تفسير قوله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}

وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:106].

قال ابنُ عباسٍ ومجاهد وعكرمة والضَّحاك وغير واحدٍ: هم الثلاثة الذين خلّفوا، أي: عن التوبة، وهم: مرارة بن الربيع، وكعب بن مالك، وهلال بن أمية، قعدوا عن غزوة تبوك في جملة مَن قعد كسلًا وميلًا إلى الدّعة والحفظ وطيب الثِّمار والظِّلال، لا شكًّا ونفاقًا، فكانت منهم طائفة ربطوا أنفسَهم بالسواري كما فعل أبو لبابة وأصحابه، وطائفة لم يفعلوا ذلك، وهم هؤلاء الثلاثة المذكورون، فنزلت توبةُ أولئك قبل هؤلاء، وأُرجى هؤلاء عن التوبة، حتى نزلت الآيةُ الآتية، وهي قوله: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الآية [التوبة:117]، وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ الآية [التوبة:118]، كما سيأتي بيانه في حديث كعب بن مالك.

وقوله: إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ أي: هم تحت عفو الله: إن شاء فعل بهم هذا، وإن شاء فعل بهم ذاك، ولكن رحمته تغلب غضبَه.

وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي: عليمٌ بمَن يستحقّ العقوبة ممن يستحقّ العفو، حكيمٌ في أفعاله وأقواله، لا إله إلا هو، ولا ربَّ سواه.

 

وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ۝ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:107-108].

سبب نزول هذه الآيات الكريمات: أنَّه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله ﷺ إليها رجلٌ من الخزرج يُقال له: أبو عامر الراهب، وكان قد تنصّر في الجاهلية وقرأ علم أهل الكتاب، وكان فيه عبادة في الجاهلية، وله شرفٌ في الخزرج كبير، فلمَّا قدم رسولُ الله ﷺ مُهاجرًا إلى المدينة، واجتمع المسلمون عليه، وصارت للإسلام كلمة عالية، وأظهرهم الله يوم بدر؛ شرق اللَّعينُ أبو عامر بريقه، وبارز بالعداوة، وظاهر بها، وخرج فارًّا إلى كفَّار مكة من مشركي قريش يُمالئهم على حرب رسول الله ﷺ، فاجتمعوا بمَن وافقهم من أحياء العرب، وقدموا عام أحد، فكان من أمر المسلمين ما كان، وامتحنهم الله ، وكانت العاقبةُ للمُتقين.

وكان هذا الفاسقُ قد حفر حفائر فيما بين الصَّفين، فوقع في إحداهنَّ رسولُ الله ﷺ، وأُصيب ذلك اليوم، فجُرح وجهه، وكُسرت رباعيته اليمنى السُّفلى، وشُجَّ رأسه صلوات الله وسلامه عليه.

وتقدّم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار، فخاطبهم واستمالهم إلى نصره ومُوافقته، فلمَّا عرفوا كلامَه قالوا: لا أنعم الله بك عينًا يا فاسق، يا عدو الله. ونالوا منه وسبُّوه، فرجع وهو يقول: والله لقد أصاب قومي بعدي شرٌّ.

وكان رسولُ الله ﷺ قد دعاه إلى الله قبل فراره، وقرأ عليه من القرآن، فأبى أن يُسلم وتمرد، فدعا عليه رسولُ الله ﷺ أن يموت بعيدًا طريدًا، فنالته هذه الدَّعوة، وذلك أنَّه لما فرغ الناسُ من أحدٍ، ورأى أمر الرسول ﷺ في ارتفاعٍ وظهورٍ، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي ﷺ، فوعده ومنَّاه، وأقام عنده، وكتب إلى جماعةٍ من قومه من الأنصار من أهل النِّفاق والرَّيب يعدهم ويُمنّيهم أنَّه سيقدم بجيشٍ يُقاتل به رسول الله ﷺ ويغلبه ويردّه عمَّا هو فيه، وأمرهم أن يتَّخذوا له معقلًا يقدم عليهم فيه مَن يقدم من عنده؛ لأداء كتبه، ويكون مرصدًا له إذا قدم عليهم بعد ذلك.

فشرعوا في بناء مسجدٍ مُجاورٍ لمسجد قباء، فبنوه، وأحكموه، وفرغوا منه قبل خروج رسول الله ﷺ إلى تبوك، وجاءوا فسألوا رسولَ الله ﷺ أن يأتي إليهم فيُصلي في مسجدهم؛ ليحتجّوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته، وذكروا أنَّهم إنما بنوه للضُّعفاء منهم وأهل العِلّة في الليلة الشَّاتية، فعصمه الله من الصلاة فيه، فقال: إنا على سفرٍ، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله، فلمَّا قفل عليه السلام راجعًا إلى المدينة من تبوك، ولم يبقَ بينه وبينها إلا يوم، أو بعض يوم، نزل عليه جبريلُ بخبر مسجد الضِّرار، وما اعتمده بانوه من الكفر والتَّفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم مسجد قباء الذي أُسس من أول يومٍ على التقوى، فبعث رسولُ الله ﷺ إلى ذلك المسجد مَن هدمه قبل مقدمه المدينة.

كما قال علي ابن أبي طلحة: عن ابن عباسٍ في الآية: هم أناسٌ من الأنصار بنوا مسجدًا، فقال لهم أبو عامر: ابنوا مسجدًا، واستعدّوا بما استطعتم من قوةٍ ومن سلاحٍ، فإني ذاهبٌ إلى قيصر ملك الروم، فآتي بجنودٍ من الروم، وأُخرج محمدًا وأصحابه.

فلمَّا فرغوا من مسجدهم أتوا النبيَّ ﷺ فقالوا له: قد فرغنا من بناء مسجدنا، فنُحبّ أن تُصلي فيه وتدعو لنا بالبركة. فأنزل الله : لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا إلى قوله: الظَّالِمِينَ [التوبة:108-109].

وكذا رُوي عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وعروة بن الزبير، وقتادة، وغير واحدٍ من العلماء.

وقال محمد بن إسحاق بن يسار: عن الزهري ويزيد بن رومان وعبدالله ابن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم، قالوا: أقبل رسولُ الله ﷺ –يعني: من تبوك- حتى نزل بذي أوان -بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهارٍ-، وكان أصحابُ مسجد الضِّرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله، إنا قد بنينا مسجدًا لذي العِلّة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشَّاتية، وإنا نُحبّ أن تأتينا فتُصلي لنا فيه. فقال: إني على جناح سفرٍ وحال شغلٍ، أو كما قال رسولُ الله ﷺ: ولو قد قدمنا إن شاء الله تعالى أتيناكم فصلينا لكم فيه.

فلمَّا نزل بذي أوان أتاه خبرُ المسجد، فدعا رسولُ الله ﷺ مالك بن الدّخشم -أخا بني سالم بن عوف-، ومعن بن عدي، أو أخاه عامر بن عدي -أخا بلعجلان- فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرّقاه، فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف -وهم رهط مالك بن الدّخشم-، فقال مالك لمعن: أنظرني حتى أخرج إليك بنارٍ من أهلي. فدخل أهله، فأخذ سعفًا من النَّخل، فأشعل فيه نارًا، ثم خرجا يشتدان حتى دخلا المسجد وفيه أهله، فحرّقاه، وهدماه، وتفرَّقوا عنه، ونزل فيهم من القرآن ما نزل: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا إلى آخر القصّة.

وكان الذين بنوه اثني عشر رجلًا: خذام بن خالد من بني عبيد بن زيد، أحد بني عمرو بن عوف، ومن داره أخرج مسجد الشِّقاق، وثعلبة بن حاطب من بني عبيد وموالي بني أمية بن زيد، ومعتب بن قشير من بني ضبيعة بن زيد، وأبو حبيبة ابن الأزعر من بني ضبيعة بن زيد، وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف، من بني عمرو بن عوف، وحارثة بن عامر وابناه: مجمع بن حارثة، وزيد بن حارثة، ونبتل الحارث، وهم من بني ضبيعة، ومخرج وهم من بني ضبيعة، وبجاد بن عثمان، وهو من بني ضبيعة، ووديعة بن ثابت، وموالي بني أمية رهط أبي لبابة ابن عبد المنذر.

وقوله: وَلَيَحْلِفُنَّ أي: الذين بنوه إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى أي: ما أردنا ببنيانه إلا خيرًا ورفقًا بالناس، قال الله تعالى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أي: فيما قصدوا، وفيما نووا، وإنما بنوه ضرارًا لمسجد قباء، وكفرًا بالله، وتفريقًا بين المؤمنين، وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل، وهو أبو عامر الفاسق الذي يُقال له: الراهب -لعنه الله.

الشيخ: وهذا الواقع فضيحة عظيمة لمن فعل، ونذارة لغيرهم ممن فضحهم الله في هذا، موعظة لغيرهم حتى لا يفعلوا فعلهم، لما فضح الله أمرهم، وبيّن قصدهم الخبيث، صار في ذلك عِظة لغيرهم حتى لا يفعلوا مثل هذا، وأنَّ الله جلَّ وعلا لهم بالمرصاد، وأنَّ مَن فعل المحاداة لله ولرسوله فالله جلَّ وعلا يفضحه ويُسلّط عليه، فيكون ذلك موعظةً للآخرة ونذارةً ودليلًا على صدقه، وأنَّه رسول الله حقًّا عليه الصلاة والسلام، حيث أنزل الله بيان قصدهم الخبيث، نعم.

س: ..............؟

ج: لا، المساجد التي أُسست على البدع وعلى مضارة المساجد الأخرى تُهدم.

س: أحسن الله إليك، والتي بُنيت على ربا، وعلى أغانٍ، وعلى مُحرّمات تُهدم؟

ج: المسجد الذي بُني للمضارة لغيره، أما كون المال من كسبٍ ما هو بطيبٍ لا، ما يُهدم .....، لكن الأولى والذي ينبغي ..... من كسبٍ طيبٍ.

وقوله: لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا نهيٌ له ﷺ -والأمّة تبعٌ له في ذلك- عن أن يقوم فيه، أي: يُصلي فيه أبدًا.

ثم حثَّه على الصلاة بمسجد قباء الذي أُسس من أول يوم بنيانه على التقوى، وهي طاعة الله، وطاعة رسوله، وجمعًا لكلمة المؤمنين، ومعقلًا وموئلًا للإسلام وأهله؛ ولهذا قال تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ، والسياق إنما هو في معرض مسجد قباء؛ ولهذا جاء في الحديث الصَّحيح: أنَّ رسول الله ﷺ قال: صلاةٌ في مسجد قباء كعمرةٍ.

وفي الصحيح: أنَّ رسول الله ﷺ كان يزور مسجد قباء راكبًا وماشيًا.

وفي الحديث: أنَّ رسول الله ﷺ لما بناه وأسَّسه أول قدومه ونزوله على بني عمرو بن عوف كان جبريلُ هو الذي عيّن له جهة القبلة، فالله أعلم.

س: إذا علم أنَّ المسجد الفلاني قد بُني من ربا، فهل الأولى الصلاة في غيره؟

ج: لا حرج إن شاء الله، نعم.

........ كعمرةٍ، يقول ﷺ: مَن تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلَّى فيه كان كعمرةٍ.

س: ............؟

ج: متى تيسر، كان النبي ﷺ يزوره كل أسبوعٍ.