18 من قوله: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا..)

وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ۝ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ۝ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
يقول تعالى حاكما وآمرا بقطع يد السارق والسارقة، وروى الثوري عن جابر بن يزيد الجعفي، عن عامر بن شراحيل الشعبي أن ابن مسعود كان يقرؤها والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما وهذه قراءة شاذة، وإن كان الحكم عند جميع العلماء موافقا لها لا بها، بل هو مستفاد من دليل آخر.
الشيخ: حديث ابن مسعود فيه جابر بن يزيد الجعفي متهم بالرفض ضعيف لا يحتج بروايته، ولو صحت فالمراد بذلك التفسير، تفسير القطع ليس أنها القرآن مراد ابن مسعود لو صحت عنه التفسير وأن المراد قطع اليد، يقول جل وعلا: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا [المائدة:38] وبين العلماء أن المراد قطع اليد اليمنى أولاً إن سرق، وإن سرق ثانية تقطع يده اليسرى.. تقطع من مفصل الكف فقط، وإذا أطلقت اليد فالمراد بها التي هي من أطراف الأصابع إلى مفصل الكف، أما في الوضوء فاليد يراد بها إلى المرافق، وأما في الوضوء إلى المرافق، وأما في القطع في السرقة والتيمم فيراد بها الكف فقط من أطراف الأصابع إلى مفصل الكف، هذا هو الذي يقطع في السرقة وهو الذي يمسح في التيمم.
وهذا من رحمة الله وإحسانه بعباده أن حمى أموالهم بهذا الحد العظيم؛ فإن السارق متى عرف أنه تقطع يده امتنع من السرقة وابتعد عنها، وكان في ذلك حفظ لأموال المسلمين وصيانة لها من أيدي العابثين، وهكذا الحدود جعلها الله رادعة للناس عن محارم الله وزاجرة لهم عن محارم الله، حد الزنا زاجر، وحد السرقة زاجر، وحد القذف كذلك، فالحدود جعلها الله روادع وزواجر عما حرم الله وأشد ذلك بعد القتل هو القطع، فأحل الله قطع اليد بل أوجب قطع اليد في السرقة صيانة للمسلمين واحترامًا لأموالهم وسدًا لذرائع الإفساد.
 وقد كان القطع معمولا به في الجاهلية، فقرر في الإسلام، وزيدت شروط أخر كما سنذكره إن شاء الله تعالى، كما كانت القسامة والدية والقراض وغير ذلك من الأشياء التي ورد الشرع بتقريرها على ما كانت عليه وزيادات هي من تمام المصالح ويقال: إن أول من قطع الأيدي في الجاهلية قريش، قطعوا رجلا يقال له دويك مولى لبني مليح بن عمرو بن خزاعة، كان قد سرق كنز الكعبة، ويقال: سرقه قوم فوضعوه عنده، وقد ذهب بعض الفقهاء من أهل الظاهر إلى أنه متى سرق السارق شيئا قطعت يده به، سواء كان قليلا أو كثيرا لعموم هذه الآية وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا فلم يعتبروا نصابا ولا حرزا، بل أخذوا بمجرد السرقة.
وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عبدالمؤمن عن نجدة الحنفي، قال: سألت ابن عباس عن قوله وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]أخاص أم عام؟ فقال: بل عام، وهذا يحتمل أن يكون موافقة من ابن عباس لما ذهب إليه هؤلاء، ويحتمل غير ذلك، فالله أعلم.
الشيخ: الصواب أن مراد ابن عباس أنه عام لجميع أجناس الناس، كالرجال كالنساء والأحرار والعبيد والعرب والعجم والأشراف والعامة؛ يعمهم الحكم فمتى سرق قطع وإن كان من بني هاشم وإن كان من أشراف الناس وكبارهم يقطع، وهكذا العامة وهكذا من العجم وهكذا من العرب وهكذا من الرجال وهكذا من النساء هذا مراده رحمه الله، لظاهر عموم الآية وأنها تعم أجناس الناس، ولما سرقت امرأة من قريش أهم قريش قطع يدها، وأرادوا أن يشفعوا إلى رسول الله ﷺ حتى لا تقطع يدها؛ فقاموا إلى حب رسول الله أسامة بن زيد فذهبوا إليه وطلبوا منه الشفاعة، فأتى النبي ﷺ وقال له في ذلك، وغضب عليه الصلاة والسلام وخطب الناس وغضب على أسامة وقال: أتشفع في حد من حدود الله، وخطب الناس وقال: إنما أهلك من كان قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها، فعلم عليه الصلاة والسلام أن المراد العموم وأنه لا يجوز أن يستثنى من ذلك شريف أو وضيع أو ذكر أو أنثى أو عرب أو عجم بل هي عامة، ولكن لا بدّ أن يكون من حرز، لا بدّ أن يكون المال محروزًا..... ولا بدّ من شرط آخر وهو النصاب، والنصاب ربع دينار فأكثر ربع دينار فصاعدًا كما جاء في الحديث الصحيح.....، أن يكون في حرزه، أما المال الذي يطرح على الأرض أو في الأسواق ما يسمى سرقة، ولا تقطع به اليد إلا بأحكام أخرى.
وتمسكوا بما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده وأما الجمهور، فاعتبروا النصاب في السرقة وإن كان قد وقع بينهم الخلاف في قدره، فذهب كل من الأئمة الأربعة إلى قول على حدة، فعند الإمام مالك بن أنس رحمه الله النصاب ثلاثة دراهم مضروبة خالصة، فمتى سرقها أو ما يبلغ ثمنها فما فوقه، وجب القطع، واحتج في ذلك بما رواه عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال: قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم، أخرجاه في الصحيحين، قال مالك رحمه الله: وقطع عثمان في أترجة قومت بثلاثة دراهم، وهو أحب ما سمعت في ذلك، وهذا الأثر عن عثمان قد رواه مالك عن عبدالله بن أبي بكر عن أبيه، عن عمرة بنت عبدالرحمن أن سارقا سرق في زمن عثمان أترجة، فأمر بها عثمان أن تقوم فقومت بثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهما، فقطع عثمان يده.الشيخ: فصار ربع دينار، الدينار ذاك الوقت اثني عشر، صرفه ذاك الوقت من اثني عشر وهو ربع دينار.
 
من صرف اثني عشر درهما، فقطع عثمان يده.
قال أصحاب مالك: ومثل هذا الصنيع يشتهر، ولم ينكر، فمن مثله يحكى الإجماع السكوتي، وفيه دلالة على القطع في الثمار خلافا للحنفية، وعلى اعتبار ثلاثة دراهم خلافا لهم في أنه لا بد من عشرة دراهم، وللشافعية في اعتبار ربع دينار، والله أعلم.
وذهب الشافعي رحمه الله إلى أن الاعتبار في قطع يد السارق بربع دينار أو ما يساويه من الأثمان أو العروض فصاعدا، والحجة في ذلك ما أخرجه الشيخان البخاري ومسلم من طريق الزهري عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ قال: تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا ولمسلم من طريق أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ قال: لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا.
قال أصحابنا: فهذا الحديث فاصل في المسألة، ونص في اعتبار ربع الدينار لا ما ساواه. قالوا: وحديث ثمن المجن، وأنه كان ثلاثة دراهم لا ينافي هذا لأنه إذ ذاك كان الدينار باثني عشر درهما، فهي ثمن ربع دينار، فأمكن الجمع بهذا الطريق.
ويروى هذا المذهب عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب ، وبه يقول عمر بن عبدالعزيز والليث بن سعد والأوزاعي والشافعي وأصحابه، وإسحاق بن راهويه في رواية عنه، وأبو ثور وداود بن علي الظاهري، رحمهم الله.
وذهب الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه في رواية عنه، إلى أن كل واحد من ربع الدينار والثلاثة دراهم مرد شرعي، فمن سرق واحدا منهما أو ما يساويه، قطع عملا بحديث ابن عمر وبحديث عائشة رضي الله عنها، ووقع في لفظ عند الإمام أحمد عن عائشة أن رسول الله ﷺ قال: اقطعوا في ربع دينار، ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم، والدينار اثني عشر درهما. وفي لفظ للنسائي لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن. قيل لعائشة: ما ثمن المجن؟ قالت: ربع دينار، فهذه كلها نصوص دالة على عدم اشتراط عشرة دراهم، والله أعلم.
وأما الإمام أبو حنيفة وأصحابه أبو يوسف ومحمد وزفر، وكذا سفيان الثوري، رحمهم الله، فإنهم ذهبوا إلى أن النصاب عشرة دراهم مضروبة غير مغشوشة، واحتجوا بأن ثمن المجن الذي قطع فيه السارق على عهد رسول الله ﷺ كان ثمنه عشرة دراهم.
وقد روى أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا ابن نمير وعبدالأعلى، حدثنا محمد بن إسحاق عن أيوب بن موسى، عن عطاء، عن ابن عباس قال: كان ثمن المجن على عهد النبي ﷺ عشرة دراهم، ثم قال: حدثنا عبدالأعلى عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله ﷺ: لا تقطع يد السارق في دون ثمن المجن وكان ثمن المجن عشرة دراهم، قالوا: فهذا ابن عباس وعبدالله بن عمرو قد خالفا ابن عمر في ثمن المجن، فالاحتياط الأخذ بالأكثر، لأن الحدود تدرأ بالشبهات.
وذهب بعض السلف إلى أنه تقطع يد السارق في عشرة دراهم أو دينار أو ما يبلغ قيمته واحدا منهما، يحكى هذا عن علي وابن مسعود وإبراهيم النخعي وأبي جعفر الباقر رحمهم الله تعالى. وقال بعض السلف: لا تقطع الخمس إلا في خمس، أي في خمسة دنانير أو خمسين درهما، وينقل هذا عن سعيد بن جبير رحمه الله. وقد أجاب الجمهور عما تمسك به الظاهرية من حديث أبي هريرة يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده بأجوبة:
أحدها: أنه منسوخ بحديث عائشة، وفي هذا نظر، لأنه لا بد من بيان التاريخ.
والثاني: أنه مؤول ببيضة الحديد وحبل السفن، قاله الأعمش فيما حكاه البخاري وغيره عنه.
والثالث: أن هذه وسيلة إلى التدرج في السرقة من القليل إلى الكثير الذي تقطع فيه يده.
ويحتمل أن يكون هذا خرج مخرج الإخبار عما كان الأمر عليه في الجاهلية حيث كانوا يقطعون في القليل والكثير، فلعن السارق الذي يبذل يده الثمينة في الأشياء المهينة، وقد ذكروا أن أبا العلاء المعري لما قدم بغداد، اشتهر عنه أنه أورد إشكالا على الفقهاء في جعلهم نصاب السرقة ربع دينار، ونظم في ذلك شعرا دل على جهله وقلة عقله، فقال:
يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
تناقض ما لنا إلا السكوت له وأن نعوذ بمولانا من النار
الشيخ: بخمس مئين يعني على لغة من جر النون بالإضافة إلى عسجد يعني الذهب.
وأبو العلاء ملحد أبو العلاء المعري ملحد، وهذا من إلحاده، ولهذا قال:
يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
يعني ديتها لو قطعت نصف ألف على من قال أن الدية ألف دينار أحد أنواع الدية، ثم تقطع في ربع دينار إذا سرقت قال:
تناقض ما لنا إلا السكوت له وأن نعوذ بمولانا من النار
ليس فيه تناقض، بل هي لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت، لما خانت وتعددت الحدود صارت رخيصة صارت هينة، ولما كانت أمينة سليمة صارت غالية ورفيعة وديتها نصف الدية.
والمقصود من هذا أن حديث: لعن الله السارق تقطع يده في البيضة والحبل الصواب القول الثالث وأنها على سبيل التدرج، وأن الرسول ﷺ لعن السارق الذي يسرق البيضة فتقطع يده والحبل؛ لأنه يتدرج من الصغير إلى الكبير، ومن سرق البيضة تجرأ على ما فوقها، وإن سرق الحبل تجرأ على ما فوقه، فهذا يجره إلى السرقة؛ فينبغي للعبد أن يحذر الشيء القليل الحقير حتى لا يتدرج وحتى لا يجره ذلك إلى سرقة ما تقطع به يده.
فأصح الأقوال أن النصاب ربع دينار كما قاله الشافعي وجماعة من السلف لحديث عائشة الصريح، وهو أن المجن من قطع فيه لأنه وافق ربع الدينار، هذا هو أصح الأقوال المذكورة أن النصاب الذي تقطع به اليد ربع دينار من الذهب وما قام مقامه.
س: إذا نفذ حكم الشرع في قطع اليد، يوجد الآن في الطب الحديث إعادتها؟
الشيخ: لا ما تعاد، لأن المقصود إهلاكها وأن يبقى مقطوع اليد حتى يكون عبرة للناس.
.................
ولما قال ذلك واشتهر عنه طلبه الفقهاء فهرب منهم، وقد أجابه الناس في ذلك، فكان جواب القاضي عبدالوهاب المالكي رحمه الله أن قال: لما كانت أمينة، كانت ثمينة، ولما خانت هانت. ومنهم من قال: هذا من تمام الحكمة والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة، فإنه في باب الجنايات ناسب أن تعظم قيمة اليد بخمسمائة دينار لئلا يجنى عليها. وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدر الذي تقطع فيه ربع دينار، لئلا يسارع الناس في سرقة الأموال، فهذا هو عين الحكمة عند ذوي الألباب ولهذا قال: جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38] أي مجازاة على صنيعهما السيئ في أخذهما أموال الناس بأيديهم، فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك نَكَالًا مِنَ اللَّهِ أي تنكيلا من الله بهما على ارتكاب ذلك، وَاللَّهُ عَزِيزٌ أي في انتقامه، حَكِيمٌ أي في أمره ونهيه وشرعه وقدره.س: تعليق اليد على الصدر بعد القطع؟
الشيخ: ورد بها آثار أنها تعلق ثلاثة أيام، جاء بعض الآثار، لكن ما أذكر أنه ثبت فيها شيء، لكن ذكره جماعة من الفقهاء حتى يشتهر يعني.
................
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
أي من تاب بعد سرقته وأناب إلى الله فإن الله يتوب عليه فما بينه وبينه، فأما أموال الناس فلا بد من ردها إليهم أو بدلها عند الجمهور، وقال أبو حنيفة: متى قطع وقد تلفت في يده فإنه لا يرد بدلها، وقد روى الحافظ أبو الحسن الدارقطني من حديث عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ أتي بسارق قد سرق شملة، فقال: ما إخاله سرق، فقال السارق: بلى يا رسول الله. قال: اذهبوا به فاقطعوه، ثم احسموه، ثم ائتوني به فقطع فأتي به فقال: تب إلى الله فقال: تبت إلى الله، فقال: تاب الله عليك. وقد روي من وجه آخر مرسلا، ورجح إرساله علي بن المديني وابن خزيمة رحمهما الله.
وروى ابن ماجه من حديث ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبدالرحمن بن ثعلبة الأنصاري، عن أبيه أن عمر بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس، جاء إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، إني سرقت جملا لبني فلان، فطهرني فأرسل إليهم النبي ﷺ فقالوا: إنا افتقدنا جملا لنا، فأمر به فقطعت يده؛ وهو يقول: الحمد لله الذي طهرني منك، أردت أن تدخلي جسدي النار.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا موسى بن داود، حدثنا ابن لهيعة عن يحيى بن عبدالله، عن أبي عبدالرحمن الحبلي، عن عبدالله بن عمرو قال: سرقت امرأة حليا فجاء الذين سرقتهم، فقالوا: يا رسول الله، سرقتنا هذه المرأة، فقال رسول الله ﷺ: اقطعوا يدها اليمنى فقالت المرأة: هل من توبة؟ فقال رسول الله ﷺ: أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك، قال: فأنزل الله فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:39].
الشيخ: وهذا عام في جميع الذنوب من السرقة وغيرها، من تاب إلى الله تاب الله عليه ، ولهذا قال سبحانه: فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ [المائدة:39] ويقول جل وعلا: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82] ويقول : وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31] فعلق الفلاح بالتوبة وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8] لما بين حكم السارق وأنه تقطع يده بين أن الله غفور رحيم لمن تاب، وهو تقطع يده ولو تاب لكن يعفى عنه من جهتين من جهة أن القطع كفارة، والحدود كفارة، والتوبة كفارة، فإذا تاب مع إقامة الحد اجتمع له كفارتان، كفارة بقطع اليد وكفارة بالتوبة، وهكذا بقية الحدود، كالزاني وشارب الخمر وغير ذلك، إذا أقيم عليه الحد صار الحد كفارة، وإذا ندم على ما مضى منه وأقلع صارت كفارة أخرى جمع الله له كفارتين.
والمشرك كذلك إذا تاب إلى الله وندم على ما فعل من الشرك تاب الله عليه.... حسناته السابقة، وأثبتها له كما قال النبي ﷺ: أسلمت على ما أسلفت من خير، هكذا قال النبي لحكيم بن حزام لما سأل عن أعمال شرعية فعلها أعمال طيبة من عتاقة وصلة وصدقات قال: أسلمت على ما أسلفت من خير.
فمن رحمة الله أن التوبة تجب الذنوب وتمحوها جميعًا إذا كانت صادقة ويخرج منها كيوم ولدته أمه، يعني إذا تاب توبة عامة صادقة، أما إذا تاب من ذنبه الذي أخذ به فالتوبة مقيدة، فمن تاب من الزنا وحده توبة صادقة قبل منه، ومن تاب من العقوق وحده قبل منه، ومن تاب من القطيعة وحدها قبل منه، ومن تاب من المسكر وحده قبل منه، يجوز التبعض في التوبة عند أهل السنة، يجوز التوبة من الذنوب جميعًا ويجوز أن يتوب من بعضها، فإذا كان عنده ذنبان السرقة والعقوق، ثم تاب من أحدهما توبة صادقة مشتملة على الشروط تاب الله عليه، وبقي عليه الذنب الآخر، فإذا تاب من الذنب الآخر كذلك وهكذا.
لكن لا بدّ من استيفاء الشروط، لا بدّ أن يندم على الماضي من سيئاته ويقلع منها ويتركها ويعزم عزمًا صادقًا أن لا يعود فيها، ولا بدّ من رد المظالم كالسرقة يردها على أهلها، وقال بعضهم: إذا عجز سقطت عنه، والصواب الذي عليه الجمهور أنها لا تسقط بل تبقى في ذمته كالدين؛ فالسرقة التي أخذها وأتلفها؛ فإنها تبقى في ذمته حتى يؤديها؛ إلا أن يعفوا ويصفحوا، هذا الذي عليه جمهور أهل العلم.
وأما حديث أنه ليس على السارق غرامة فهو حديث ضعيف، الذي تعلق به الأحناف هو حديث ضعيف لا تقوم به الحجة، بل لا بد من رد المظلمة، إن كانت موجودة وإن كان أتلفها أو تلفت عنده فعليه ردها بمثلها إن كانت مثلية أو قيمتها إن كانت متقومة.. من تمام التوبة.
وقد رواه الإمام أحمد بأبسط من هذا فقال: حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثني حيي بن عبدالله عن أبي عبدالرحمن الحبلي، عن عبدالله بن عمرو أن امرأة سرقت على عهد رسول الله ﷺ، فجاء بها إلى الذين سرقتهم، فقالوا: يا رسول الله، إن هذه المرأة سرقتنا. قال قومها: فنحن نفديها، فقال رسول الله ﷺ اقطعوا يدها، فقالوا: نحن نفديها بخمسمائة دينار، فقال: اقطعوا يدها فقطعت يدها اليمنى، فقالت المرأة: هل لي من توبة يا رسول الله؟. قال: نعم، أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك، فأنزل الله في سورة المائدة فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:39].
وهذه المرأة هي المخزومية التي سرقت، وحديثها ثابت في الصحيحين من رواية الزهري عن عروة، عن عائشة أن قريشا أهمهم شأن المرأة التي سرقت، في عهد النبي ﷺ في غزوة الفتح، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله ﷺ؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله ﷺ، فأتى بها رسول الله ﷺ، فكلمه فيها أسامة بن زيد، فتلون وجه رسول الله ﷺ فقال: أتشفع في حد من حدود الله ؟ فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله، فلما كان العشي، قام رسول الله ﷺ فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليهه الحد، وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطعت يدها، ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها. قالت عائشة: فحسنت توبتها بعد، وتزوجت وكانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله ﷺ، وهذا لفظ مسلم. وفي لفظ له عن عائشة قالت: كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي ﷺ بقطع يدها.
وعن ابن عمر قال: كانت امرأة مخزومية تستعير متاعا على ألسنة جاراتها وتجحده، فأمر رسول الله ﷺ بقطع يدها، رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وهذا لفظه، وفي لفظ له: أن امرأة كانت تستعير الحلي للناس ثم تمسكه، فقال رسول الله ﷺ: لتتب هذه المرأة إلى الله وإلى رسوله، وترد ما تأخذ على القوم، ثم قال رسول الله ﷺ: قم يا بلال فخذ بيدها فاقطعها. وقد ورد في أحكام السرقة أحاديث كثيرة مذكورة في كتاب الأحكام، ولله الحمد والمنة.
ثم قال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [المائدة:40] أي هو المالك لجميع ذلك، الحاكم فيه، الذي لا معقب لحكمه، وهو الفعال لما يريد يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير.
الشيخ: هذا يدل على أن الواجب على ولاة الأمور إقامة الحدود على الشريف والوضيع، وأنه لا يجوز أن تقام على الضعفاء وأن يترك الأشراف والرؤساء والأعيان ولا يقام عليهم الحد؛ بل لا بدّ من إقامة الحد على الجميع، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها وقال: إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد فالواجب حينئذ أن تنفذ الحدود فيمن وجبت عليه بشروطها ولو كان رفيعًا في الناس وكبيرًا في الناس، وهكذا بقية الحدود كحد الخمر وحد الحرابة وحد الزنا وغير هذا، فالجواب هو أن تنفذ الحدود حتى يأمن الناس، حتى يستقر الأمن للناس، وحتى يقف كل واحد بحده.
فأما إذا جاء الحيف والتساهل مع بعض الناس؛ لن تستقيم الأمور ولن يستقيم الأمن ويستتب وكان لأصحاب الرياسة والشرف والجاه عند الناس كان لهم جرأة على المسلمين وعدم الوقوف عند الحدود التي حدها الله لعباده.
س:......؟
الشيخ: إذا ما رفعت للسلطان لا بأس، إذا كان فيما بينهم تعافوا وتسامحوا فيما بينهم لا حرج.
س: ولا على شيء؟
الشيخ: ما عليهم شيء لا، إنما هذا إذا رفعت للسلطان، أما قبل السلطان فلا بأس.
س: اشتراط الحرز؟
الشيخ: لا بدّ من حرز السرقة لا بدّ من حرز.
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۝ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ۝ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ۝ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ
نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر، الخارجين عن طاعة الله ورسوله، المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله من الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ أي أظهروا الإيمان بألسنتهم، وقلوبهم خراب خاوية منه، وهؤلاء هم المنافقون.
وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا أعداء الإسلام وأهله، وهؤلاء كلهم سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أي مستجيبون له، منفعلون عنه، سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ أي يستجيبون لأقوام آخرين لا يأتون مجلسك يا محمد، وقيل: المراد أنهم يتسمعون الكلام وينهونه إلى قوم آخرين ممن لا يحضر عندك من أعدائك.
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ أي يتأولونه على غير تأويله، ويبدلونه من بعد ما عقلوه، وهم يعلمون.
يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا قيل: نزلت في قوم من اليهود قتلوا قتيلا، وقالوا: تعالوا حتى نتحاكم إلى محمد، فإن حكم بالدية فاقبلوه، وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه، والصحيح أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم، فحرفوه واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة، والتحميم والإركاب على حمارين مقلوبين، فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قالوا فيما بينهم: تعالوا حتى نتحاكم إليه، فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه واجعلوه حجة بينكم وبين الله، ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك.
وقد وردت الأحاديث في ذلك فقال مالك، عن نافع، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: إن اليهود جاءوا إلى رسول الله ﷺ فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله ﷺ ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون، قال عبدالله بن سلام: كذبتم، إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبدالله بن سلام: ارفع يدك فرفع يده، فإذا آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله ﷺ فرجما، فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة، أخرجاه، وهذا لفظ البخاري وفي لفظ له: فقال لليهود ما تصنعون بهما؟ قالوا: نسخم وجوههما ونخزيهما، قال فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:93] فجاؤوا فقالوا لرجل منهم ممن يرضون أعور: اقرأ فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها، فوضع يده عليه فقال: ارفع يدك فرفع، فإذا آية الرجم تلوح، قال: يا محمد إن فيها آية الرجم ولكنا نتكاتمه بيننا، فأمر بهما فرجما.
وعند مسلم أن رسول الله ﷺ أتي بيهودي ويهودية قد زنيا، فانطلق رسول الله ﷺ حتى جاء يهود فقال: ما تجدون في التوراة على من زنى؟ قالوا: نسود وجوههما ونحممهما، ونحملهما ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما. قال فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:93] قال: فجاؤوا بها فقرؤوها حتى إذا مروا بآية الرجم، وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم، وقرأ ما بين يديها وما وراءها، فقال له عبدالله بن سلام وهو مع رسول الله ﷺ: مره فليرفع يده فرفع يده، فإذا تحتها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله ﷺ فرجما. قال عبدالله بن عمر: كنت فيمن رجمهما، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه.
وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني، حدثنا ابن وهب، حدثنا هشام بن سعد أن زيد بن أسلم حدثه عن ابن عمر قال: أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله ﷺ إلى القف، فأتاهم في بيت المدارس، فقالوا: يا أبا القاسم، إن رجلا منا زنى بامرأة فاحكم. قال: ووضعوا لرسول الله ﷺ وسادة فجلس عليها، ثم قال: ائتوني بالتوراة فأتي بها، فنزع الوسادة من تحته ووضع التوراة عليها، وقال: آمنت بك وبمن أنزلك ثم قال: ائتوني بأعلمكم فأتي بفتى شاب ثم ذكر قصة الرجم نحو حديث مالك عن نافع.
وقال الزهري: سمعت رجلا من مزينة ممن يتبع العلم ويعيه، ونحن عند ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: زنى رجل من اليهود بامرأة فقال بعضهم لبعض: اذهبوا إلى هذا النبي فإنه بعث بالتخفيف، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله، قلنا: فتيا نبي من أنبيائك. قال: فأتوا النبي ﷺ وهو جالس في المسجد في أصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم، ما تقول في رجل وامرأة منهم زنيا؟ فلم يكلمهم بكلمة حتى أتى بيت مدارسهم، فقام على الباب فقال: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟ قالوا: يحمم ويجبه ويجلد، والتجبية أن يحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما ويطاف بهما، قال: وسكت شاب منهم، فلما رآه رسول الله ﷺ سكت، ألظ به رسول الله ﷺ النشدة، فقال: اللهم إذ نشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم، فقال النبي ﷺ: فما أول ما ارتخصتم أمر الله قال: زنى ذو قرابة من ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم، ثم زنى رجل في أثره من الناس فأراد رجمه، فحال قومه دونه وقالوا: لا نرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه، فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم، فقال النبي ﷺ: فإني أحكم بما في التوراة فأمر بهما فرجما، قال الزهري: فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا [المائدة:44] فكان النبي ﷺ منهم، رواه أحمد وأبو داود وهذا لفظه، وابن جرير.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن عبدالله بن مرة، عن البراء بن عازب، قال: مر على رسول الله ﷺ يهودي محمم مجلود، فدعاهم، فقال أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ فقالوا: نعم، فدعا رجلا من علمائهم فقال: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ فقال: لا والله، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا حتى نجعل شيئا نقيمه على الشريف والوضيع، فاجتمعنا على التحميم والجلد، فقال النبي ﷺ: اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه قال: فأمر به فرجم، قال: فأنزل الله يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إلى قوله يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ [المائدة:41] أي يقولون: ائتوا محمدا فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، إلى قوله وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] قال في اليهود، إلى قوله وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45] قال في اليهود وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47] قال: في الكفار كلها، انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه من غير وجه عن الأعمش به.
وقال الإمام أبو بكر عبدالله بن الزبير الحميدي في مسنده: حدثنا سفيان بن عيينة، حدثنا مجالد بن سعيد الهمداني عن الشعبي، عن جابر بن عبدالله، قال: زنى رجل من أهل فدك، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة، أن سلوا محمدا عن ذلك، فإذا أمركم بالجلد فخذوه عنه، وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه، فسألوه عن ذلك، فقال أرسلوا إلي أعلم رجلين فيكم فجاؤوا برجل أعور يقال له ابن صوريا، وآخر، فقال لهما النبي ﷺ أنتما أعلم من قبلكما فقالا: قد دعانا قومنا لذلك، فقال النبي ﷺ لهما أليس عندكما التوراة فيها حكم الله قالا: بلى، فقال النبي ﷺ أنشدكم بالذي فلق البحر لبني إسرائيل، وظلل عليكم الغمام، وأنجاكم من آل فرعون، وأنزل المن والسلوى على بني إسرائيل، ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقال أحدهما للآخر: ما نشدت بمثله قط، ثم قالا: نجد ترداد النظر زنية، والاعتناق زنية، والتقبيل زنية، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يبدئ ويعيد، كما يدخل الميل في المكحلة، فقد وجب الرجم، فقال النبي ﷺ هو ذاك فأمر به فرجم، فنزلت فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المائدة:42].
ورواه أبو داود وابن ماجه من حديث مجالد به نحوه. ولفظ أبي داود عن جابر، قال: جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا، فقال ائتوني بأعلم رجلين منكم فأتوه بابني صوريا، فنشدهما كيف تجدان أمر هذين في التوراة؟ قالا: نجد إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما، قال فما يمنعكم أن ترجموهما؟ قالا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل، فدعا رسول الله ﷺ بالشهود، فجاء أربعة، فشهدوا أنهم رأوا ذكره مثل الميل في المكحلة، فأمر رسول الله ﷺ برجمهما، ثم رواه أبو داود عن الشعبي وإبراهيم النخعي مرسلا، ولم يذكر فيه: فدعا بالشهود فشهدوا.
فهذه الأحاديث دالة على أن رسول الله ﷺ حكم بموافقة حكم التوراة، وليس هذا من باب الإكرام لهم بما يعتقدون صحته، لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة، ولكن هذا بوحي خاص من الله إليه بذلك، وسؤاله إياهم عن ذلك، ليقررهم على ما بأيديهم مما تواطؤوا على كتمانه وجحده وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة، فلما اعترفوا به مع علمهم على خلافه بأن زيغهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم، وعدولهم إلى تحكيم رسول الله ﷺ إنما كان عن هوى منهم، وشهوة لموافقة آرائهم لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به، ولهذا قالوا إن أوتيتم هذا أي: الجلد والتحميم، فخذوه، أي اقبلوه، وإن لم تؤتوه فاحذروا أي من قبوله واتباعه.
وقال الله تعالى: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۝ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أي الباطل أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ أي الحرام، وهو الرشوة، كما قاله ابن مسعود وغير واحد، أي ومن كانت هذه صفته كيف يطهر الله قلبه وأنى يستجيب له، ثم قال لنبيه فَإِنْ جَاءُوكَ أي يتحاكمون إليك فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا أي فلا عليك أن لا تحكم بينهم، لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق بل ما يوافق أهواءهم، قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والسدي وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني والحسن وغير واحد: هي منسوخة بقوله وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة:49]، وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ [المائدة:42] أي بالحق والعدل، وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المائدة:42].
ثم قال تعالى منكرا عليهم في آرائهم الفاسدة، ومقاصدهم الزائغة في تركهم ما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم، الذي يزعمون أنهم مأمورون بالتمسك به أبدا، ثم خرجوا عن حكمه، وعدلوا إلى غيره مما يعتقدون في نفس الأمر بطلانه وعدم لزومه لهم، فقال وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [المائدة:43] ثم مدح التوراة التي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران، فقال إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا [المائدة:44] أي لا يخرجون عن حكمها ولا يبدلونها ولا يحرفونها، وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ أي وكذلك الربانيون منهم، وهم العلماء العباد، والأحبار وهم العلماء بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أي بما استودعوا من كتاب الله الذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به، وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ أي لا تخافوا منهم وخافوا مني، وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ فيه قولان سيأتي بيانهما. حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق، فكانوا على ذلك حتى قدم النبي ﷺ، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا لنا بمائة وسق، فقالت الذليلة: وهل كان في حيين دينهما واحد، ونسبهما واحد، وبلدهما واحد، دية بعضهم نصف دية بعض، إنما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا وفرقا منكم؛ فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم، فكادت الحرب تهيج بينهما ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله ﷺ بينهم، ثم ذكرت العزيزة، فقالت: والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم، ولقد صدقوا، ما أعطونا هذا إلا ضيما منا وقهرا لهم فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه، وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه، فدسوا إلى رسول الله ﷺ ناسا من المنافقين ليخبروا لهم رأى رسول الله ﷺ، فلما جاءوا رسول الله ﷺ، أخبر الله رسوله ﷺ بأمرهم كله وما أرادوا، فأنزل الله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْر [المائدة:41] إلى قوله الفاسقون ففيهم والله أنزل، وإياهم عنى الله ﷺ، ورواه أبو داود من حديث ابن أبي الزناد عن أبيه بنحوه.
وقال أبو جعفر بن جرير حدثنا هناد بن السري وأبو كريب، قالا: حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق، حدثني داود بن الحصين عن عكرمة، عن ابن عباس: أن الآيات التي في المائدة قوله فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ إلى الْمُقْسِطِينَ [المائدة:42] إنما أنزلت في الدية في بني النضير وبني قريظة، وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف، تؤدى لهم الدية كاملة، وأن قريظة كانوا يؤدى لهم نصف الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله ﷺ، فأنزل الله ذلك فيهم، فحملهم رسول الله ﷺ على الحق في ذلك، فجعل الدية في ذلك سواء، والله أعلم أي ذلك كان، ورواه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث ابن إسحاق بنحوه.
ثم قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا عبيد الله بن موسى عن علي بن صالح، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كانت قريظة والنضير، وكانت النضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل القرظي رجلا من النضير قتل به، وإذا قتل النضيري رجلا من قريظة، ودي بمائة وسق من تمر، فلما بعث رسول الله ﷺ قتل رجل من النضير رجلا من قريظة، فقالوا: ادفعوا إليه، فقالوا: بيننا وبينكم رسول الله ﷺ، فنزلت وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط، ورواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم في المستدرك من حديث عبيد الله بن موسى بنحوه، وهكذا قال قتادة ومقاتل بن حبان وابن زيد وغير واحد.
وقد روى العوفي وعلي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلت في اليهوديين اللذين زنيا، كما تقدمت الأحاديث بذلك، وقد يكون اجتمع هذان السببان في وقت واحد، فنزلت هذه الآيات في ذلك كله، والله أعلم، ولهذا قال بعد ذلك وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ [المائدة:45] إلى آخرها، وهذا يقوي أن سبب النزول قضية القصاص، والله أعلم.
وقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] قال البراء بن عازب وحذيفة بن اليمان وابن عباس وأبو مجلز وأبو رجاء العطاردي وعكرمة وعبيد الله بن عبدالله والحسن البصري وغيرهم: نزلت في أهل الكتاب، زاد الحسن البصري: وهي علينا واجبة، وقال عبدالرزاق عن سفيان الثوري، عن منصور عن إبراهيم، قال نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل، ورضي الله لهذه الأمة بها، رواه ابن جرير.
وقال ابن جرير أيضا: حدثنا يعقوب، حدثنا هشيم أخبر عبدالملك بن أبي سليمان عن سلمة بن كهيل، عن علقمة ومسروق أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة. فقال: من السحت، قال فقالا: وفي الحكم، قال: ذاك الكفر، ثم تلا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44].
وقال السدي وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] يقول: ومن لم يحكم بما أنزلت فتركه عمدا أو جار وهو يعلم، فهو من الكافرين.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] قال: من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق، رواه ابن جرير، ثم اختار أن الآية المراد بها أهل الكتاب، أو من جحد حكم الله المنزل في الكتاب.
وقال عبدالرزاق، عن الثوري، عن زكريا، عن الشعبي: ومن لم يحكم بما أنزل الله، قال للمسلمين.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى، حدثنا عبدالصمد، حدثنا شعبة عن ابن أبي السفر، عن الشعبي وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] قال: هذا في المسلمين وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45] قال: هذا في اليهود وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47] قال: هذا في النصارى، وكذا رواه هشيم والثوري، عن زكريا بن أبي زائدة، عن الشعبي.
وقال عبدالرزاق أيضا: أخبرنا معمر عن ابن طاوس، عن أبيه قال: سئل ابن عباس عن قوله وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ الآية، قال: هي به كفر، قال ابن طاوس: وليس كمن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وقال الثوري، عن ابن جريج، عن عطاء أنه قال: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، رواه ابن جرير، وقال وكيع، عن سعيد المكي، عن طاوس وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] قال: ليس بكفر ينقل عن الملة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبدالله بن يزيد المقري، حدثنا سفيان بن عيينة، عن هشام بن حجير، عن طاوس، عن ابن عباس في قوله وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] قال: ليس بالكفر الذي تذهبون إليه، ورواه الحاكم في مستدركه من حديث سفيان بن عيينة، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
وهذا أيضا مما وبخت به اليهود وقرعوا عليه، فإن عندهم في نص التوراة أن النفس بالنفس، وهم يخالفون حكم ذلك عمدا وعنادا، ويقيدون النضري من القرظي، ولا يقيدون القرظي من النضري، بل يعدلون إلى الدية كما خالفوا حكم التوراة المنصوص عندهم في رجم الزاني المحصن، وعدلوا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإشهار، ولهذا قال هناك وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] لأنهم جحدوا حكم الله قصدا منهم وعنادا وعمدا، وقال هاهنا فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه، فخالفوا وظلموا وتعدوا على بعضهم بعضا.
الشيخ: وهذا من تحريفهم لأن الله أخبر عنهم أنهم حرفوا كلمه عن مواضعه، وغيروا وبدلوا فهذا من ذلك، فإن اليهود قوم بهت وقوم عدوان، ولهذا ذكر الله عنهم أنهم غيروا وبدلوا، ومن ذلك تغييرهم في الحدود فجحدوا الرجم وغيروه بالجلد والتحميم، وهو التسويب والإشهار حتى فضحهم الله على يد نبيه محمد عليه الصلاة والسلام بما وجد في التوراة وما تلي عليهم في التوراة من الرجم، وهكذا عملهم في بني النضير وقريظة وهم يهود المدينة فإنهم ثلاث طوائف: النضير، وقريظة، وبني قينقاع، فكانت النضير ذات شرف فيهم، وكانوا إذا قتل منهم أحد أقيدوا وإذا قتلوا من بني قريظة لم يقادوا، وهذا من ظلمهم وعدوانهم، فبين الله أن من جحد دينه فهو كافر، ومن تعدى على حدوده فهو ظالم، والواجب على جميع العباد أن يخضعوا لحكم الله وأن يدينوا به لهم وعليهم، وأن ينصفوا المظلوم من الظالم، ولهذا لما سرقت امرأة من بني مخزوم في مكة وأمر النبي بقطعها؛ استنكر بنو مخزوم ذلك كيف تقطع يدها؟، وطلبوا من أسامة الشفاعة، فغضب النبي ﷺ لما شفع أسامة وقال: أتشفع في حد من حدود الله؟! ثم خطب الناس عليه الصلاة والسلام وذكرهم وقال: إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها والمقصود من هذا أن الواجب تعميم العقوبات وعدم تخصيص الأشراف بشيء وغيرهم بشيء آخر، بل تجب العقوبات في حق الجميع كما شرع الله ؛ ولأن في ذلك استقامة المجتمع وصلاح المجتمع، وبالتفريق وعدم الإنصاف يفسد المجتمع ويكثر الهرج والمرج والفساد.
والمخالف لحكم الله على حالين: إن خالف حكم الله استحلالاً بذلك فهو كافر مرتد، وإن خالف ذلك لطمع وهوى وهو يعرف أنه مخطئ وأنه عاص ولكنه خالف ذلك لرشوة أو لقرابة أو لأشباه ذلك صار بذلك ظالمًا عاصيًا كافرًا كفرًا دون كفر كما قال ابن عباس ومجاهد وجماعة من السلف رحمة الله عليهم.