى، أم نفس السيئات تُبدل إلى حسنات؟

ج: التوبة تجُبّ ما قبلها، وإذا كان معها عملٌ صالحٌ بدّل الله سيئاته حسنات، نعم.

قال الإمام أحمد: حدثنا عبدالرزاق: حدثنا معمر، عن همام بن منبه قال: هذا ما حدّثنا أبو هريرة، قال: قال رسولُ الله ﷺ: لما قضى اللهُ الخلقَ كتب في كتابه، فهو عنده فوق العرش: إنَّ رحمتي غلبت غضبي.

الشيخ: كتابه، أو كتاب؟

قارئ المتن: كتابه.

طالب: لا، بدون هاء.

الشيخ: المعروف بدون هاء: "كتب في كتابٍ"، هذا المعروف في الأحاديث الصَّحيحة، بلفظ "الصحيحين"، نعم.

قارئ المتن: في حاشية يقول: أخرجه البخاري في كتاب "بدء الخلق"، باب "ما جاء في قول الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الروم:27]"، وفيه: لما قضى اللهُ الخلقَ كتب في كتابه.

الشيخ: لعلها رواية، نعم.

أخرجاه في "الصحيحين".

وهكذا رواه الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة.

ورواه موسى بن عقبة، عن الأعرج، عن أبي هريرة.

وكذا رواه الليث وغيره، عن محمد بن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ بذلك.

وقد روى ابنُ مردويه من طريق الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ قال: قال رسولُ الله ﷺ: إذا فرغ اللهُ من القضاء بين الخلق، أخرج كتابًا من تحت العرش: إنَّ رحمتي سبقت غضبي، وأنا أرحم الراحمين، فيقبض قبضةً أو قبضتين، فيُخرج من النار خلقًا لم يعملوا خيرًا، مكتوبٌ بين أعينهم: عُتقاء الله.

وقال عبدالرزاق: أخبرنا معمر، عن عاصم بن سليمان، عن أبي عثمان النَّهدي، عن سلمان في قوله: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ قال: إنا نجد في التوراة عطفتين: أنَّ الله خلق السماوات والأرض، وخلق مئة رحمة، أو جعل مئة رحمة قبل أن يخلق الخلق، ثم خلق الخلق، فوضع بينهم رحمةً واحدةً، وأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمة. قال: فبها يتراحمون، وبها يتعاطفون، وبها يتباذلون، وبها يتزاورون، وبها تحنّ الناقة، وبها تثج البقرة، وبها تثغو الشَّاة، وبها تتابع الطير، وبها تتابع الحيتان في البحر، فإذا كان يوم القيامة جمع الله تلك الرحمة إلى ما عنده، ورحمته أفضل وأوسع.

وقد رُوي هذا مرفوعًا من وجهٍ آخر، وسيأتي كثيرٌ من الأحاديث الموافقة لهذه عند قوله: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156].

ومما يُناسب هذه الآية من الأحاديث أيضًا: قوله ﷺ لمعاذ بن جبل: أتدري ما حقّ الله على العباد؟ أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئًا، ثم قال: أتدري ما حقّ العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك؟ ألا يُعذّبهم. وقد رواه الإمام أحمد من طريق كميل بن زياد، عن أبي هريرة .

الشيخ: وهذا الحقّ تفضّلٌ وإحسانٌ، وهذا من رحمته ألا يُعذّبهم، هذا من رحمته التي أشار إليها المؤلف، فحقّهم عليه حقّ تفضّلٍ وإحسانٍ، أما حقّه عليهم فحقّ افتراض وإيجاب، فيلزمهم أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئًا، ومن فضله ورحمته وإحسانه أن جعل لهم حقًّا فضلًا منه، وهو ألا يُعذّبهم إذا أخلصوا له العبادة، وتابوا إليه، وأنابوا إليه.

فعلى كل حالٍ، الموحد المؤمن له النَّجاة، لكن إن كان قد استقام على أمر الله فله النَّجاة من أول وهلةٍ، لا يدخل النار، أما إن كانت عنده معاصٍ مات عليها فهذا مُعرَّضٌ للوعيد، وعلى خطرٍ، فإن دخل النار بذنوبه لم يخلد، بل له نهاية، وله أمد ينتهي إليه، فإذا انتهى الأمدُ أخرجه الله فضلًا منه، وأدخله الجنَّة.

وقد ثبت في الأحاديث الصَّحيحة: أن الشُّهداء يشفعون، ويشفع النبي ﷺ، وتبقى بقية في النار من أهل التوحيد، فيُخرجهم الله جلَّ وعلا فضلًا منه وإحسانًا بعدما امتحشوا، بعدما عُذِّبوا، فتفضّل عليهم وأخرجهم سبحانه فضلًا منه إلى الجنَّة.

ولا يبقى في النار إلا مَن حكم عليه القرآنُ بالخلود، وهو المشرك، نسأل الله العافية.

س: ما المراد بحديث: "إنا نجد في التوراة عطفتين"، المراد بالعطفتين؟

ج: الله أعلم، نعم.

وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ۝ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ۝ قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ۝ قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ۝ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:55-59].

يقول تعالى: وكما بيّنا ما تقدم بيانه من الحجج والدَّلائل على طريق الهداية والرَّشاد وذمّ المجادلة والعناد: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ أي: التي يحتاج المخاطبون إلى بيانها، وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ أي: ولتظهر طريق المجرمين المخالفين للرسل.

وقرئ: وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلَ الْمُجْرِمِينَ أي: ولتستبين يا محمد، أو يا مُخاطب سبيلَ المجرمين.

وقوله: قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أي: على بصيرةٍ من شريعة الله التي أوحاها الله إليَّ، وَكَذَّبْتُمْ بِهِ أي: بالحقِّ الذي جاءني من الله، مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ أي: من العذاب، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أي: إنما يرجع أمر ذلك إلى الله: إن شاء عجّل لكم ما سألتُموه من ذلك، وإن شاء أنظركم وأجّلكم، لما له في ذلك من الحكمة العظيمة؛ ولهذا قال: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ أي: وهو خير مَن فصل القضايا، وخير الفاتحين في الحكم بين عباده.

وقوله: قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أي: لو كان مرجع ذلك إليَّ لأوقعتُ لكم ما تستحقّونه من ذلك، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ.

فإن قيل: فما الجمعُ بين هذه الآية، وبين ما ثبت في "الصحيحين" من طريق ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، عن عروة، عن عائشةَ: أنها قالت لرسول الله ﷺ: يا رسول الله، هل أتى عليك يومٌ كان أشدّ من يوم أحد؟ فقال: لقد لقيتُ من قومك، وكان أشدّ ما لقيتُ منه يوم العقبة، إذ عرضتُ نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يُجبني إلى ما أردتُ، فانطلقتُ وأنا مهمومٌ على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثَّعالب، فرفعتُ رأسي، فإذا أنا بسحابةٍ قد ظللتني، فنظرتُ فإذا فيها جبريل عليه السلام، فناداني فقال: إنَّ الله قد سمع قول قومك لك، وما ردُّوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئتَ فيهم، قال: فناداني ملكُ الجبال وسلَّم عليَّ، ثم قال: يا محمد، إنَّ الله قد سمع قول قومك لك، وقد بعثني ربُّك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئتَ، إن شئتَ أطبقتُ عليهم الأخشبين. فقال رسولُ الله ﷺ: بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم مَن يعبد الله، لا يُشرك به شيئًا. وهذا لفظ مسلمٍ.

فقد عرض عليه عذابهم واستئصالهم، فاستأنى بهم، وسأل لهم التَّأخير؛ لعلّ الله أن يُخرج من أصلابهم مَن لا يُشرك به شيئًا، فما الجمع بين هذا وبين قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ؟

فالجواب: والله أعلم، أنَّ هذه الآية دلَّت على أنَّه لو كان إليه وقوع العذاب الذي يطلبونه حال طلبهم له لأوقعه بهم، وأما الحديث فليس فيه أنَّهم سألوه وقوع العذاب بهم، بل عرض عليه ملكُ الجبال أنَّه إن شاء أطبق عليهم الأخشبين، وهما جبلا مكّة اللَّذان يكتنفانها جنوبًا وشمالًا؛ فلهذا استأنى بهم، وسأل الرِّفق لهم.

وقوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ قال البخاري: حدثنا عبدالعزيز بن عبدالله: حدثنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهابٍ، عن سالم بن عبدالله، عن أبيه: أنَّ رسول الله ﷺ قال: مفاتيح الغيب خمسٌ لا يعلمهنَّ إلا الله: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان:34].

وفي حديث عمر: أنَّ جبريل حين تبدّى له في صورة أعرابي، فسأل عن الإيمان والإسلام والإحسان، فقال له النبي ﷺ فيما قاله له: خمسٌ لا يعلمهنَّ إلا الله، ثم قرأ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآية.

وقوله: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي: محيطٌ علمه الكريم بجميع الموجودات، بريها وبحريها، لا يخفى عليه من ذلك شيء، ولا مثقال ذرَّةٍ في الأرض، ولا في السَّماء، وما أحسن ما قال الصرصري:

فلا يخفى عليه الذّر إما تراءى للنواظر أو توارى

وقوله: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا أي: ويعلم الحركات حتى من الجمادات، فما ظنّك بالحيوانات، ولا سيّما المكلّفون منهم من جنِّهم وإنسهم؟ كما قال تعالى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19].

الشيخ: وهذا الاستحضار يُوجب الحذر، فعلى المؤمن أن يستحضر أنَّ ربه يعلم حركاته وسكناته، فيستحي من الله أن يتقدّم إلى معصيته، أو يتأخّر عمَّا أوجب عليه، وهو يعلم أنَّ ربه يعلم حاله، وينظر إليه، ولا تخفى عليه خافية: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق:14]، ومنها قوله جلَّ وعلا: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس:61].

فجديرٌ بالمؤمن، جديرٌ بالعاقل أن ينتبه، وأن يحذر الإصرار على المعصية، أو التَّقدم إليها، أو التَّأخر عمَّا أوجب الله، والله يعلم حاله، ويُشاهد حاله، ولا تخفى عليه منه خافية، ليستحي من الله أن يطمس قلبه، وأن يُعمي بصيرته، وأن يُعاقبه بالطبع على قلبه، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، ليحذر، ليكن دائم الحذر، فإنَّ ربَّه له بالمرصاد: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14] .

وأما قوله: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ فالمراد يعني: قبل أن يُخلق، أما إذا خُلق فقد يطلع عليه كما هو الآن، إذا خُلق الجنين اطلعوا عليه بالمناظير المعروفة، يعرفون حاله، فهو يعلم ما في الأرحام قبل أن يُخلق، وبعد أن يُخلق، فبعد أن يُخلق يشترك معه الملك الذي جرى على يده التَّخليق، وقد يطّلع عليه خلقٌ آخرون، لكن قبل ذلك لا يعلمه: لا الملك، ولا غيره.

س: تسمية الإنسان بالحيوان؟

ج: هو حيوان، لكنَّه حيوان ناطق.

وقال ابنُ أبي حاتم: حدثنا أبي: حدثنا الحسن بن الربيع: حدثنا أبو الأحوص، عن سعيد بن مسروق: حدثنا حسان النّمري، عن ابن عباسٍ في قوله: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا قال: ما من شجرةٍ في برٍّ ولا بحرٍ إلا وملكٌ مُوكل بها، يكتب ما يسقط منها.

وقوله: وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ قال محمد بن إسحاق: عن يحيى بن النضر، عن أبيه: سمعت عبدالله بن عمرو بن العاص يقول: إنَّ تحت الأرض الثالثة وفوق الرابعة من الجنِّ ما لو أنهم ظهروا –يعني: لكم- لم تروا معهم نورًا، على كل زاويةٍ من زوايا الأرض خاتم من خواتيم الله ، على كل خاتم ملكٌ من الملائكة، يبعث الله إليه في كل يومٍ ملكًا من عنده: أن احتفظ بما عندك.

الشيخ: هذه من أخبار بني إسرائيل، فعبدالله بن عمرو يروي عن بني إسرائيل العجائب والخرافات.

قال ابنُ أبي حاتم: حدثنا عبدالله بن محمد بن عبدالرحمن بن المسور الزهري: حدثنا مالك بن سعير: حدثنا الأعمش، عن يزيد ابن أبي زياد، عن عبدالله بن الحارث قال: ما في الأرض من شجرةٍ ولا مغرز إبرةٍ إلا وعليها ملك مُوكل يأتي الله بعلمها: رطوبتها إذا رطبت، ويبوستها إذا يبست.

وكذا رواه ابنُ جرير، عن أبي الخطاب زياد بن عبدالله الحساني، عن مالك بن سعير، به.

مُداخلة: زياد بن يحيى الحساني.

قارئ المتن: ذكر في الحاشية أحسن الله إليك قال: في "تفسير الطبري" الأثر: زياد بن يحيى الحساني، ويقول المحقق: جاء في المخطوطة وتفسير ابن كثير: زياد بن عبدالله الحساني، أو .....، وهو خطأ لا شكّ فيه، فإنَّ الذي يروي عن مالك بن سعير هو زياد بن يحيى الحساني، أبو الخطاب، فضلًا عن أنَّه ليس في الرواة مَن يُسمّى: زياد بن عبدالله الحساني.

الشيخ: ماشٍ، نعم.

ثم قال ابنُ أبي حاتم: ذكر عن أبي حُذيفة: حدثنا سفيان، عن عمرو بن قيس، عن رجلٍ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباسٍ قال: خلق اللهُ النونَ، وهي الدّواة، وخلق الألواح، فكتب فيها أمر الدنيا حتى ينقضي: ما كان من خلقٍ مخلوقٍ، أو رزقٍ حلالٍ أو حرامٍ، أو عمل برّ أو فجور. وقرأ هذه الآية: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا إلى آخر الآية.

س: ابن عباس يتلقى عن بني إسرائيل؟

ج: نعم، عبدالله بن عمرو وابن عباسٍ وجماعة، نعم.

س: أحسن الله إليك، سائل يقول: هل ورد في فضل سورة الملك وقراءتها في كل ليلةٍ حديثٌ صحيحٌ؟

ج: ما أعلم شيئًا.

س: هذا تاجرٌ عنده بضاعة، ويُعطيها بعض أصدقائه ويقول: بيعوها بالسعر الفلاني، وإن أخذتم مكسبًا فهو لكم، أما أهم شيءٍ فهو أن تُعطوني المكسب الفلاني؟

ج: ما في بأس، إذا سمح لهم ما في بأس، يقول: تبيعونها بمئة ريال، وإن زاد شيء فهو لكم.

س: ما صحّة دعاء: "اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقِلّة حيلتي، وهواني على الناس ....." إلى آخر الحديث؟

ج: ما أدري عن صحّته، لكن معناه لا بأس به، أنا ما أعرف حال سنده، هذا يُروى أنَّه قاله لما انصرف من الطائف، والمعروف أنَّ سنده ضعيفٌ، ولكن معناه صحيح.