24 من قوله: ( وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ..)

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ۝ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ۝ وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ ۝ وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۝ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ
يقول تعالى: قل يا محمد لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من أهل الكتاب: هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل أي هل لكم علينا مطعن أو عيب إلا هذا؟ وهذا ليس بعيب ولا مذمة، فيكون الاستثناء منقطعا، كما في قوله تعالى: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8]، وكقوله: وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ [التوبة:74] وفي الحديث المتفق عليه ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيرا فأغناه الله، وقوله: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:59] معطوف على أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ [المائدة:59] أي وآمنا بأن أكثركم فاسقون، أي خارجون عن الطريق المستقيم.

الشيخ: وهذا يبين أن الكفار ليس لهم حجة على المسلمين، إلا أن المسلمين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا الله ورسوله وانقادوا لشرع الله وعظموا أمر الله ونهيه، واعتقدوا كفر أعداء الله وفسقهم وضلالهم عن الطريق القويم، هذا هو الذي ينقمه أعداء الله على أولياء الله كما في آية البروج وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8] ليس لهم شيء ينقمونه عليهم وشيء يحتجون به عليهم إلا أنهم خالفوهم في الدين، وآمنوا بالله ورسوله، وصدقوا الله ورسوله، والكفار بخلاف ذلك؛ لأنهم لم يؤمنوا بالله ولم يوحدوه، ولم يصدقوا رسوله عليه الصلاة والسلام، فلهذا نقموا على أهل الإيمان وعادوهم وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم، كل ذلك بسبب إيمانهم بالله وتصديقهم رسله وانقيادهم لشرعه وتعظيمهم أمره ونهيه، والمعنى: أن الواجب على أهل الإيمان الثبات على الحق الذي هداهم الله له، وقد فرحوا بذلك وسروا بذلك، وأن لا يبالوا بأعداء الله وما نقموه؛ لأنهم فاسقون ضالون مضلين، فلا وجه لنقمتهم، ولا وجه لمعارضتهم ولا استهزائهم، بل يجب أن يعادوا في الله وأن يبغضوا في الله، وأن يقاتلوا حتى يلتزموا الحق، أو يؤدوا الجزية إن كانوا من أهلها.
وفيه تطمين الله لأهل الإيمان وتثبيت لهم، وان أعداءكم لا حجة لهم عليكم، فاثبتوا واستقيموا وآمنوا، فأعداؤكم ظالمون خاسرون سفهاء، لا حجة لهم عليكم، وأنتم المرشدون، وأنتم المهتدون، وأنتم الصادقون، وأنتم الأحقون، بكل خير، هكذا يثبت عباه المؤمنين ويبين لهم ما هم عليه من الفضل العظيم والإيمان الصادق الذي من أجله عاداهم أعداء الله ونقموا منهم، فينبغي لهم أن يزيدهم هذا ثباتًا وإيمانًا ومجاهدة في الله، وصدقًا في اتباع رسوله عليه الصلاة والسلام.
ثم قال قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ [المائدة:60] أي هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بنا؟ وهم أنتم الذين هم متصفون بهذه الصفات المفسرة بقوله: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ [المائدة:60] أي أبعده من رحمته وَغَضِبَ عَلَيْهِ [المائدة:60] أي غضبًا لا يرضى بعده أبدًا وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ [المائدة:60] كما تقدم بيانه في سورة البقرة، وكما سيأتي إيضاحه في سورة الأعراف، وقد قال سفيان الثوري، عن علقمة بن مرثد، عن المغيرة بن عبدالله، عن المعرور بن سويد، عن ابن مسعود قال: سئل رسول الله ﷺ عن القردة والخنازير: أهي مما مسخ الله؟ فقال: إن الله لم يهلك قومًا، أو لم يمسخ قومًا فيجعل لهم نسلًا ولا عقبًا، وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك، وقد رواه مسلم من حديث سفيان الثوري ومسعر، كلاهما عن مغيرة بن عبدالله اليشكري به.الشيخ: والمعنى أنهم مسخوا على أولئك، يعني مسخ أولئك الذين حصل منهم ما حصل من الحيل والعدوان على شريعة الله وعلى ما أحل الله مسخوا قردة وخنازير، يعني عقوبة عاجلة، والقردة والخنازير أمتان من الأمم، كالكلاب والحمير والأسود والنمور والذئاب أمم، هم أمم كما قال الله: إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [الأنعام:38] لكن لما كانت هاتان الأمتان أمتين حقيرتين مسخ أولئك الضالون على شبههم، نسأل الله العافية، لبيان قبح ما فعلوا وشناعة ما صاروا إليه من الحيل، ولعذاب الآخرة أكبر، نسأل الله العافية.
وهذا مما يقال فيهم إنه ليس له في الطرف الآخر مشارك، قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ [المائدة:60] الطرف الأول ليس له شريك في الشر، والمؤمنون كل طرفهم طيب وليس فيهم شر بل هم أولياء الله وأتباع شريعته، وإنما الشر في أعدائهم الذين لعنهم الله وغضب عليهم، هم الشر وأهل الشر، وأهل الجنة في قوله تعالى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان:24] فهي هنا ليس لها مثال في الطرف الآخر، فأهل النار ليس عندهم خيرية، وليس عندهم راحة ولا فضل حتى يفضل عليهم أهل الجنة، والمعنى أن أهل الجنة هم أهل الخير وأهل الراحة والإيمان والطمأنينة والسعادة والاستقرار الحسن المريح، بخلاف أهل النار فهم في العذاب والشقاء والبلاء والعذاب المستمر.
فالمعنى أن أصحاب الجنة لهم الراحة لهم النعيم ولهم الخير العظيم، وأهل النار ليس لهم إلا الشر والبلاء والعذاب والأغلال، فعبر عن ذلك بقوله: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان:24]، فليس لأهل النار خير ولا حسن مقيل حتى يفضل عليهم هؤلاء، لكن المعنى كل الخير وكل الراحة وكل الطمأنينة وكل السعادة لأهل الجنة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا داود بن أبي الفرات، عن محمد بن زيد، عن أبي الأعور المعبدي.الشيخ: كذا عندكم؟
الطالب: صوابه العبدي، وهكذا هو في مسند أبي داود الطيالسي. الميم زائدة، محمد بن زيد العبدي.
الشيخ: صلحها.
عن أبي الأعور العبدي، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود قال: سألنا رسول الله ﷺ عن القردة والخنازير: أهي من نسل اليهود؟ فقال: لا، إن الله لم يلعن قومًا قط فيمسخهم، فكان لهم نسل، ولكن هذا خلق كان، فلما غضب الله على اليهود فمسخهم جعلهم مثلهم، ورواه أحمد من حديث داود بن أبي الفرات به.
الشيخ: الممسوخين ليس لهم نسل، فالذين مسخهم الله لا يبقى لهم نسل، جاء في الصحيح أنهم لا يبقون أكثر من ثلاثة أيام، المسوخ لا يعيشون أكثر من ثلاثة أيام ثم يموتون، فالممسوخون من اليهود وبني إسرائيل لم يعيشوا، وليس لهم نسل، وإنما القردة والخنازير أمتان موجودتان قبل ذلك.
وقال ابن مردويه: حدثنا عبدالباقي، حدثنا أحمد بن أسحاق بن صالح، حدثنا الحسن بن محبوب، حدثنا عبدالعزيز بن المختار عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: الحيات مسخ الجن، كما مسخت القردة والخنازير هذا حديث غريب جدًا.
الشيخ: عندك شيء عن الحسن بن محبوب؟
الطالب: الحسن بن محبوب قال في الجرح والتعديل: الحسن بن محبوب بن الحسن وهو ابن هلال بن أبي زينب القرشي [قال أبو محمد]: روى عن حماد بن زيد وعبدالعزيز بن المختار، وأبيه محبوب بن الحسن كتب عنه أبي وسألته عنه فقال: لا بأس به.
[قال أبو محمد]: روى عنه أبي وأبو زرعة.
الشيخ: والذي قبله؟
الطالب: أحمد بن إسحاق بن صالح، قال في الجرح أيضا: هو ابن عطاء الوزان الواسطي بسامرا أبو بكر، روى عن جندل بن والق، وخالد بن خداش، وسعيد الجرمي، كتبت عنه مع أبي، وهو صدوق.
الشيخ: يكون فيه عبدالباقي.. شيخ المؤلف؛ لأن فيه كلام كثير، لعله من أوهامه.. عبدالباقي بن قانع نقلتَ شيئًا فيه؟
الطالب: نعم، عبدالباقي بن قانع أبو الحسين الحافظ قال الدارقطني: كان يحفظ لكنه يخطئ ويصر، وقال البرقاني: هو عندي ضعيف، ورأيت البغداديين يوثقونه، وقال أبو الحسن ابن الفرات: حدث به اختلاط قبل موته بسنتين، وقال الخطيب: لا أدري لماذا ضعفه البرقاني، فقد كان ابن قانع من أهل العلم والدراية، ورأيت عامة شيوخنا يوثقونه، وقد تغير في آخر عمره، مات سنة 351. هذا في ميزان الاعتدال.
الشيخ: لعل هذا من أغلاطه بعدما اختلط، ما في شيء ثابت يدل على الجن مسخوا حيات، لكن يوجد من يتشكل بالحيات منهم، ويتشكلون بالكلاب، ويتشكلون بالسنور –القط-، ويتشكلون بغير ذلك، وقصة الشاب الذي انصرف إلى أهله يوم الأحزاب فوجد امرأته على الباب فأهوى إليها فقالت: انظر على مهلك، فإذا حية في صحن البيت قد أخرجتها، طعنها برمحه حتى لا يُدرى أيهما كان أسرع موتًا، وأخبرهم النبي ﷺ أن هذا من جن المدينة تشكل على حية، نسأل الله السلامة.
الشيخ: ما وجدت أحمد بن صالح في شيوخ ابن قانع؟
الطالب: لا أحمد بن إسحاق بن صالح، وتمام اسمه أحمد بن إسحاق بن صالح بن عطاء الوزان الواصلي.
الشيخ: يمكن نسب إلى جده.
س: قوله: إسناد غريب جداً، الغرابة في المتن أو في السند؟
الشيخ: الأقرب -والله أعلم- فيهما جميعًا، إذا كان ابن قانع انفرد به أو من فوقه، ولكن مراده -والله أعلم- المتن؛ لأن الغرابة في المتن أشد، وقد يكون لابن القانع متابع وأصحابه لكن متنه ليس له شاهد.
س: لكن تأكيد الغرابة بقوله: غريب جدًا؟
الشيخ: لأنه ما وجد له شاهدًا، يعني مقصوده -والله أعلم- المتن أنه ليس له شاهد.
وقوله تعالى: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ [المائدة:60] قرئ: وعبد الطاغوت على أنه فعل ماض، والطاغوت منصوب به، أي وجعل منهم من عبد الطاغوت، وقرئ: وعبد الطاغوت بالإضافة على أن المعنى وجعل منهم خدم الطاغوت، أي خدامه وعبيده، وقرئ: وعبد الطاغوت على أنه جمع الجمع عَبْد وعبيد وعُبُد.
الشيخ: عَبْد عبيد، وجمع عبيد عُبُد؛ لأنه فعيل بمعنى فعل.
مثل: ثمار، وثمر.
الشيخ: مثل حمار وحُمُر، وكتاب وكتب، وفريد وفرد
س: ما يكون قصده جمع الجمع منتهى الجموع؟
الشيخ: نعم قد يكون ........... عَبْد وعُبُد مثل أَسَد وأُسُد.
حكاها ابن جرير عن الأعمش، وحكي عن بريدة الأسلمي أنه كان يقرؤها وعابد الطاغوت، وعن أبي وابن مسعود: وعبدوا، وحكى ابن جرير عن أبي جعفر القارئ أنه كان يقرؤها: وعُبِدَ الطاغوت، على أنه مفعول ما لم يسم فاعله، ثم استبعد معناها، والظاهر أنه لا بعد في ذلك، لأن هذا من باب التعريض بهم، أي وقد عُبِد الطاغوت فيكم وأنتم الذين فعلتموه، وكل هذه القراءات يرجع معناها إلى أنكم يا أهل الكتاب الطاعنين في ديننا والذي هو توحيد الله وإفراده بالعبادات دون ما سواه، كيف يصدر منكم هذا، وأنتم قد وجد منكم جميع ما ذكر؟ ولهذا قال: أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا، أي مما تظنون بنا، وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيل وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر مشاركة.
الشيخ: مثل ما تقدم، مثل أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان:24].
 كقوله : أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان:24].
الشيخ: المعنى أنكم....... فيكم القردة وفيكم الخنازير وفيكم عباد غير الله، فالطاغوت: كل ما عبد من دون الله، فكيف تنقمون على أهل الإيمان الموحدين وأنتم فيكم النقص والعيب العظيم؟! وفيكم الكفر بالله وعبادة الطاغوت! وفيكم من عصى حتى مسخ إلى قردة وخنازير! فجدير بكم أن تستحيوا، وأن ترجعوا إلى حساب أنفسكم لما فيكم من الشرور، بدلاً من أن تنقموا على أولياء الله.
س .................
الشيخ .............
وقوله تعالى: وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ [المائدة:61] وهذه صفة المنافقين منهم أنهم يصانعون المؤمنين في الظاهر وقلوبهم منطوية على الكفر، ولهذا قال: وَقَدْ دَخَلُوا أي عندك يا محمد بِالْكُفْرِ أي مستصحبين الكفر في قلوبهم، ثم خرجوا وهو كامن فيها لم ينتفعوا بما قد سمعوا منك من العلم، ولا نجعت فيهم المواعظ ولا الزواجر، ولهذا قال: وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِه فخصهم به دون غيرهم.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ [المائدة:61] أي والله عالم بسرائرهم وما تنطوي عليه ضمائرهم، وإن أظهروا لخلقه خلاف ذلك، وتزينوا بما ليس فيهم، فإن الله عالم الغيب والشهادة أعلم بهم منهم، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء.
الشيخ: وهذا يبين لنا عظيم خطر المنافقين، وأن شرهم عظيم، وأنهم شر من الكفار المعلنين، فالمنافق يتظاهر بالإسلام ويصانع المؤمنين، ويظهر لهم أنه أخوهم، وأنه منهم، وهو مقيم على الكفر بالله، والغل للمسلمين، والحقد وقصد السوء لهم، وإدخال الشر عليهم، ولهذا يقول سبحانه: وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ [المائدة:61]، فهم مقيمون على الكفر بالله وإن قالوا آمنا، فهم يدخلون على المؤمنون بالكفر ويخرجون به لا يتغير شيء لما في قلوبهم من مرض والشك والريب والتكذيب، كما في الآية الأخرى يقول سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:9] فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:10]، ويقول سبحانه: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:142] مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ [النساء:143] ليس عندهم إيمان مستقيم، بل هم مترددون حائرون شاكون مرتابون، وهذه حال طائفة منهم، وطائفة منهم قد استقر الكفر في قلوبهم وإنكار لما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، والتكذيب بذلك، ولكنهم مع هذا يتظاهرون بالإيمان لينالوا من المسلمين شيئًا من مقاصدهم العاجلة، وليأمنوا على أنفسهم من القتل إن كان هناك قتل، وهم يتبعون مصالحهم ويريدون أن يحصلوا على ما ينفعهم في هذه العاجلة من إظهارهم الإسلام. فالواجب على المؤمنين الحذر منهم فإنهم يعرفون بسيماهم.
وقوله: وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ [المائدة:62] أي يبادرون إلى ذلك من تعاطي المآثم والمحارم والاعتداء على الناس وأكلهم أموالهم بالباطل، لبئس ما كانوا يعملون، أي لبئس العمل كان عملهم، وبئس الاعتداء اعتداؤهم.
الشيخ: ومن صفات المنافقين المسارعة في الإثم والعدوان وأكل السحت الحرام، من صفاتهم رقة الإيمان الظاهر والتساهل بأوامر الله ومحارمه في الظاهر، فالمسارعة إلى الإثم والعدوان والجور وأكل المال بالباطل وعدم المبالاة بذلك، هذا كله من الدلائل على ضعف الإيمان في قوم، وعلى عدمه في آخرين، نسأل الله السلامة.
وقوله تعالى: لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:63] يعني هلّا كان ينهاهم الربانيون والأحبار منهم عن تعاطي ذلك، والربانيون هم العلماء العمال أرباب الولايات عليهم، والأحبار هم العلماء فقط لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ يعني من تركهم ذلك، قاله علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: قال لهؤلاء حين لم ينهوا، ولهؤلاء حين عملوا، قال: وذلك الأمر كان، قال: ويعملون ويصنعون واحد، رواه ابن أبي حاتم.الشيخ: وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [المائدة:62] المنافقين، لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:63] نوع العبارة نوعها من بلاغة القرآن، وإلا فهم يعملون ويصنعون ويفعلون كلها معناها واحد.
لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [المائدة:62] لبئس ما فعلوا من الأمر الذي اعتنقوه، والأمر الذي صنعوه.
س: عندنا وتلك الأركان؟
الشيخ: الأقرب (وذلك الأمر كان)، والأركان ما لها محل، يعني أن هذا الأمر وجد منهم وحصل منهم من المنافقين من مسارعتهم إلى الإثم والعدوان وأكلهم السحت وقع ولبئس هذ العمل عملهم، والربانيون والأحبار وقع منهم عدم النهي ولبئس العمل عملهم لكونهم لم ينهوا، ولهذا قال: لوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ [المائدة:63] يعني هلا لولا معناها التحذير .......
بمعنى الأمر يعني: هلا ينهاهم الربانيون؟ لماذا لم ينهوهم؟ المقصود أن الواجب على الربانيين وهم العلماء الذين لهم السلطة ولهم القدرة والعلماء مطلقًا أو الربانيون خواص العلماء الذين لهم التربية والتوجيه حتى قال بعضهم يربونهم على صغار العلم قبل كباره، أي لهم التوجيه ولهم التأثير، ثم عموم العلماء بعد ذلك لماذا لم ينههم هؤلاء؟ وهذا يبين أن العالم عليه واجب عظيم من النهي عما حرم الله والتصريح بذلك وعدم السكوت، فإذا رأى المنكر وجب أن ينكره من العباد أو من العامة أو من الخاصة على حسب أحوال الناس، كل بحسبه بالمشافهة بالمكاتبة بغير ذلك من الطرق التي يستطيع أن يفعل بها شيئًا من باب أداء الواجب، ومن باب النصح لله ولعباده ومن باب إنكار المنكر حسب القدرة.
س: .............
الشيخ: ..........
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا ابن عطية، حدثنا قيس عن العلاء بن المسيب، عن خالد بن دينار، عن ابن عباس، قال: ما في القرآن آية أشد توبيخًا من هذه الآية لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون قال: كذا قرأ وكذا قال الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها، أنا لا ننهى، رواه ابن جرير.
الشيخ: وقد يقال آية البقرة أشد إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159] إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا [البقرة:160] هذه أشد؛ لأن فيها اللعنة على الكتم، فمن لا ينهى ولا يأمر قد كتم، ثم قال: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا [البقرة:160] فلا يسلمون إلا بتوبة وصلاح وبيان للحق، تابوا مما سلف وأصلحوا في أعمالهم وبينوا ما سكتوا عنه وكتموه.
الطالب: وكذا قال الضحاك ما في القرآن آية أخوف عندي منها أننا لا ننهى؟
الشيخ: لا ننهى أن العالم لا ينهى لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ [المائدة:63].
وقال ابن أبي حاتم: ذكره يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا محمد بن مسلم بن أبي الوضاح، حدثنا ثابت بن سعيد الهمداني.الطالب: ثابت أبو سعيد؟
الشيخ: يحتمل، قد يكون مكنى بأبيه شف التقريب.
الطالب: ما هو من رجال التقريب، بس ما سمَّاه كنَّاه فقط، قال ثابت أبو سعيد عن يحيى بن يعمر له في تفسير ابن ماجه.
الشيخ: من هذا؟
الطالب: هذا في ميزان الاعتدال، له في تفسير ابن ماجه، روى عنه أبو سعيد المؤدب محمد بن مسلم لقيه بالري لا يعرف.
الشيخ: حط نسخة أبو سعيد وقد يكنى بأبيه، يقع هذا كثيرًا يُكنى الإنسان بأبيه ويدعا لأبيه، مثل ما تقدم في الصباح القاسم بن عبدالرحمن وأبو عبدالرحمن.
حدثنا ثابت بن سعيد الهمداني، قال: لقيته بالري فحدث عن يحيى بن يعمر.الشيخ: يعمر فيه لغتان، يعمر بفتح الميم ويعمر بضم الميم.
قال: خطب علي بن أبي طالب فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أيها الناس إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار، فلما تمادوا في المعاصي أخذتهم العقوبات، فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم، واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقًا ولا يقرب أجلًا).
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا شريك عن أبي إسحاق عن المنذر بن جرير، عن أبيه، قال: قال رسول الله ﷺ: ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي هم أعز منه وأمنع، ولم يغيروا إلا أصابهم الله منه بعذاب تفرد به أحمد من هذا الوجه، ورواه أبو داود عن مسدد، عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن المنذر بن جرير، عن جرير قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليه، فلا يغيرون إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا.

الشيخ: وهذا مثل ما روى أحمد بإسناد صحيح عن الصديق أنه قال: سمعت الرسول ﷺ يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر، فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده، نسأل الله السلامة.
وقد رواه ابن ماجه عن علي بن محمد، عن وكيع عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبيدالله بن جرير، عن أبيه به، قال الحافظ المزي: وهكذا رواه شعبة عن أبي إسحاق به.الشيخ: حط على ابن سعيد نسخة أبو سعيد.. ومما ينبغي مراعاة الأحوال ويكون النهي بالأسلوب المناسب الذي يرجى به قبول الحق لا بالعنف والشدة بل بالأسلوب الحسن؛ لأن بعض الناس جاهل، بعض الناس عنده ضعف الإيمان لا يتقبل الحق إلا بأسلوب خاص، وينبغي للآمر والناهي أن يتحرى الألفاظ المناسبة، والوقت المناسب، إذا كان يمكنه أن يراه في وقت آخر كجاره ونحو ذلك، يكون الإنكار في الأوقات التي يرجو فيها أن يكون التأثير أكثر وأظهر، مع مراعاة الأسلوب المناسب، ثم هناك أمر آخر مجرب وهو أن الإنكار الفردي قد لا يتأثر به الشخص، فإذا جاءه جماعة من إخوانه اثنين ثلاثة من إخوانه اتصلوا به وذكروه ووعظوه قد يؤثر أكثر من الواحد، والمؤمن يتحرى ما هو أقرب إلى الخير وما هو أشد أثرًا وأقرب إلى النجاح.
وذكر ابن كثير في بعض ترجم أمراء بني العباس في البداية أنه جاءه بعض الوعاظ ابن السماك أو غيره فقال: إني واعظك ومشدد عليك، قال: يا أخي، لست بأفضل من موسى ولست بأفجر من فرعون! فارفق بي! الله قال لموسى: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]، فأنا مهما صار مني من المنكر فلست فوق فرعون في الظلم أو المعصية، وأنت مهما بلغت من العلم فلست فوق موسى وهارون، فعليك بالرفق!. ومن هذا قوله جل وعلا في كتابه العظيم في حق نبينا ﷺ: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران:159].