تفسير قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ..} (2)

وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ۝ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [الأنعام:91-92].

يقول الله تعالى: وما عظَّموا الله حقَّ تعظيمه إذ كذَّبوا رسله إليهم.

قال ابنُ عباسٍ ومجاهد وعبدالله بن كثير: نزلت في قريش. واختاره ابنُ جرير.

وقيل: نزلت في طائفةٍ من اليهود. وقيل: في فنحاص، رجل منهم. وقيل: في مالك بن الصيف: قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ.

والأول أصحّ؛ لأنَّ الآية مكية، واليهود لا يُنكرون إنزال الكتب من السَّماء، وقريش والعرب قاطبةً كانوا يُنكرون إرسال محمدٍ ﷺ؛ لأنَّه من البشر، كما قال: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ [يونس:2]، وكقوله تعالى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا ۝ قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا [الإسراء:94-95].

الشيخ: والآية عامّة، تعمّ قريشًا وغيرهم، كل مَن قال هذه المقالة: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ يعمّ جميع الكفرة الذين قالوا هذه المقالة من قريشٍ وغيرهم، ما عظَّموا الله حقَّ تعظيمه، وما قدروه حقَّ قدره إذ اتَّهموه بأنَّه أهمل الناس، وترك الناسَ على ضلالهم وعماهم من غير رسلٍ ولا كتبٍ، بل هذا من ظن السّوء؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ.

فالواجب على كل مُكلَّفٍ أن يعلم أنَّ الله أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأقام الحجّة، وقطع المعذرة، وأنَّ الواجب على جميع المكلفين أن يتفقَّهوا، وأن يتعلَّموا، وأن يسألوا، ولو بالرحلة من مكانٍ إلى مكانٍ، ومن بلدٍ إلى بلدٍ حتى يتفقَّهوا.

وقال هاهنا: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قال الله تعالى: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ أي: قل يا محمد لهؤلاء المنكرين لإنزال شيءٍ من الكتب من عند الله في جواب سلبهم العام بإثبات قضيةٍ جزئيةٍ مُوجبةٍ: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى وهو التوراة التي قد علمتم وكل أحدٍ أنَّ الله قد أنزلها على موسى بن عمران نورًا وهدًى للناس، أي: ليُستضاء بها في كشف المشكلات، ويُهتدى بها من ظلم الشُّبهات.

وقوله: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا أي: تجعلون جملتها قراطيس، أي: قطعًا تكتبونها من الكتاب الأصلي الذي بأيديكم، وتحرفون منها ما تحرفون، وتبدلون وتتأوّلون، وتقولون: هذا من عند الله. أي: في كتابه المنزل، وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:78]؛ ولهذا قال: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا.

وقوله تعالى: وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ أي: ومَن أنزل القرآن الذي علمكم الله فيه من خبر ما سبق ونبأ ما يأتي ما لم تكونوا تعلمون ذلك: لا أنتم، ولا آباؤكم؟

وقد قال قتادة: هؤلاء مُشركو العرب. وقال مجاهد: هذه للمسلمين.

وقوله تعالى: قُلِ اللَّهُ قال علي ابن أبي طلحة: عن ابن عباسٍ: أي: قل: الله أنزله.

وهذا الذي قاله ابنُ عباسٍ هو المتعين في تفسير هذه الكلمة، لا ما قاله بعضُ المتأخرين من أنَّ معنى: قُلِ اللَّهُ أي: لا يكون خطابُك لهم إلا هذه الكلمة، كلمة "الله".

وهذا الذي قاله هذا القائل يكون أمرًا بكلمةٍ مُفردةٍ من غير تركيبٍ، والإتيان بكلمةٍ مُفردةٍ لا يُفيد في لغة العرب فائدةً يحسن السُّكوت عليها.

الشيخ: وهذا من رأي أهل التَّصوف الذين ابتدعوا في الدِّين ما لم يأذن به الله، وجعلوا كلمةَ "الله" عبادة وحدها: الله، الله، الله. أو: هو، هو، هو. هذا من جهلهم وضلالهم؛ فإنَّ كلمة "الله" لا تُفيد وحدها إلا إذا ضُمَّ إليها غيرها: الله وحده، الله أكبر، الله العظيم: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255]، اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ [الصافات:126]، هذا يأتي.

المعنى: قل: الله. يعني: قل: الله الذي أنزل ذلك سبحانه؛ لأنَّ السياق دالٌّ على هذا. نعم.

وقوله: ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ أي: ثم دعهم في جهلهم وضلالهم يلعبون حتى يأتيهم من الله اليقين، فسوف يعلمون ألهم العاقبة، أم لعباد الله المتقين؟

وقوله: وَهَذَا كِتَابٌ يعني: القرآن أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى يعني: مكّة وَمَنْ حَوْلَهَا من أحياء العرب، ومن سائر طوائف بني آدم، ومن عربٍ وعجمٍ، كما قال في الآية الأخرى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، وقال: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19]، وقال: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود:17]، وقال: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1]، وقال: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:20].

وثبت في "الصحيحين": أنَّ رسول الله ﷺ قال: أُعطيتُ خمسًا لم يُعطهنَّ أحدٌ من الأنبياء قبلي، وذكر منهنَّ: وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصَّةً، وبُعثتُ إلى الناس عامَّةً؛ ولهذا قال: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ أي: كل مَن آمن بالله واليوم الآخر يُؤمن بهذا الكتاب المبارك الذي أنزلناه إليك يا محمد، وهو القرآن، وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أي: يقومون بما فرض عليهم من أداء الصَّلوات في أوقاتها.

الشيخ: نبّه عليها هنا لعظم شأنها، وأنَّ مَن حافظ عليها أقام دينَه، ومَن ضيَّعها أضاع دينَه، نبَّه عليها مع التَّنبيه على رسالته ﷺ وإنزال الكتاب؛ لعظم شأنها، فهي أعظم الأركان، وأهم الأركان بعد الشَّهادتين، فمَن حافظ عليها حفظ دينَه، ومَن ضيَّعها ضيَّع دينَه.

س: ..............؟

ج: كل مَن مات على الكفر فهو في النَّار.