تفسير قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ..}

وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ۝ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ۝ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [يونس:28-30].

يقول تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ أي: أهل الأرض كلّهم من جنٍّ وإنسٍ، وبرٍّ وفاجرٍ، كقوله: وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [الكهف:47].

ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا الآية، أي: الزموا أنتم وهم مكانًا مُعينًا امتازوا فيه عن مقام المؤمنين، كقوله تعالى: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس:59]، وقوله: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [الروم:14].

الشيخ: والحشر هو الجمع: وَحَشَرْنَاهُمْ يعني: جمعناهم، وهذا اليوم العظيم ينبغي للعاقل أن يجعله على باله، وأن يتذكر هذا الموقف العظيم، أنت محشورٌ ومجموعٌ مع الناس، ولا تدري: هل أنت مع الصَّالحين، أو مع الطَّالحين؟

فالواجب عليك يا عبدالله أن تعدّ لهذا اليوم عدّته من: طاعة الله، واتِّباع شريعته، وتعظيم أمره ونهيه، والحذر مما نهى عنه، مع العناية بصُحبة الأخيار؛ حتى تُحشر معهم، والحذر من صُحبة الأشرار: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ يعني: ميّزنا بينهم، وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ تبرأوا منهم، تبرأت منهم آلهتهم، ولا ينفع، هذا ما ينفعهم: لا هؤلاء، ولا هؤلاء، كلٌّ يتبرأ من صاحبه، لكن لا ينفع، الواجب البراءة اليوم، والحذر اليوم، هذا هو الذي ينفع: العمل في دار المهلة، دار العمل، أما دار الجزاء فما ينفع فيها التَّبرؤ، نسأل الله السَّلامة.

وفي الآية الأخرى: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الروم:43] أي: يصيرون صدعين، وهذا يكون إذا جاء الربُّ تبارك وتعالى لفصل القضاء؛ ولهذا قيل ذلك.

الشيخ: "ولهذا قبل ذلك" بالباء.

قارئ المتن: يقول في الحاشية: فيه بياضٌ في الأصل.

الشيخ: أيش عندكم؟

الطالب: كتب في الحاشية: ..... بياضٌ في المخطوطة، وحديث الاستشفاع أخرجه البخاري في تفسير سورة البقرة.

الشيخ: والنُّسخ الأخرى؟

الطالب: ...........

الشيخ: أيش بعده عندك؟

الطالب: فراغ، بارك الله فيكم.

ولهذا قيل ذلك.

الشيخ: "قبل ذلك" بالباء.

ولهذا قبل ذلك يستشفع المؤمنون إلى الله تعالى أن يأتي لفصل القضاء.

الشيخ: قبل مجيئه جلَّ وعلا، نعم.

ويُريحنا من مقامنا هذا.

الشيخ: وما ذاك إلا لأنَّ الكربَ يشتدّ عند اجتماعهم، يشتدّ الكرب، ويعظم العرق، والخوف يشتدّ؛ فلهذا يتقدّم الناسُ إلى آدم ليشفع، ثم يُحيلهم إلى نوحٍ، ثم يُحيلهم نوحٌ إلى إبراهيم، ثم يُحيلهم إبراهيمُ إلى موسى، ثم يُحيلهم موسى إلى عيسى، ثم يُحيلهم عيسى إلى محمدٍ عليه الصلاة والسلام، فعند هذا يتقدّم عليه الصلاة والسلام إلى ربِّه، ويسجد بين يدي العرش، بين يديه جلَّ وعلا، فيدعه ما شاء الله ساجدًا يحمد الله ويُثني عليه، ويفتح الله عليه من المحامد، ثم يُقال له: ارفع رأسك، وقل يُسمع، وسل تُعطه، واشفع تُشفّع، فيشفع في أهل الموقف حتى يُقضى بينهم، ثم يشفع في أهل الجنة فيدخلون الجنة، ثم له شفاعات أخرى عليه الصلاة والسلام.

وفي الحديث الآخر: نحن يوم القيامة على كومٍ فوق الناس.

وقال الله تعالى في هذه الآية الكريمة إخبارًا عمَّا يأمر به المشركين وأوثانهم يوم القيامة: مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ.

الشيخ: الذي يأمر، يعني: يأمر الله؛ إخبارًا عمَّا يأمر، يعني: يأمر الله: ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا، نعم.

مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ الآية، أنَّهم أنكروا عبادتهم، وتبرؤوا منهم، كقوله: كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ الآية [مريم:82]، وقوله: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [البقرة:166]، وقوله: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ۝ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً الآية [الأحقاف:5-6].

وقوله في هذه الآية إخبارًا عن قول الشُّركاء فيما راجعوا فيه عابديهم عند ادِّعائهم عبادتهم: فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الآية.

الشيخ: وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ يعني: آلهتهم قالت لهم. شُرَكَاؤُهُمْ آلهتهم، مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ، جحدوا، والله المستعان.

أي: ما كنا نشعر بها، ولا نعلم بها، وإنما كنتم تعبدوننا من حيث لا ندري بكم، والله شهيد بيننا وبينكم أنا ما دعوناكم إلى عبادتنا، ولا أمرناكم بها، ولا رضينا منكم بذلك.

وفي هذا تبكيتٌ عظيمٌ للمشركين الذين عبدوا مع الله غيره ممن لا يسمع، ولا يُبصر، ولا يُغني عنهم شيئًا.

الشيخ: كما قال في الآية الأخرى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ [البقرة:166].

ولم يأمرهم بذلك، ولا رضي به، ولا أراده، بل تبرأ منهم وقت أحوج ما يكونون إليه، وقد تركوا عبادة الحيّ القيوم، السَّميع البصير، القادر على كل شيءٍ، العليم بكل شيءٍ.

وقد أرسل رسله، وأنزل كتبه آمرًا بعبادته وحده لا شريكَ له، ناهيًا عن عبادة ما سواه، كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ [النحل:36]، وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، وقال: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف:45].

والمشركون أنواع وأقسام كثيرون، قد ذكرهم الله في كتابه، وبيّن أحوالهم وأقوالهم، وردّ عليهم فيما هم فيه أتمّ ردٍّ.

وقال تعالى: هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ أي: في موقف الحساب يوم القيامة تُختبر كل نفسٍ، وتعلم ما سلف من عملها من خيرٍ وشرٍّ، كقوله تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [الطارق:9]، وقال تعالى: يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [القيامة:13]، وقال تعالى: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ۝ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13-14].

وقد قرأ بعضُهم: هنالك تبلوا كل نفسٍ ما أسلفت، وفسَّرها بعضُهم بالقراءة، وفسَّرها بعضُهم بمعنى: تتبع ما قدمت من خيرٍ وشرٍّ، وفسَّرها بعضُهم بحديث: لتتبع كل أمَّةٍ ما كانت تعبد، فيتبع مَن كان يعبد الشمسَ الشمس، ويتبع مَن كان يعبد القمرَ القمر، ويتبع مَن كان يعبد الطَّواغيت الطواغيت الحديث.

وقوله: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أي: ورجعت الأمور كلّها إلى الله الحكم العدل، ففصلها، وأدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار.

وَضَلَّ عَنْهُمْ أي: ذهب عن المشركين مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ أي: ما كانوا يعبدون من دون الله افتراءً عليه.

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ۝ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ۝ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [يونس:31-33].

يحتجّ تعالى على المشركين باعترافهم بوحدانيته وربوبيته على وحدانية الآلهة، فقال تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أي: مَن ذا الذي ينزل من السَّماء ماء المطر، فيشقّ الأرض شقًّا بقُدرته ومشيئته، فيُخرج منها حَبًّا ۝ وَعِنَبًا وَقَضْبًا ۝ وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا ۝ وَحَدَائِقَ غُلْبًا ۝ وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [عبس:27-31]؟ أإلهٌ مع الله؟

فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ، أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ [الملك:21].

وقوله: أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ أي: الذي وهبكم هذه القوة السَّامعة، والقوة الباصرة، ولو شاء لذهب بها، ولسلبكم إياها، كقوله تعالى: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ الآية [الملك:23]، وقال: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ الآية [الأنعام:46].

وقوله: وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ أي: بقُدرته العظيمة، ومنّته العميمة، وقد تقدّم ذكر الخلاف في ذلك، وأنَّ الآية عامَّة لذلك كلِّه.

وقوله: وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي: مَن بيده ملكوت كل شيءٍ، وهو يُجير ولا يُجار عليه، وهو المتصرِّف الحاكم الذي لا مُعقّبَ لحكمه، ولَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]، يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29].

فالملك كله: العلوي والسُّفلي، وما فيهما من ملائكةٍ وإنسٍ وجانٍّ فقيرون إليه، عبيدٌ له، خاضعون لديه.

فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ أي: وهم يعلمون ذلك ويعترفون به.

فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ أي: أفلا تخافون منه أن تعبدوا معه غيره بآرائكم وجهلكم؟

وقوله: فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ الآية، أي: فهذا الذي اعترفتم بأنَّه فاعل ذلك كلّه هو ربّكم وإلهكم الحقّ الذي يستحقّ أن يُفرد بالعبادة.

فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ أي: فكل معبودٍ سواه باطلٌ، لا إله إلا هو، واحدٌ لا شريكَ له.

فَأَنَّى تُصْرَفُونَ أي: فكيف تُصرفون عن عبادته إلى عبادة ما سواه وأنتم تعلمون أنَّه الربّ الذي خلق كل شيءٍ، والمتصرف في كل شيءٍ؟!

وقوله: كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا الآية، أي: كما كفر هؤلاء المشركون، واستمرُّوا على شركهم وعبادتهم مع الله غيره، مع أنَّهم يعترفون بأنَّه الخالق، المتصرف في الملك وحده، الذي بعث رسله بتوحيده؛ فلهذا حقَّت عليهم كلمةُ الله أنَّهم أشقياء من ساكني النار، كقوله: قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [الزمر:71].

س: أحسن الله إليك، قوله: مَنْ يَرْزُقُكُمْ [يونس:31] دليل لتوحيد الربوبية يستلزم الألوهية؟

ج: هذا من أعظم الأدلة على توحيد الربوبية، نعم؛ لأنَّهم أقرُّوا بهذا، نعم.