باب هيئات السجود وكيف الهوي إليه

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على قائد الغُر المحجلين نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلًا ومرحبًا بحضراتكم إلى درسٍ مباركٍ من دروس "المنتقى".

ضيفنا في هذا الدرس هو سماحة العلامة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، المفتي العام للمملكة العربية السعودية، ورئيس هيئة كبار العلماء.

مع مطلع هذا اللِّقاء نُرحب بسماحة الشيخ، فأهلًا ومرحبًا يا سماحة الشيخ.

الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم.

المقدم:

بَابُ هَيْئَاتِ السُّجُودِ وَكَيْفَ الْهَوِيُّ إلَيْهِ

- وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ إذا سَجَدَ وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ، وَإِذَا نَهَضَ رَفَعَ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا أَحْمَدَ.

- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَبْرُكْ كَمَا يَبْرُكُ الْبَعِيرُ، وَلْيَضَعْ يَدَيْهِ ثُمَّ رُكْبَتَيْهِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ.

وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: حَدِيثُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَثْبَتُ مِنْ هَذَا.

- وَعَنْ عَبْدِاللَّهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذَا سَجَدَ يُجَنِّحُ فِي سُجُودِهِ حَتَّى يُرَى وَضَحُ إبِطَيْهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

- وَعَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ، وَلَا يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.

- وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ فِي صِفَةِ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إذَا سَجَدَ فَرَّجَ بَيْنَ فَخِذَيْهِ، غَيْرَ حَامِلٍ بَطْنَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَخِذَيْهِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

- وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ إذَا سَجَدَ أَمْكَنَ أَنْفَهُ وَجَبْهَتَهُ مِنَ الْأَرْضِ، وَنَحَّى يَدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.

أما بعد: فهذه الأحاديث كلها تدل على شرعية تقديم الركبتين قبل اليدين في حال السجود، وأنه ﷺ كان إذا هوى لسجوده كبَّر وقدَّم ركبتيه على يديه، هذا هو السنة، كما في حديث وائل.

وأما في حديث أبي هريرة: لا يسجد أحدُكم كما يسجد البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه، فهذا الحديث حصل به انقلاب، وصوابه: "وليضع ركبتيه قبل يديه"؛ حتى لا يُشابه البعير؛ لأنَّ البعير يضع يديه قبل ركبتيه، يعني: يضع يديه قبل رجليه.

فالسنة للمؤمن في سجوده أن يهوي مُكبرًا، ويبدأ بركبتيه، يعتمد عليهما، ثم يديه، ثم جبهته وأنفه، كما كان النبي يفعل عليه الصلاة والسلام؛ حتى لا يُشابه البعير، إلا من عذرٍ، إذا كان هناك عذر يشقّ عليه تقديم ركبته فلا بأس أن يُقدم يديه للعذر.

والسنة أيضًا أن يُجافي عضديه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه، كما كان النبيُّ يفعل عليه الصلاة والسلام، فيضع كفَّيه على الأرض، ويرفع ذراعيه، ويُجافي عضديه عن جنبيه، كما كان النبيُّ عليه الصلاة والسلام يفعل، وإذا ركع سوَّى ظهره، ووضع يديه على ركبتيه ..... ظهره، ولم يتساهل في هذا، بل يفعل كما فعل النبيُّ ﷺ: يضع ركبتيه، ويُسوي رأسه مع ظهره حال ركوعه، وإذا سجد وضع يديه حيال منكبيه، وربما وضعهما ﷺ حيال أذنيه في بعض الأحيان عليه الصلاة والسلام، كل هذا من السنة.

س: أحسن الله إليكم، قال الترمذي: حديث وائل بن حجر حديث حسن غريب. نرجو شرح هذا الحكم؟

الشيخ: حديث وائل لا بأس به، وإن كان في سنده شريح القاضي، لكن لا بأس به، هو أحسن من حديث أبي هريرة؛ لأنَّ حديث أبي هريرة فيه بعض الانقلاب، والصواب أنَّ حديث أبي هريرة موافق لحديث وائل، فالمعنى واحد، وأن السنة البداءة بالركبتين ثم اليدين، إلا من عذرٍ، إذا كان هناك عذر بدأ بيديه.

س: بالنسبة للهوي إلى السجود هل يُقدم الرِّجلين أم اليدين؟

الشيخ: يُقدم ركبتيه قبل يديه، هذا هو الأفضل، يسجد على ركبتيه ثم يديه ثم جبهته وأنفه.

س: بالنسبة للحكم هل يختلف بين كبير السن والشَّاب؟

الشيخ: الحكم واحد إلا مَن عجز، مَن عجز لا بأس أن يُقدم يديه؛ لكبر سنِّه أو مرضٍ.

س: في "صحيح مسلم": نهى ﷺ أن يفترش الرجلُ ذراعيه، ما هو الافتراش؟ وما حكمه؟

الشيخ: يضع يديه على الأرض، السنة أن يعتمد على الكفَّين ويرفع ذراعيه ولا يفترشهما؛ لقوله ﷺ: ضع كفَّيك، وارفع مرفقيك، فإذا سجد اعتمد على كفَّيه ورفع ذراعيه ولم يبسطهما على الأرض، هذا هو السنة.

س: وبالنسبة إلى ضم اليد أثناء السجود؟

الشيخ: كل يدٍ حيال منكبٍ، أو حيال الأذن حال السجود، حيال منكبيه، أو حيال فروع أذنيه، هذا هو السنة.

بَابُ أَعْضَاءِ السُّجُودِ

- عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: إذَا سَجَدَ الْعَبْدُ سَجَدَ مَعَهُ سَبْعَةُ آرَابٍ: وَجْهُهُ، وَكَفَّاهُ، وَرُكْبَتَاهُ، وَقَدَمَاهُ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ.

- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُمِرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ، وَلَا يَكُفَّ شَعْرًا، وَلَا ثَوْبًا: الْجَبْهَةِ، وَالْيَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ. أَخْرَجَاهُ.

وَفِي لَفْظٍ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: عَلَى الْجَبْهَةِ -وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى أَنْفِهِ- وَالْيَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَالْقَدَمَيْنِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ: أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعٍ، وَلَا أَكْفِتَ الشَّعْرَ وَلَا الثِّيَابَ: الْجَبْهَةِ، وَالْأَنْفِ، وَالْيَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَالْقَدَمَيْنِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ.

الشيخ: هذا هو الواجب على المصلي: أن يسجد على سبعة آراب: على جبهته وأنفه، وعلى كفَّيه، وركبتيه، وأطراف قدميه، مثلما قال ﷺ: أُمرتُ أن أسجد على سبعة آراب يعني: سبعة أعضاء. الوجه يشمل الجبهة والأنف، والكفان، والركبتان، وأطراف القدمين. هذه سبعة.

وهذا معنى حديث ابن عباسٍ: إذا سجد العبدُ سجد معه سبعة آراب يعني: سبعة أعضاء: الوجه، ويدخل فيه الأنف والجبهة، والكفَّان، والركبتان، وأطراف القدمين، يعني: يعتمد على بطون أصابع رجليه، ولا يكفّ شعرًا ولا ثوبًا، هذا هو السنة: لا يكفت الشعر ولا الثوب، بل تسجد معه، إذا كان له شعر يسجد معه، ثوبه يسجد معه، أطراف ثوبه لا يكفته.

س: يُلاحظ على بعض الناس في حال السجود أنهم يرفعون أرجلهم عن الأرض، هل يصح هذا السُّجود؟

الشيخ: لا، ما يجوز، لا بدّ من سجودٍ على أطراف القدمين، على أصابع القدمين، إذا سجد ورفع رجليه ما صحَّ سجوده.

س: بالنسبة لكفِّ الشعر والثوب، ما معناه؟

الشيخ: يعني: يتركه يسجد معه، إذا كانت له عمائم أطرافها ذوائب تسجد معه، وكذلك كمَّاه يسجدان معه، إذا كان كمَّاه يسجدان للأرض لا يكفهما.

س: يا شيخ، هل يصح وضع الجبهة على الكفَّين؟

الشيخ: لا، على الأرض، يجب وضع الجبهة والأنف على الأرض، والكفَّان على الأرض، أو على البساط الذي على الأرض؛ حتى يحصل السجودُ على الجميع، لا يسجد على يديه.

س: عادة يرى بعض المصلين أنه يضع الغترةَ في موضع سجوده؟

الشيخ: إذا دعت الحاجةُ لا بأس؛ لبرد الأرض، لبرودة الأرض أو حرارتها، إذا وضع طرفَ غُترته وسجد عليها، أو أطراف بشته، أو شيئًا آخر لا بأس، كان الصحابةُ إذا أحسُّوا بحرِّ الأرض سجدوا على ثيابهم.

س: أخيرًا سماحة الشيخ، هناك البعض يرفع الصوتَ بالذكر في السُّجود في صلاة الجماعة؟

الشيخ: السنة عدم رفع الصوت حتى لا يُشوش على مَن حوله، يكون بينه وبين ربِّه قدر ما يُسمع نفسه، إلا إذا أراد التعليم، إذا كان ممن يظنّ أنَّ مَن حوله قد لا يفهمون، قد لا يكون عندهم علمٌ ورفع صوته مثلما أخذ الصحابةُ عن النبي ﷺ الكلمات في الصلاة؛ لأنه يرفع صوته بعض الشيء حتى يستفيدوا، فعرفوا أنه كان يقول في الركوع: "سبحان ربي العظيم"، ويقول في السجود: "سبحان ربي الأعلى"، وبين السجدتين يقول: "رب اغفر لي"، سمعوه فرووا لنا ذلك، نقلوا هذا عنه عليه الصلاة والسلام.

 

بَابُ الْمُصَلِّي يَسْجُدُ عَلَى مَا يَحْمِلُهُ وَلَا يُبَاشِرُ مُصَلَّاهُ بِأَعْضَائِهِ

- عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ جَبْهَتَهُ مِنَ الْأَرْضِ بَسَطَ ثَوْبَهُ فَسَجَدَ عَلَيْهِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.

- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: رَأَيْتُ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ وَهُوَ يَتَّقِي الطِّينَ إذَا سَجَدَ بِكِسَاءٍ عَلَيْهِ يَجْعَلُهُ دُونَ يَدَيْهِ إلَى الْأَرْضِ إذَا سَجَدَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.

- وَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ قَالَ: جَاءَنَا النَّبِيُّ ﷺ فَصَلَّى بِنَا فِي مَسْجِدِ بَنِي الْأَشْهَلِ، فَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا يَدَيْهِ فِي ثَوْبِهِ إذَا سَجَدَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ: عَلَى ثَوْبِهِ.

وقال البخاري: قال الحسن: كان القومُ يسجدون على العمامة والقلنسوة، ويديه في كمَّيه.

وروى سعيد في "سننه" عن أبي هريرة قال: كانوا يُصلون في المساتق والبرانس والطيالسة، ولا يُخرجون أيديهم.

الشيخ: كل هذا يدل على أنه لا بأس أن يسجد على كمَّيه، أو على طرف عمامته، أو طرف بشته إذا دعت الحاجةُ إلى هذا؛ لاتِّقاء الطين أو البرد، كل هذا من فعل السلف، ومن فعله ﷺ، فلا بأس بهذا، لكن إذا كان ما هناك حاجة باشر المصلَّى، فإذا كانت هناك حاجة: من شدة حرٍّ أو بردٍ أو طينٍ أو ما أشبه ذلك، فلا بأس أن يتَّقي هذه الأشياء بطرف ثوبه، أو بطرف عمامته، أو بشته، أو شيء آخر.

س: سماحة الشيخ، المشاهد من بعض المصلين أنه يُحضر إلى المسجد سجادة معه، ما حكم هذا؟

الشيخ: إذا دعت الحاجةُ إليها: لشدة الحرِّ، أو البرد، أو الطين، وضع السّجادة وصلَّى عليها، لا بأس، مثل: كمِّه وبشته، أما إذا كان المسجدُ كله مفروشًا، أو كله حصباء، وليس هناك حرٌّ ولا بردٌ، فلا حاجةَ إلى سجادةٍ ولا غيرها، لا يُخالف الناس، لا يشذّ عن الناس.

بَابُ الْجِلْسَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَمَا يَقُولُ فِيهَا

- عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ قَامَ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ أَوْهَمَ، ثُمَّ يَسْجُدُ، وَيَقْعُدُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ أَوْهَمَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَفِي رِوَايَةٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا: أَنَّ أَنَسًا قَالَ: إنِّي لَا آلُو أَنْ أُصَلِّيَ بِكُمْ كَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي بِنَا، فَكَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ انْتَصَبَ قَائِمًا حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ: قَدْ نَسِيَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ مَكَثَ حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ: قَدْ نَسِيَ.

- وَعَنْ حُذَيْفَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.

- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاجْبُرْنِي، وَاهْدِنِي، وَارْزُقْنِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُد، إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِيهِ: وَعَافِنِي مَكَانَ: وَاجْبُرْنِي.

الشيخ: هذا السنة في السجود وفي الركوع: إذا اعتدل بعد الركوع أن ينتصب ولا يعجل، وهكذا بين السَّجدتين؛ تأسيًا بالنبي ﷺ، مثلما قال أنسٌ وغيره: كان ﷺ إذا رفع من الركوع انتصب واعتدل وأطال، حتى يقول القائل: قد أوهم، يعني: قد نسي، وهكذا بين السَّجدتين يعتدل ولا يعجل، حتى يقول القائل: قد نسي.

وتقدم أنه يقول بعد رفعه من الركوع: ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئتَ من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد، أحقّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا مُعطي لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدّ، اللهم نقِّني من خطاياي كما يُنقَّى الثوبُ الأبيضُ من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثَّلج والماء والبرد، كلٌّ ثبت أنه يقوله بعد الركوع، بعد اعتداله.

فالسنة للمؤمن -إمامًا أو مأمومًا أو مُنفردًا- ألا يعجل، يطمئن في اعتداله بعد الركوع، أما المأموم فتبع لإمامه، لكن الإمام لا يعجل، والمنفرد لا يعجل، والمأموم يكون تابعًا لإمامه، مُطمئنًّا في اعتداله بعد الركوع، وهكذا بين السجدتين لا يعجل، يطمئن، كما ذكر أنسٌ عن النبي ﷺ، ويقول: "رب اغفر لي، رب اغفر لي" بين السجدتين، يُكررها ولا يعجل، ويقول: "اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، وارزقني، وعافني" كما جاء عن النبي ﷺ.

فالمؤمن يتأسَّى بالنبي في كل شيءٍ في صلاته وغيرها، ومن ذلك: أنه لا يعجل بعد الركوع، بل يعتدل ويطمئن، ثم يسجد، ولا بين السَّجدتين لا يعجل، بل يطمئن بين السَّجدتين، ويُكثر من قوله: "رب اغفر لي، رب اغفر لي" حتى يقول القائل: قد نسي، قد أوهم؛ تأسيًا بالنبي عليه الصلاة والسلام.

س: إذا رفع من الركوع وأطال الوقوف هل يُكرر الذكر المعروف أم هناك أذكار أخرى؟

الشيخ: إذا قالها حصل المقصود: "ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئتَ من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد، أحقّ ما قال العبدُ، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ، منك الجد"، إذا قالها فقد حصل المقصودُ: "اللهم نقني من خطاياي كما يُنقى الثوب الأبيض من الدَّنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد"، كل هذا صحَّ عنه عليه الصلاة والسلام، فإذا أتى بهذا كله أو بأكثره حصل المطلوب.

س: زيادة: "ربِّ اغفر لي ولوالدي"؟

الشيخ: لا أعلم فيها بأسًا؛ لأنه محل دعاءٍ، بين السجدتين محل دعاءٍ، لكن السنة أن يُكثر من "ربِّ اغفر لي، ربِّ اغفر لي، اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، وارزقني، وعافني".

س: أيضًا يا سماحة الشيخ، زيادة في الدُّعاء، ويُستحب للمُنفرد أن يزيد "اللهم هبْ لي قلبًا نقيًّا من الشرك"؟

الشيخ: إذا دعا بدعوات طيبةٍ لا حرج إن شاء الله بين السجدتين، لكن الاستكثار من طلب المغفرة تأسيًا بالنبي ﷺ أولى، وإذا دعا بزيادة: "اللهم اغفر لي ولوالدي، اللهم أجرني من النار، اللهم أصلح قلبي وعملي" لا حرج إن شاء الله.

بَابُ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ وَلُزُومِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالرَّفْعِ عَنْهُمَا

- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: ارْجِعْ فَصَلِّ؛ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ، فَرَجَعَ فَصَلَّى كَمَا صَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: ارْجِعْ فَصَلِّ؛ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ، فَرَجَعَ فَصَلَّى كَمَا صَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: ارْجِعْ فَصَلِّي؛ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ ثَلَاثًا، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي، فَقَالَ: إذَا قُمْتَ إلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، لَكِنْ لَيْسَ لِمُسْلِمٍ فِيهِ ذِكْرُ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: إذَا قُمْتَ إلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِل الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ الْحَدِيثَ.

- وَعَنْ حُذَيْفَةَ: أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا لَا يُتِمُّ رُكُوعَهُ وَلَا سُجُودَهُ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ دَعَاهُ، فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: مَا صَلَّيْتَ، وَلَوْ مِتَّ مِتَّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا مُحَمَّدًا ﷺ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ.

- وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَشَرُّ النَّاسِ سَرِقَةً الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْف يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ؟ قَالَ: لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا، أَوْ قَالَ: وَلَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ رَوَاهُ أَحْمَدُ.

وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مِثْلُهُ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ: يَسْرِقُ صَلَاتَهُ.

الشيخ: هذه الأحاديث كلها تدل على وجوب الطمأنينة وعدم العجلة في الصلاة.

فالحديث الأول مشهور بحديث المسيء في الصلاة، الأعرابي المسيء في صلاته صلَّى والنبي يُشاهد، فلم يُتم ركوعها ولا سجودها، ثم جاء فسلم على النبيِّ ﷺ، فردَّ عليه السلام وقال: ارجع فصلِّ؛ فإنك لم تُصلِّ، فرجع فصلَّى كما صلَّى، ثم جاء فسلَّم على النبي ﷺ، فردَّ عليه النبيُّ السلام وقال: ارجع فصلِّ؛ فإنك لم تُصلِّ، فرجع فصلَّى كما صلَّى، ثم جاء فسلَّم على النبيِّ، فرد عليه وقال: ارجع فصلِّ ثلاث مرات، ثم قال له ﷺ بعد ذلك لما قال الرجلُ: يا رسول الله، والذي بعثك بالحقِّ، لا أُحسن غير هذا. يعني: هذا الذي عندي، هذا علمي، فعلمني.

هذا فيه الدلالة على أنَّ الإنسان إذا جهل يسأل أهلَ العلم ويتبصر، فبعد هذا أرشده النبيُّ ﷺ وقال: إذا قمتَ إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة، ثم كبِّر، لما رآه ينقر الصلاة خشي أنه لا يُحسن الوضوء أيضًا، فقال له: أسبغ الوضوء يعني: في مواضعه: في غسل الوجه، والمضمضة، والاستنشاق، وغسل اليدين، إلى آخره، وإسباغه: إكماله وإتمامه.

ثم استقبل القبلة يعني: حين الصلاة، هذا الواجب على كل مؤمنٍ: أن يستقبل القبلة في النافلة والفريضة، وهي الكعبة، يعني: جهة الكعبة، إلا المسافر فلا بأس أن يُصلي على دابته في جهة سيره، كما يأتي إن شاء الله.

ثم اركع حتى تطمئن راكعًا علَّمه النبيُّ: اقرأ ما تيسر من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها.

هذا هو الواجب على المؤمن في صلاته كلها، مثل أمر النبي الأعرابي إذا كبَّر، أولًا العناية بالوضوء، وإسباغ الوضوء، ثم العناية بالقبلة، يستقبل القبلة، ثم يُكبر تكبيرة الإحرام، ثم يكمل صلاته: يقرأ الفاتحة، ثم يقرأ ما تيسر معها، ثم يركع ويطمئن، ثم يرفع ويعتدل ويطمئن، ثم يسجد ويطمئن، ثم يجلس بين السَّجدتين ويطمئن، ثم يسجد الثانية ويطمئن، ثم يكمل صلاته، هكذا أمر النبيُّ ﷺ هذا الأعرابي.

ولما رأى حذيفةُ رجلًا لا يُتم ركوعه ولا سجوده علَّمه بعد الصلاة، وقال: "إنك ما صليتَ، ولو مت على هذا لمت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدًا ﷺ".

فالواجب عدم العجلة، والواجب الطمأنينة في الصلاة، هذا هو الواجب على جميع المؤمنين.

ويقول ﷺ: أسوأ الناس سرقةً الذي يسرق من صلاته، قيل: يا رسول الله، كيف يسرق صلاته؟ قال: لا يُتم ركوعها ولا سجودها، هذه السرقة.

فالواجب على المؤمن أن يحذر سرقة صلاته، وأن يُتم ركوعها وسجودها، والاعتدال بعد الركوع، والاعتدال بين السجدتين، يجب العناية بهذا؛ حتى يُؤدي الصلاةَ كما أمر الله.

س: شيخ، بعض العامَّة إذا سجد ثم رفع الإمامُ لا يرفع بعده مباشرةً، بل يبقى فترةً يدعو؟

الشيخ: لا، السنة المتابعة: إذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا رفع فارفعوا، المأموم يُتابع إمامه؛ لأنه يقول: إذا ركع فاركعوا، الفاء تقتضي الترتيب بالاتصال، يُتابعه ولا يتأخّر بعده، لا يُسابقه، ولا يتأخّر بعده، ولكن بعده متصلًا: إذا كبَّر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا. لا يتأخر، السنة ألا يتأخر.

س: هل يقصد حذيفة أنَّ الرجل يموت على غير الإسلام؟

الشيخ: نعم، هذا يقوي قول مَن قال أنَّ مَن ترك الصلاة فقد كفر، نسأل الله العافية.

س: في كثيرٍ من المساجد أو بعض المساجد يحصل هرجٌ للإمام: أنت تُبطئ في صلاتك! أنت تُسرع! كيف يُعالج الإمامُ الوضعَ؟

الشيخ: ينصحهم، بعد السلام ينصحهم ويُعلِّمهم، كما كان النبيُّ يُعلم أصحابه ، فالإمام مسؤول: كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته، فإذا رأى منهم قصورًا أو مسابقةً أو تأخرًا عن الصلاة نصحهم ووجَّههم إلى الخير.

بَابُ كَيْفَ النُّهُوضُ إلَى الثَّانِيَةِ وَمَا جَاءَ فِي جِلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ

- عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا سَجَدَ وَقَعَتْ رُكْبَتَاهُ إلَى الْأَرْضِ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ كَفَّاهُ، فَلَمَّا سَجَدَ وَضَعَ جَبْهَتَهُ بَيْنَ كَفَّيْهِ، وَجَافَى عَنْ إبِطَيْهِ، وَإِذَا نَهَضَ نَهَضَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَاعْتَمَدَ عَلَى فَخِذَيْهِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

- وَعَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ: أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ ﷺ يُصَلِّي، فَإِذَا كَانَ فِي وِتْرٍ مِنْ صَلَاتِهِ لَمْ يَنْهَضْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا مُسْلِمًا وَابْنَ مَاجَهْ.

الشيخ: السنة للإمام مثلما كان النبيُّ يفعل عليه الصلاة والسلام: يُقدم ركبتيه، ويضع كفَّيه على الأرض حال سجوده، ويطمئن ولا يعجل في صلاته؛ تأسيًا بالنبي ﷺ، هكذا كان يفعل: يضع كفَّيه على الأرض ويسجد ويطمئن في سجوده، ويرفع ذراعيه، ويُقدم ركبتيه إذا سجد، وإذا نهض نهض مُقدمًا ليديه، وإذا ركع سوَّى ظهره، وجعل رأسه حياله، كل هذا من فعله عليه الصلاة والسلام.

وحديث مالك بن الحويرث يدل على جلسة الاستراحة، وأنه إذا نهض من الركعة الأولى والركعة الثالثة جلس كجلسته بين السجدتين، جلسة خفيفة، ثم ينهض، تُسمَّى: جلسة الاستراحة، هذه سنة، جاءت في حديث أبي حميد، وجاءت في حديث مالك بن الحويرث، فالسنة أن يفعلها الإمامُ والمأمومُ والمنفردُ بعد الأولى وبعد الثالثة في الوتر؛ لأنَّ الأولى وتر، والثالثة وتر، فإذا نهض من السجدة الثانية جلس قليلًا ثم قام للرابعة، وقام للثَّانية.

س: هل في جلسة الاستراحة ذكر أو دعاء؟

الشيخ: لا، ما فيها ذكر ولا دعاء، جلسة خفيفة.

س: وما معنى في الحديث الذي مرَّ علينا: في وترٍ من صلاته؟

الشيخ: هي الواحدة والثالثة، يعني بالوتر: الأولى والثالثة.

المقدم: شكر الله لكم سماحة الشيخ، وبارك الله فيكم وفي علمكم، ونفع بكم الإسلام والمسلمين.