يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة:109].
هذا إخبارٌ عمَّا يُخاطب الله به المرسلين يوم القيامة عمَّا أُجيبوا به من أُممهم الذين أرسلهم إليهم، كما قال تعالى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف:6]، وقال تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92-93].
وقول الرسل: لَا عِلْمَ لَنَا قال مجاهد والحسن البصري والسّدي: إنما قالوا ذلك من هول ذلك اليوم.
قال عبدالرزاق: عن الثوري، عن الأعمش، عن مجاهد: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ فيفزعون، فيقولون: لَا عِلْمَ لَنَا. رواه ابنُ جرير، وابنُ أبي حاتم.
وقال ابنُ جرير: حدَّثنا ابنُ حميد: حدثنا حكام: حدثنا عنبسةُ قال: سمعتُ شيخًا يقول: سمعتُ الحسنَ يقول في قوله: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ الآية، قال: من هول ذلك اليوم.
وقال أسباط: عن السدي: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا ذلك أنَّهم نزلوا منزلًا ذهلت فيه العقول، فلمَّا سُئلوا: قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا، ثم نزلوا منزلًا آخر فشهدوا على قومهم. رواه ابنُ جرير.
ثم قال ابنُ جرير: حدثنا القاسم: حدثنا الحسين: حدثنا الحجاج، عن ابن جُريج: قوله: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ أي: ماذا عملوا بعدكم؟ وماذا أحدثوا بعدكم؟ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ.
وقال علي ابن أبي طلحة: عن ابن عباسٍ: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ يقولون للربِّ : لا علمَ لنا إلا علمٌ أنت أعلم به منا. رواه ابنُ جرير، ثم اختاره على هذه الأقوال الثلاثة، ولا شكَّ أنَّه قولٌ حسنٌ، وهو من باب التَّأدب مع الربِّ جلَّ جلاله، أي: لا علمَ لنا بالنسبة إلى علمك المحيط بكل شيءٍ، فنحن وإن كنا أجبنا وعرفنا مَن أجابنا، ولكن منهم مَن كنا إنما نطلع على ظاهره، لا علم لنا بباطنه، وأنت العليم بكل شيءٍ، المطلع على كل شيءٍ، فعلمنا بالنسبة إلى علمك كلا علمٍ، فإنَّك أنت علَّام الغيوب.
الشيخ: المقصود أنَّ هذا لا يُنافي قوله جلَّ وعلا: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [النساء:41]، هم يشهدون على أممهم أنَّهم بلَّغوهم، وأما الإحاطة بعلم الأمّة وما جرى فيها بعدهم فهذا إليه سبحانه: لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا [البقرة:32]، فهو الذي يعلم أحوالَ الأمم بالتَّفصيل، ومَن أجاب، ومَن لم يُجب، ومَن كان مُنافقًا، ومَن كان صادقًا، أما الرسل فيشهدون أنَّهم بلَّغوا: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا، فهم يشهدون أنهم بلَّغوهم، وأدّوا لهم رسالة ربهم، وأما تفصيل ما جرى، ومَن آمن، ومَن لم يؤمن، ومَن آمن بعد موتهم، كلّ هذا إليه ، نعم.
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ [المائدة:110-111].
يذكر تعالى ما امتنَّ به على عبده ورسوله عيسى ابن مريم مما أجراه على يديه من المعجزات الباهرات وخوارق العادات، فقال: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ أي: في خلقي إياك من أمٍّ بلا ذكرٍ، وجعلي إياك آيةً ودلالةً قاطعةً على كمال قُدرتي على الأشياء، وَعَلَى وَالِدَتِكَ حيث جعلتك لها برهانًا على براءتها مما نسبه الظَّالمون والجاهلون إليها من الفاحشة، إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ وهو جبريل ، وجعلتُك نبيًّا داعيًا إلى الله في صغرك وكبرك، فأنطقتك في المهد صغيرًا، فشهدت ببراءة أمِّك من كل عيبٍ، واعترفت لي بالعبودية، وأخبرت عن رسالتي إياك، ودعوت إلى عبادتي؛ ولهذا قال: تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا أي: تدعو إلى الله الناس في صغرك وكبرك، وضمن تُكَلِّمُ تدعو؛ لأنَّ كلامه الناس في كهولته ليس بأمرٍ عجيبٍ.
وقوله: وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [المائدة:110] أي: الخطّ والفهم، وَالتَّوْرَاةَ وهي المنزلة على موسى بن عمران الكليم، وقد يرد لفظ "التوراة" في الحديث ويُراد به ما هو أعمّ من ذلك.
وقوله: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي أي: تُصوّره وتُشكّله على هيئة الطَّائر بإذني لك في ذلك، فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي أي: فتنفخ في تلك الصُّورة التي شكّلتها بإذني لك في ذلك، فتكون طيرًا ذا روحٍ تطير بإذن الله وخلقه.
وقوله تعالى: وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي قد تقدّم الكلامُ عليه في سورة آل عمران بما أغنى عن إعادته.
وقوله: وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي أي: تدعوهم فيقومون من قبورهم بإذن الله وقُدرته وإرادته ومشيئته.
وقد قال ابنُ أبي حاتم: حدثنا أبي: حدثنا مالك بن إسماعيل: حدثنا محمد بن طلحة –يعني: ابن مصرف-، عن أبي بشر، عن أبي الهذيل قال: كان عيسى ابن مريم إذا أراد أن يُحيي الموتى صلَّى ركعتين، يقرأ في الأولى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك]، وفي الثانية: الم تَنْزِيلُ [السجدة]، فإذا فرغ منهما مدح الله وأثنى عليه، ثم دعا بسبعة أسماء: يا قديم، يا خفي، يا دائم، يا فرد، يا وتر، يا أحد، يا صمد. وكان إذا أصابته شديدةٌ دعا بسبعةٍ أخر: يا حيّ، يا قيوم، يا الله، يا رحمن، يا ذا الجلال والإكرام، يا نور السَّماوات والأرض وما بينهما، وربّ العرش العظيم، يا ربّ. وهذا أثرٌ عجيبٌ جدًّا.
مُداخلة: في نسخةٍ عندنا: وهذا أثرٌ عظيمٌ جدًّا.
الشيخ: "غريبٌ" أحسن، هذا من أخبار بني إسرائيل، لا يُعوّل عليه، تلقَّاه عن بني إسرائيل.
س: .............؟
ج: الخطّ: الكتاب، والحكمة: الفهم، البصيرة، العمل بالكتاب العظيم الذي يجمع اللهُ له المعاني العظيمة بكلمات قليلة.
س: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ نزلت في التوراة؟
ج: لا، هذا ما له أصل، هذا خبر إسرائيلي ما له أصل.
س: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا [آل عمران:46] ما فيه إشارة إلى نزوله في آخر الزمان؟
ج: نزوله في آخر الزمان بأدلةٍ أخرى، نعم.
س: .............؟
ج: الله أعلم، نعم.
وقوله تعالى: وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي: واذكر نعمتي عليك في كفِّي إياهم عنك حين جئتَهم بالبراهين والحجج القاطعة على نبوتك ورسالتك من الله إليهم، فكذَّبوك، واتَّهموك بأنَّك ساحر، وسعوا في قتلك وصلبك، فنجّيتُك منهم، ورفعتُك إليَّ، وطهّرتُك من دنسهم، وكفيتُك شرَّهم.
وهذا يدلّ على أنَّ هذا الامتنان كان من الله إليه بعد رفعه إلى السَّماء الدنيا.
الشيخ: قوله: "السَّماء الدنيا" غلط، والصواب: السماء الثانية، أمَّا الدنيا فلا، الدنيا فيها آدم، أما عيسى ويحيى ففي السَّماء الثَّانية.