باب ما يحذر من الغدر
وقوله تعالى: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ الآية [الأنفال:62].
3176- حدثنا الحميدي: حدثنا الوليد بن مسلم: حدثنا عبدالله بن العلاء بن زبر، قال: سمعت بسر بن عبيدالله: أنه سمع أبا إدريس قال: سمعت عوف بن مالك، قال: أتيت النبي ﷺ في غزوة تبوك وهو في قبةٍ من أدمٍ، فقال: اعدد ستًّا بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يُعطى الرجل مئة دينارٍ فيظل ساخطًا، ثم فتنةٌ لا يبقى بيتٌ من العرب إلا دخلته، ثم هدنةٌ تكون بينكم وبين بني الأصفر، فيغدرون، فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غايةٍ اثنا عشر ألفًا.
الشيخ: هذه من دلائل النبوة؛ لأن هذا كله وقع، كل ما ذكره وقع عليه الصلاة والسلام، نعم.
اقرأ كلام الشارح.
س: الفتنة التي تدخل كل بيتٍ من بيوت العرب؟
ج: الظاهر أنها فتنة مقتل عثمان، وما جرى على عثمان بسبب الخوارج.
الطالب: قوله: ستًّا أي: ست علاماتٍ لقيام الساعة، أو لظهور أشراطها المقتربة منها.
قوله: ثم مُوتان بضم الميم، وسكون الواو، قال القزاز: هو الموت. وقال غيره: الموت الكثير الوقوع. ويقال بالضم لغة تميمٍ، وغيرهم يفتحونها، ويقال للبليد: "مَوتان القلب" بفتح الميم والسكون.
وقال ابن الجوزي: يغلط بعض المحدثين فيقول: "مَوتان" بفتح الميم والواو.
الشيخ: المقصود أن ما أخبر به ﷺ من موته وقع، ثم فتح بيت المقدس، ثم ما جرى من الطاعون عام سبعة عشر، أو ثمانية عشر، مات فيه الجم الغفير، وهو الموتان، ثم انتشار المال بسبب الفتوحات العظيمة، ثم الفتنة التي جرت بين عليٍّ ومعاوية بعد مقتل عثمان عمَّت ودخلت البيوت، وقُتل فيها الجم الغفير، ثم ما جرى من تجمع الروم وغزوهم المسلمين، كل هذا وقع، نعم.
ويحتمل أن يُراد بالروم شيءٌ آخر يكون في آخر الزمان، كله وقع، الروم تجمعوا وقاتلهم المسلمون قتالًا عظيمًا، وفتح الله عليهم، وفي آخر الزمان كذلك يقع، انظر الأخيرة: السادسة: ما يتعلق بالروم.
الطالب: قوله: هدنة بضم الهاء، وسكون المهملة، بعدها نون، هي الصلح على ترك القتال بعد التحرك فيه.
قوله: بني الأصفر هم الروم.
قوله: غاية أي: راية، وسُميت بذلك لأنها غاية المتبع، إذا وقفت وقف.
ووقع في حديث ذي مِخْبَر -بكسر الميم، وسكون المعجمة، وفتح الموحدة- عند أبي داود في نحو هذا الحديث بلفظ: راية بدل غاية، وفي أوله: ستُصالحون الروم صلحًا أمنًا، ثم تغزون أنتم وهم عدوًّا فتُنصرون، ثم تنزلون مرجًا، فيرفع رجلٌ من أهل الصليبِ الصليبَ فيقول: غلب الصليبُ. فيغضب رجلٌ من المسلمين فيقوم إليه فيدفعه، فعند ذلك تغدر الروم، ويجتمعون للملحمة، فيأتون ... فذكره.
ولابن ماجه من حديث أبي هريرة مرفوعًا: إذا وقعت الملاحم بعث الله بعثًا من الموالي يؤيد الله بهم الدين، وله من حديث معاذ بن جبل مرفوعًا: الملحمة الكبرى، وفتح القسطنطينية، وخروج الدجال في سبعة أشهر، وله من حديث عبدالله بن بسر –رفعه-: بين الملحمة وفتح المدينة ست سنين، ويخرج الدجال في السابعة، وإسناده أصح من إسناد حديث معاذ.
قال ابن الجوزي: رواه بعضهم "غابة" بموحدةٍ بدل التحتانية، والغابة: الأجمة، كأنه شبه كثرة الرماح بالأجمة.
وقال الخطابي: الغابة: الغيضة، فاستُعيرت للرايات تُرفع لرؤساء الجيش؛ لما يُشرع معها من الرماح، وجملة العدد المشار إليه تسعمئة ألف وستون ألفًا، ولعل أصله: ألف ألف، فأُلغيت كسوره.
ووقع مثله في رواية ابن ماجه من حديث ذي مِخْبَر، ولفظه: فيجتمعون للملحمة، فيأتون تحت ثمانين غابة، تحت كل غابةٍ اثنا عشر ألفًا.
ووقع عند الإسماعيلي من وجهٍ آخر: عن الوليد بن مسلم قال: تذاكرنا هذا الحديث وشيخًا من شيوخ المدينة، فقال: أخبرني سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة: أنه كان يقول في هذا الحديث مكان "فتح بيت المقدس": "عمران بيت المقدس".
قال المهلب: فيه أن الغدر من أشراط الساعة، وفيه أشياء من علامات النبوة قد ظهر أكثرها.
وقال ابن المنير: أما قصة الروم فلم تجتمع إلى الآن، ولا بلغنا أنهم غزوا في البر في هذا العدد، فهي من الأمور التي لم تقع بعد.
وفيه بشارةٌ ونذارةٌ، وذلك أنه دلَّ على أن العاقبة للمؤمنين مع كثرة ذلك الجيش.
وفيه إشارةٌ إلى أن عدد جيوش المسلمين سيكون أضعاف ما هو عليه، ووقع في روايةٍ للحاكم من طريق الشعبي، عن عوف بن مالك في هذا الحديث: أن عوف بن مالك قال لمعاذ في طاعون عمواس: إن رسول الله ﷺ قال لي: اعدد ستًّا بين يدي الساعة، فقد وقع منهن ثلاثٌ. يعني: موته ﷺ، وفتح بيت المقدس، والطاعون. قال: وبقي ثلاثٌ. فقال له معاذ: إن لهذا أهلًا.
ووقع في "الفتن" لنعيم بن حماد: أن هذه القصة تكون في زمن المهدي على يد ملكٍ من آل هرقل.
الشيخ: نعم، المقصود محتمل، أما الخمس فوقعت: موت النبي ﷺ، وفتح بيت المقدس، والموتان؛ وهو طاعون عمواس، والفتنة التي تدخل بيوت العرب جميعًا، وانتشار وفيضان المال، كل هذه وقعت، أما مقتلة الروم فمحتمل أنه في تجمعاتهم التي قاتلوا فيها المسلمين في عهد عمر وعثمان بلغت هذا العدد، ويحتمل أنه سيقع -كما قال ابن المنير- في المستقبل، فالروم تجمَّعوا كثيرًا لقتال الصحابة، تجمعوا كثيرًا لقتال المسلمين، تجمعوا تجمعًا كثيرًا في عهد عمر، وفي عهد عثمان، وبعدهما، وفي عهد معاوية، وبعد ذلك في عهد بني أمية وبني العباس وقعت وقائع كثيرةٌ، قد يكون في بعضها حصل هذا التجمع، ويحتمل أن يكون في آخر الآيات، وأن يكون في آخر الزمان، محتمل، المقصود أن علامات نبوته ﷺ لا تُحصى، اللهم صلِّ عليه وسلم.
س: ما يُخبر به النبي ﷺ عن بعض العلامات لو وقع هل يمنع من وقوعه مرةً أخرى؟
ج: لا، ما يمنع، لا يمنع وقوعه مرات، نعم.
باب: كيف يُنبذ إلى أهل العهد؟
وقول الله سبحانه: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ الآية [الأنفال:58].
3177- حدثنا أبو اليمان: أخبرنا شعيب، عن الزهري: أخبرنا حميد بن عبدالرحمن: أن أبا هريرة قال: بعثني أبو بكرٍ فيمن يُؤذن يوم النحر بمنى: لا يحج بعد العام مُشركٌ، ولا يطوف بالبيت عريانٌ، ويوم الحج الأكبر يوم النحر.
وإنما قيل: "الأكبر" من أجل قول الناس: الحج الأصغر، فنبذ أبو بكرٍ إلى الناس في ذلك العام، فلم يحج عام حجة الوداع الذي حجَّ فيه النبي ﷺ مُشركٌ.
الشيخ: والمقصود من ذلك دعوتهم إلى الإسلام والتوبة إلى الله من الشرك؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28]، فالرسول ﷺ ..... إليهم ذلك ليتحققوا ويعلموا أن الواجب البدار والتوبة، وقد دخل الناس في دين الله أفواجًا عام الفتح، ولكن مع هذا أمر النبي ﷺ عام تسعٍ في هذا البيان؛ حتى تعمَّ الدعوة وتنتشر.
باب إثم مَن عاهد ثم غدر
وقول الله: الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ [الأنفال:56].
الشيخ: وفي قوله جلَّ وعلا: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ [الأنفال:62]، وقوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ [الأنفال:64]، وقوله: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ [آل عمران:160]، إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [محمد:7].
كل هذه بشاراتٌ للمسلمين تدل على أن حسبهم هو الله، وهو الذي يكفيهم جلَّ وعلا، فلا ينبغي أن يهتموا بكثرة الأعداء، بل ينبغي أن يهتموا بأسباب النصر: من الاستقامة على دين الله، والتعاون على البر والتقوى، وإعداد القوة، والله هو الناصر جلَّ وعلا، هو حسبهم ويكفيهم: فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، إنما المهم أن يعدوا العُدَّة، هم المؤمنون فعليهم أن يعدوا العدة من جهة أنفسهم، ومن جهة أسباب النصر.
فإعدادها من جهة أنفسهم: أن يتقوا الله، وأن يستقيموا على دينه، وينصروه، ومن جهة العدة: أن يعدوا ما استطاعوا من القوة: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، كما قال سبحانه: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71].
فالواجب أن يعدوا العدة، وأن يأخذوا الحذر ..... وجميع الأسباب التي يُرجى من ورائها أن تُعين على النصر، هذا الذي عليهم، عليهم فعل الأسباب، مع الثقة بالله، والاعتماد عليه، والثقة بنصره : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [محمد:7]، هم يعلمون أنهم لن يؤتوا إلا من جهة أنفسهم، فإذا توافرت الأسباب التي شرعها الله فالنصر حليفهم: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:40، 41]، وهو القائل جلَّ وعلا: وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ [الزمر:20].
س: حكم الإعداد؟
ج: للوجوب.
س: عدم إعداد العدة المادية .....؟
ج: نعم، يجب إعداد العدة كلها: المادية، والحسية، والمعنوية، كلها من جهة السلاح، ومن جهة التقوى والإيمان، ومن جهة الرجال، ومن جهة النقود، كل هذا، كله، نعم، يعني: حسب الطاقة: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ.
الشيخ: وهذا فيه الحذر من هذه الخصال الذميمة، خصال النفاق، وهذا هو النفاق العملي، وهو في الغالب يجر إلى النفاق الاعتقادي: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر؛ لضعف الإيمان، أو زواله بالكلية.
قال ابن القيم -رحمه الله-: وقلَّ أن تجتمع في عبدٍ إلا وهو منافقٌ نفاقًا اعتقاديًّا، وقال في الحديث الآخر -حديث أبي هريرة-: آية المنافق ثلاثٌ: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان.
والله يقول جلَّ وعلا: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ [النساء:142، 143].
المقصود أن الواجب على المؤمن أن يحذر هذه الخِلال الخبيثة، ويحرص على صدق الوعد، ويحرص على صدق الحديث، ويحرص على أداء الأمانة، ويحرص على عدم الفجور في الخصومات، ويصدق في الخصومة، ويتقي الله، ولا يدَّعِ ما ليس له، ويحرص على عدم الغدر، إذا عاهد الكفار لا يغدر، وعلى أداء الأمانة، وعدم الخيانة، كلها خصالٌ خبيثةٌ، فالواجب الحذر منها، وهذا يحتاج إلى عنايةٍ وصبرٍ، لا بد من صبرٍ؛ لأن النفوس أمَّارةٌ بالسوء والطمع كذلك، وحب الذات -حب النفس-، لكن مَن جاهد نفسه لله أعانه الله، يقول سبحانه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]، فمَن وفى بما أمره الله وفى الله له، وأعطاه ما طلب، ومَن بخس وغيَّر فلا يلومَنَّ إلا نفسه.
الشيخ: وهذا الذي قاله عليٌّ يرد على بعض الشيعة الذين يعتقدون في عليٍّ أنه خُصَّ بشيءٍ، أو فاطمة، فبين أنه ما خُصَّ بشيءٍ، وهو كان كبقية المسلمين، ففيه ردٌّ على الرافضة الغلاة الذين يزعمون أن أهل البيت لهم خصوصيةٌ، وأنهم يعلمون الغيب، أو أنهم معصومون، أو أنهم عندهم علومٌ خاصَّةٌ غير ما عند الناس، كل هذا باطلٌ، فليس عندهم شيءٌ إلا ما عند الناس، وبيَّن عليٌّ هذا الأمر حتى يُعرف كذب غُلاة الشيعة، وأصلهم ومقدمهم موجودٌ في عهده .
فالحاصل أن هذه الطائفة الخبيثة الرافضة يكذبون على أهل البيت كذبًا كثيرًا، فالله أنطق عليًّا ووفَّقه حتى فضحهم، وفضح مَن يأتي بعدهم من أتباعهم الظالمين، فأهل البيت ليس عندهم شيءٌ ليس عند المسلمين، عندهم القرآن والسنة، ما عندهم غير ذلك، ما عندهم علومٌ أخرى أخفاها النبي ﷺ على الناس، نعم.
س: معنى: لا يُقبل منه صرفٌ ولا عدلٌ؟
ج: لا فريضة، ولا نافلة، ولا توبة، ولا غيرها، فالمعنى: الوعيد الشديد، نسأل الله العافية، أيش قال الشارح على "صرف" و"عدل"؟
الطالب: ما تكلم.
الشيخ: والعيني ما تكلم؟
الطالب: ما تكلم.
الشيخ: مشهورٌ: لا فريضة، ولا نافلة، ولا تُقبل منه توبةٌ ولا غيرها من الطاعات، فالمقصود الوعيد الشديد، نسأل الله العافية.
س: ومَن أخفر مسلمًا؟
ج: يعني: ما أمضى تأمينه، إذا أمَّن المسلمُ ينفذ أمانه، فالذي يُخفره عليه هذا الوعيد: لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، يعني: المسلم أمَّن إنسانًا حتى يُواجه السلطان، أو حتى يأخذ كذا، ويُعطي كذا، يجب تأمينه مثلما قال ﷺ: ذمة المسلمين واحدةٌ، يسعى بها أدناهم، ولما أجارت أم هانئ بنت أبي طالب -أخت عليٍّ- بعض أحمائها قال النبي ﷺ: قد أجرنا مَن أجرتِ، وذمَّة المسلمين واحدةٌ، يسعى بها أدناهم، ولو النساء، فإذا أجارت رجلًا من الكفار حتى يدخل على ولي الأمر، أو حتى يفعل كذا أو كذا من الحاجات؛ لا يُخفر، لا بد أن يُردَّ إلى مأمنه، لا يُقتل، ولا يُؤذى، يرد إلى مأمنه، نعم.
الطالب: أحسن الله إليك، قال العيني في ..... قوله: "صرف" بفتح الصاد المهملة، وهو التوبة، وقيل: النافلة. والعدل: الفدية. وقيل: الفريضة.
الشيخ: هذا المشهور، نعم.
الشيخ: والمعنى: أن الناس إذا أخفروا الذِّمم وخانوا العهود منعت الدول الكافرة ما عندها من الخراج، ولم يجتب المسلمون شيئًا؛ عقوبةً للمسلمين، إذا خانوا الأمانة وأخفروا الذِّمم سُلِّط أعداؤهم عليهم؛ حتى يمنعوا ما بأيديهم من الخراج الذي بأيديهم، الذي يجبيه المسلمون منهم؛ لأن المسلمين ضربوا الخراج على الكفار من الفرس في العراق وغيرها مما تولى عليه المسلمون، فإذا ضعف المسلمون بسبب الخيانة قست قلوب الأعداء؛ فمنعوا ما عندهم من الضرائب. أيش قال الشارح عليه؟
القارئ: قوله: "إذا لم تجتبوا" من الجباية -بالجيم والموحدة، وبعد الألف تحتانية- أي: لم تأخذوا من الجزية والخراج شيئًا.
قوله: "تُنتهك" بضم أوله، أي: تتناول مما لا يحلّ من الجور والظلم.
قوله: "فيمنعون ما في أيديهم" أي: يمتنعون من أداء الجزية.
قال الحميدي: أخرج مسلمٌ معنى هذا الحديث من وجهٍ آخر عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة -رفعه-: منعت العراق درهمها وقفيزها وساق الحديث بلفظ الفعل الماضي، والمراد به ما يستقبل؛ مبالغةً في الإشارة إلى تحقق وقوعه.
ولمسلمٍ عن جابرٍ أيضًا –مرفوعًا-: يوشك أهل العراق ألا يُجتبى إليهم بعيرٌ ولا درهمٌ، قالوا: مم ذلك؟ قال: من قبل العجم، يمنعون ذلك.
وفيه علمٌ من أعلام النبوة، والتوصية بالوفاء لأهل الذمة.
الشيخ: يكفي، يكفي، نعم، هذا هو الواقع، كلما أحدث المسلمون سُلِّط عليهم عدوهم، وكلما استقاموا ونصحوا لله ولعباده أخضع الله لهم عدوهم؛ ولهذا يقول جلَّ وعلا: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، وفي الآية الأخرى: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79].
فإذا استقام المسلمون، ووفوا بالعهود، وأدُّوا الأمانات، ولم يخفروا الله ورسوله؛ أدَّت إليهم الأعداء ما عندهم من الضرائب ..... والخراج وغير ذلك، فإذا خانوا العهود وغيَّروا غيَّر الله قلوبَ أعدائهم عليهم.
س: يشد الله قلوب أهل الذمة؟
ج: يعني: يُقويها حتى تمتنع، يقل الخوف فيها من المسلمين، وتقوى قلوبهم، ويردوا المسلمين.
باب
3181- حدثنا عبدان: أخبرنا أبو حمزة، قال: سمعت الأعمش قال: سألت أبا وائل: شهدت صفين؟ قال: نعم، فسمعت سهل بن حنيف يقول: اتَّهموا رأيكم، رأيتني يوم أبي جندل، ولو أستطيع أن أردَّ أمر النبي ﷺ لرددته، وما وضعنا أسيافنا على عواتقنا لأمرٍ يُفظعنا إلا أسهلن بنا إلى أمرٍ نعرفه غير أمرنا هذا.
3182- حدثنا عبدالله بن محمد: حدثنا يحيى بن آدم: حدثنا يزيد بن عبدالعزيز، عن أبيه: حدثنا حبيب بن أبي ثابت، قال: حدثني أبو وائل، قال: كنا بصفين، فقام سهل بن حنيف فقال: أيها الناس، اتَّهموا أنفسكم، فإنا كنا مع رسول الله ﷺ يوم الحديبية، ولو نرى قتالًا لقاتلنا، فجاء عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله، ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ فقال: بلى، فقال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال: فعلامَ نُعطي الدَّنية في ديننا؟! أنرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟!
الشيخ: ومقصود سهل بن حنيف: تأملوا في هذا القتال -قتال صفين بين عليٍّ ومعاوية- "اتَّهموا أنفسكم" يعني: انظروا في أمرٍ يحصل به الصلح وعدم القتال، فاتَّهموا الأفكار والظنون، وتأملوا، فإن الإنسان قد يظن أنه مصيبٌ، وليس بمصيبٍ.
والمقصود حقن الدماء، الحث على حقن الدماء، وعدم ..... القتال، وما ذاك إلا لأنهم يوم أبي جندل يوم الحديبية ظنوا أنهم مصيبون، ظن بعض الناس أنه مصيبٌ، وهو مخطئٌ، لما صالح النبي ﷺ أهل مكة وقال لهم: إنهم لا يسألونه شيئًا يُعظِّمون به أمر الله إلا أجابهم إليه، فلا يسألون خطةً يُعظِّمون فيها حرمات الله إلا أجابهم إليها، فمن ذلك: أنه صالحهم على وضع الحرب عشر سنين على وجهٍ فيه غضاضةٌ على المسلمين، ولكن فيه المصلحة؛ فيه حقن دماء المسلمين، وتسهيل فتح مكة دون مشقةٍ، فصالحهم النبي ﷺ مع الغضاضة ومع الصبر، حتى إن عمر لم يتحمل، وهكذا سهل بن حنيف لم يتحمل، وما ذاك إلا لأنه ﷺ جاءته رسلُهم للصلح، فآخرهم سهيل بن عمرو الذي وافقه على الصلح على وضع الحرب عشر سنين، فلما أمر النبي ﷺ بكتب الكتاب قال في أوله: "بسم الله الرحمن الرحيم"، قال سهيل: ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة –مسيلمة- اكتب: باسمك اللهم. ما وافق على "بسم الله الرحمن الرحيم"، اكتب: باسمك اللهم. فقال النبي ﷺ: اكتب: باسمك اللهم، فعظم الأمر على الصحابة: كيف يُغير "بسم الله الرحمن الرحيم"؟! ولا سيما عمر، فكتبها النبي ﷺ بيده: "باسمك اللهم"؛ وفاءً لهم بقوله: إنهم لا يسألونه خطةً يُعظِّمون فيها حُرمات الله إلا أجابهم إليها؛ لأن هذا فيه حقن الدماء.
وزعمهم أنهم ما يصفون الله بشيءٍ ما يعرفونه، وهم يكذبون، فهم يعرفون "الرحمن"، لكن مكابرةً.
ثم قال: اكتب: هذا ما صالح عليه محمدٌ رسول الله سهيل بن عمرو وأهل مكة، فقال سهيل: لا، لا تقل: "محمدٌ رسول الله" لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، فنحن ما نُصدق أنك رسول الله، لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، اكتب: محمد بن عبدالله فقط، اسمك واسم أبيك، فقال النبي ﷺ: اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله، أنا محمدٌ رسول الله، وأنا محمد بن عبدالله، كله؛ فعظم على الصحابة: كيف نترك "رسول الله"؟! فأمر الكاتب أن يكتب لأجل إنفاذ الصلح وحقن الدماء، ولأمرٍ قضاه الله، فهو إنما يكتب عن أمر الله، وهو مأمورٌ؛ فيكتب كما أُمر، فكتب: "هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله سهيل بن عمرو على وضع الحرب عشر سنين".
وجاءت مصيبةٌ ثالثةٌ: جاء أبو جندل بن سهيل يرسُف في قيوده، مسلمٌ مُقيَّدٌ رمى بنفسه بين المسلمين، يريد أن يأخذوه معهم، فقال سهيل: ما نكتب الصلح ولا يتم الصلح حتى تُعطوني ولدي، تردونه عليَّ. ما تم الصلح بعد، فقال النبي ﷺ: قد كتبنا الآن، قال: ما تم الصلح بعد، يعني: إلا أن تُعطوني أبا جندل، تردونه عليَّ.
فجاء عمر، وعظم الأمر على المسلمين، فقال: ردُّوه على أبي جندل ردُّوه عليه.
فجاء في الصلح: "مَن جاءكم منا تردونه علينا"، مَن جاء مسلمًا يُرد علينا، "ومَن جاءنا منكم لا نرده عليكم"، قالوا –الصحابة-: كيف هذا؟! كيف نرد مَن جاء مسلمًا إليهم؟! قال النبي ﷺ: اكتبوا، اكتبوا، فكتبوا هذا: مَن جاء من الكفار مسلمًا نرده عليهم، ومَن جاءهم منا لا يردونه علينا.
هذا أمرٌ عظيمٌ: تحمل هذا الشرط، فتحمله النبي ﷺ عن أمر الله، ثم قال لهم ﷺ: مَن جاءنا منهم مسلمًا فسيجعل الله له فرجًا ومخرجًا، ومَن جاءهم منا فأبعده الله، مَن جاءهم مُرتدًّا أبعده الله، ما نريده، فتم الصلح على هذا.
مقصودٌ سهلٌ: أن الناس يتهمون آراءهم، وقد يكون الصلح فيه بعض الشيء، [لكنه] أنفع للمسلمين، وإن كان فيه غضاضةٌ، وإن كان فيه بعض الغضاضة، إذا رآه ولي الأمر أنفع للمسلمين فلا بد من اتِّهام الرأي في جنب المصلحة، نعم.
س: ما يقام الآن من الصلح مع اليهود يقاس على .....؟
ج: إيه، إذا اقتضت المصلحة ذلك فمن هذا الباب؛ لأنهم الآن ما في أيديهم حيلةٌ للقتال، ضعفاء، نعم.
الشيخ: يعني: أجاب الصديق بمثل جواب النبي ﷺ، سواءٌ بسواءٍ .
الشيخ: يعني: صلح الحديبية أنزل الله فيه: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1]، سمَّاه الله فتحًا؛ لأن الله جعله تمهيدًا للفتح: أمن فيه الناس، ورحلوا للمدينة مسلمين، وتجمع المسلمون في المدينة حتى صار عددٌ كبيرٌ، ثم فتح الله عليه مكة، غزا بهم مكة وفتحها رغم أنوف الأعداء.
الشيخ: قف على حديث أسماء.