يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [المائدة:106-108].
اشتملت هذه الآية الكريمة على حكمٍ عزيزٍ قيل: إنَّه منسوخ. رواه العوفي، عن ابن عباسٍ.
وقال حماد ابن أبي سليمان: عن إبراهيم: إنَّها منسوخة.
وقال آخرون -وهم الأكثرون- فيما قاله ابنُ جرير: بل هو مُحكم، ومَن ادَّعى نسخَه فعليه البيان.
فقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ هذا هو الخبر لقوله: شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ، فقيل: تقديره: شهادة اثنين، حُذف المضاف، وأُقيم المضاف إليه مقامه. وقيل: دلَّ الكلام على تقدير: أن يشهد اثنان.
وقوله تعالى: ذَوَا عَدْلٍ وصف الاثنين بأن يكونا عدلين.
وقوله: مِنْكُمْ أي: من المسلمين. قاله الجمهور.
قال علي ابن أبي طلحة: عن ابن عباسٍ في قوله: ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ قال: من المسلمين. رواه ابنُ أبي حاتم، ثم قال: ورُوي عن عبيدة، وسعيد بن المسيب، والحسن، ومجاهد، ويحيى بن يعمر، والسّدي، وقتادة، ومقاتل بن حيان، وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم، وغيرهم نحو ذلك.
قال ابنُ جرير: وقال آخرون غير ذلك: ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أي: من أهل الموصي. وذلك قول رُوي عن عكرمة، وعبيدة، وعدّة غيرهما.
وقوله: أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ قال ابنُ أبي حاتم: حدثنا أبي: حدثنا سعيد بن عون: حدثنا عبدالواحد بن زياد: حدثنا حبيب ابن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير قال: قال ابنُ عباسٍ في قوله: أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ قال: من غير المسلمين. يعني: أهل الكتاب.
ثم قال: ورُوي عن عبيدة، وشريح، وسعيد بن المسيب، ومحمد بن سيرين، ويحيى بن يعمر، وعكرمة، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والشَّعبي، وإبراهيم النَّخعي، وقتادة، وأبي مجلز، والسّدي، ومقاتل بن حيان، وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم، وغيرهم نحو ذلك.
وعلى ما حكاه ابنُ جرير، عن عكرمة وعبيدة في قوله: مِنْكُمْ أنَّ المراد من قبيلة الموصي، يكون المراد هاهنا: أو آخران من غيركم. أي: من غير قبيلة الموصي.
وروى ابنُ أبي حاتم مثله عن الحسن البصري والزهري رحمهما الله.
وقوله تعالى: إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي: سافرتم، فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ.
وهذان شرطان لجواز استشهاد الذّميين عند فقد المؤمنين: أن يكون ذلك في سفرٍ، وأن يكون في وصيةٍ، كما صرح بذلك شريح القاضي.
قال ابنُ جرير: حدثنا عمرو بن علي: حدثنا أبو معاوية ووكيع، قالا: حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن شريحٍ قال: لا تجوز شهادة اليهود والنَّصارى إلا في سفرٍ، ولا تجوز في سفرٍ إلا في الوصية.
ثم رواه عن أبي كريب، عن أبي بكر ابن عياش، عن أبي إسحاق السَّبيعي قال: قال شريح .. فذكر مثله.
وقد رُوي نحوه عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، وهذه المسألة من إفراده، وخالفه الثلاثةُ فقالوا: لا يجوز شهادة أهل الذّمة على المسلمين. وأجازها أبو حنيفة فيما بين بعضهم بعضًا.
وقال ابنُ جرير: حدثنا عمرو بن علي: حدثنا أبو داود: حدثنا صالح ابن أبي الأخضر، عن الزهري قال: مضت السنة أنَّه لا تجوز شهادة الكافر في حضرٍ ولا سفرٍ، إنما هي في المسلمين.
وقال ابنُ زيد: نزلت هذه الآية في رجلٍ تُوفي وليس عنده أحدٌ من أهل الإسلام، وذلك في أول الإسلام، والأرض حرب، والناس كفَّار، وكان الناسُ يتوارثون بالوصية، ثم نُسخت الوصية، وفُرضت الفرائض، وعمل الناسُ بها. رواه ابنُ جرير. وفي هذا نظرٌ، والله أعلم.
وقال ابنُ جرير: اختلف في قوله: شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ هل المراد به أن يُوصي إليهما، أو يُشهدهما؟ على قولين:
أحدهما: أن يُوصي إليهما، كما قال محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبدالله بن قسيط قال: سُئل ابن مسعودٍ عن هذه الآية، قال: هذا رجلٌ سافر ومعه مال، فأدركه قدرُه، فإن وجد رجلين من المسلمين دفع إليهما تركته، وأشهد عليهما عدلين من المسلمين. رواه ابنُ أبي حاتم، وفيه انقطاع.
والقول الثاني: أنهما يكونان شاهدين. وهو ظاهر سياق الآية الكريمة، فإن لم يكن وصي ثالث معهما اجتمع فيهما الوصفان: الوصاية والشَّهادة، كما في قصّة تميم الدَّاري وعدي بن بداء، كما سيأتي ذكرهما آنفًا، إن شاء الله، وبه التوفيق.
وقد استشكل ابنُ جرير كونهما شاهدين، قال: لأنَّا لا نعلم حكمًا يحلف فيه الشَّاهد. وهذا لا يمنع الحكم الذي تضمنته هذه الآية الكريمة، وهو حكمٌ مُستقلٌّ بنفسه، لا يلزم أن يكون جاريًا على قياس جميع الأحكام، على أنَّ هذا حكمٌ خاصٌّ، بشهادةٍ خاصَّةٍ، في محلٍّ خاصٍّ، وقد اغتفر فيه من الأمور ما لم يُغتفر في غيره، فإذا قامت قرينةُ الرِّيبة حلف هذا الشَّاهد بمقتضى ما دلَّت عليه هذه الآية الكريمة.
وقوله تعالى: تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ قال العوفي: عن ابن عباسٍ: يعني: صلاة العصر.
وكذا قال سعيد بن جبير، وإبراهيم النَّخعي، وقتادة، وعكرمة، ومحمد بن سيرين.
وقال الزهري: يعني: صلاة المسلمين.
وقال السدي: عن ابن عباسٍ: يعني: صلاة أهل دينهما.
ورُوي عن عبدالرزاق، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة.
وكذا قال إبراهيم، وقتادة، وغير واحدٍ.
والمقصود أن يُقام هذان الشَّاهدان بعد صلاةٍ اجتمع الناسُ فيها بحضرتهم: فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ أي: فيحلفان بالله إِنِ ارْتَبْتُمْ أي: إن ظهرت لكم منهما ريبة أنَّهما خانا أو غلَّا فيحلفان حينئذٍ بالله: لَا نَشْتَرِي بِهِ أي: بأيماننا. قاله مقاتل بن حيان، ثَمَنًا أي: لا نعتاض عنه بعوضٍ قليلٍ من الدنيا الفانية الزائلة، وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى أي: ولو كان المشهودُ عليه قريبًا لنا لا نُحابيه، وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ أضافها إلى الله تشريفًا لها، وتعظيمًا لأمرها.
وقرأ بعضُهم: ولا نكتم شهادة آلله مجرورًا على القسم. رواها ابنُ جرير، عن عامر الشَّعبي.
وحُكي عن بعضهم أنَّه قرأها: ولا نكتم شهادةً لله.
والقراءة الأولى هي المشهورة: إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ أي: إن فعلنا شيئًا من ذلك من تحريف الشَّهادة، أو تبديلها، أو تغييرها، أو كتمها بالكلية.
ثم قال تعالى: فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا أي: فإن اشتهر وظهر وتحقق من الشَّاهدين الوصيين أنَّهما خانا، أو غلَّا شيئًا من المال الموصَى به إليهما، وظهر عليهما بذلك: فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ، هذه قراءة الجمهور: اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ.
ورُوِيَ عن عليٍّ وأُبي والحسن البصري أنَّهم قرأوها: اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ.
وروى الحاكم في "المستدرك" من طريق إسحاق بن محمد الفروي، عن سليمان بن بلال، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عبيدالله ابن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب : أنَّ النبي ﷺ قرأ: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ، ثم قال: صحيحٌ على شرط مسلم، ولم يُخرجاه.
وقرأ بعضُهم -ومنهم ابن عباسٍ-: من الذين استحقّ عليهم الأولين.
وقرأ الحسنُ: من الذين استحقّ عليهم الأولان. حكاه ابنُ جرير.
فعلى قراءة الجمهور يكون المعنى بذلك: أي: متى تحقق ذلك بالخبر الصَّحيح على خيانتهما، فليقم اثنان من الورثة المستحقين للتركة، وليكونا من أولى مَن يرث ذلك المال: فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا أي: لقولنا "إنَّهما خانا" أحقّ وأصحّ وأثبت من شهادتهما المتقدّمة، وَمَا اعْتَدَيْنَا أي: فيما قلنا فيهما من الخيانة، إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي: إن كنا قد كذبنا عليهما.
وهذا التَّحليف للورثة والرجوع إلى قولهما والحالة هذه، كما يحلف أولياءُ المقتول إذا ظهر لوثٌ في جانب القاتل، فيُقسم المستحقّون على القاتل، فيُدفع برمّته إليهم، كما هو مُقرر في باب القسامة من الأحكام.
وقد وردت السنةُ بمثل ما دلَّت عليه هذه الآية الكريمة، فقال ابنُ أبي حاتم: حدثنا أبي: حدثنا الحسين بن زياد: حدثنا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن أبي النَّضر، عن باذان –يعني: أبا صالح.
الشيخ: "باذام" بالميم، الذي أعرف أنَّه بالميم: "باذام"، انظر "التقريب": أبو صالح باذام.
الطالب: باذام -بالذال المعجمة، ويُقال: آخره نون- أبو صالح، مولى أم هانئ، ضعيف، مُدلّس، من الثالثة. (الأربعة).
الشيخ: وعندك أنت بالميم؟ الشيخ عمر: باذام؟
قارئ المتن: بالنون، أحسن الله إليك.
الشيخ: بالنون، طيب، ما يُخالف.
مُداخلة: في "التقريب" قال: ويُقال بالنون. يقول: "باذام" بالميم، "باذام" بالذال المعجمة، ويُقال: آخره بالنون.
الشيخ: بالميم أول؟
الطالب: بالميم أول.
الشيخ: اختلف في اسمه، الأمر سهلٌ.
س: نُصوبه يا شيخ، أو نتركه كما هو؟
ج: ..... أيش الذي عندكم؟
الطالب: عندنا بالنون، وعند الأخ بالميم.
الشيخ: الأمر سهل، هو مشهورٌ بكُنيته: أبو صالح، نعم.
مولى أم هانئ بنت أبي طالب، عن ابن عباسٍ، عن تميم الدَّاري في هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ قال: برئ الناسُ منها غيري، وغير عدي بن بداء. وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشَّام قبل الإسلام، فأتيا الشَّام لتجارتهما، وقدم عليهما مولى لبني سهم يُقال له: بديل ابن أبي مريم بتجارةٍ، معه جام من فضةٍ يُريد به الملك، وهو أعظم تجارته، فمرض، فأوصى إليهما، وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله.
قال تميم: فلمَّا مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم، واقتسمناه أنا وعدي، فلمَّا قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا، وفقدوا الجام، فسألونا عنه، قلنا: ما ترك غير هذا، وما دفع إلينا غيره.
قال تميم: فلمَّا أسلمتُ بعد قدوم رسول الله ﷺ المدينة، تأثَّمت من ذلك، فأتيتُ أهله، فأخبرتهم الخبر، ودفعتُ إليهم خمسمئة درهم، وأخبرتهم أنَّ عند صاحبي مثلها، فوثبوا عليه، فأمرهم النبي أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه، فحلف، فنزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إلى قوله: فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا، فقام عمرو بن العاص ورجلٌ آخر منهم، فحلفا، فنزعت الخمسمئة من عدي بن بداء.
وهكذا رواه أبو عيسى الترمذي، وابن جرير، كلاهما عن الحسن بن أحمد ابن أبي شعيب الحرَّاني، عن محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، به، فذكره، وعنده: فأتوا به رسول الله ﷺ، فسألهم البينة، فلم يجدوا، فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه، فحلف، فأنزل الله هذه الآية إلى قوله: أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ، فقام عمرو بن العاص ورجلٌ آخر، فحلفا، فنزعت الخمسمئة من عدي بن بداء.
ثم قال: هذا حديثٌ غريبٌ، وليس إسناده بصحيحٍ، وأبو النَّضر الذي روى عنه محمد بن إسحاق هذا الحديث هو عندي محمد بن السَّائب الكلبي، يُكنى: أبا النَّضر، وقد تركه أهلُ العلم بالحديث، وهو صاحب التفسير، سمعتُ محمد بن إسماعيل يقول: محمد بن السَّائب الكلبي يُكنى: أبا النضر. ثم قال: ولا نعرف لأبي النَّضر رواية عن أبي صالح مولى أم هانئ.
وقد رُوي عن ابن عباسٍ شيء من هذا على الاختصار من غير هذا الوجه.
س: عندي "محمد بن سلمة"، وليس "محمد بن مسلمة"؟
ج: أي سند؟ أول السّند عندك؟
الشيخ: عندكم غيره؟
الطلاب: نفسه.
الشيخ: ماشٍ.
حدثنا سفيان بن وكيع: حدثنا يحيى بن آدم، عن ابن أبي زائدة، عن محمد ابن أبي القاسم، عن عبدالملك بن سعيد بن جبير، عن أبيه، عن ابن عباسٍ قال: خرج رجلٌ من بني سهم مع تميم الدَّاري وعدي بن بداء، فمات السَّهمي بأرضٍ ليس بها مسلم، فلمَّا قدما بتركته فقدوا جامًا من فضَّةٍ مخوصًا بالذهب، فأحلفهما رسولُ الله ﷺ، ووجد الجام بمكّة، فقيل: اشتريناه من تميم وعدي. فقام رجلان من أولياء السَّهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحقّ من شهادتهما، وأنَّ الجام لصاحبهم، وفيهم نزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ الآية.
وكذا رواه أبو داود، عن الحسن بن علي، عن يحيى بن آدم، به.
ثم قال الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ، وهو حديث ابن أبي زائدة، ومحمد ابن أبي القاسم كوفي، قيل: إنَّه صالح الحديث.
وقد ذكر هذه القصّة مُرسلةً غيرُ واحدٍ من التابعين، منهم: عكرمة، ومحمد بن سيرين، وقتادة، وذكروا أنَّ التَّحليف كان بعد صلاة العصر، رواه ابنُ جرير، وكذا ذكرها مُرسلةً مجاهد، والحسن، والضَّحاك، وهذا يدلّ على اشتهارها في السَّلف وصحّتها.
ومن الشواهد لصحّة هذه القصّة أيضًا ما رواه أبو جعفر ابن جرير: حدثني يعقوب: حدثنا هشيم قال: أخبرنا زكريا، عن الشَّعبي: أنَّ رجلًا من المسلمين حضرته الوفاةُ بدقوقا هذه، قال: فحضرته الوفاةُ ولم يجد أحدًا من المسلمين يُشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب. قال: فقدما الكوفة، فأتيا الأشعري –يعني: أبا موسى الأشعري - فأخبراه، وقدما الكوفة بتركته ووصيَّته، فقال الأشعري: هذا أمرٌ لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله ﷺ. قال: فأحلفهما بعد العصر بالله ما خانا، ولا كذبا، ولا بدّلا، ولا كتما، ولا غيّرا، وإنها لوصية الرجل وتركته. قال: فأمضى شهادتهما.
ثم رواه عن عمرو بن علي الفلاس، عن أبي داود الطيالسي، عن شعبة، عن مغيرة الأزرق، عن الشَّعبي: أنَّ أبا موسى قضى بدقوقا.
وهذان إسنادان صحيحان إلى الشَّعبي، عن أبي موسى الأشعري.
فقوله: "هذا أمرٌ لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله ﷺ" الظاهر -والله أعلم- أنَّه إنما أراد بذلك قصّة تميم وعدي بن بداء، وقد ذكروا أنَّ إسلام تميم بن أوس الدَّاري كان سنة تسعٍ من الهجرة، فعلى هذا يكون هذا الحكمُ مُتأخِّرًا، يحتاج مُدَّعي نسخه إلى دليلٍ فاصلٍ في هذا المقام، والله أعلم.
الشيخ: والأصل عدم النَّسخ، وهذا عند الضَّرورة، الأصل عدم النَّسخ، فإذا لم يتيسر إلا شاهدان كافران قُبلت شهادتهما مع اليمين، نعم.
س: قوله: يستحلف بما يعظم على أمر دينه؟
ج: لا، يستحلفان بالله جلَّ وعلا، نعم، لكن بعد العصر؛ لأنَّ بعد العصر اليمين فيها مُغلَّظة، نسأل الله العافية.
س: هذا لجميع الكفَّار، أو لأهل الكتاب فقط؟
ج: الآية عامَّة .....، لكن عند الضَّرورة إذا ما تيسر إلا هم .....
س: هذا في كل أنواع الشَّهادة؟
ج: هذا إذا وقع يقع في الغالب في بلاد الكفرة، كونه يموت وليس عنده أحدٌ يُشهد اثنين على تركته التي معه.
س: في غير الوصية؟
ج: هذه وصية منه، يقول: هذا مالي أُسلّمه لفلان وفلان عند موته، وليس عنده إلا رجلان من غير المسلمين، نعم.
س: يستحلف الكافر؟
ج: يُستحلفان، يُقسمان بالله أنَّهما ما غيّرا، ولا بدّلا، نعم.
س: أي مِلّة كانت؟
ج: نعم، هذا ظاهر النص، ظاهر القرآن العموم.
س: لو شهدا في قضية حدود .....؟
ج: هذه وردت في الوصية: إذا مات الإنسانُ في بلد الكفر، ولم يتيسر عنده مسلمون، أشهد اثنين ممن يحضرا عنده من الكفار؛ لأنَّ هذا خيرٌ من العدم.
س: يعني: في غير الوصية لا تجوز؟
ج: نعم، على نص الآية.
س: وصية الكافر؟
ج: إذا أوصى وأشهد تُنفذ وصيَّته.
س: إذا ادَّعى المسلم على اليهودي في أخذ مالٍ، ولم تكن للمسلم بينة، فهل يحلف اليهودي؟
ج: إيه، يحلف.
س: والمجوسي كذلك؟
ج: كلهم، كل مَن ادُّعي عليه يحلف: كافر، أو مسلم، مثلما حلَّف النبيُّ ﷺ خصم الأشعري بن قيس، قال: يا رسول الله، إنَّه كافر لا يُبالي. فبين له النبيُّ ﷺ.
س: عموم الكفَّار؟ حتى ولو كانا من الملاحدة؟
ج: ما حضر إلا هم، نعم.
وقال أسباط: عن السدي في: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ قال: هذا في الوصية عند الموت، يُوصي ويُشهد رجلين من المسلمين على ماله وما عليه. قال: هذا في الحضر، أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ في السفر، إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ هذا الرجل يُدركه الموتُ في سفره، وليس بحضرته أحدٌ من المسلمين، فيدعو رجلين من اليهود والنَّصارى والمجوس، فيُوصي إليهما، ويدفع إليهما ميراثه، فيقبلان به، فإن رضي أهلُ الميت الوصية، وعرفوا ما لصاحبهم، تركوهما، وإن ارتابوا رفعوهما إلى السُّلطان، فذلك قوله تعالى: تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ.
قال عبدُالله بن عباس : كأني أنظر إلى العلجين حتى انتهي بهما إلى أبي موسى الأشعري في داره، ففتح الصَّحيفة، فأنكر أهلُ الميت وخوَّنوهما، فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد العصر، فقلتُ: إنَّهما لا يُباليان صلاةَ العصر، ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما. فيُوقف الرَّجلان بعد صلاتهما في دينهما فيحلفان بالله: لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ أنَّ صاحبهم بهذا أوصى، وأنَّ هذه لتركته، فيقول لهما الإمامُ قبل أن يحلفا: إنَّكما إن كتمتُما أو خُنتما فضحتُكما في قومكما، ولم تجز لكما شهادة، وعاقبتُكما. فإذا قال لهما ذلك فـذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا. رواه ابنُ جرير.
س: الذين يقولون بالنَّسخ ما حُجّتهم؟
ج: ما أعلم دليلًا، نعم، هذه مسألة خاصَّة من النوادر، قد تقع، هذه من النَّوادر.
س: الحكمة في أنَّ الشهادة بعد صلاة العصر مُغلَّظة؟
ج: للحديث الصَّحيح؛ لأنها آخر النَّهار، بيّن النبي ﷺ في الحديث الصَّحيح ..... الحلف بعد العصر.
س: استشهاد الكافرين مع وجود المسلمين؟
ج: ما وُجد أحدٌ، حضره الموتُ وليس عنده أحدٌ.
وقال ابنُ جرير: حدثنا القاسم: حدثنا الحسين: حدثنا هشيم: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم وسعيد بن جبير: أنَّهما قالا في هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ الآية، قالا: إذا حضر الرجلَ الوفاةُ في سفرٍ فليُشهد رجلين من المسلمين، فإن لم يجد رجلين من المسلمين، فرجلين من أهل الكتاب، فإذا قدما بتركته، فإن صدّقهما الورثةُ قبل قولهما، وإن اتَّهموهما حلفا بعد صلاة العصر بالله ما كتمنا، ولا كذبنا، ولا خُنَّا، ولا غيّرنا.
وقال علي ابن أبي طلحة: عن ابن عباسٍ في تفسير هذه الآية: فإن ارتيب في شهادتهما استحلفا بعد العصر: بالله ما اشترينا بشهادتنا ثمنًا قليلًا. فإن اطّلع الأولياء على أنَّ الكافرين كذبا في شهادتهما قام رجلان من الأولياء فحلفا: بالله أنَّ شهادة الكافرين باطلة، وإنا لم نعتد. فذلك قوله تعالى: فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا. يقول: إن اطّلع على أنَّ الكافرين كذبا فآخران يقومان مقامهما. يقول: من الأولياء، فحلفا بالله أنَّ شهادة الكافرين باطلة، وإنا لم نعتد. فتُردّ شهادة الكافرين، وتجوز شهادة الأولياء.
وهكذا روى العوفي، عن ابن عباسٍ. رواهما ابنُ جرير.
وهكذا قرر هذا الحكم على مُقتضى هذه الآية غير واحدٍ من أئمة التَّابعين والسَّلف ، وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
وقوله: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أي: شرعية هذا الحكم على هذا الوجه المرضي من تحليف الشَّاهدين الذّميين واستريب بهما أقرب إلى إقامتهما الشَّهادة على الوجه المرضي.
وقوله: أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ أي: يكون الحاملُ لهم على الإتيان بها على وجهها هو تعظيم الحلف بالله، ومُراعاة جانبه وإجلاله، والخوف من الفضيحة بين الناس إن رُدَّت اليمين على الورثة، فيحلفون ويستحقّون ما يدعون؛ ولهذا قال: أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ، ثم قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ أي: في جميع أموركم، وَاسْمَعُوا أي: وأطيعوا، وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ أي: الخارجين عن طاعته ومُتابعة شريعته.