تفسير قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} (2)

وقوله تعالى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ أي: تغشَّاه وستره رَأَى كَوْكَبًا أي: نجمًا، قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ [الأنعام:76] أي: غاب.

قال محمدُ بن إسحاق بن يسار: الأفول: الذَّهاب.

وقال ابنُ جرير: يُقال: أفل النَّجم يأفل ويأفل أفولًا وأفلًا، إذا غاب، ومنه قول ذي الرّمة:

مصابيح ليست باللواتي تقودها دياج ولا بالآفلات الزوائل

ويُقال: أين أفلتَ عنا؟ بمعنى: أين غبتَ عنا؟

قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الأنعام:76]، قال قتادة: علم أنَّ ربَّه دائم لا يزول.

فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا أي: طالعًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي أي: هذا المنير الطَّالع ربي، هَذَا أَكْبَرُ أي: جُرْمًا من النَّجم ومن القمر، وأكثر إضاءةً، فَلَمَّا أَفَلَتْ أي: غابت قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ۝ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ أي: أخلصت ديني، وأفردت عبادتي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أي: خلقهما وابتدعهما على غير مثالٍ سبق، حَنِيفًا أي: في حال كوني حنيفًا، أي: مائلًا عن الشِّرك إلى التوحيد؛ ولهذا قال: وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:77-79].

وقد اختلف المفسرون في هذا المقام: هل هو مقام نظرٍ أو مُناظرة؟

فروى ابنُ جرير من طريق علي ابن أبي طلحة، عن ابن عباسٍ ما يقتضي أنَّه مقام نظرٍ، واختاره ابنُ جرير مُستدلًّا بقوله: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي الآية.

وقال محمد بن إسحاق: قال ذلك حين خرج من السّرب الذي ولدته فيه أمّه، حين تخوّفت عليه من نمروذ بن كنعان، لما كان قد أخبر بوجود مولودٍ يكون ذهاب ملكه على يديه، فأمر بقتل الغلمان عامئذٍ، فلمَّا حملت أمُّ إبراهيم به وحان وضعها ذهبت به إلى سربٍ ظاهر البلد، فولدت فيه إبراهيم، وتركته هناك.

وذكر أشياء من خوارق العادات، كما ذكرها غيره من المفسرين من السلف والخلف.

والحق أنَّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان في هذا المقام مُناظرًا لقومه، مُبينًا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام، فبين في المقام الأول مع أبيه خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية التي هي على صور الملائكة السَّماوية؛ ليشفعوا لهم إلى الخالق العظيم، الذين هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه، وإنما يتوسلون إليه بعبادة ملائكته؛ ليشفعوا لهم عنده في الرزق والنَّصر، وغير ذلك مما يحتاجون إليه.

وبيّن في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل، وهي الكواكب السّيارة السّبعة المتحيرة، وهي: القمر، وعطارد، والزهرة، والشمس، والمريخ، والمشترى، وزحل، وأشدّهنَّ إضاءةً وأشرفهنَّ عندهم: الشمس، ثم القمر، ثم الزهرة.

فبين أولًا صلوات الله وسلامه عليه أنَّ هذه الزهرة لا تصلح للإلهية، فإنَّها مُسخّرة مُقدّرة بسيرٍ مُعينٍ، لا تزيغ عنه يمينًا ولا شمالًا، ولا تملك لنفسها تصرُّفًا، بل هي جرمٌ من الأجرام، خلقها اللهُ مُنيرةً؛ لما له في ذلك من الحكم العظيمة، وهي تطلع من المشرق، ثم تسير فيما بينه وبين المغرب حتى تغيب عن الأبصار فيه، ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال، ومثل هذه لا تصلح للإلهية.

ثم انتقل إلى القمر فبيّن فيه مثل ما بيّن في النَّجم، ثم انتقل إلى الشمس كذلك، فلمَّا انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار، وتحقق ذلك بالدليل القاطع: قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:78] أي: أنا بريء من عبادتهن ومُوالاتهن، فإن كانت آلهةً فكيدوني بها جميعًا ثم لا تنظرون، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:79] أي: إنما أعبد خالق هذه الأشياء ومُخترعها ومُسخّرها ومُقدّرها ومُدبّرها، الذي بيده ملكوت كل شيءٍ، وخالق كل شيءٍ وربّه ومليكه وإلهه، كما قال تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54].

وكيف يجوز أن يكون إبراهيمُ ناظرًا في هذا المقام وهو الذي قال اللهُ في حقِّه: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ۝ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ الآيات [الأنبياء:51-52]، وقال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ۝ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ۝ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ۝ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:120-123]، وقال تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:161]؟!

وقد ثبت في "الصحيحين" عن أبي هريرة، عن رسول الله ﷺ أنَّه قال: كل مولودٍ يُولد على الفطرة.

وفي "صحيح مسلم" عن عياض بن حماد: أنَّ رسول الله ﷺ قال: قال الله: إني خلقتُ عبادي حُنفاء، وقال الله في كتابه العزيز: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم:30]، وقال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [الأعراف:172]، ومعناه على أحد القولين كقوله: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا كما سيأتي بيانه.

فإذا كان هذا في حقِّ سائر الخليقة، فكيف يكون إبراهيمُ الخليل الذي جعله الله أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:120] ناظرًا في هذا المقام؟!

الشيخ: يعني: شاكًّا ..... يُناظر قومه مُحتجًّا عليهم، مُوضِّحًا لهم الحقَّ، يُبين لهم بطلان شُبَههم، وأنَّ ربَّهم هو المستحقّ للعبادة، وأنَّ آلهتهم التي يعبدون من دون الله كهذه المخلوقات لا قيمةَ لها من جهة العبادة: كالقمر، والشمس، والنجم، وأشباه ذلك، كلّها مخلوقات، مربوبات، مُدبّرة، فهكذا ما يعبدون من باب أولى، سواء كان ما يعبدون أمواتًا، أو أصنامًا، أو جنًّا، أو غير ذلك.

فالواجب إخلاص العبادة لله وحده، والحذر مما عبده المشركون؛ لأنَّ الله خلقهم ليعبدوه، وفطرهم على ذلك، فطرهم على أنَّهم مخلوقون مربوبون لربٍّ واحدٍ، وهو مالك السَّماوات والأرض، خالق الجميع، وهم مؤمنون بأنَّ الله خالقهم، ورازقهم، فالواجب أن يعبدوا هذا الذي خلقهم ورزقهم وفطرهم على أنَّه ربهم ومعبودهم.

س: يكون الصواب أنَّه كان مُناظرًا؟

ج: نعم، ما في شكّ.

س: النجوم والكواكب تموت يوم القيامة؟

ج: السَّماء كلّها تنشقّ، وتندثر النُّجوم، وتنفطر السَّماوات: وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ [التكوير:2]، إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير:1].

س: قول الله : وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الأنعام:75]؟

ج: على ظاهره، نعم، وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام:75] حتى تقوى حجّته على قومه، وحتى تقوى مُناظرته عليهم.

س: تسمية الأرض كوكبًا؟

ج: ما له أصل، ليست بكوكبٍ، خلق الأرض آية مُستقلة، مخلوق مُستقلّ، ليست من الكواكب، الكواكب في السَّماء.

بل هو أولى الناس بالفطرة السَّليمة والسَّجية المستقيمة بعد رسول الله ﷺ بلا شكٍّ ولا ريبٍ.

ومما يُؤيد أنَّه كان في هذا المقام مُناظرًا لقومه فيما كانوا فيه من الشِّرك لا ناظرًا قوله تعالى: وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ۝ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ۝ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ۝ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:80-83].

الشيخ: قف على هذا.

س: قول ابن كثير رحمه الله: "وهي الكواكب السّيارة السّبعة المتحيرة"، ما المراد بالمتحيرة؟

ج: ما أدري والله، الله أعلم.