تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً..}

وقال عكرمة: لما نزلت هذه الآية: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [التوبة:39]، ومَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ الآية [التوبة:120]، قال المنافقون: هلك أصحابُ البدو الذين تخلَّفوا عن محمدٍ ولم ينفروا معه. وقد كان ناسٌ من أصحاب النبي ﷺ خرجوا إلى البدو إلى قومهم يُفقّهونهم، فأنزل الله : وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً الآية [التوبة:122]، ونزلت: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ [الشورى:16].

وقال الحسنُ البصري في الآية: ليتفقه الذين خرجوا بما يُريهم الله من الظهور على المشركين والنُّصرة، ويُنذروا قومَهم إذا رجعوا إليهم.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:123].

أمر الله تعالى المؤمنين أن يُقاتلوا الكفَّار أولًا فأولًا، الأقرب فالأقرب إلى حوزة الإسلام؛ ولهذا بدأ رسولُ الله ﷺ بقتال المشركين في جزيرة العرب، فلمَّا فرغ منهم وفتح اللهُ عليه مكّة والمدينة والطَّائف واليمن واليمامة وهجر وخيبر وحضرموت وغير ذلك من أقاليم جزيرة العرب، ودخل الناسُ من سائر أحياء العرب في دين الله أفواجًا، شرع في قتال أهل الكتاب، فتجهز لغزو الروم الذين هم أقرب الناس إلى جزيرة العرب، وأولى الناس بالدَّعوة إلى الإسلام؛ لأنَّهم أهل الكتاب، فبلغ تبوك، ثم رجع لأجل جهد الناس وجدب البلاد وضيق الحال، وذلك سنة تسعٍ من هجرته ، ثم اشتغل في السنة العاشرة بحجّة الوداع، ثم عاجلته المنيةُ صلوات الله وسلامه عليه بعد حجّته بأحد وثمانين يومًا، فاختاره الله لما عنده.

وقام بالأمر بعده وزيرُه وصديقُه وخليفته أبو بكر الصّديق ، وقد مال الدينُ ميلةً كاد أن ينجفل، فثبّته الله تعالى به، فوطد القواعد، وثبت الدَّعائم، وردّ شارد الدِّين وهو راغم، وردّ أهل الردّة إلى الإسلام، وأخذ الزكاة ممن منعها من الطّغام، وبيّن الحقَّ لمن جهله، وأدّى عن الرسول ما حمله، ثم شرع في تجهيز الجيوش الإسلامية إلى الروم عبدة الصلبان، وإلى الفرس عبدة النّيران، ففتح الله ببركة سفارته البلاد، وأرغم أنف كسرى وقيصر ومَن أطاعهما من العباد، وأنفق كنوزهما في سبيل الله كما أخبر بذلك رسولُ الله.

وكان تمام الأمر على يدي وصيه من بعده، وولي عهده الفاروق الأوَّاب، شهيد المحراب، أبي حفص عمر بن الخطاب ، فأرغم الله به أنوف الكفرة الملحدين، وقمع الطّغاة والمنافقين، واستولى على الممالك شرقًا وغربًا، وحُملت إليه خزائن الأموال من سائر الأقاليم بعدًا وقربًا، ففرّقها على الوجه الشَّرعي، والسَّبيل المرضي.

ثم لما مات شهيدًا، وقد عاش حميدًا، أجمع الصحابةُ من المهاجرين والأنصار على خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، شهيد الدار، فكسى الإسلام رئاسته حُلّة سابغة، وامتدت في سائر الأقاليم على رقاب العباد حجّة الله البالغة، فظهر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وعلت كلمةُ الله، وظهر دينه، وبلغت الملّة الحنيفية من أعداء الله غاية مآربها، وكلما علوا أمّةً انتقلوا إلى مَن بعدهم، ثم الذين يلونهم من العتاة الفُجَّار؛ امتثالًا لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التوبة:123]، وقوله تعالى: وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة:123] أي: وليجد الكفَّار منكم غلظةً في قتالكم لهم، فإنَّ المؤمن الكامل هو الذي يكون رفيقًا لأخيه المؤمن، غليظًا على عدوه الكافر، كقوله تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54]، وقوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29]، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة:73].

وفي الحديث: أنَّ رسول الله ﷺ قال: أنا الضَّحوك القتَّال يعني: أنَّه ضحوك في وجه وليه، قتَّال لهامة عدوه.

الشيخ: وهذا كلّه من نصر الله وتأييده، فإنَّ الله جلَّ وعلا أيّد رسوله وفتح عليه الجزيرة، وظهر دينُ الله، وانتصر الحقُّ، ثم قام صديقُه وخليفته بالجهاد العظيم، وقتاله أهل الردّة، وأرسل بعد ذلك الجيوش إلى الشَّام، ثم قام عمرُ بما قام، وانتصر دينُ الله، وظهر في الأرض على سائر الأديان، ثم استمرت الجيوش والقتال في عهد عثمان وبعده، فهذا كلّه من فضل الله وتأييده ونصره، كما قال جلَّ وعلا: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33]، فلو أنَّ مَن بعده استقاموا كما استقام الأوَّلون لحصل لهم ما حصل للأولين: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ۝ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:40-41].

س: هل الحديث صحيح: أنا الضَّحوك القتَّال؟

ج: ما أعرف حاله، الله أعلم.

وقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:123] أي: قاتلوا الكفَّار وتوكلوا على الله، واعلموا أنَّ الله معكم إذا اتَّقيتُموه وأطعتُموه، وهكذا الأمر، لما كانت القرون الثلاثة الذين هم خير هذه الأمّة في غاية الاستقامة والقيام بطاعة الله تعالى لم يزالوا ظاهرين على عدوهم، ولم تزل الفتوحات كثيرة، ولم تزل الأعداء في سفالٍ وخسارٍ.

ثم لما وقعت الفتنُ والأهواء والاختلافات بين الملوك طمع الأعداء في أطراف البلاد وتقدَّموا إليها، فلم يُمانعوا؛ لشغل الملوك بعضهم ببعضٍ، ثم تقدَّموا إلى حوزة الإسلام، فأخذوا من الأطراف بلدانًا كثيرةً، ثم لم يزالوا حتى استحوذوا على كثيرٍ من بلاد الإسلام، ولله الأمر من قبل ومن بعد، فكلما قام ملكٌ من ملوك الإسلام وأطاع أوامر الله وتوكّل على الله فتح اللهُ عليه من البلاد، واسترجع من الأعداء بحسبه وبقدر ما فيه من ولاية الله، والله المسؤول المأمول أن يُمكّن المسلمين من نواصي أعدائه الكافرين، وأن يُعلي كلمتهم في سائر الأقاليم، إنَّه جوادٌ كريمٌ.

وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ۝ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:124-125].

يقول تعالى: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فمن المنافقين مَن يقول: أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا أي: يقول بعضُهم لبعضٍ: أيّكم زادته هذه السورة إيمانًا؟ قال الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، وهذه الآية من أكبر الدَّلائل على أنَّ الإيمان يزيد وينقص، كما هو مذهب أكثر السَّلف والخلف من أئمّة العلماء، بل قد حكى غير واحدٍ الإجماع على ذلك، وقد بسط الكلام على هذه المسألة في أول شرح البخاري رحمه الله.

الشيخ: وهذا قول أهل السنة والجماعة، كما حكى عنهم الأشعري بإجماع أهل السنة على أنَّ الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا، بخلاف الخوارج الذين يقولون: لا يزيد ولا ينقص. والمعتزلة.

أما أهل السنة والجماعة فيقولون: يزيد وينقص، يزيد بالطاعات، وينقص بالمعصية، نعم.

وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ أي: زادتهم شكًّا إلى شكِّهم، وريبًا إلى ريبهم، كما قال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ الآية [الإسراء:82]، وقوله تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [فصلت:44]، وهذا من جملة شقائهم: أنَّ ما يهدي القلوب يكون سببًا لضلالهم ودمارهم، كما أنَّ سيئ المزاج لو غُذي به لا يزيده إلا خبالًا ونقصًا.