تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا..}

وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [يونس:12].

يُخبر تعالى عن الإنسان وضجره وقلقه إذا مسَّه الشَّر، كقوله: وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ [فصلت:51] أي: كثير، وهما في معنى واحدٍ؛ وذلك لأنَّه إذا أصابته شدّة قلق لها، وجزع منها، وأكثر الدُّعاء عند ذلك، فدعا الله في كشفها ورفعها عنه في حال اضطجاعه، وقعوده، وقيامه، وفي جميع أحواله، فإذا فرّج الله شدَّته وكشف كُربته أعرض ونأى بجانبه، وذهب كأنَّه ما كان به من ذلك شيء: مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ، ثم ذمَّ تعالى من هذه صفته وطريقته فقال: كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.

فأمَّا مَن رزقه الله الهداية والسَّداد والتَّوفيق والرَّشاد فإنَّه مُستثنًى من ذلك، كقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [هود:11]، وكقول رسول الله ﷺ: عجبًا لأمر المؤمن، لا يقضي الله له قضاءً إلا كان خيرًا له، إن أصابته ضرَّاء فصبر كان خيرًا له، وإن أصابته سرَّاء فشكر كان خيرًا له، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن.

الشيخ: المعروف أنَّه ما فيه (ف): إن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له، ما في (ف)، هذا رواه مسلم في "الصحيح"، إن أصابته ضرَّاء صبر هذا جواب الشَّرط، جواب (إن).

إن أصابته ضرَّاء صبر كان خيرًا له، وإن أصابته سرَّاء شكر كان خيرًا له، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن.

الشيخ: وهذا هو الواجب على كل مؤمنٍ: أن يتَّقي الله، وأن يكون صبورًا عند البلاء، شكورًا عند الرخاء، وليحذر الجزع عند الشدة، أو البطر عند الرخاء، بل يكون عند الرخاء شكورًا، مُستقيمًا على طاعة ربِّه، وعند الضَّراء والمصائب والأمراض صبورًا لا يجزع، بل يحتسب، قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ۝ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۝ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157].

وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس:13-14].

أخبر تعالى عمَّا أحلَّ بالقرون الماضية في تكذيبهم الرسل فيما جاءوهم به من البينات والحجج الواضحات، ثم استخلف الله هؤلاء القوم من بعدهم، وأرسل إليهم رسولًا لينظر طاعتهم له، واتِّباعهم رسوله.

وفي "صحيح مسلم" من حديث أبي نضرة، عن أبي سعيدٍ قال: قال رسولُ الله ﷺ: إنَّ الدنيا حلوة خضرة، وإنَّ الله مُستخلفكم فيها، فناظرٌ كيف تعملون، فاتَّقوا الدنيا، واتَّقوا النِّساء، فإنَّ أول فتنة بني إسرائيل كانت في النِّساء.

وقال ابنُ جرير: حدَّثني المثنى: حدثنا زيد بن عوف أبو ربيعة فهد: أنبأنا حماد، عن ثابت البناني، عن عبدالرحمن ابن أبي ليلى: أنَّ عوف بن مالك قال لأبي بكر: رأيتُ فيما يرى النَّائم كأنَّ سببًا دلي من السَّماء فانتشط رسول الله ﷺ، ثم أُعيد فانتشط أبو بكر، ثم ذرع الناس حول المنبر، ففضل عمر بثلاثة أذرع حول المنبر، فقال عمر: دعنا من رُؤياك، لا أربَ لنا فيها. فلمَّا استخلف عمر قال: يا عوف، رؤياك؟ قال: وهل لك في رؤياي من حاجةٍ؟! أولم تنتهرني؟! قال: ويحك! إني كرهتُ أن تنعى لخليفة رسول الله ﷺ نفسه. فقصّ عليه الرؤيا حتى إذا بلغ ذرع الناس إلى المنبر بهذه الثلاث الأذرع قال: أما إحداهنَّ فإنَّه كان خليفةً، وأما الثانية فإنَّه لا يخاف في الله لومة لائم، وأما الثالثة فإنَّه شهيد. قال: فقال: يقول الله تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فقد استخلفت يا ابن أمّ عمر، فانظر كيف تعمل؟ وأما قوله: فإني لا أخاف في الله لومة لائم فيما شاء الله.

مُداخلة: عندنا: فما شاء الله.

الشيخ: لعلها: فما شاء الله، يعني: كان، فما شاء الله كان، لمن عزاه؟

الطالب: ابن جرير الطبري.

الشيخ: يُراجع الأصل.

س: بالنسبة للترجمة في السند، بالنسبة لزيد بن عوف أبي ربيعة؟

ج: يُراجع ابن جرير، نعم.

وأما قوله: شهيدٌ، فأنّى لعمر الشَّهادة والمسلمون مُطيفون به؟

الشيخ: حصلت الشَّهادة، ولا يدفع شيء إلا الله، هو الذي يدفع، نعم.

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ۝ قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [يونس:15-16].

يُخبر تعالى عن تعنت الكفَّار من مشركي قريش الجاحدين، المعرضين عنه: أنهم إذا قرأ عليهم الرسولُ ﷺ كتابَ الله وحجّته الواضحة قالوا له: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أي: ردّ هذا وجئنا بغيره من نمطٍ آخر، أَوْ بَدِّلْهُ إلى وضعٍ آخر، قال الله تعالى لنبيه ﷺ: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي أي: ليس هذا إليَّ، إنما أنا عبدٌ مأمورٌ، ورسولٌ مُبلّغٌ عن الله: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ.

ثم قال مُحتجًّا عليهم في صحّة ما جاءهم به: قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ أي: هذا إنما جئتُكم به عن إذن الله لي في ذلك ومشيئته وإرادته، والدليل على أني لستُ أتقوله من عندي ولا افتريته: أنَّكم عاجزون عن مُعارضته، وأنَّكم تعلمون صدقي وأمانتي منذ نشأتُ بينكم إلى حين بعثني الله لا تنتقدون عليَّ شيئًا تغمصوني به؛ ولهذا قال: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ أي: أفليس لكم عقولٌ تعرفون بها الحقَّ من الباطل؟

ولهذا لما سأل هرقلُ -ملك الروم- أبا سفيان ومَن معه فيما سأله من صفة النبي ﷺ، قال هرقل لأبي سفيان: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان: فقلت: لا. وكان أبو سفيان إذ ذاك رأس الكفرة، وزعيم المشركين، ومع هذا اعترف بالحقِّ: "والفضل ما شهدت به الأعداء".

فقال له هرقل: فقد أعرف أنَّه لم يكن ليدع الكذبَ على الناس ثم يذهب فيكذب على الله.

وقال جعفر بن أبي طالب للنَّجاشي -ملك الحبشة-: بعث اللهُ فينا رسولًا نعرف صدقَه ونسبَه وأمانتَه، وقد كانت مدّة مقامه عليه السلام بين أظهرنا قبل النبوة أربعين سنةً. وعن سعيد بن المسيب: ثلاثًا وأربعين سنةً. والصَّحيح المشهور الأوَّل.

الشيخ: نعم، أربعين سنةً.