تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ..}

وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ۝ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ۝ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:116-118].

هذا أيضًا مما يُخاطب اللهُ به عبدَه ورسولَه عيسى ابن مريم عليه السلام قائلًا له يوم القيامة بحضرة مَن اتّخذه وأمّه إلهين من دون الله: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وهذا تهديدٌ للنَّصارى وتوبيخٌ وتقريعٌ على رؤوس الأشهاد. هكذا قاله قتادة وغيره، واستدلّ قتادةُ على ذلك بقوله تعالى: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة:119].

وقال السدي: هذا الخطاب والجواب في الدنيا.

وقال ابنُ جرير: وكان ذلك حين رفعه إلى سماء الدنيا.

واحتج ابنُ جرير على ذلك بمعنيين:

أحدهما: أنَّ الكلام بلفظ المضي.

والثاني: قوله: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ.

وهذان الدَّليلان فيهما نظر؛ لأنَّ كثيرًا من أمور يوم القيامة ذكر بلفظ المضي؛ ليدل على الوقوع والثبوت.

ومعنى قوله: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ الآية، التَّبري منهم، وردّ المشيئة فيهم إلى الله، وتعليق ذلك على الشَّرط لا يقتضي وقوعه، كما في نظائر ذلك من الآيات، والذي قاله قتادة وغيره هو الأظهر -والله أعلم-: أنَّ ذلك كائنٌ يوم القيامة؛ ليدل على تهديد النَّصارى وتقريعهم وتوبيخهم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة.

وقد رُوي بذلك حديثٌ مرفوعٌ، رواه الحافظ ابنُ عساكر في ترجمة أبي عبدالله مولى عمر بن عبدالعزيز، وكان ثقةً، قال: سمعتُ أبا بردة يُحدِّث عمر بن عبدالعزيز، عن أبيه أبي موسى الأشعري قال: قال رسولُ الله ﷺ: إذا كان يوم القيامة دُعي بالأنبياء وأممهم، ثم يُدعى بعيسى، فيذكره الله نعمته عليه، فيقرّ بها، فيقول: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ الآية [المائدة:110]، ثم يقول: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فيُنكر أن يكون قال ذلك، فيُؤتى بالنَّصارى فيُسألون، فيقولون: نعم، هو أمرنا بذلك. قال: فيطول شعر عيسى ، فيأخذ كل ملكٍ من الملائكة بشعرةٍ من شعر رأسه وجسده، فيُجاثيهم بين يدي الله مقدار ألف عام حتى تُرفع عليهم الحجّة، ويُرفع لهم الصَّليب، وينطلق بهم إلى النار. وهذا حديثٌ غريبٌ عزيزٌ.

وقوله: سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ هذا توفيقٌ للتَّأدب في الجواب الكامل، كما قال ابنُ أبي حاتم: حدثنا أبي: حدثنا ابنُ أبي عمر: حدثنا سفيان، عن عمرو، عن طاوس، عن أبي هريرة قال: يلقى عيسى حُجَّته، ولقاه الله تعالى في قوله: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ. قال أبو هريرة: عن النبي ﷺ: فلقَّاه الله.

الشيخ: لعلها: فلقَّنه الله.

قارئ المتن: ذكر حاشيةً، يقول: ألقاه الشَّيء، ألقاه إليه، والمعنى: أنَّ الله تعالى .....

الشيخ: الله أعلم، نعم.

س: الحديث الذي ذكره ابنُ عساكر؟

ج: الله أعلم، ابن عساكر مُتأخّر، يروي ما هبَّ ودبَّ، نعم.

س: والصواب يا شيخ أنَّه في يوم القيامة؟

ج: الله أعلم.

سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إلى آخر الآية.

وقد رواه الثوري، عن معمر، عن ابن طاوس، عن طاوس بنحوه.

وقوله: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ أي: إن كان صدر مني هذا فقد علمتَه يا ربّ، فإنَّه لا يخفى عليك شيء، فما قلتُه، ولا أردتُه في نفسي، ولا أضمرته؛ ولهذا قال: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ۝ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ بإبلاغه أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ أي: ما دعوتهم إلا إلى الذي أرسلتني به، وأمرتني بإبلاغه: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ أي: هذا هو الذي قلتُ لهم.

وقوله: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ أي: كنت أشهد على أعمالهم حين كنتُ بين أظهرهم: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.

قال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة قال: انطلقتُ أنا وسفيان الثوري إلى المغيرة بن النعمان، فأملى على سفيان وأنا معه، فلمَّا قام انتسخت من سفيان، فحدثنا قال: سمعتُ سعيد بن جبير يُحدِّث عن ابن عباسٍ قال: قام فينا رسولُ الله ﷺ بموعظةٍ، فقال: يا أيها الناس، إنَّكم محشورون إلى الله حُفاةً، عُراةً، غُرْلًا: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ [الأنبياء:104]، وإنَّ أول الخلائق يُكسى يوم القيامة إبراهيم، ألا وإنَّه يُجاء برجالٍ من أمّتي فيُؤخذ بهم ذات الشِّمال، فأقول: أصحابي، فيُقال: إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبدُ الصَّالح: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ۝ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، فيُقال: إنَّ هؤلاء لم يزالوا مُرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم.

ورواه البخاري عند هذه الآية عن أبي الوليد، عن شعبة. وعن محمد بن كثير، عن سفيان الثوري، كلاهما عن المغيرة بن النعمان، به.

وقوله: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هذا الكلام يتضمن ردّ المشيئة إلى الله ، فإنَّه الفعَّال لما يشاء، الذي لا يُسأل عمَّا يفعل، وهم يُسألون، ويتضمن التَّبري من النَّصارى الذين كذبوا على الله وعلى رسوله، وجعلوا لله ندًّا وصاحبةً وولدًا، تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا.

وهذه الآية لها شأنٌ عظيمٌ، ونبأٌ عجيبٌ، وقد ورد في الحديث: أنَّ النبي ﷺ قام بها ليلةً حتى الصباح يُرددها.

قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن فضيل: حدثني فليت العامري، عن جسرة العامرية، عن أبي ذرٍّ قال: صلَّى النبي ﷺ ذات ليلةٍ، فقرأ بآيةٍ حتى أصبح، يركع بها ويسجد: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، فلمَّا أصبح قلت: يا رسول الله، ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت، تركع بها، وتسجد بها؟! قال: إني سألتُ ربي الشَّفاعة لأمّتي فأعطانيها، وهي نائلةٌ -إن شاء الله- لمن لا يُشرك بالله شيئًا.

طريقٌ أخرى، وسياقٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى: حدثنا قدامة بن عبدالله: حدثتني جسرة بنت دجاجة: أنها انطلقت مُعتمرةً، فانتهت إلى الرّبذة، فسمعت أبا ذرّ يقول: قام رسولُ الله ﷺ ليلةً من الليالي في صلاة العشاء، فصلَّى بالقوم، ثم تخلَّف أصحابٌ له يُصلون، فلمَّا رأى قيامَهم وتخلّفهم انصرف إلى رحله، فلمَّا رأى القوم قد أخلوا المكان رجع إلى مكانه يُصلي، فجئتُ فقمتُ خلفه، فأومأ إليَّ بيمينه، فقمتُ عن يمينه، ثم جاء ابنُ مسعودٍ فقام خلفي وخلفه، فأومأ إليه بشماله فقام عن شماله، فقمنا ثلاثتنا، يُصلي كل واحدٍ منا بنفسه، ونتلو من القرآن ما شاء الله أن نتلو، وقام بآيةٍ من القرآن يُرددها حتى صلَّى الغداة، فلمَّا أصبحنا أومأت إلى عبدالله بن مسعود: أن سله ما أراد إلى ما صنع البارحة؟ فقال ابنُ مسعودٍ بيده: لا أسأله عن شيءٍ حتى يحدث إليَّ. فقلت: بأبي وأمي، قمتَ بآيةٍ من القرآن، ومعك القرآن؟! لو فعل هذا بعضنا لوجدنا عليه. قال: دعوتُ لأمّتي، قلت: فماذا أجبت؟ أو ماذا ردّ عليك؟ قال: أجبت بالذي لو اطلع عليه كثيرٌ منهم طلعةً تركوا الصلاة، قلت: أفلا أُبشّر الناس؟ قال: بلى، فانطلقتُ معنقًا قريبًا من قذفةٍ بحجرٍ، فقال عمر: يا رسول الله، إنَّك إن تبعث إلى الناس بهذا نكلوا عن العبادات. فناداه أن ارجع، فرجع، وتلك الآية: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.

الشيخ: انظر: "التقريب"، انظر: جسرة بنت دجاجة، وفليت العامري.

الطالب: جسرة الكوفية، عن عليٍّ وأبي ذر، وعنها أفلت بن خليفة ومحدوج الذّهلي، وثَّقها العجلي. (أبو داود، والنسائي، وابن ماجه).

الشيخ: وعندك في "التقريب" انظر: فليت، انظر: "التقريب".

الطالب: جسرة بنت دجاجة، العامرية، الكوفية، مقبولة، من الثالثة، ويُقال: إنَّ لها إدراكًا. (د، س، ق).

الشيخ: انظر: قدامة بن عبدالله، فليت بن عامر.

الطالب: أفلت -بفاء ساكنة ومُثناة بعد اللام- بن خليفة، ويُقال: فليت العامري، أو الذّهلي، أو الهذلي، أبو حسان، الكوفي، عن جسرة بنت دجاجة ودهيمة، وعنه الثوري وعبدالواحد بن زياد، قال الدارقطني: صالح. (أبو داود، والنسائي).

الشيخ: وقُدامة بن عبدالله، انظر: قدامة بن عبدالله.

الطالب: قدامة بن عبدالله بن عبدة، البكري، أبو روح، الكوفي، قيل: هو فليت العامري. مقبول، من السادسة. (س، ق).

الشيخ: انظر: فليت، أو أفلت -بالهمزة.

الطالب: قدامة بن عبدالله بن عبدة، البكري، العامري، أبو روح، الكوفي، عن جسرة بنت دجاجة، وعنه الثوري وابن المبارك، وثَّقه ابنُ حبان. (س، ق).

س: دَجاجة، أو دِجاجة -بكسر الدال؟

ج: دَجاجة، الدَّجاجة المعروفة.

س: قصة أبي ذرّ ..... الحديث صحيح؟

ج: فيها نظر؛ لأنَّ دجاجة وأفلت فيهما نظر.

الطالب: أفلت -بفاء ومثناة- بن خليفة، العامري، ويُقال: الذهلي، ويُقال: الهذلي، أبو حسان، الكوفي، ويُقال له: فليت، وقيل: اسمه قدامة بن عبيدالله، صدوق، من الخامسة. (د، س).

الشيخ: نعم.

مداخلة: .........

الشيخ: نعم، الحديث فيه نكارة، وفيه غرابة، نعم، فقدامة وفليت وجسرة ما يُعتمد على هذه الرِّواية من جهتهم، والمتن كذلك فيه غرابة، نعم.

س: يقول: أجبت بالذي لو اطّلع عليه كثيرٌ منهم طلعةً تركوا الصَّلاة؟

ج: هذا من الغرابة، نعم، فربنا جلَّ وعلا بيده كل شيءٍ، يغفر لمن شاء، ويُعذّب مَن يشاء على ما تقتضي حكمته .

وقال ابنُ أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبدالأعلى: حدثنا ابنُ وهب: أخبرني عمرو بن الحارث: أنَّ بكر بن سوادة حدَّثه، عن عبدالرحمن بن جبير، عن عبدالله بن عمرو بن العاص: أنَّ النبي ﷺ تلا قول عيسى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، فرفع يديه، فقال: اللهم أمّتي وبكى، فقال الله: يا جبريل، اذهب إلى محمدٍ -وربّك أعلم- فاسأله: ما يُبكيه؟ فأتاه جبريلُ فسأله، فأخبره رسولُ الله ﷺ بما قال، وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل، اذهب إلى محمدٍ فقل: إنا سنُرضيك في أمّتك ولا نسوؤك.

الشيخ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5] سبحانه وتعالى سوف يُعطيه ويُرضيه عليه الصلاة والسَّلام.

س: أليس هذا الإسنادُ أفضل مما قبله، عفا الله عنك؟

ج: نص الآية كافٍ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى.

وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين قال: حدثنا ابنُ لهيعة: حدثنا ابنُ هبيرة: أنَّه سمع أبا تميم الجيشاني يقول: حدَّثني سعيد بن المسيب: سمعتُ حُذيفة بن اليمان يقول: غاب عنا رسولُ الله ﷺ يومًا فلم يخرج، حتى ظننا أن لن يخرج، فلمَّا خرج سجد سجدةً ظننا أنَّ نفسه قد قُبضت فيها، فلمَّا رفع رأسه قال: إنَّ ربي استشارني في أمّتي: ماذا أفعل بهم؟ فقلت: ما شئتَ أي ربّ، هم خلقك وعبادك، فاستشارني الثانية فقلتُ له كذلك، فقال لي: لا أُخزيك في أمّتك يا محمد، وبشّرني أنَّ أول مَن يدخل الجنةَ من أمّتي معي سبعون ألفًا، مع كل ألفٍ سبعون ألفًا ليس عليهم حسابٌ، ثم أرسل إليَّ فقال: ادعُ تُجب، وسَلْ تُعْطَ. فقلتُ لرسوله: أومُعطي ربي سؤلي؟ فقال: ما أرسلني إليك إلا ليُعطيك. ولقد أعطاني ربي ولا فخر، وغفر لي ما تقدّم من ذنبي وما تأخّر، وأنا أمشي حيًّا صحيحًا، وأعطاني أن لا تجوع أمّتي ولا تُغلب، وأعطاني الكوثر، وهو نهرٌ في الجنة يسيل في حوضي، وأعطاني العزّ والنَّصر والرُّعب يسعى بين يدي أمّتي شهرًا، وأعطاني أني أول الأنبياء يدخل الجنة، وطيّب لي ولأمّتي الغنيمة، وأحلّ لنا كثيرًا مما شدد على مَن قبلنا، ولم يجعل علينا في الدِّين من حرجٍ.

الشيخ: جملة من المتن لها شواهد، والحديث ضعيفٌ من طريق ابن لهيعة، نعم، ويكفي قوله جلَّ وعلا: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى، يُرضيك في أمّتك بما بيّن في كتابه: مَن مات على التوحيد دخل الجنة، ومَن مات على المعاصي فهو تحت المشيئة.

قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ۝ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة:119-120].

يقول تعالى مُجيبًا لعبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه السلام فيما أنهاه إليه من التَّبري من النَّصارى الملحدين الكاذبين على الله وعلى رسوله، ومن ردّ المشيئة فيهم إلى ربِّه ، فعند ذلك يقول تعالى: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ.

قال الضَّحاك: عن ابن عباسٍ: يقول: يوم ينفع الموحدين توحيدهم.

لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا أي: ماكثين فيها، لا يحولون، ولا يزولون.

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ كما قال تعالى: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة:72]، وسيأتي ما يتعلّق بتلك الآية من الحديث.

الشيخ: وهذا يدلّ على فضل الصّدق، وأنَّ الصَّادقين لهم الجنة والكرامة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]، وقال تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35]، هذه الخصال العشر رتَّب الله عليها الجنة والمغفرة، وهي تجتمع في المسلم الصَّادق، إذا كان المسلمُ صادقًا في أعماله وتوحيده وإيمانه فقد أعدّ الله له الجنة والكرامة، وله الرِّضا.

قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ يعني: يوم القيامة، لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.

فالصدق يتضمن الإخلاص لله، والصدق في ذلك، واتِّباع الشَّريعة، وأداء الفرائض، وترك المحارم، والوقوف عند الحدود عن صدقٍ في كل شيءٍ، وهذا هو المؤمن الصَّادق، هؤلاء هم المؤمنون الذين قال الله فيهم: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71]، هؤلاء هم الصَّادقون: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [التوبة:72]، خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [المائدة:119] هذا جزاؤهم بسبب صدقهم في إيمانهم وتقواهم لله جلَّ وعلا.

س: الكذب من أجل الحصول على حقّ .....؟

ج: هذا فيه تفصيلٌ، الإصلاح مثلما روت أمُّ كلثوم بنت عقبة ابن أبي معيط قالت: لم أسمع النبي يُرخّص في شيءٍ من الكذب إلا في ثلاثٍ: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، والمرأة زوجها.

ففي الإصلاح بين الناس إذا كذب للإصلاح كذبًا لا يضرّ الناس، ولكن ينفع المتنازعين، بأن قال: سمعتُ مَن يتكلّم في عِرْضِك يقول، يُثني عليك، يدعو لك، أو يدعو لكم –للجماعة-، ويُثني عليكم، حتى أصلح بينهم: بين قبيلتين، أو طائفتين، أو شخصين، لا بأس، إذا كان كذبًا لا يضرّ أحدًا، ولكن ينفع المتنازعين، نعم.

وروى ابنُ أبي حاتم هاهنا حديثًا عن أنسٍ فقال: حدثنا أبو سعيد الأشجّ: حدثنا المحاربي، عن ليث، عن عثمان –يعني: ابن عمير-: أخبرنا اليقظان، عن أنسٍ مرفوعًا قال: قال رسولُ الله ﷺ: ثم يتجلَّى لهم الربُّ جلَّ جلاله، فيقول: سلوني، سلوني، أُعطكم. قال: فيسألونه الرِّضا، فيقول: رضاي أحلكم داري، وأنالكم كرامتي، فسلوني أُعطكم. فيسألونه الرِّضا، قال: فيُشهدهم أنَّه قد رضي عنهم .

وقوله: ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي: هذا الفوز الكبير الذي لا أعظم منه، كما قال تعالى: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات:61]، وكما قال: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].

وقوله: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة:120] أي: هو الخالق للأشياء، المالك لها، المتصرف فيها، القادر عليها، فالجميع ملكه، وتحت قهره وقُدرته، وفي مشيئته، فلا نظيرَ له، ولا وزيرَ، ولا عديلَ، ولا والدَ، ولا ولدَ، ولا صاحبة، ولا إله غيره، ولا ربَّ سواه.

قال ابنُ وهب: سمعتُ حيي بن عبدالله يُحدِّث عن أبي عبدالرحمن الحبلي، عن عبدالله بن عمرو قال: آخر سورةٍ أنزلت سورة المائدة.

الشيخ: لا شكَّ أنها من آخر ما نزل، وفيها: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3].

س: أحسن الله إليك، ..... قول الله : فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي [المائدة:117] يكون معناها: يوم القيامة؟

ج: محتمل، محتمل، توفيتني: قبضتني ورفعتني إلى السَّماء، ويحتمل أنها الوفاة على القولين المعروفين.

س: الرفع إلى السَّماء صحيح؟

ج: نعم، الله رفعه، توفَّاه، قبضه يعني: رفعه إلى السَّماء.

س: لو كذب شخصٌ لأجل إصلاح ما بينه وبين شخصٍ آخر؟

ج: إذا كان بينه وبينه، ما يتعلّق بأحدٍ من الآخرين، ولا يضرّ أحدًا فلا بأس.