تفسير قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا..}

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ۝ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [الأنعام:31-32].

يقول تعالى مُخبرًا عن خسارة مَن كذَّب بلقائه، وعن خيبته إذا جاءته الساعةُ بغتةً، وعن ندامته على ما فرط من العمل، وما أسلف من قبيح الفعل؛ ولهذا قال: حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا، وهذا الضَّمير يحتمل عوده على الحياة، وعلى الأعمال، وعلى الدار الآخرة، أي: في أمرها.

وقوله: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ أي: يحملون. وقال قتادة: يعملون.

الشيخ: وهذا فيه التَّحذير من التَّساهل في هذه الدار والغفلة وعدم العناية بإعداد الأعمال الصَّالحات، فإنَّ أولئك المكذبين الضَّالين حين يلقون الله جلَّ وعلا يتمنون الرَّجعة، ويقولون: يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا.

فالواجب على المؤمن أن يحذر اليوم قبل أن يأتي ذلك اليوم، فالواجب أن يحذر اليوم ويعدّ العدّة قبل أن يقول: يا ليتني، أو قبل أن يقول: يا حسرتاه على ما فرّطت في جنب الله. هذا يوم العمل، هذا يوم الإعداد، هذه الدار هي دار الإعداد، دار العمل، والآخرة دار الجزاء، فأنت الآن في دار العمل، مثّل نفسك كأنَّك قمتَ من قبرك وقد فرّطت وتقول: يا حسرتنا! اعمل اليوم قبل أن تقول ذلك يوم القيامة: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر:56].

فاليوم يوم العمل، يوم الإعداد، فالعاقل يعدّ العدّة، ويُحاسب نفسه ويُجاهدها لله حتى يُؤدِّي ما أوجب الله، وحتى ينتهي عمَّا حرَّم الله، وحتى يقف عند حدود الله، وحتى يبذل وسعه في مُعاونة إخوانه على الخير، وتوصيتهم في الخير: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2]، وَالْعَصْرِ ۝ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ۝ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر]، هذا يوم التَّواصي، أنت في دار التواصي ودار العمل، وغدًا دار الجزاء والحساب، فلك فيما ذكر الله عن المفرطين عِظة، نعم.

وقال ابنُ أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج: حدثنا أبو خالد الأحمر، عن عمرو بن قيس، عن أبي مرزوقٍ قال: يستقبل الكافر أو الفاجر عند خروجه من قبره كأقبح صورةٍ رأيتها، وأنتنه ريحًا، فيقول: مَن أنت؟ فيقول: أوما تعرفني؟ فيقول: لا والله، إلا أنَّ الله قبَّح وجهك، وأنتن ريحك. فيقول: أنا عملك الخبيث، هكذا كنت في الدنيا خبيث العمل مُنتنه، فطالما ركبتني في الدنيا، هلمّ أركبك. فهو قوله: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ الآية.

س: ما صحّة السند هذا؟

ج: لا بأس به، لكنه من كلام أبي مرزوق، وقد يكون تلقّاه من بعض بني إسرائيل، نعم.

وبكل حالٍ، العاقبة وخيمة، والقرآن كافٍ، القرآن فيه الكفاية: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ، نسأل الله العافية.

وقال أسباط: عن السدي أنَّه قال: ليس من رجلٍ ظالم يدخل قبره إلا جاءه رجلٌ قبيح الوجه، أسود اللون، مُنتن الريح، وعليه ثياب دنسة، حتى يدخل معه قبره، فإذا رآه قال: ما أقبح وجهك! قال: كذلك كان عملك قبيحًا. قال: ما أنتن ريحك! قال: كذلك كان عملك منتنًا. قال: ما أدنس ثيابك! قال: فيقول: إنَّ عملك كان دنسًا. قال له: مَن أنت؟ قال: عملك. قال: فيكون معه في قبره، فإذا بُعث يوم القيامة قال له: إني كنت أحملك في الدنيا باللذات والشَّهوات، وأنت اليوم تحملني. قال: فيركب على ظهره، فيسوقه حتى يُدخله النار، فذلك قوله: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ.

الشيخ: هذا كالذي قبله موقوف على السدي، لكن ظاهر الآيات أنهم يحملون أوزارهم، يعني: يتحمّلون آثامهم يوم القيامة، يحملون أوزارهم حتى يُجازوا عليها يوم القيامة، معناه: أنهم يذهبون بها ويُقابلون بها ربهم، ويستحقون بها جزاءه، كما يحمل المؤمنُ حسناته، هم يحملون أوزارهم، يعني: يلقون الله بأوزارهم، كما يلقى المؤمنُ ربَّه بأعماله الصَّالحة، نسأل الله العافية.

وقوله: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ أي: إنما غالبها كذلك، وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ.

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ۝ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ۝ وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ۝ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [الأنعام:33-36].

يقول تعالى مُسليًا لنبيه ﷺ في تكذيب قومه له ومُخالفتهم إياه: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ أي: قد أحطنا علمًا بتكذيبهم لك، وحزنك وتأسفك عليهم، كقوله: فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر:8]، كما قال تعالى في الآية الأخرى: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء:3]، فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف:6].

وقوله: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أي: لا يتَّهمونك بالكذب في نفس الأمر، وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُون أي: ولكنَّهم يُعاندون الحقَّ، ويدفعونه بصدورهم.

الشيخ: والمعنى: أنهم يعلمون صدقه، الكفَّار يعلمون أنَّه صادق، وهو الصَّادق الأمين، ولكنَّها المكابرة والجهل والتَّكذيب، وإلا فهم يعلمون صدقه: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ، بل يعرفون صدقه وأمانته، ولكنَّهم بسبب عنادهم وجهلهم وحسدهم وبغيهم وتقليدهم الأعمى يجحدون، نسأل الله العافية.

كما قال سفيان الثوري: عن أبي إسحاق، عن ناجية بن كعب، عن عليٍّ قال: قال أبو جهل للنبي ﷺ: إنا لا نُكذّبك، ولكن نُكذّب بما جئتَ به. فأنزل الله: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ.

ورواه الحاكم من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، ثم قال: صحيحٌ على شرط الشيخين ولم يُخرجاه.

وقال ابنُ أبي حاتم: حدثنا محمد بن الوزير الواسطي بمكّة: حدثنا بشر بن المبشر الواسطي، عن سلام بن مسكين، عن أبي يزيد المدني: أنَّ النبي ﷺ لقي أبا جهل فصافحه، فقال له رجلٌ: ألا أراك تُصافح هذا الصَّابئ؟! فقال: والله إني لأعلم أنَّه لنبيّ، ولكن متى كنا لبني عبد مناف تبعًا؟ وتلا أبو يزيد: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ.

وقال أبو صالح وقتادة: يعلمون أنَّك رسول الله ويجحدون.

وذكر محمد بن إسحاق، عن الزهري في قصّة أبي جهل حين جاء يستمع قراءة النبي ﷺ من الليل هو وأبو سفيان صخر بن حرب والأخنس بن شريق، ولا يشعر أحدٌ منهم بالآخر، فاستمعوها إلى الصَّباح، فلمَّا هجم الصبحُ تفرَّقوا، فجمعتهم الطريق، فقال كلٌّ منهم للآخر: ما جاء بك؟ فذكر له ما جاء به، ثم تعاهدوا أن لا يعودوا؛ لما يخافون من علم شباب قريشٍ بهم؛ لئلا يفتتنوا بمجيئهم، فلمَّا كانت الليلة الثانية جاء كلٌّ منهم، ظنًّا أنَّ صاحبيه لا يجيئان؛ لما سبق من العهود، فلمَّا أصبحوا جمعتهم الطريق، فتلاوموا، ثم تعاهدوا أن لا يعودوا، فلمَّا كانت الليلة الثالثة جاءوا أيضًا، فلمَّا أصبحوا تعاهدوا أن لا يعودوا لمثلها، ثم تفرَّقوا، فلمَّا أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان ابن حرب في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمدٍ. قال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعتُ أشياء أعرفها، وأعرف ما يُراد بها، وسمعتُ أشياء ما عرفت معناها، ولا ما يُراد بها. قال الأخنس: وأنا والذي حلفتَ به. ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه بيته، فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعتَ من محمدٍ؟ قال: ماذا سمعتُ؟ قال: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشَّرف: أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبيٌّ يأتيه الوحي من السَّماء، فمتى نُدرك هذه؟ والله لا نُؤمن به أبدًا، ولا نُصدّقه. قال: فقام عنه الأخنسُ وتركه.

الشيخ: نسأل الله العافية.

س: أبو يزيد هذا الذي يروي عن النبي ﷺ أليس تابعيًّا؟

ج: لا، ليس هو يروي عن النبي ﷺ، يحكي قصةً وقعت.

س: هل يُعتبر هذا مرسلًا؟

ج: الظاهر أنَّه .....، قد يكون تابعيًّا، فهو يحكي واقعًا عمَّا جرى من أبي جهل وأبي سفيان، انظر: "التقريب" أبو يزيد المدني.

الطالب: أبو يزيد المدني، ثم .....، عن أبي هريرة وأسماء بنت عميس، وعنه أيوب وجرير بن حازم، وثَّقه ابنُ معين. (البخاري، والنسائي).

الشيخ: تابعي، نعم.

س: .............؟

ج: في حكم المرسل، لكن ما رواه عن النبي ﷺ، لكن فيما ينقل عن أهل مكّة وأحوال قريش، نعم.

وروى ابنُ جرير من طريق أسباط، عن السدي في قوله: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ.

الشيخ: وهذا هو المعلوم، كانوا يُسمّونه: الأمين، وإنما حملهم البغي والحسد وتقليد الآباء والأشرار، وإلا فهم يعلمون صدقه وأمانته عليه الصلاة والسلام. نعم.

وروى ابنُ جرير من طريق أسباط، عن السدي في قوله: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ.

الشيخ: بركة، سم.