تفسير قوله تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} (2)

وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ۝ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ۝ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ۝ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأنعام:66-69].

يقول تعالى: وَكَذَّبَ بِهِ أي: بالقرآن الذي جئتَهم به والهدى والبيان قَوْمُكَ يعني: قُريشًا، وَهُوَ الْحَقُّ أي: الذي ليس وراءه حقٌّ، قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أي: لستُ عليكم بحفيظٍ، ولستُ بموكل بكم، كقوله: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29] أي: إنما عليَّ البلاغ، وعليكم السَّمع والطَّاعة، فمَن اتَّبعني سعد في الدنيا والآخرة، ومَن خالفني فقد شقي في الدنيا والآخرة؛ ولهذا قال: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ، قال ابنُ عباسٍ وغير واحدٍ: أي: لكل نبأ حقيقة. أي: لكل خبرٍ وقوع ولو بعد حينٍ، كما قال: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص:88]، وقال: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ [الرعد:38]، وهذا تهديدٌ ووعيدٌ أكيدٌ؛ ولهذا قال بعده: وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ.

الشيخ: والمقصود من هذا أنَّه ﷺ إنما عليه البلاغ، ليس وكيلًا عليهم، وإنما عليه أن يُبلّغهم: فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا [الزمر:41]؛ ولهذا يقول: قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ۝ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ سوف يعلم الناسُ العاقبة، فالمتقون يفوزون بالسَّعادة والكرامة، والمكذِّبون يبوؤون بالخيبة والنَّدامة، فالرسل إنما عليهم البلاغ: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [النحل:35]، فالتَّوفيق بيد الله، هو الذي يهدي مَن يشاء ، نعم.

وهكذا الدُّعاة إلى الله بعدهم عليهم البلاغ والبيان وإقامة البراهين، أمَّا الهداية فبيد الله: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272].

وقوله: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا أي: بالتَّكذيب والاستهزاء، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ أي: حتى يأخذوا في كلامٍ آخر غير ما كانوا فيه من التَّكذيب، وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ، والمراد بذلك كلّ فردٍ فرد من آحاد الأمّة ألَّا يجلس مع المكذّبين الذين يُحرِّفون آيات الله ويضعونها على غير مواضعها، فإن جلس أحدٌ معهم ناسيًا: فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى بعد التَّذكر مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ؛ ولهذا ورد في الحديث: رُفِعَ عن أُمَّتي الخطأ والنِّسيان وما استُكرهوا عليه.

الشيخ: يقول الله جلَّ وعلا: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، قال الله: قد فعلتُ. أخرجه مسلمٌ في "الصحيح"، فليس للمؤمن أن يجلس مع المكذّبين الخائضين في الباطل إلا أن يُنكر عليهم ويُبين لهم بُطلان ما هم عليه، وإلا فليُعرض، فليقم: فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، لكن إن جلس للبيان والإيضاح والدَّعوة، فإن أجدى وإلا انصرف.

وفي الآية الأخرى: إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:140].

فالحاصل أنَّ الواجب على مَن حضر الخائضين في الباطل أن يُنكر عليهم، فإن استجابوا فالحمد لله، وإلا فلينتقل وليُفارقهم.

س: قوله: إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ هل إذا كان مجلس كفرٍ فهو كافرٌ معهم؟

ج: هذا من باب الوعيد، نعم.

وقال السدي: عن أبي مالك وسعيد بن جبير في قوله: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ قال: إن نسيتَ فذكرتَ فلا تقعد معهم. وكذا قال مُقاتل بن حيان.

وهذه الآية هي المشار إليها في قوله: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:140] أي: إنَّكم إذا جلستم معهم، وأقررتموهم على ذلك، فقد ساويتُموهم فيما هم فيه.

وقوله: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ أي: إذا تجنَّبوهم، فلم يجلسوا معهم في ذلك، فقد برئوا من عُهدتهم، وتخلَّصوا من إثمهم.

قال ابنُ أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشجّ: حدثنا عبيدالله بن موسى، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك، عن سعيد بن جبير: قوله: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ قال: ما عليك أن يخوضوا في آيات الله إذا فعلتَ ذلك. أي: إذا تجنَّبتهم وأعرضتَ عنهم.

وقال آخرون: بل معناه: وإن جلسوا معهم فليس عليهم من حسابهم من شيءٍ.

وزعموا أنَّ هذا منسوخٌ بآية النِّساء المدنية، وهي قوله: إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ. قاله مجاهد، والسدي، وابنُ جريج، وغيرهم.

وعلى قولهم يكون قوله: وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي: ولكن أمرناكم بالإعراض عنهم حينئذٍ تذكيرًا لهم عمَّا هم فيه؛ لعلهم يتَّقون ذلك ولا يعودون إليه.

س: هل يجب الإنكار، أم يكفي الإعراض؟

ج: الإنكار لا بدَّ منه مع الاستطاعة.

س: لكن لو جلس مع ناسٍ يخوضون هل يكفي أن يُغادر المجلس، أم يجب الإنكار ثم المغادرة؟

ج: إذا استطاع الإنكار يُنكر، يجب إنكار المنكر، أمَّا إذا لم يستطع يُغادر المكان، نعم.

س: مائدة الخمر إذا لم يكن إلا هذا الوقت للإنكار؟

ج: يُنكر عليهم.

س: وهم على المائدة؟

ج: إيه.

س: والحديث الذي فيه: «لا يُؤمن أحدكم»، قوله ﷺ: أنا بريءٌ ممن قام على مائدةٍ يُدار عليها الخمر؟

ج: لا، هذا إذا لم يُنكر –يعني-، أمَّا إذا دعاه ذلك إلى الإنكار، وما جلس معهم رضًا ولا مُوافقةً، ولكن حضر ليُنكر فقط.

س: إذا خاف على نفسه .....؟

ج: ما هو بعذرٍ، يجب أن يُنكر.