باب إثم مَن قتل مُعاهدًا بغير جُرْمٍ
3166- حدثنا قيس بن حفص: حدثنا عبدالواحد: حدثنا الحسن بن عمرو: حدثنا مجاهد، عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي ﷺ قال: مَن قتل مُعاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عامًا.
الشيخ: المعاهد: هو الذي له ذِمَّة، سواء كان من أهل الجزية، أو من أهل الأمان والعهد من دون جزيةٍ؛ لأنه بالعهد عصم دمه وماله، فلا يجوز قتله حتى ينبذ إليه عهده؛ ولكون بعض الناس قد يتساهل بهذا، فجعل هذا الحديث العظيم مَن قتل مُعاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين خريفًا.
فالواجب على أهل الإسلام أن يحترموا العهود والمواثيق، وأن يُعطوها حقَّها، ولا يخفروها، نعم.
س: شاملٌ للذمي والمستأمَن؟
ج: عامٌّ، عامٌّ، يدخل في هذا قوله جلَّ وعلا: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ [التوبة:6]، وقال جلَّ وعلا: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ [الأنفال:58]، نعم.
س: ...............؟
ج: ولو، ما يجوز قتل المعاهد مطلقًا لأي أحدٍ من الناس.
س: في الشكل هنا: مَن قتل معاهدًا شكلها بكسر الهاء .....؟
ج: الأحسن "مُعاهَدًا"؛ لأنه مُعاهَدٌ من أهل الإسلام، ويجوز "مُعاهِدًا"؛ لأنه مُعاهَدٌ ومُعاهِدٌ .....، لكن بالفتح أظهر؛ لأن الذي عاهده هم أهل القوة وأهل السلطة، هم الذين عاهدوه، نعم.
س: العُمَّال يُعتبرون من أهل الذِّمة، العُمَّال الكفرة؟
ج: من أهل العهد والأمان، ما دخلوا إلا بعهدٍ وأمانٍ، نعم.
س: المسلمون في فلسطين قتلوا يهوديًّا .....؟
ج: هذه مسألةٌ ثانيةٌ، بينهم وبين اليهود حربٌ، ما بينهم وبين اليهود عهدٌ إلا في هذا الحكم الجديد مع ياسر عرفات، وهذا محل نظرٍ، والواجب عليهم الالتزام بالصلح الذي جرى بين ياسر واللجنة الفلسطينية، والأقرب -والله أعلم- أنه ما يجوز لهم؛ لأنه الآن عاهدهم -الذي هو ياسر عرفات- وهذه التي يُقال لها "جماعة حماس" تزعم أنها غير داخلةٍ في عهد ياسر، وهو محل نظرٍ، هذا محل نظرٍ، الله يكفينا شرَّهم، ويهدي الجميع.
س: لكن العمليات الفدائية هل لها أصلٌ في الإسلام؟
ج: إذا كان مع حربيين، كون الإنسان يُغامر ويُقاتل مع الحربي ..... مثلما يُبارز، ومثلما يدخل الصفوف ويقاتل، ومثلما يتحرى بعض رؤساء الكفرة ليهجم عليهم، مثلما هجم الأنصاريان على أبي جهل.
س: لكن كونه يضع قنابل في جسمه؟
ج: لا يقتل نفسه، لا يقتل نفسه، الذي يظهر لنا أنه لا يقتل نفسه، لا يتعمد قتل نفسه، لكن يُهاجم ويُغامر، وقد ينجو، وقد لا ينجو.
س: بعض الناس يقتلون المعاهد في بلده، باعتبار أن دولته حربيةٌ؛ فينتقمون من دولته .....؟
ج: المعاهَد لا يُقتل ولو كانت دولته حربيةً، إذا أدخلوه في العهد لا يُقتل، ويردونه إلى بلاده، إلى مأمنه.
باب إخراج اليهود من جزيرة العرب
وقال عمر: عن النبي ﷺ: أُقِرُّكم ما أقرَّكم الله به.
3167- حدثنا عبدالله بن يوسف: حدثنا الليث، قال: حدثني سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: بينما نحن في المسجد خرج النبي ﷺ فقال: انطلقوا إلى يهود، فخرجنا حتى جئنا بيت المدراس، فقال: أسلموا تسلموا، واعلموا أن الأرض لله ورسوله، وإني أريد أن أجليكم من هذه الأرض، فمَن يجد منكم بماله شيئًا فليبعه، وإلا فاعلموا أن الأرض لله ورسوله.
3168- حدثنا محمد: حدثنا ابن عيينة، عن سليمان بن أبي مسلم الأحول، سمع سعيد بن جبير، سمع ابن عباسٍ رضي الله عنهما يقول: يوم الخميس، وما يوم الخميس؟! ثم بكى حتى بَلَّ دمعُه الحصى، قلت: يا أبا عباس، ما يوم الخميس؟ قال: اشتد برسول الله ﷺ وجعه، فقال: ائتوني بكتفٍ أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده أبدًا، فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبيٍّ تنازعٌ، فقالوا: ما له؟! أهجر؟! استفهموه، فقال: ذروني، فالذي أنا فيه خيرٌ مما تدعونني إليه، فأمرهم بثلاثٍ، قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنتُ أُجيزهم، والثالثة إما أن سكت عنها، وإما أن قالها فنسيتها. قال سفيان: هذا من قول سليمان.
مداخلة: عندي: والثالثة خير: إما أن سكت عنها .....
الشيخ: والثالثة أيش؟
القارئ: والثالثة إما أن سكت عنها.
الشيخ: نعم، نعم، "خير" ما لها محلٌّ.
وهذا يدل على أن الواجب إخراج الكفرة من هذه الجزيرة، فالنبي ﷺ أوصى بإخراجهم، وكان إقراره لليهود قبل أن يوحي الله إليه بهذا الأمر؛ ولهذا قال: أُقرُّكم ما أقرَّكم الله، فاستقرت الشريعة على أن هذه الجزيرة تبقى لأهل الإسلام، لا يجتمع فيها دينان، فالواجب ألا يُقرَّ فيها دينٌ آخر، لكن إذا دخل لحاجةٍ: رسولٌ لدولته، أو لبيع شيءٍ ويخرج، أو ما أشبه من الحاجات التي ليس معها إقامةٌ، إنما إقامةٌ مُؤقتةٌ: ثلاثة أيام، أو نحوها؛ لا بأس، نعم.
س: الرسول ﷺ قال: وإني أريد أن أجليكم، ولم يُجلهم؟
ج: بلى، أجلاهم، أجلى بني النضير لما خانوا، لكن عاهد بني قريظة، فلما نقضوا العهد مع قريشٍ لما جاءوا يوم الأحزاب قتلهم على حكم سعدٍ، أما بنو النضير فأُجلوا.
س: هذا في يهود خيبر، أحسن الله إليك؟
ج: كأنهم؛ لأنهم ما فعلوا شيئًا، بقوا على عهدهم، أما بنو النضير فهَمُّوا بقتل الرسول ﷺ، نقضوا العهد وخانوا.
س: ................؟
ج: نعم، أقرَّهم عُمَّالًا، فأجلاهم عمر .
الشيخ: ما وضَّح الشارح أن المقصود بنو النضير، أو العيني؟
القارئ: تكلم عن الإجلاء.
الشيخ: نعم.
القارئ: هو طرفٌ من قصة أهل خيبر، وقد تقدم موصولًا في "المزارعة" مع الكلام عليه، ثم ذكر فيه حديثين:
أحدهما: حديث أبي هريرة من قوله ﷺ لليهود: أسلموا تسلموا، وسيأتي بأتم من هذا السياق في كتاب "الإكراه"، وفي "الاعتصام".
ولم أرَ مَن صرَّح بنسب اليهود المذكورين، والظاهر أنهم بقايا من اليهود تأخَّروا بالمدينة بعد إجلاء بني قينقاع وقريظة والنضير والفراغ من أمرهم؛ لأنه كان قبل إسلام أبي هريرة، وإنما جاء أبو هريرة بعد فتح خيبر، كما سيأتي بيان ذلك كله في "المغازي"، وقد أقرَّ النبي ﷺ يهود خيبر على أن يعملوا في الأرض كما تقدم، واستمروا إلى أن أجلاهم عمر.
ويحتمل -والله أعلم- أن يكون النبي ﷺ بعد أن فتح ما بقي من خيبر هَمَّ بإجلاء مَن بقي ممن صالح من اليهود، ثم سألوه أن يُبقيهم ليعملوا في الأرض؛ فبقَّاهم، أو كان قد بقي بالمدينة من اليهود المذكورين طائفةٌ استمروا فيها مُعتمدين على الرضا بإبقائهم للعمل في أرض خيبر، ثم منعهم النبي ﷺ من سُكنى المدينة أصلًا -والله أعلم- بل سياق كلام القرطبي في "شرح مسلم" يقتضي أنه فهم أن المراد بذلك بنو النضير، ولكن لا يصح ذلك؛ لتقدمه على مجيء أبي هريرة، وأبو هريرة يقول في هذا الحديث أنه كان مع النبي ﷺ.
و"بيت المدراس" -بكسر أوله- هو البيت الذي يُدرس فيه كتابهم، أو المراد بالمدراس: العالم الذي يدرس كتابهم، والأول أرجح؛ لأن في الرواية الأخرى: "حتى أتى المدراس".
وقوله: أسلموا تسلموا من الجناس الحسن؛ لسهولة لفظه، وعدم تكلفه، وقد تقدم نظيره في كتاب هرقل: أسلم تسلم.
وقوله: اعلموا جملة مُستأنفة، كأنهم قالوا في جواب قوله: أسلموا تسلموا: لِمَ قلتَ هذا وكررتَه؟! فقال: اعلموا أني أريد أن أجليكم، فإن أسلمتم سلمتم من ذلك ومما هو أشقُّ منه.
الشيخ: هذا الذي ذكره المؤلف واضحٌ؛ لأنه يرد على أصل بني النضير وبني قينقاع الراوي أبو هريرة؛ لأن أبا هريرة إنما أسلم عام خيبر، وقد أجلى بني النضير وبني قينقاع بعد ذلك، وهكذا قتل قريظة يوم الخندق، يوم الأحزاب، قبل خيبر، فلعل هذا الذي جرى في حضرة أبي هريرة، لعلهم بقايا بقوا في المدينة لأسبابٍ بقيت منهم، ثم أتاهم النبي ﷺ وأخبرهم أنه سوف يُجليهم، لعلهم بقايا بقيت بإذنٍ منه ﷺ لأسبابٍ، ثم أتاهم وقال لهم ما قال؛ لأن إسلام أبي هريرة عام خيبر بلا شكٍّ، وقد سبقه إجلاء بني النضير وبني قينقاع، وقتل بني قريظة، كل هذا قبل خيبر.
أيش قال العيني؟ ما تكلم بشيءٍ؟ ما تعرض لشيءٍ؟
الطالب: قال هنا: وامتحن مع بني النضير حين أرادوا الغدر به، وأن يُلقوا عليه حجرًا، فأمره الله بإجلائهم وإخراجهم، وترك سائر اليهود، وكان يرجو أن يُحقق الله رغبته في إبعاد اليهود عن جواره، فلم يُوحَ إليه في ذلك شيءٌ إلى أن حضرته الوفاة، فأُوحي إليه فيه، فقال: لا يبقين دينان بأرض العرب، وأوصى بذلك عند موته، فلما كان في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه قال: مَن كان عنده عهدٌ من رسول الله ﷺ فليأتِ به، وإلا فإني مُجليكم. فأجلاهم.
الطالب: ثم ذكر هنا في آخر الكلام على الحديث: وقال المهلب: إنما أمر بإخراجهم خوف التدليس منهم، وأنهم متى رأوا عدوًّا قويًّا صاروا معه، كما فعلوا برسول الله ﷺ يوم الأحزاب.
وقال الطبري: فيه من الفقه: أن الشارع بيَّن لأمته المؤمنين إخراج كل مَن دان بغير دين الإسلام من كل بلدةٍ للمسلمين، سواءٌ كانت تلك البلدة من البلاد التي أسلم أهلها عليها، أو من بلاد العنوة؛ إذا لم يكن للمسلمين بهم ضرورةٌ إليهم، مثل: كونهم عُمَّارًا لأراضيهم، ونحو ذلك.
فإن قلت: كان هذا خاصًّا بمدينة رسول الله ﷺ وسائر جزيرة العرب، دون سائر بلاد الإسلام؛ إذ لو كان الكل في الحكم سواءً لكان ﷺ بيَّن ذلك.
قلت: قد ذكرنا أنه إذا كان للمسلمين ضرورةٌ إليهم لا يُتعرض لهم، ألا يرى أنه ﷺ أقرَّ يهود خيبر بعد قهر المسلمين إياهم لإعمار أرضها للضَّرورة؟ وكذلك فعل الصديق رضي الله تعالى عنه في يهود خيبر ونصارى نجران، وكذلك فعل عمر رضي الله تعالى عنه بنصارى الشام، فإنه أقرَّهم للضرورة إليهم في عمارة الأرضين؛ إذ كان المسلمون مشغولين بالجهاد.
الشيخ: هذا ليس بجيدٍ، وإنما الكلام يختص بالجزيرة خاصةً، الرسول ﷺ أمر بإخراجهم من الجزيرة، ما هو من كل البلاد، في البلاد الأخرى يُقرون بالجزية: في الشام، والعراق، وغير ذلك، إنما هذا البحث يختص بالجزيرة.
س: يحتمل هذا على البقايا .....؟
ج: يحتمل أنها بقايا شهدها أبو هريرة.
باب إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يُعفى عنهم؟
3169- حدثنا عبدالله بن يوسف: حدثنا الليث، قال: حدثني سعيد بن أبي سعيدٍ المقبري، عن أبي هريرة قال: لما فُتحت خيبر أُهديت للنبي ﷺ شاةٌ فيها سمٌّ، فقال النبي ﷺ: اجمعوا إليَّ مَن كان هاهنا من يهود، فجُمعوا له، فقال: إني سائلكم عن شيءٍ، فهل أنتم صادقي عنه؟ فقالوا: نعم. قال لهم النبي ﷺ: مَن أبوكم؟ قالوا: فلان. فقال: كذبتم، بل أبوكم فلان، قالوا: صدقت. قال: فهل أنتم صادقي عن شيءٍ إن سألتُ عنه؟ فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبنا عرفتَ كذبنا كما عرفتَه في أبينا. فقال لهم: مَن أهل النار؟ قالوا: نكون فيها يسيرًا، ثم تخلفونا فيها.
الشيخ: نسأل الله العافية.
القارئ: فقال النبي ﷺ: اخسؤوا فيها، والله لا نخلفكم فيها أبدًا، ثم قال: هل أنتم صادقي عن شيءٍ إن سألتُكم عنه؟ فقالوا: نعم يا أبا القاسم. قال: هل جعلتم في هذه الشاة سُمًّا؟ قالوا: نعم. قال: ما حملكم على ذلك؟ قالوا: أردنا إن كنتَ كاذبًا نستريح، وإن كنتَ نبيًّا لم يضرك.
الشيخ: نعم، نسأل الله العافية، لا ينتهي خبثُهم وشرُّهم، وعداوتهم لا تنتهي، يقول سبحانه: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة:82]، نسأل الله العافية.
س: اليهودي الذي قال لعمر : لو علينا نزلت: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3] كيف دخل إلى عمر؟
ج: لعل له أسبابًا، جاء رسولًا، أو لأسبابٍ أخرى.
أقول: لعله قدم لأسبابٍ؛ لأنهم يأتون المدينة بميرةٍ، ويأتون بغير ذلك ويرجعون، نعم.
باب دعاء الإمام على مَن نكث عهدًا
3170- حدثنا أبو النعمان: حدثنا ثابت بن يزيد: حدثنا عاصم، قال: سألتُ أنسًا عن القنوت، قال: قبل الركوع. فقلت: إن فلانًا يزعم أنك قلت: بعد الركوع؟! فقال: كذب. ثم حدثنا عن النبي ﷺ أنه قنت شهرًا بعد الركوع يدعو على أحياء من بني سليم. قال: بعث أربعين -أو سبعين، يشك فيه- من القُرَّاء إلى أناسٍ من المشركين، فعرض لهم هؤلاء فقتلوهم، وكان بينهم وبين النبي ﷺ عهدٌ، فما رأيته وجد على أحدٍ ما وجد عليهم.
الشيخ: هذا ورد عن أنسٍ، هذا وهذا، وحمله ابن القيم -رحمه الله- قال: لعل مُراده طول القيام، والأحاديث الصحيحة الكثيرة كلها فيها القنوت بعد الركوع: حديث ابن عمر وغيره.
فالأفضل أن يكون القنوت بعد الركوع، أما هذه الرواية: إما نسيانٌ من أنسٍ ، أو المراد من أنسٍ طول القيام للقراءة قبل الركوع؛ لأن طول القيام يُسمَّى: قنوتًا، كما في الحديث: أفضل الصلاة طول القنوت يعني: طول القيام، نعم.
باب أمان النساء وجوارهن
3171- حدثنا عبدالله بن يوسف: أخبرنا مالك، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيدالله: أن أبا مرة مولى أم هانئ بنت أبي طالب أخبره: أنه سمع أم هانئ بنت أبي طالب تقول: ذهبتُ إلى رسول الله ﷺ عام الفتح فوجدتُه يغتسل، وفاطمة ابنته تستره، فسلَّمتُ عليه، فقال: مَن هذه؟ فقلت: أنا أم هانئ بنت أبي طالب. فقال: مرحبًا بأم هانئ، فلما فرغ من غسله قام فصلَّى ثماني ركعاتٍ مُلتحفًا في ثوبٍ واحدٍ، فقلت: يا رسول الله، زعم ابنُ أمي علي أنه قاتلٌ رجلًا قد أجرتُه: فلان بن هبيرة. فقال رسول الله ﷺ: قد أجرنا مَن أجرتِ يا أم هانئ، قالت أم هانئ: وذلك ضُحًى.
الشيخ: وهذه عند أهل العلم صلاة الضحى، وكان النبي ﷺ يُصلي الضحى بعض الأحيان، وقال بعضهم: إنها صلاة الفتح؛ شكرًا لله.
وبكل حالٍ فهي ثماني ركعاتٍ، صلَّاها ضُحًى يوم الفتح، فيُقال عنها: صلاة الضحى، ويقال عنها: صلاة شكرٍ لله لما فتح الله عليه مكة.
قالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي يُصلي الضحى أربعًا، ويزيد ما شاء الله.
وأوصى أبا هريرة وأبا الدَّرداء بصلاة الضحى عليه الصلاة والسلام، وأوصى بها في حديث أبي ذرٍّ أيضًا، رواه مسلمٌ، وقال: على كل سُلَامَى من الناس صدقةٌ، فكل تسبيحةٍ صدقةٌ، وكل تهليلةٍ صدقةٌ، وكل تحميدةٍ صدقةٌ، وكل تكبيرةٍ صدقةٌ، وأمرٌ بالمعروف صدقةٌ، ونهيٌ عن المنكر صدقةٌ، قال: ويكفي من ذلك ركعتان تركعهما من الضُّحى.
فصلاة الضحى سنةٌ مُؤكدةٌ، أقلها ركعتان، وجاء في رواية أبي داود وابن خزيمة: أنه ﷺ حين صلى الضحى ثمانٍ سلَّم من كل ركعتين. ولكن في سندها بعض اللِّين، لكنها تتأيَّد -هذه الرواية- بقوله ﷺ: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، هذا يُؤيد أنه لم يسردها، وإنما يُسلم من كل ركعتين، نعم.
س: وأكثرها ثمانٍ، سلَّمك الله؟
ج: لا حدَّ لها، له أن يُصلي مئةً، لكن بعض الفقهاء قال: أكثرها ثمانٍ. ولكن ما عليه دليلٌ، وجاء في بعض الروايات: أنه صلَّى اثنتي عشرة. ولكن في سندها ضعفٌ.
والحاصل أنها ليس لها حدٌّ محدودٌ؛ ولهذا قال ﷺ في حديث عمرو بن عبسة في "صحيح مسلم": فإذا ارتفعت قيد رمحٍ فصلِّ، فإن الصلاة محفوظةٌ، مشهودةٌ حتى يقف الظلُّ يعني: إلى قيام الشمس، إلى وقوف الشمس، كل ضُحًى محل صلاةٍ، يُصلي فيه ما يسَّر الله له: ثنتين، أربعًا، ستًّا، ثمانٍ، عشرًا، أو أكثر، ما في حدٌّ محدودٌ، لكن أقلها ركعتان. نعم.
وفي هذا من الفوائد: أن المرأة إذا أجارت يُجار مَن أجارت حتى يُردَّ إلى مأمنه، كما أجارت أم هانئ بعض أحمائها، فأجارهم النبي ﷺ، وهذا معنى قوله ﷺ: ذمة المسلمين واحدةٌ، يسعى بها أدناهم، فلا يجوز قتله بعدما أجاره أحد المسلمين حتى يُردَّ إلى مأمنه.
الشيخ: هذا وعيدٌ عظيمٌ يدل على وجوب الحذر من إخفار المسلم، ويدل على وجوب الحذر من الإحداث في المدينة، وهذا يشمل البدع والمعاصي، هذا وعيدٌ عظيمٌ، ومكة أعظم، فالواجب الحذر، الواجب على سكان المدينة وسكان مكة أن يكون حذرهم أشد من غيرهم من المعاصي والمخالفات والبدع؛ لقوله: فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا، هذا وعيدٌ عظيمٌ. نعم.
س: المقصود بإيواء المحدِث؟
ج: نصره، يعني: حمايته ممن يُقيم عليه الحد، هذا مُحْدِثٌ، وإن كانت بدعة، يُروى: مُحْدِثًا، يعني: بدعة، فلا يجوز إيواء البدع، ولا يجوز إيواء المحدِثين، ولا يجوز نصرهم، بل يجب أن تُقام عليهم حدود الله، فمَن آواهم وحماهم فعليه هذا الوعيد، نسأل الله العافية.
باب إذا قالوا: صبأنا، ولم يُحسنوا: أسلمنا
وقال ابن عمر: فجعل خالدٌ يقتل، فقال النبي ﷺ: أبرأ إليك مما صنع خالد.
وقال عمر: إذا قال: مترس، فقد آمنه، إن الله يعلم الألسنة كلها. وقال: تكلم لا بأس.
الشيخ: المقصود أنه تُؤخذ معاني لغاتهم ويُعمل بها، وإن كانت غير عربيةٍ، لا يُستعجل في قتلهم إذا أسلموا، والواجب التثبت، فإذا أعلنوا ما يدل على إسلامهم وجب الكفُّ عنهم بأي لغةٍ كانت، ولما أخطأ خالدٌ في فهم لغتهم وقتلهم تبرأ النبيُّ ﷺ من ذلك، وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالدٌ، وفداهم.