تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ..}

وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ۝ إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ [التوبة:115-116].

يقول تعالى مُخبرًا عن نفسه الكريمة وحكمه العادل: إنَّه لا يضلّ قومًا بعد إبلاغ الرِّسالة إليهم حتى يكونوا قد قامت عليهم الحجّة، كما قال تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ الآية [فصلت:17].

وقال مجاهد في قوله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ الآية، قال: بيان الله للمؤمنين في ترك الاستغفار للمُشركين خاصَّة، وفي بيانه لهم من معصيته وطاعته عامَّة، فافعلوا أو ذروا.

وقال ابنُ جرير: يقول الله تعالى: وما كان الله ليقضي عليكم في استغفاركم لموتاكم المشركين بالضّلال بعد إذ رزقكم الهداية ووفقكم للإيمان به وبرسوله حتى يتقدّم إليكم بالنّهي عنه فتتركوا، فأمَّا قبل أن يُبين لكم كراهة ذلك بالنَّهي عنه ثم تتعدّوا نهيه إلى ما نهاكم عنه؛ فإنَّه لا يحكم عليه بالضّلال، فإنَّ الطاعة والمعصية إنما يكونان من المأمور والمنهي، وأمَّا مَن لم يُؤمَر ولم يُنْهَ فغير كائنٍ مُطيعًا أو عاصيًا فيما لم يُؤْمَر به، ولم يُنْهَ عنه.

الشيخ: وهذا مثل قوله : وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ [التوبة:115] حتى يُرسل الرسل ويُوضّح، يعني: يُبين ما قال، حتى يتبين: حَتَّى يُبَيِّنَ إذا بيَّن لهم كفى، قامت الحجّة، ولو قالوا: ما فهمنا. ولو قالوا: ما تبين لنا. فإنَّ الله قال: حَتَّى يُبَيِّنَ، ما قال: حتى يتبين، بل قال: حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ حتى يبعث رسولًا، فإذا جاءت الرسل وبيّنت أمر الله ونهيه، ثم عاند المخاطبون؛ فقد قامت عليهم الحجّة، نعم.

س: إذا لم يفهموا المراد .....؟

ج: إذا خُوطبوا بلغتهم يكفي .....، إذا خُوطبوا بلغتهم وبيّن لهم الأمر؛ لأنَّ الله قال: حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ.

وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ قال ابنُ جرير: هذا تحريضٌ من الله تعالى لعباده المؤمنين في قتال المشركين وملوك الكفر، وأن يثقوا بنصر الله مالك السَّماوات والأرض، ولا يرهبوا من أعدائه، فإنَّه لا وليّ لهم من دون الله، ولا نصير لهم سواه.

وقال ابنُ أبي حاتم: حدثنا علي ابن أبي دلامة البغدادي: حدثنا عبدالوهاب بن عطاء: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن صفوان بن محرز، عن حكيم بن حزام قال: بينا رسولُ الله ﷺ بين أصحابه إذ قال لهم: هل تسمعون ما أسمع؟ قالوا: ما نسمع من شيءٍ. فقال رسولُ الله ﷺ: إني لأسمع أطيط السَّماء، وما تُلام أن تئط، وما فيها من موضع شبرٍ إلا وعليه ملك ساجد أو قائم.

وقال كعب الأحبار: ما من موضع خرم إبرةٍ من الأرض إلا وملك مُوكّل بها يرفع علمَ ذلك إلى الله، وإنَّ ملائكة السَّماء لأكثر من عدد التراب، وإنَّ حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى مخِّه مسيرة مئة عام.

لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:117].

س: ما ورد في بعض الرِّوايات أنَّه موضع ذراع، بدل "شبر"؟

ج: ما أدري.

..........

قال مجاهد وغير واحدٍ: نزلت هذه الآية في غزوة تبوك، وذلك أنَّهم خرجوا إليها في شدّةٍ من الأمر: في سنةٍ مُجدبةٍ، وحرٍّ شديدٍ، وعسرٍ من الزاد والماء.

قال قتادة: خرجوا إلى الشَّام عام تبوك في لهبان الحرِّ على ما يعلم الله من الجهد، أصابهم فيها جهدٌ شديدٌ حتى لقد ذكر لنا أنَّ الرجلين كانا يشقّان التَّمرة بينهما، وكان النَّفر يتداولون التَّمرة بينهم: يمصّها هذا، ثم يشرب عليها، ثم يمصّها هذا، ثم يشرب عليها، فتاب اللهُ عليهم، وأقفلهم من غزوتهم.

وقال ابنُ جرير: حدَّثني يونس بن عبدالأعلى: أخبرنا ابنُ وهبٍ: أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد ابن أبي هلال، عن عتبة ابن أبي عتبة، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن عبدالله بن عباس: أنَّه قيل لعمر بن الخطاب في شأن العُسرة، فقال عمرُ بن الخطاب: خرجنا مع رسول الله ﷺ إلى تبوك في قيظٍ شديدٍ، فنزلنا منزلًا، فأصابنا فيه عطشٌ، حتى ظننا أنَّ رقابنا ستنقطع، وحتى إن كان الرجلُ ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أنَّ رقبته ستنقطع، وحتى إنَّ الرجل لينحر بعيرَه فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصّديق: يا رسول الله، إنَّ الله قد عودك في الدُّعاء خيرًا، فادعُ لنا. فقال: تُحبّ ذلك؟ قال: نعم. فرفع يديه، فلم يُرجعهما حتى سالت السَّماء فأهطلت، ثم سكنت، فملؤوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر.

وقال ابنُ جرير في قوله: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ أي: من النَّفقة والطُّهر والزَّاد والماء، مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أي: عن الحقِّ، ويشكّ في دين الرسول ﷺ ويرتاب؛ للذي نالهم من المشقّة والشّدة في سفرهم وغزوهم، ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ يقول: ثم رزقهم الإنابة إلى ربهم والرجوع إلى الثَّبات على دينه: إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ.

وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ۝ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:118-119].

قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب بن إبراهيم: حدثنا ابنُ أخي الزهري محمد بن عبدالله، عن عمِّه محمد بن مسلم الزهري: أخبرني عبدالرحمن بن عبدالله بن كعب بن مالك: أنَّ عبدالله بن كعب بن مالك -وكان قائد كعبٍ من بنيه حين عمي- قال: سمعتُ كعب بن مالك يُحدِّث حديثَه حين تخلَّف عن رسول الله ﷺ في غزوة تبوك، فقال كعبُ بن مالك: لم أتخلّف عن رسول الله ﷺ في غزوةٍ غزاها قطّ إلا في غزاة تبوك، غير أني كنتُ تخلّفت في غزاة بدرٍ ولم يُعاتب أحدٌ تخلّف عنها، وإنما خرج رسولُ الله ﷺ يُريد عِير قريش، حتى جمع اللهُ بينهم وبين عدوهم على غير ميعادٍ، ولقد شهدتُ مع رسول الله ﷺ ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أُحبّ أنَّ لي بها مشهد بدرٍ، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر.

وكان من خبري حين تخلَّفتُ عن رسول الله ﷺ في غزوة تبوك: أني لم أكن قطّ أقوى ولا أيسر مني حين تخلَّفت عنه في تلك الغزاة، والله ما جمعتُ قبلها راحلتين قطّ حتى جمعتهما في تلك الغزاة، وكان رسول الله ﷺ قلّما يُريد غزوةً يغزوها إلا ورَّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة، فغزاها رسولُ الله ﷺ في حرٍّ شديدٍ، واستقبل سفرًا بعيدًا ومفاوز، واستقبل عدوًّا كثيرًا، فجلَّى للمسلمين أمرهم ليتأهَّبوا أهبة عدوهم، فأخبرهم وجهه الذي يُريد، والمسلمون مع رسول الله ﷺ كثيرٌ، لا يجمعهم كتابُ حافظٍ -يُريد الدِّيوان.

قال كعب: فقلّ رجلٌ يُريد أن يتغيب إلا ظنَّ أنَّ ذلك سيخفى عليه ما لم ينزل فيه وحيٌ من الله .

وغزا رسولُ الله ﷺ تلك الغزاة حين طابت الثِّمار والظِّلال، وأنا إليها أصعر، فتجهز إليها رسولُ الله ﷺ والمؤمنون معه، فطفقتُ أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقضِ من جهازي شيئًا، فأقول لنفسي: أنا قادرٌ على ذلك إذا أردتُ.

فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى شمَّر بالناس الجدّ، فأصبح رسولُ الله ﷺ غاديًا والمسلمون معه، ولم أقضِ من جهازي شيئًا، وقلت: أتجهز بعد يومٍ أو يومين ثم ألحقه. فغدوتُ بعدما فصلوا لأتجهز، فرجعتُ ولم أقضِ من جهازي شيئًا، ثم غدوتُ فرجعتُ ولم أقضِ شيئًا، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، فهممتُ أن أرتحل فألحقهم -وليت أني فعلتُ-، ثم لم يقدر ذلك لي، فطفقتُ إذا خرجتُ في الناس بعد رسول الله ﷺ يحزنني أني لا أرى إلا رجلًا مغموصًا عليه في النِّفاق، أو رجلًا ممن عذره الله .

ولم يذكرني رسولُ الله ﷺ حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالسٌ في القوم بتبوك: ما فعل كعب بن مالك؟ فقال رجلٌ من بني سلمة: حبسه يا رسول الله بُرداه والنَّظر في عطفيه.

فقال معاذ بن جبل: بئسما قلتَ، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرًا. فسكت رسولُ الله ﷺ.

قال كعب بن مالك: فلما بلغني أنَّ رسول الله ﷺ قد توجّه قافلًا من تبوك حضرني بثّي، وطفقتُ أتذكر الكذب، وأقول: بماذا أخرج من سخطه غدًا؟ وأستعين على ذلك بكلِّ ذي رأيٍ من أهلي، فلمَّا قيل: إنَّ رسول الله ﷺ قد أظلّ قادمًا؛ زاح عني الباطل، وعرفتُ أني لم أنجُ منه بشيءٍ أبدًا، فأجمعتُ صدقَه، فأصبح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا قدم من سفرٍ بدأ بالمسجد فصلَّى ركعتين ثم جلس للناس، فلمَّا فعل ذلك جاءه المتخلِّفون، فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعةً وثمانين رجلًا، فيقبل منهم رسولُ الله ﷺ علانيتهم، ويستغفر لهم، ويكل سرائرهم إلى الله تعالى، حتى جئتُ، فلمَّا سلَّمْتُ عليه تبسّم تبسّم المغضب، ثم قال لي: تعالَ، فجئتُ أمشي حتى جلستُ بين يديه، فقال لي: ما خلَّفك؟ ألم تكن قد اشتريتَ ظهرًا؟ فقلت: يا رسول الله، إني لو جلستُ عند غيرك من أهل الدنيا لرأيتُ أن أخرج من سخطه بعذرٍ، لقد أُعطيتُ جدلًا، ولكني والله لقد علمتُ لئن حدَّثتك اليوم بحديث كذبٍ ترضى به عني ليُوشكنَّ الله أن يسخطك عليَّ، ولئن حدَّثتُك بصدقٍ تجد عليَّ فيه، إني لأرجو عقبى ذلك من الله ، والله ما كان لي عذرٌ، والله ما كنتُ قطّ أفرغ ولا أيسر مني حين تخلّفتُ عنك.

قال: فقال رسولُ الله ﷺ: أمَّا هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي اللهُ فيك، فقمتُ، وقام إليَّ رجالٌ من بني سلمة واتَّبعوني، فقالوا لي: والله ما علمناك كنتَ أذنبتَ ذنبًا قبل هذا، ولقد عجزتَ إلا أن تكون اعتذرتَ إلى رسول الله ﷺ بما اعتذر به المتخلِّفون، فقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله ﷺ لك.

قال: فوالله ما زالوا يُؤنبوني حتى أردتُ أن أرجع فأُكذّب نفسي. قال: ثم قلتُ لهم: هل لقي معي هذا أحدٌ؟ قالوا: نعم، لقيه معك رجلان قالا مثلما قلتَ، وقيل لهما مثلما قيل لك. فقلتُ: فمَن هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العامري، وهلال بن أمية الواقفي. فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرًا، لي فيهما أسوة.

قال: فمضيتُ حين ذكروهما لي. قال: ونهى رسولُ الله ﷺ المسلمين عن كلامنا أيّها الثلاثة من بين مَن تخلَّف عنه، فاجتنبنا الناسُ وتغيَّروا لنا، حتى تنكّرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي كنتُ أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلةً.

فأمَّا صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأمَّا أنا فكنتُ أشدّ القوم وأجلدهم، فكنتُ أشهد الصَّلاة مع المسلمين، وأطوف بالأسواق فلا يُكلمني أحدٌ، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة فأُسلّم وأقول في نفسي: أحرّك شفتيه بردِّ السلام عليَّ أم لا؟ ثم أُصلِّي قريبًا منه، وأُسارقه النَّظر، فإذا أقبلتُ على صلاتي نظر إليَّ، فإذا التفتُّ نحوه أعرض عني، حتى إذا طال عليَّ ذلك من هجر المسلمين مشيتُ حتى تسوّرتُ حائط أبي قتادة، وهو ابن عمِّي، وأحبّ الناس إليَّ، فسلَّمتُ عليه، فوالله ما ردَّ عليَّ السلام، فقلتُ له: يا أبا قتادة، أنشدك الله: هل تعلم أني أُحبّ الله ورسوله؟ قال: فسكت. قال: فعدتُ له فنشدته، فسكت، فعدتُ له فنشدته، فسكت، فقال: الله ورسوله أعلم.

قال: ففاضت عيناي، وتوليتُ حتى تسوّرتُ الجدار، فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا أنا بنبطيٍّ من أنباط الشام ممن قدم بطعامٍ يبيعه بالمدينة، يقول: مَن يدلّ على كعب بن مالك؟ قال: فطفق الناسُ يُشيرون له إليَّ، حتى جاء فدفع إليَّ كتابًا من ملك غسان، وكنتُ كاتبًا، فإذا فيه: "أما بعد، فقد بلغنا أنَّ صاحبك قد جفاك، وإنَّ الله لم يجعلك في دار هوانٍ ولا مضيعةٍ، فالحق بنا نُواسيك". قال: فقلتُ حين قرأتُه: وهذا أيضًا من البلاء. قال: فتيممتُ به التنور فسجرته به، حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا برسول رسول الله ﷺ يأتيني يقول: يأمرك رسولُ الله ﷺ أن تعتزل امرأتك. قال: فقلتُ: أُطلِّقها، أم ماذا أفعل؟ فقال: بل اعتزلها ولا تقربها. قال: وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك.

قال: فقلتُ لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ما يشاء.

قال: فجاءت امرأةُ هلال بن أمية رسولَ الله ﷺ فقالت: يا رسول الله، إنَّ هلالًا شيخ ضعيف ليس له خادمٌ، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: لا، ولكن لا يقربنكِ، قالت: وإنَّه والله ما به من حركةٍ إلى شيءٍ، وإنَّه والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا.

قال: فقال لي بعضُ أهلي: لو استأذنتَ رسول الله ﷺ في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه. قال: فقلتُ: والله لا أستأذن فيها رسول الله ﷺ، وما أدري ما يقول فيها رسولُ الله ﷺ إذا استأذنته، وأنا رجلٌ شابٌّ.

قال: فلبثنا عشر ليالٍ، فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا.

قال: ثم صليتُ صلاةَ الصبح صباح خمسين ليلة على ظهر بيتٍ من بيوتنا، فبينا أنا جالسٌ على الحال التي ذكر الله تعالى منا: قد ضاقت عليَّ نفسي، وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت، سمعتُ صارخًا أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته: أبشر يا كعب بن مالك. قال: فخررتُ ساجدًا، وعرفتُ أن قد جاء الفرجُ من الله بالتوبة علينا، فآذن رسولُ الله ﷺ بتوبة الله علينا حين صلَّى الفجر، فذهب الناسُ يُبَشِّروننا، وذهب قبل صاحبي مُبَشِّرون، وركض إليَّ رجلٌ فرسًا، وسعى ساعٍ من أسلم وأوفى على الجبل، فكان الصوتُ أسرع من الفرس.

فلمَّا جاءني الذي سمعتُ صوته يُبَشِّرني نزعتُ له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك يومئذٍ غيرهما، واستعرتُ ثوبين فلبستُهما، وانطلقتُ أؤمّ رسول الله ﷺ، وتلقَّاني الناسُ فوجًا فوجًا يُهنِّئوني بتوبة الله، يقولون: "ليهنك توبة الله عليك" حتى دخلتُ المسجد، فإذا رسولُ الله ﷺ جالسٌ في المسجد والناس حوله، فقام إليَّ طلحةُ بن عبيدالله يُهرول حتى صافحني وهنَّأني، والله ما قام إليَّ رجلٌ من المهاجرين غيره. قال: فكان كعبٌ لا ينساها لطلحة.

قال كعب: فلمَّا سلَّمتُ على رسول الله ﷺ قال وهو يبرق وجهه من السُّرور: أبشر بخير يومٍ مرَّ عليك منذ ولدتك أمُّك، قال: قلتُ: أمن عندك يا رسول الله، أم من عند الله؟ قال: لا، بل من عند الله.

قال: وكان رسولُ الله ﷺ إذا سُرَّ استنار وجهه حتى كأنَّه قطعة قمرٍ، حتى يُعرف ذلك منه.

فلمَّا جلستُ بين يديه قلت: يا رسول الله، إنَّ من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسوله. قال: أمسك عليك بعض مالك، فهو خيرٌ لك، قال: فقلت: فإني أُمسك سهمي الذي بخيبر.

وقلت: يا رسول الله، إنما نجَّاني الله بالصّدق، وإنَّ من توبتي ألَّا أُحدّث إلا صدقًا ما بقيتُ.

قال: فوالله ما أعلم أحدًا من المسلمين أبلاه الله من الصّدق في الحديث منذ ذكرتُ ذلك لرسول الله ﷺ أحسن مما أبلاني الله تعالى، والله ما تعمّدتُ كذبةً منذ قلتُ ذلك لرسول الله ﷺ إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي.

قال: وأنزل الله تعالى: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ۝ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ۝ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ إلى آخر الآيات [التوبة:117-119].

قال كعب: فوالله ما أنعم اللهُ عليَّ من نعمةٍ قطّ بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله ﷺ يومئذٍ: ألا أكون كذبتُه فأهلك كما هلك الذين كذبوه، فإنَّ الله تعالى قال للذين كذبوه حين أنزل الوحي شرّ ما قال لأحدٍ، فقال الله تعالى: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ۝ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [التوبة:95-96].

قال: وكنا أيّها الثلاثة الذين خلفنا عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسولُ الله ﷺ حين حلفوا فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسولُ الله أمرنا حتى قضى اللهُ فيه، فلذلك قال : وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا، وليس تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا الذي ذكر مما خلفنا بتخليفنا عن الغزو، وإنما هو عمَّن حلف له واعتذر إليه فقبل منه.

هذا حديثٌ صحيحٌ ثابتٌ متَّفقٌ على صحَّته، رواه صاحبا "الصحيح": البخاري ومسلم، من حديث الزهري بنحوه، فقد تضمن هذا الحديثُ تفسير هذه الآية الكريمة بأحسن الوجوه وأبسطها.

وكذا رُوِيَ عن غير واحدٍ من السلف في تفسيرها: كما رواه الأعمشُ، عن أبي سفيان، عن جابر بن عبدالله في قوله تعالى: وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا قال: هم كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع. وكلهم من الأنصار.

وكذا قال مجاهد والضَّحاك وقتادة والسّدي وغير واحدٍ، وكلّهم قال: مرارة بن ربيعة. وكذا في مسلم: "ابن ربيعة" في بعض نسخه، وفي بعضها: مرارة بن الربيع.

وفي روايةٍ عن الضَّحاك: "مرارة بن الربيع" كما وقع في "الصحيحين"، وهو الصواب.

وقوله: فسمّوا رجلين شهدا بدرًا. قيل: إنَّه خطأ من الزهري؛ فإنَّه لا يُعرف شهود واحدٍ من هؤلاء الثلاثة بدرًا، والله أعلم.

ولما ذكر تعالى ما فرَّج به عن هؤلاء الثلاثة من الضيق والكرب من هجر المسلمين إياهم نحوًا من خمسين ليلة بأيامها، وضاقت عليهم أنفسُهم، وضاقت عليهم الأرضُ بما رحبت، أي: مع سعتها، فسدّت عليهم المسالك والمذاهب، فلا يهتدون ما يصنعون، فصبروا لأمر الله، واستكانوا لأمر الله، وثبتوا حتى فرّج اللهُ عنهم بسبب صدقهم رسول الله ﷺ في تخلّفهم، وأنَّه كان عن غير عذرٍ، فعُوقبوا على ذلك هذه المدّة، ثم تاب الله عليهم، فكان عاقبةُ صدقهم خيرًا لهم وتوبةً عليهم؛ ولهذا قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ أي: اصدقوا والزموا الصّدق تكونوا من أهله، وتنجوا من المهالك، ويجعل لكم فرجًا من أموركم ومخرجًا.

وقد قال الإمامُ أحمد: حدثنا أبو معاوية: حدثنا الأعمش، عن شقيق، عن عبدالله -هو ابن مسعودٍ - قال: قال رسولُ الله ﷺ: عليكم بالصّدق، فإنَّ الصّدق يهدي إلى البرِّ، وإنَّ البرَّ يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجلُ يصدق ويتحرى الصّدق حتى يُكتب عند الله صدِّيقًا، وإياكم والكذب، فإنَّ الكذبَ يهدي إلى الفجور، وإنَّ الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجلُ يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتب عند الله كذَّابًا. أخرجاه في "الصحيحين".

وقال شعبةُ: عن عمرو بن مُرّة: سمع أبا عبيدة يُحدِّث عن عبدالله بن مسعود أنَّه قال: الكذبُ لا يصلح منه جدٌّ ولا هزلٌ، اقرؤوا إن شئتم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ هكذا قرأها. ثم قال: فهل تجدون لأحدٍ فيه رُخصة؟

وعن عبدالله بن عمرو في قوله: اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ قال: مع محمدٍ ﷺ وأصحابه.

وقال الضَّحاك: مع أبي بكر وعمر وأصحابهما.

وقال الحسن البصري: إن أردتَ أن تكون مع الصَّادقين فعليك بالزهد في الدنيا، والكفّ عن أهل الملّة.

الشيخ: هذه القصّة ..... فيها الحثُّ على الصدق، وأنَّ عاقبته السَّعادة، وعاقبته الخير العظيم والنَّجاة، قال الله تعالى: قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [المائدة:119]، فالصّدق في الأعمال، والصّدق في الأقوال، وتحري الصّدق، والحذر من الكذب، نسأل الله السَّلامة والعافية.