تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ..}

وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۝ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ۝ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ۝ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ۝ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:17-21].

يقول تعالى مُخبرًا أنَّه مالك الضّر والنّفع، وأنَّه المتصرف في خلقه بما يشاء، لا معقبَ لحكمه، ولا رادَّ لقضائه: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كقوله تعالى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ الآية [فاطر:2].

وفي الصحيح: أنَّ رسول الله ﷺ كان يقول: اللهم لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا مُعطي لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدّ.

الشيخ: المقصود من هذا دعوة العباد إلى أن يضرعوا إليه، ويتوكلوا عليه .....، فإنَّه المتصرف في عباده، ليس في أيدي العباد شيء، بل ذلك إليه: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وفي الآية الأخرى: وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس:107]، فالعبد ليس له قُدرة على كشف الضّر، ولا جلب النَّفع إلا بالله ، فعليه أن يضرع إلى الله، ويأخذ بالأسباب التي شرعها وأباحها سبحانه، ويتوكل عليه جلَّ وعلا، فهو المتصرف في الأمور، والجالب للنَّفع، والكاشف للضّر، وهذا لا يُنافي أخذ الأسباب، فالمؤمن يؤمن بهذا، وأنَّ الله سبحانه هو الذي يقدر الأمور، بيده كشف الضّر وجلب النَّفع، ولكنه سبحانه أمر بالأسباب أيضًا، فأنت مأمورٌ بالأسباب التي هي من أسباب كشف الضّر وجلب النَّفع، كما أنَّك مأمورٌ أن تأكل وتشرب حتى تدفع الجوع والظّمأ، وتلبس لستر العورة واتِّقاء البرد واتِّقاء الحرِّ، إلى غير ذلك.

فالأمور بيده جلَّ وعلا، وأنت مأمورٌ بالأسباب، فلا تحتجّ بالقدر على ترك الأسباب، ولا تأخذ بالأسباب وتنسى ربّك مُصرّف الأمور، ولكن هذا وهذا: تطمئن بتقدير الله، وآمن بالله، وصدّق بما أخبرك به مولاك، وتأخذ بالأسباب التي شرعها لك وأباحها لك، مؤمنًا بأنَّه سبحانه مُدبّر الأمور، ومُصرّف الأمور، وكاشف الضَّراء، وجالب النَّعماء .

ولهذا قال تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ أي: وهو الذي خضعت له الرِّقاب، وذلّت له الجبابرة، وعنت له الوجوه، وقهر كل شيءٍ، ودانت له الخلائق، وتواضعت لعظمة جلاله وكبريائه، وعظمته وعلوه، وقُدرته على الأشياء، واستكانت وتضاءلت بين يديه، وتحت قهره وحكمه.

وَهُوَ الْحَكِيمُ أي: في جميع أفعاله، الْخَبِيرُ بمواضع الأشياء ومحالها، فلا يُعطي إلا مَن يستحقّ، ولا يمنح إلا مَن يستحقّ.

الشيخ: ومعنى الحكيم يعني: الذي يضع الأشياء في مواضعها، ليست عبثًا، ولا سُدًى، ولكنَّه حكيمٌ، يضع الأمور في مواضعها: يضع العافية في محلِّها، والمرض في محلِّه، والغنى في محلِّه، والفقر في محلِّه، وإن خفيت على الناس تلك الأسباب، نعم.

س: ............؟

ج: هذا يختلف، إذا كانت فيها فائدة وإلا فتُؤخّر، ولكن لا يغسل ولا يُصلّى عليه حتى يُعلم بموته، وإذا كان ما فيها فائدة تُؤخّر.

..............

ثم قال: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً أي: مَن أعظم الأشياء شهادةً؟

قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أي: هو العالم بما جئتُكم به، وما أنتم قائلون لي.

وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أي: وهو نذيرٌ لكل مَن بلغه، كقوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود:17].

قال ابنُ أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج: حدثنا وكيع وأبو أسامة وأبو خالد، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب في قوله: وَمَنْ بَلَغَ مَن بلغه القرآن فكأنما رأى النبي ﷺ. زاد أبو خالد: وكلَّمه.

الشيخ: ولهذا يقول : هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ [إبراهيم:52]، وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ وأُنذر مَن بلغ أيضًا، لأنذركم أيّها الحاضرون وأُنذر مَن بلغ في آخر الزمان، كحالنا الآن، ومَن يأتي بعدنا، وهو نذيرٌ للجميع: لمن كان في عهده ﷺ، ومَن جاء بعده إلى يومنا، وإلى ما بعد ذلك، إلى أن تطلع الشمسُ من مغربها.

ورواه ابنُ جرير من طريق أبي معشر، عن محمد بن كعب قال: مَن بلغه القرآن فقد أبلغه محمدٌ ﷺ.

وقال عبدالرزاق: عن معمر، عن قتادة في قوله تعالى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ: أنَّ رسول الله ﷺ قال: بلِّغوا عن الله، فمَن بلغته آيةٌ من كتاب الله فقد بلغه أمرُ الله.

وقال الربيع بن أنس: حقٌّ على مَن اتّبع رسول الله ﷺ أن يدعو كالذي دعا رسولُ الله ﷺ، وأن يُنذر بالذي أنذر.

وقوله: أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أيّها المشركون أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ، كقوله: فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ [الأنعام:150]، قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ.

ثم قال تعالى مُخبرًا عن أهل الكتاب أنَّهم يعرفون هذا الذي جئتَهم به كما يعرفون أبناءهم بما عندهم من الأخبار والأنباء عن المرسلين المتقدمين والأنبياء، فإنَّ الرسل كلّهم بشَّروا بوجود محمدٍ ﷺ، ونعته وصفته، وبلده ومهاجره، وصفة أمّته؛ ولهذا قال بعده: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أي: خسروا كل الخسارة، فهم لا يؤمنون بهذا الأمر الجلي الظَّاهر الذي بشّرت به الأنبياء، ونوّهت به في قديم الزمان وحديثه.

ثم قال: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أي: لا أظلمَ ممن تقول على الله فادَّعى أنَّ الله أرسله، ولم يكن أرسله، ثم لا أظلم ممن كذَّب بآيات الله وحُججه وبراهينه ودلالاته: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أي: لا يُفلح هذا ولا هذا: لا المفتري، ولا المكذّب.

الشيخ: نسأل الله العافية، والمعنى: التحذير من تكذيب الحقّ، والحذر من الكذب، كلّه ظالم: المكذّب بالحقِّ والكاذب كلاهما ظالم، فالواجب الحذر؛ ولهذا قال: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، هؤلاء ظالمون، وهؤلاء ظالمون، فالواجب التَّصديق بالحقِّ، واتِّباع الحقّ والانقياد له.

س: اليهود والنَّصارى الآن هل قامت عليهم الحجّة وبلغهم القرآن؟

ج: لا شكّ أنها قائمة، نعم.