016 فصل في اضطجاعه صلى الله عليه وسلم بعد سنة الفجر على شقه الأيمن

فَصْلٌ

وَكَانَ ﷺ يَضْطَجِعُ بَعْدَ سُنَّةِ الْفَجْرِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، هَذَا الَّذِي ثَبَتَ عَنْهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" مِنْ حَدِيثِ عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.

وَذَكَرَ الترمذي مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمُ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ. قَالَ الترمذي: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.

وَسَمِعْتُ ابن تيمية يَقُولُ: هَذَا بَاطِلٌ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ عَنْهُ الْفِعْلُ، لَا الْأَمْرُ بِهَا، وَالْأَمْرُ تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُالْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، وَغَلِطَ فِيهِ.

وَأَمَّا ابْنُ حَزْمٍ وَمَنْ تَابَعَهُ فَإِنَّهُمْ يُوجِبُونَ هَذِهِ الضَّجْعَةَ، وَيُبْطِلُ ابْنُ حَزْمٍ صَلَاةَ مَنْ لَمْ يَضْطَجِعْهَا بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَهَذَا مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ عَنِ الْأُمَّةِ، وَرَأَيْتُ مُجَلَّدًا لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ قَدْ نَصَرَ فِيهِ هَذَا الْمَذْهَبَ.

وَقَدْ ذَكَرَ عبدُالرزاق فِي "الْمُصَنَّفِ" عَنْ معمر، عَنْ أيوب، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: أَنَّ أبا موسى وَرَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ كَانُوا يَضْطَجِعُونَ بَعْدَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَيَأْمُرُونَ بِذَلِكَ. وَذُكِرَ عَنْ معمر، عَنْ أيوب، عَنْ نافع: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَفْعَلُهُ، وَيَقُولُ: "كَفَانَا بِالتَّسْلِيمِ".

الشيخ: هذه الضجعة اختلف الناسُ فيها: طرفان ووسط، فمنهم مَن أهملها، ومنهم مَن أوجبها كابن حزم، والسنة بين ذلك، فهي مُستحبة، وليست واجبةً، ومَن تركها فلا بأس، وأما ابن حزم فقد غلط غلطًا عظيمًا في إيجابها وإبطال صلاة مَن لم يأتِ بها، هو غلط قبيح، جرَّه إليه ظاهريته، وعدم عنايته بالأسانيد، وعدم عنايته بالمعنى، بجمع الأدلة.

وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كان ﷺ إذا صلَّى ركعتين اضطجع على شقِّه الأيمن"، وجاء عنها قالت: "إن كنت مُستيقظةً حدَّثني، وإن كنت غير مُستيقظةٍ اضطجع على شقِّه الأيمن"، فهذا يدل على أنه في بعض الأحيان يتحدث معها ولا يضطجع.

وأما الأمر فلو صحَّ لكان للاستحباب، بدليل تركه لها بعض الأحيان، وأيضًا فهو غير صحيحٍ؛ لأنه جاء في طرقه ما يدل على أنَّ الأعمش دلَّسه عن أبي صالح، وأنَّ بينه وبين أبي صالح رجلٌ لا يُحتجُّ به، والأعمش معروف، من أكابر الأئمة والثِّقات، لكن له تدليس معروف، ولهذا جزم أبو العباس ابن تيمية ببطلانه؛ لأنه غير متَّصلٍ، بل منقطع بين الأعمش وبين أبي صالح، رواه بالعنعنة، وهو من رواية شخصٍ: إما مجهول، أو ضعيف، بينه وبين أبي صالح، وليس ممن سمعه من أبي صالح.

س: ............؟

ج: في البيت يعني، هذا في بيته عليه الصلاة والسلام، أما المسجد لا.

س: عنعنة الأعمش ما هي محمولة على السماع؟

ج: في الأغلب في "الصحيحين"، يكون هذا عند الشيخين؛ لأنهم درسوا روايته وأمثاله، واعتنوا بها، ومحضوها، ورووا عنه ما عرفوا سماعه، والغالب عليه عدم التدليس، لكن قد يُدلس في بعض الأحيان إذا كان في خارج "الصحيحين"، فإنه تعلّ روايته للتَّدليس؛ للعنعنة.

س: .............؟

ج: لعلَّ هذا ليس من السنة، ما كان النبيُّ يفعله، ولا الصحابة في المسجد، إنما يفعله في البيت.

وَقَدْ ذَكَرَ عبدُالرزاق فِي "الْمُصَنَّفِ" عَنْ معمر، عَنْ أيوب، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: أَنَّ أبا موسى وَرَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ كَانُوا يَضْطَجِعُونَ بَعْدَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَيَأْمُرُونَ بِذَلِكَ.

وَذُكِرَ عَنْ معمر، عَنْ أيوب، عَنْ نافع: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَفْعَلُهُ، وَيَقُولُ: "كَفَانَا بِالتَّسْلِيمِ".

وَذُكِرَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي مَنْ أُصَدِّقُ أَنَّ عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ تَقُولُ: "إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَكُنْ يَضْطَجِعُ لِسُنَّةٍ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَدْأَبُ لَيْلَهُ فَيَسْتَرِيحُ"، قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَحْصِبُهُمْ إِذَا رَآهُمْ يَضْطَجِعُونَ عَلَى أَيْمَانِهِمْ.

وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أبي الصّديق الناجي: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَأَى قَوْمًا اضْطَجَعُوا بَعْدَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَنَهَاهُمْ، فَقَالُوا: نُرِيدُ بِذَلِكَ السُّنَّةَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهَا بِدْعَةٌ.

الشيخ: يعني .....

وَقَالَ أبو مجلز: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنْهَا فَقَالَ: "يَلْعَبُ بِكُمُ الشَّيْطَانُ".

قَالَ ابْنُ عُمَرَ : "مَا بَالُ الرَّجُلِ إِذَا صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ يَفْعَلُ كَمَا يَفْعَلُ الْحِمَارُ إِذَا تَمَعَّكَ".

الشيخ: وهذا خفيت عليه السنة؛ لأنه ما كان يشهده في البيت، وإنما عرف ما كان يفعله في المسجد عند الناس، وما كان يفعله عند الناس في الأسفار وفي المسجد، وإنما كان يفعلها في البيت عند أهله، يستريح بها؛ ولهذا تُسمَّى: ضجعة الاستراحة، فهي ضجعة للراحة بين الركعتين والفريضة، فابن عمر تكلم عمَّا يعلم فيما ظهر من أمر النبي ﷺ، وعائشة أخبرت عمَّا كان عندها.

س: .............؟

ج: بالتسليم، نعم.

وَقَدْ غَلَا فِي هَذِهِ الضَّجْعَةِ طَائِفَتَانِ، وَتَوَسَّطَ فِيهَا طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ:

فَأَوْجَبَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَأَبْطَلُوا الصَّلَاةَ بِتَرْكِهَا: كَابْنِ حَزْمٍ وَمَنْ وَافَقَهُ.

وَكَرِهَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَسَمَّوْهَا: بِدْعَةً.

وَتَوَسَّطَ فِيهَا مالك وَغَيْرُهُ فَلَمْ يَرَوْا بِهَا بَأْسًا لِمَنْ فَعَلَهَا رَاحَةً، وَكَرِهُوهَا لِمَنْ فَعَلَهَا اسْتِنَانًا.

وَاسْتَحَبَّهَا طَائِفَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، سَوَاءٌ اسْتَرَاحَ بِهَا أَمْ لَا، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.

وَالَّذِينَ كَرِهُوهَا مِنْهُمْ مَنِ احْتَجَّ بِآثَارِ الصَّحَابَةِ: كابن عمر وَغَيْرِهِ، حَيْثُ كَانَ يَحْصِبُ مَنْ فَعَلَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ فِعْلَ النَّبِيِّ ﷺ لَهَا، وَقَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّ اضْطِجَاعَهُ كَانَ بَعْدَ الْوِتْرِ، وَقَبْلَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

قَالَ: وَأَمَّا حَدِيثُ عائشة فَاخْتُلِفَ عَلَى ابْنِ شِهَابٍ فِيهِ:

فَقَالَ مالك عَنْهُ: فَإِذَا فَرَغَ -يَعْنِي مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ- اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ. وَهَذَا صَرِيحٌ أَنَّ الضَّجْعَةَ قَبْلَ سُنَّةِ الْفَجْرِ.

وَقَالَ غَيْرُهُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: فَإِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ أَذَانِ الْفَجْرِ، وَتَبَيَّنَ لَهُ الْفَجْرُ، وَجَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ.

قَالُوا: وَإِذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُ ابْنِ شِهَابٍ فَالْقَوْلُ مَا قَالَهُ مالك؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتُهُمْ فِيهِ وَأَحْفَظُهُمْ.

وَقَالَ الْآخَرُونَ: بَلِ الصَّوَابُ فِي هَذَا مَعَ مَنْ خَالَفَ مالكًا.

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ: رَوَى مالك عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عروة، عَنْ عائشة: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُوتِرُ مِنْهَا بِوَاحِدَةٍ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ، فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ".

وَخَالَفَ مالكًا: عقيل، ويونس، وشعيب، وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَغَيْرُهُمْ، فَرَوَوْا عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَرْكَعُ الرَّكْعَتَيْنِ لِلْفَجْرِ، ثُمَّ يَضْطَجِعُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ فَيَخْرُجُ مَعَهُ. فَذَكَرَ مالكٌ أَنَّ اضْطِجَاعَهُ كَانَ قَبْلَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ. وَفِي حَدِيثِ الْجَمَاعَةِ أَنَّهُ اضْطَجَعَ بَعْدَهُمَا.

الشيخ: ولا منافاة، ولا حرج، الصواب أنه لا خطأ: لا من هؤلاء، ولا من هؤلاء؛ فهو يضطجع بعد الوتر حتى يُؤذن، وحتى يقوم لصلاة الفجر، ويضطجع بعد ركعتي الفجر ضجعةً خفيفةً ثم يقوم، ولا منافاة بين هذا وهذا.

فَحَكَمَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ مالكًا أَخْطَأَ وَأَصَابَ غَيْرُهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَقَالَ أبو طالب: قُلْتُ لأحمد: حَدَّثَنَا أبو الصلت، عَنْ أبي كدينة، عَنْ سُهَيْلِ ابْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ اضْطَجَعَ بَعْدَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ. قَالَ: شعبة لَا يَرْفَعُهُ.

قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَضْطَجِعْ عَلَيْهِ شَيْءٌ؟ قَالَ: لَا، عائشة تَرْوِيهِ، وَابْنُ عُمَرَ يُنْكِرُهُ.

قَالَ الخلال: وَأَنْبَأَنَا المروزي: أَنَّ أبا عبدالله قَالَ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَيْسَ بِذَاكَ.

قُلْتُ: إِنَّ الْأَعْمَشَ يُحَدِّثُ بِهِ عَنْ أبي صالح، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: عبدالواحد وَحْدَهُ يُحَدِّثُ بِهِ.

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ: إِنَّ أبا عبدالله سُئِلَ عَن الِاضْطِجَاعِ بَعْدَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، قَالَ: مَا أَفْعَلُهُ، وَإِنْ فَعَلَهُ رَجُلٌ فَحَسَنٌ. انْتَهَى.

فَلَوْ كَانَ حَدِيثُ عَبْدِالْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أبي صالح صَحِيحًا عِنْدَهُ، لَكَانَ أَقَلُّ دَرَجَاتِهِ عِنْدَهُ الِاسْتِحْبَابَ.

وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا رَوَتْ هَذَا، وَرَوَتْ هَذَا، فَكَانَ يَفْعَلُ هَذَا تَارَةً، وَهَذَا تَارَةً، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ، فَإِنَّهُ مِنَ الْمُبَاحِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الشيخ: يعني اختلاف المعنى: يضطجع بعد اجتهاده ووتره، وتارة بعد ركعتي الفجر، ولا مانع من أن يفعلهما جميعًا؛ فإنه في آخر الليل ينتهي من الوتر فيضطجع ليستريح، ثم إذا أذن المؤذنُ قام وصلى ركعتين، اضطجع على شقِّه الأيمن قليلًا، ثم خرج إلى الصلاة.

وَفِي اضْطِجَاعِهِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ سِرٌّ، وَهُوَ أَنَّ الْقَلْبَ مُعَلَّقٌ فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ، فَإِذَا نَامَ الرَّجُلُ عَلَى الْجَنْبِ الْأَيْسَرِ اسْتَثْقَلَ نَوْمًا؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي دَعَةٍ وَاسْتِرَاحَةٍ، فَيَثْقُلُ نَوْمُهُ، فَإِذَا نَامَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ فَإِنَّهُ يَقْلَقُ وَلَا يَسْتَغْرِقُ فِي النَّوْمِ؛ لِقَلَقِ الْقَلْبِ، وَطَلَبِهِ مُسْتَقَرَّهُ، وَمَيْلِهِ إِلَيْهِ؛ وَلِهَذَا اسْتَحَبَّ الْأَطِبَّاءُ النَّوْمَ عَلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ؛ لِكَمَالِ الرَّاحَةِ، وَطِيبِ الْمَنَامِ، وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يَسْتَحِبُّ النَّوْمَ عَلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ؛ لِئَلَّا يَثْقُلَ نَوْمُهُ فَيَنَامَ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، فَالنَّوْمُ عَلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ أَنْفَعُ لِلْقَلْبِ، وَعَلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ أَنْفَعُ لِلْبَدَنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الشيخ: وكان ﷺ يُعجبه التيمن، وهذا من التيمن، وقد يكون من حيث ما ذكره المؤلفُ؛ يكون أقلّ للنوم، وأبعد للنوم؛ لأنها ضجعة خفيفة، فإذا كان الأيمنُ حصل التيمن، وحصل بذلك أيضًا عدم سرعة النوم، وهو يريد الصلاة، قد يكون هذا والله أعلم.

س: ..............؟

ج: لا، لا، هذا في حقِّ مَن صلَّى في بيته.

فَصْلٌ

فِي هَدْيِهِ ﷺ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ

قَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ فِي أَنَّهُ: هَلْ كَانَ فَرْضًا عَلَيْهِ أَمْ لَا؟

وَالطَّائِفَتَانِ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ [الإسراء:79]، قَالُوا: فَهَذَا صَرِيحٌ فِي عَدَمِ الْوُجُوبِ.

قَالَ الْآخَرُونَ: أَمَرَهُ بِالتَّهَجُّدِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، كَمَا أَمَرَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ۝ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل:1- 2]، وَلَمْ يَجِئْ مَا يَنْسَخُهُ عَنْهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: نَافِلَةً لَكَ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ التَّطَوُّعَ لَمْ يَخُصّهُ بِكَوْنِهِ نَافِلَةً لَهُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالنَّافِلَةِ الزِّيَادَةُ، وَمُطْلَقُ الزِّيَادَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّطَوُّعِ، قَالَ تَعَالَى: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً [الأنبياء:72] أَيْ: زِيَادَةً عَلَى الْوَلَدِ، وَكَذَلِكَ النَّافِلَةُ فِي تَهَجُّدِ النَّبِيِّ ﷺ زِيَادَةٌ فِي دَرَجَاتِهِ، وَفِي أَجْرِهِ؛ وَلِهَذَا خَصَّهُ بِهَا، فَإِنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مُبَاحٌ، وَمُكَفِّرٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَأَمَّا النَّبِيُّ ﷺ فَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَهُوَ يَعْمَلُ فِي زِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ، وَعُلُوِّ الْمَرَاتِبِ، وَغَيْرُهُ يَعْمَلُ فِي التَّكْفِيرِ.

قَالَ مجاهد: إِنَّمَا كَانَ نَافِلَةً لِلنَّبِيِّ ﷺ لِأَنَّهُ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَكَانَتْ طَاعَتُهُ نَافِلَةً، أَيْ: زِيَادَةً فِي الثَّوَابِ، وَلِغَيْرِهِ كَفَّارَةً لِذُنُوبِهِ.

قَالَ ابنُ المنذر فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا يعلى ابن أبي عبيد: حَدَّثَنَا الحجاج، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ مجاهدٍ قَالَ: مَا سِوَى الْمَكْتُوبَةِ فَهُوَ نَافِلَةٌ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ فِي كَفَّارَةِ الذُّنُوبِ، وَلَيْسَتْ لِلنَّاسِ نَوَافِلُ، إِنَّمَا هِيَ لِلنَّبِيِّ ﷺ خَاصَّةً، وَالنَّاسُ جَمِيعًا يَعْمَلُونَ مَا سِوَى الْمَكْتُوبَةِ لِذُنُوبِهِمْ فِي كَفَّارَتِهَا.

الشيخ: هذا فيه نظر؛ فإنَّ المؤمن قد يُوفق لأعمال صالحةٍ تُكفَّر بها خطاياه، ويُوفق لتوبةٍ صادقةٍ من خطاياه، ويحصل له زيادة، فكلما زاد من الأعمال الصَّالحات في حقِّ المؤمن تكون نافلةً له، زيادة من فضل الله ..... المضاعفات، والأصل أنه ﷺ كأمَّته، كما أنَّ الوتر والتهجد بالليل يُناسب أمته، فهكذا له ﷺ، كلها سنة للجميع، وبهذا لما سُئل: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع، لما ذكر الصَّلوات الخمس قال: لا، إلا أن تطوع ..... الصلوات الخمس وما سواها، فهو زيادة وفضل من الله ، شرعه لعباده؛ ليزدادوا خيرًا، وليكسبوا عملًا صالحًا، ولو كان مغفورًا له عليه الصلاة والسلام فإنَّ هذا من مزيد الدَّرجات، ومزيد الحسنات، هكذا غيره ممن رُزق التوبة والاستقامة، كل ما يُعطى من أعمالٍ صالحات من أنواع الحسنات كله من باب الزيادة في أجره.

الطالب: أبو يحيى الطويل هو عمران بن زيد الثَّعلبي، أبو يحيى الملائي -بضم الميم وتخفيف اللام- الطويل، لين، من السابعة. (ت، ق).

.....

الطالب: أبو يحيى القتات -بقاف ومثناة مثقلة، وآخره مثناة أيضًا- الكوفي، اسمه: زاذان، وقيل: دينار، وقيل: مسلم، وقيل: يزيد، وقيل: زبان، وقيل: عبدالرحمن، لين الحديث، من السادسة. (بخ، د، ت، ق).

الشيخ: أيش قال على أبي عبيد .....؟

الطالب: ما وجدناه.

طالب آخر: .....

الشيخ: المعروف يعلى بن .....، ما عندكم؟ ابن أبي؟ ما وجدوه؟ أيش قال عندك: حدثنا؟

الطالب: قَالَ ابنُ المنذر فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا يعلى ابن أبي عبيد.

الشيخ: لعله ابن عبيد، لعله يعلي بن عبيد.

...........

الشيخ: لعله ابن عبيد، انظر السند، لعله يعلى بن عبيد.

الطالب: قَالَ ابنُ المنذر فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا يعلى بن عبيد: حَدَّثَنَا الحجاج، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ.

.......

الشيخ: حطّ على أبي يحيى الطويل، قال الحافظ في "التقريب": جيد. وهكذا أبو يحيى القتات، وبهذا يكون هذا الحديث ضعيفًا بهذا السند، والله ولي التوفيق.

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: حَدَّثَنَا عبدالله: حَدَّثَنَا عمرو، عَنْ سعيدٍ وقبيصة، عَنْ سفيان، عَنْ أبي عثمان، عَنِ الحسن فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ [الإسراء:79]، قَالَ: لَا تَكُونُ نَافِلَةُ اللَّيْلِ إِلَّا لِلنَّبِيِّ ﷺ.

وَذُكِرَ عَنِ الضَّحاك قَالَ: نَافِلَةً لِلنَّبِيِّ ﷺ خَاصَّةً.

وَذَكَرَ سليم بن حيان: حَدَّثَنَا أَبُو غالب: حَدَّثَنَا أبو أمامة.

الشيخ: انظر في "التقريب" سليم.

حَدَّثَنَا أبو أمامة قَالَ: إِذَا وَضَعْتَ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ قُمْتَ مَغْفُورًا لَكَ، فَإِنْ قُمْتَ تُصَلِّي كَانَتْ لَكَ فَضِيلَةً وَأَجْرًا، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أبا أمامة، أَرَأَيْتَ إِنْ قَامَ يُصَلِّي تَكُونُ لَهُ نَافِلَةً؟ قَالَ: لَا، إِنَّمَا النَّافِلَةُ لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ نَافِلَةً وَهُوَ يَسْعَى فِي الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا؟! تَكُونُ لَهُ فَضِيلَةً وَأَجْرًا.

الطالب: سليم -بفتح أوله- ابن حيان بمهملة وتحتانية، الهذلي، البصري، ثقة، من السابعة. (ع).

الشيخ: نعم، في غيره؟

قُلْتُ: وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّافِلَةَ فِي الْآيَةِ لَمْ يُرَدْ بِهَا مَا يَجُوزُ فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ: كَالْمُسْتَحَبِّ، وَالْمَنْدُوبِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا الزِّيَادَةُ فِي الدَّرَجَاتِ، وَهَذَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْمُسْتَحَبِّ، فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ: نَافِلَةً لَكَ نَافِيًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ مِنَ الْوُجُوبِ، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذِكْرِ خَصَائِصِ النَّبِيِّ ﷺ.

وَلَمْ يَكُنْ ﷺ يَدَعُ قِيَامَ اللَّيْلِ حَضَرًا وَلَا سَفَرًا، وَكَانَ إِذَا غَلَبَهُ نَوْمٌ أَوْ وَجَعٌ صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً.

فَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ يَقُولُ: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ لَا يُقْضَى لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ، فَهُوَ كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ، وَالِاسْتِسْقَاءِ، وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ أَنْ يَكُونَ آخِرُ صَلَاةِ اللَّيْلِ وِتْرًا، كَمَا أَنَّ الْمَغْرِبَ آخِرُ صَلَاةِ النَّهَارِ، فَإِذَا انْقَضَى اللَّيْلُ وَصَلَّيْتَ الصُّبْحَ لَمْ يَقَعِ الْوِتْرُ مَوْقِعَهُ. هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ.

وَقَدْ رَوَى أبو داود وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: مَنْ نَامَ عَنِ الْوِتْرِ أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّهِ إِذَا أَصْبَحَ أَوْ ذَكَرَ، وَلَكِنْ لِهَذَا الْحَدِيثِ عِدَّةُ عِلَلٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ.

الثَّانِي: أَنَّ الصَّحِيحَ فِيهِ أَنَّهُ مُرْسَلٌ لَهُ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ الترمذي: هَذَا أَصَحُّ. يَعْنِي: الْمُرْسَلَ.

الثَّالِثُ: أَنَّ ابْنَ مَاجَهْ حَكَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بَعْدَ أَنْ رَوَى حَدِيثَ أبي سعيدٍ: الصَّحِيحُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: أَوْتِرُوا قَبْلَ أَنْ تُصْبِحُوا. قَالَ: فَهَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ عبدالرحمن وَاهٍ.

وَكَانَ قِيَامُهُ ﷺ بِاللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، أَوْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وعائشة.

الشيخ: وهذا هو الأفضل: إذا فاته في الليل قضاه من النهار شفعًا، كما فعل النبيُّ ﷺ؛ فإنه كان إذا فاته لمرضٍ أو نومٍ صلَّى من النهار ثنتي عشرة ركعة، كان الغالبُ عليه أن يُوتر بإحدى عشرة، فإن شغله شاغلٌ من مرضٍ أو نومٍ تعوض عن ذلك بعدد الركعات، وزاد ركعةً، هكذا الإنسان إذا فعل حزبه في النهار أو من الظهر فكأنما فعله في الليل، هذا من فضل الله ، فمَن فاته حزبه من الليل قراءةً أو صلاةً قضاها من النهار، لكن يجعله شفعًا.

وحديث عبدالرحمن بن زيد بن أسلم كما ذكره المؤلفُ ضعيف الإسناد، ولو صحَّ لحُمل على هذا أنه يُصلي إذا أصبح وذكر، يعني: يُصلي إذا أصبح وذكر شفعًا، كما فعله النبيُّ ﷺ، ويُروى موقوفًا على ابن عمر.

س: لو فاتت أحدهم صلاة المغرب، وأراد أحدهم أن يتصدق عليه، وقد صلَّى مع الجماعة، فهل يشفع بركعةٍ؟

ج: لا، يُصلي مثله؛ لأنها وتر النهار، وهكذا لو جاء الجماعة وهم يُصلون صلَّى معهم، ولا يحتاج إلى أن يزيد شيئًا، هذا وتر الليل خاصَّة، وتر النهار وهي المغرب يُصليها كما هي، فاتته يُصليها كما هي ثلاثًا فقط، والذي يُصلي معه كذلك.

س: ..............؟

ج: قضاه في الظهر، نعم.

الطالب: في الحاشية على قوله: "من عبدالرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف": لكن هذا الإعلال إنما يتَّجه إلى سند الترمذي وابن ماجه، وأما سند أبي داود والحاكم والبيهقي فهو صحيح؛ فإنه عندهم من رواية أبي غسان، عن محمد بن مطرف المدني، عن زيد بن أسلم.

الشيخ: لا، غلط، هو محمد بن مطرف، فإنه عندهم؟

الطالب: فإنه عندهم من رواية أبي غسان، عن محمد.

الشيخ: لا، غلط، محمد بن المطرف.

الطالب: من رواية أبي غسان، أبي محمد ابن مطرف المدني، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، وهذا إسناده صحيح.

الشيخ: .............

الطالب: أبو داود والحاكم والبيهقي.

الشيخ: هذا شعيب؟

الطالب: نعم.

الشيخ: محل نظر، انظر: محمد بن مطرف.

الطالب: محمد بن مطرف بن داود الليثي، أبو غسان المدني، نزيل عسقلان، ثقة، من السابعة، مات بعد الستين. (ع).

الشيخ: ما غيره أحد؟

الطالب: لا، هو الوحيد.

الشيخ: نعم، يُراجع أبا داود، إسناد الحديث.

س: .............؟

ج: نعم، إذا كانت إحدى عشرة، وإذا كانت عادته سبعًا يُصلي ثمان ركعات، وإن كانت عادته ثلاثًا يُصلي أربع ركعات، ركعاته خمس يُصلي ستَّ ركعات، يعني: يزيد ركعةً، ولو زاد وصلَّى أكثر ما في شيء.

...........

فَإِنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُمَا هَذَا وَهَذَا: فَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْهَا: "مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهُ ﷺ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً".

وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْهَا أَيْضًا: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُوتِرُ مِنْ ذَلِكَ بِخَمْسٍ، لَا يَجْلِسُ فِي شَيْءٍ إِلَّا فِي آخِرِهِنَّ".

وَالصَّحِيحُ عَنْ عائشة الْأَوَّلُ، وَالرَّكْعَتَانِ فَوْقَ الْإِحْدَى عَشْرَةَ هُمَا رَكْعَتَا الْفَجْرِ، جَاءَ ذَلِكَ مُبَيَّنًا عَنْهَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ.

الشيخ: جاء عنه هذا وهذا، كله ثابت هذا وهذا، .....، ولعلها في بعض الأحيان للمُذاكرة تأتي بالحديث على حاله، وقد تنسى بعض الشيء، مثل رواياتها عن صلاة الضحى، وهكذا يقع لأنسٍ.

جَاءَ ذَلِكَ مُبَيَّنًا عَنْهَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً بِرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ". ذَكَرَهُ مسلمٌ فِي "صَحِيحِهِ".

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ يُصَلِّي إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ بِالْفَجْرِ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ".

وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: سَمِعْتُ عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ: "كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ اللَّيْلِ عَشْرَ رَكَعَاتٍ، وَيُوتِرُ بِسَجْدَةٍ، وَيَرْكَعُ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَة"، فَهَذَا مُفَسّرٌ مُبَيّنٌ.

وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ: فَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ أَبِي جَمْرَةَ عَنْهُ: "كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً"، يَعْنِي بِاللَّيْلِ. لَكِنْ قَدْ جَاءَ عَنْهُ هَذَا مُفَسَّرًا أَنَّهَا بِرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ.

قَالَ الشَّعْبِيُّ: سَأَلْتُ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، وَعَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِاللَّيْلِ، فَقَالَا: "ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، مِنْهَا ثَمَانٍ، وَيُوتِرُ بِثَلَاثٍ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ".

وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ كريبٍ عَنْهُ فِي قِصَّةِ مَبِيتِهِ عِنْدَ خَالَتِهِ ميمونة بنت الحارث: أَنَّهُ ﷺ صَلَّى ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ نَامَ حَتَّى نَفَخَ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ الْفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ.

وَفِي لَفْظٍ: فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَوْتَرَ، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى جَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ، فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ يُصَلِّي الصُّبْحَ.

فَقَدْ حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَاخْتُلِفَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ: هَلْ هُمَا رَكْعَتَا الْفَجْرِ، أَوْ هُمَا غَيْرُهُمَا؟

فَإِذَا انْضَافَ ذَلِكَ إِلَى عَدَدِ رَكَعَاتِ الْفَرْضِ وَالسُّنَنِ الرَّاتِبَةِ الَّتِي كَانَ يُحَافِظُ عَلَيْهَا جَاءَ مَجْمُوعُ وِرْدِهِ الرَّاتِبِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَرْبَعِينَ رَكْعَةً، كَانَ يُحَافِظُ عَلَيْهَا دَائِمًا: سَبْعَةَ عَشَرَ فَرْضًا، وَعَشْرُ رَكَعَاتٍ، أَوْ ثِنْتَا عَشْرَةَ سُنَّةً رَاتِبَةً، وَإِحْدَى عَشْرَةَ أَوْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً قِيَامُهُ بِاللَّيْلِ، وَالْمَجْمُوعُ أَرْبَعُونَ رَكْعَةً، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَعَارِضٌ غَيْرُ رَاتِبٍ: كَصَلَاةِ الْفَتْحِ ثَمَان رَكَعَاتٍ.

الشيخ: هذا ..... سبعة عشر مع صلاته عشر ركعات: الظهر ستّ ركعات، في الظهر، مع سبعة عشر .....، فأوتر بإحدى عشرة، ويُوتر بثلاث عشرة .....

وَصَلَاةِ الضُّحَى إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، وَصلَاتِهِ عِنْدَ مَنْ يَزُورُهُ، وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يُوَاظِبَ عَلَى هَذَا الْوِرْدِ دَائِمًا إِلَى الْمَمَاتِ، فَمَا أَسْرَعَ الْإِجَابَةَ! وَأَعْجَلَ فَتْحَ الْبَابِ!

الشيخ: ..... كما تقدم.

وَأَعْجَلَ فَتْحَ الْبَابِ لِمَنْ يَقْرَعُهُ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَرْبَعِينَ مَرَّةً! وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

........

فَصْلٌ

فِي سِيَاقِ صَلَاتِهِ ﷺ بِاللَّيْلِ وَوِتْرِهِ وَذِكْرِ صَلَاةِ أَوَّلِ اللَّيْلِ

..........

قَالَتْ عائشةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: "مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْعِشَاءَ قَطُّ فَدَخَلَ عَلَيَّ إِلَّا صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، أَوْ سِتَّ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ يَأْوِي إِلَى فِرَاشِهِ".

الشيخ: هذا رواه أبو داود وجماعة: أنه كان يُصلي أربع ركعات قبل أن يأوي إلى فراشه، وهكذا رواه ابن عباسٍ وأبو داود بإسناد ..... عن ابن عباسٍ أيضًا، أما الراتبة فركعتان، لكن ربما صلَّى أربعًا قبل أن ينام عليه الصلاة والسلام، أيش قال المحشي عليه؟

الطالب: رواه أبو داود في "الصلاة" باب "الصلاة بعد العشاء"، وفي سنده مقاتل بن بشير النجلي، لم يُوثقه غير ابن حبان، وباقي رجاله ثقات.

الشيخ: لا، رواه أبو داود من طرقٍ أخرى، طرق جيدة، غير الطريق المعتاد، كأنه ما اعتنى بالموضوع.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمَّا بَاتَ عِنْدَهُ: "صَلَّى الْعِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَ، ثُمَّ صَلَّى، ثُمَّ نَامَ"، ذَكَرَهُمَا أبو داود.

الشيخ: فقط؟ ما قال: أربعًا؟

الطالب: عليه حاشية: رواه أبو داود في "الصلاة" باب "في رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل"، وإسناده صحيح، وأصله عند البخاري ومسلم في حديث المبيت، وقد تقدم تخريجه.

الشيخ: لا، فيه زيادة ابن عباس أيضًا: وصلَّى أربعًا. هكذا مثلما روت عائشة.

وَكَانَ إِذَا اسْتَيْقَظَ بَدَأَ بِالسِّوَاكِ، ثُمَّ يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَا كَانَ يَقُولُهُ عِنْدَ اسْتِيقَاظِهِ، ثُمَّ يَتَطَهَّرُ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، كَمَا فِي "صَحِيحِ مسلم" عَنْ عائشةَ قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ".

وَأَمَرَ بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ: إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ فَلْيَفْتَتِحْ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ رَوَاهُ مسلم.

وَكَانَ يَقُومُ تَارَةً إِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ، أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ، أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ، وَرُبَّمَا كَانَ يَقُومُ إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ، وَهُوَ الدِّيكُ، وَهُوَ إِنَّمَا يَصِيحُ فِي النِّصْفِ الثَّانِي، وَكَانَ يَقْطَعُ وِرْدَهُ تَارَةً، وَيَصِلُهُ تَارَةً -وَهُوَ الْأَكْثَرُ- وَيَقْطَعُهُ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِ مَبِيتِهِ عِنْدَهُ: أَنَّهُ ﷺ اسْتَيْقَظَ، فَتَسَوَّكَ، وَتَوَضَّأَ، وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [آل عمران:190]. فَقَرَأَ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أَطَالَ فِيهِمَا الْقِيَامَ وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ، ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِسِتِّ رَكَعَاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَسْتَاكُ وَيَتَوَضَّأُ وَيَقْرَأُ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ، ثُمَّ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ، فَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، فَخَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي لِسَانِي نُورًا، وَاجْعَلْ فِي سَمْعِي نُورًا، وَاجْعَلْ فِي بَصَرِي نُورًا، وَاجْعَلْ مِنْ خَلْفِي نُورًا، وَمِنْ أَمَامِي نُورًا، وَاجْعَلْ مِنْ فَوْقِي نُورًا، وَمِنْ تَحْتِي نُورًا، اللَّهُمَّ أَعْطِنِي نُورًا رَوَاهُ مسلم.

الشيخ: هذه إحدى الليالي، والغالب عليه ﷺ كما في رواية عائشة وابن عباسٍ في "الصحيحين": أنه يُصليها جميعًا: يُصلي ركعتين ويُسلم، ثم يقوم ويُصلي ركعتين ثم يُسلم، حتى سردها من دون نومٍ بينها، بل سردها في يقظةٍ واحدةٍ: صلَّى ركعتين خفيفتين، ثم صلَّى ثنتين، ثم ثنتين، ثم ثنتين، ثم ثنتين، ثم ثنتين، ثم ثنتين، كملها ثلاث عشرة، كما في حديث ابن عباسٍ، وفي حديث عائشة كملها إحدى عشرة، يُسلم من كل ثنتين، ثم أوتر بواحدةٍ، هذا هو المعروف والمحفوظ في "الصحيحين" من حديث عائشة، ومن حديث ابن عباسٍ، وجاء معناه من حديث زيد بن خالد أيضًا.

لكن لو قطعها فلا بأس: لو صلى ركعتين، ثم نام، ثم صلَّى ركعتين، ثم نام، فلا مانع من ذلك، على حسب طول الليل، وعلى حسب قُدرته على ذلك، والمصلحة في ذلك، الأمر واسع، كله نافلة، لكن الأشهر والأغلب من فعله ﷺ أنه كان يسردها، ويُسلم من كل ثنتين عليه الصلاة والسلام، ثم يُوتر قبل أذان الصبح، ثم يستريح، ثم إذا أذن المؤذنُ يُصلي ركعتين، ثم يخرج إلى الصلاة.

س: .............؟

ج: لا ينقض الوضوء أصلًا، نومه لا ينقض الوضوء: تنام عينه ولا ينام قلبه، اللهم صلِّ عليه.

وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَبَّاسٍ افْتِتَاحَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ كَمَا ذَكَرَتْهُ عائشة، فَإِمَّا أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ هَذَا تَارَةً، وَهَذَا تَارَةً، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ عائشةُ حَفِظَتْ مَا لَمْ يَحْفَظِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ؛ لِمُلَازَمَتِهَا لَهُ، وَلِمُرَاعَاتِهَا ذَلِكَ؛ وَلِكَوْنِهَا أَعْلَمَ الْخَلْقِ بِقِيَامِهِ بِاللَّيْلِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّمَا شَاهَدَهُ لَيْلَةَ الْمَبِيتِ عِنْدَ خَالَتِهِ، وَإِذَا اخْتَلَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ وعائشة فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ قِيَامِهِ بِاللَّيْلِ، فَالْقَوْلُ مَا قَالَتْ عائشة.

الشيخ: وهكذا نساؤه هنَّ أعلم الناس بأموره في البيت، أعلم الناس بأموره في البيت هم أزواجه، وأعلم الناس بأحواله في السفر هم أصحابه الملازمون له في السفر، فنساؤه ﷺ أعلم الناس بحاله وشؤونه في بيته؛ لملازمتهن له عليه الصلاة والسلام، وكون الرجال لا يحضرون ذلك، أما في السفر فالرجال أعلم بأحواله عليه الصلاة والسلام وما يفعله خارج البيت: ما يفعله في المسجد، وما يخطب به الناس، وما يفعله لدى أصحابه حين يزورهم، فالرجال أعلم بذلك.

وَكَانَ قِيَامُهُ بِاللَّيْلِ وَوِتْرُهُ أَنْوَاعًا:

فَمِنْهَا هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.

النَّوْعُ الثَّانِي: الَّذِي ذَكَرَتْهُ عائشة: أَنَّهُ كَانَ يَفْتَتِحُ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ يُتَمِّمُ وِرْدَهُ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَيُوتِرُ بِرَكْعَةٍ.

النَّوْعُ الثَّالِثُ: ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً كَذَلِكَ.

النَّوْعُ الرَّابِعُ: يُصَلِّي ثَمَان رَكَعَاتٍ، يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يُوتِرُ بِخَمْسٍ سَرْدًا مُتَوَالِيَةً، لَا يَجْلِسُ فِي شَيْءٍ إِلَّا فِي آخِرِهِنَّ.

الشيخ: وهذا النوع الأخير روته عائشة أيضًا في "الصحيحين" عنه: أنه ﷺ ربما أوتر بثلاث عشرة، يصلي ثمان يُسلم من كل ثنتين، ثم يسرد خمسًا لا يجلس إلا في آخرها. هذا النوع الرابع من أنواع وتره عليه الصلاة والسلام.

النَّوْعُ الْخَامِسُ: تِسْعُ رَكَعَاتٍ، يَسْرُدُ مِنْهُنَّ ثَمَانِيًا، لَا يَجْلِسُ فِي شَيْءٍ مِنْهُنَّ إِلَّا فِي الثَّامِنَةِ، يَجْلِسُ يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ، ثُمَّ يَنْهَضُ وَلَا يُسَلِّمُ، ثُمَّ يُصَلِّي التَّاسِعَةَ، ثُمَّ يَقْعُدُ، وَيَتَشَهَّدُ، وَيُسَلِّمُ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ جَالِسًا بَعْدَمَا يُسَلِّمُ.

النَّوْعُ السَّادِسُ: يُصَلِّي سَبْعًا كَالتِّسْعِ الْمَذْكُورَةِ، ثُمَّ يُصَلِّي بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ جَالِسًا.

النَّوْعُ السَّابِعُ: أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي مَثْنَى مَثْنَى، ثُمَّ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ.

فَهَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ عائشة: أَنَّهُ كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ لَا فَصْلَ فِيهِنَّ.

وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْهَا: "كَانَ لَا يُسَلِّمُ فِي رَكْعَتَيِ الْوِتْرِ"، وَهَذِهِ الصِّفَةُ فِيهَا نَظَرٌ؛ فَقَدْ رَوَى أَبُو حَاتِمِ ابْنُ حِبَّانَ فِي "صَحِيحِهِ" عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: لَا تُوتِرُوا بِثَلَاثٍ، أَوْتِرُوا بِخَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ، وَلَا تَشَبَّهُوا بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ.

قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: رُوَاتُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ. قَالَ مُهَنَّا: سَأَلْتُ أبا عبدالله: إِلَى أَيِّ شَيْءٍ تَذْهَبُ فِي الْوِتْرِ، تُسَلِّمُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: لِأَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ فِيهِ أَقْوَى وَأَكْثَرُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي الرَّكْعَتَيْنِ: الزُّهْرِيُّ، عَنْ عروة، عَنْ عائشة: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سَلَّمَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ.

وَقَالَ حرب: سُئِلَ أحمد عَنِ الْوِتْرِ، قَالَ: يُسَلِّمُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ رَجَوْتُ أَلَّا يَضُرَّهُ.

الشيخ: وهذا هو الأفضل، الأفضل أن يُسلم من كل ركعتين، ويوتر بواحدةٍ مفردةٍ، هذا هو الأفضل، وإذا فعل بعض الأحيان ما فعله النبيُّ ﷺ كان أيضًا سنةً: إذا أوتر بخمسٍ سردها، أو بسبعٍ سردها، إلا في السادسة يجلس ثم ينهض ولا يُسلم، أو بتسعٍ ثم يجلس في الثامنة ويتشهد ولا يُسلم، ثم ينهض ويأتي بالتاسعة، أوتر بثلاثٍ جميعًا ولا يُشبهها بالمغرب، منهي عن التَّشبيه بالمغرب، تشبيهها بالمغرب: كونه يجلس في الثانية ولا يُسلم، ثم يقوم، هذا هو المكروه، أما إذا سردها سردًا ولم يجلس فيها إلا في الأخيرة فإنه لا يُشبهها بالمغرب، وهذا هو الثابت من حديث عائشة، ومن حديث أُبي بن كعب أيضًا، وهذا نوع من أنواع وتره ﷺ: يُوتر بالثلاث، لكن لا يجلس في الثانية، بل يسردها سردًا، لا يجلس إلا في الثالثة، مثلما سرد الخمس ولم يجلس إلا في الخامسة، أما تشبيهها بالمغرب فهذا هو المنهي عنه، كونه يصلي ثنتين ويجلس، ثم ينهض قبل أن يُسلم، ثم يأتي بالثالثة؛ هذا هو المنهي عنه، هذا هو تشبيهها بالمغرب.

س: ..............؟

ج: أي بثلاثٍ يعني، مثل المغرب يعني، أما الخمس فلا بأس بها، ثابتة عن النبي ﷺ.

س: ...............؟

ج: في الثامنة يتشهد ولا يُسلم، الثامنة قبل التاسعة.

وَقَالَ حرب: سُئِلَ أحمد عَنِ الْوِتْرِ، قَالَ: يُسَلِّمُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ رَجَوْتُ أَلَّا يَضُرَّهُ، إِلَّا أَنَّ التَّسْلِيمَ أَثْبَتُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ.

وَقَالَ أبو طالب: سَأَلْتُ أبا عبدالله: إِلَى أَيِّ حَدِيثٍ تَذْهَبُ فِي الْوِتْرِ؟ قَالَ: أَذْهَبُ إِلَيْهَا كُلِّهَا: مَنْ صَلَّى خَمْسًا لَا يَجْلِسُ إِلَّا فِي آخِرِهِنَّ، وَمَنْ صَلَّى سَبْعًا لَا يَجْلِسُ إِلَّا فِي آخِرِهِنَّ. وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ زرارة، عَنْ عائشة: "يُوتِرُ بِتِسْعٍ، يَجْلِسُ فِي الثَّامِنَةِ".

قَالَ: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْحَدِيثِ وَأَقْوَاهُ رَكْعَةٌ، فَأَنَا أَذْهَبُ إِلَيْهَا.

قُلْتُ: ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: ثَلَاث؟ قَالَ: نَعَمْ، قَدْ عَابَ عَلَى سعدٍ رَكْعَةً، فَقَالَ لَهُ سعدٌ أَيْضًا شَيْئًا يَرُدُّ عَلَيْهِ.

النَّوْعُ الثَّامِنُ: مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ حذيفة: أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي رَمَضَانَ، فَرَكَعَ، فَقَالَ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ مِثْلَمَا كَانَ قَائِمًا، ثُمَّ جَلَسَ يَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي، مِثْلَمَا كَانَ قَائِمًا، ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى مِثْلَمَا كَانَ قَائِمًا، فَمَا صَلَّى إِلَّا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، حَتَّى جَاءَ بِلَالٌ يَدْعُوهُ إِلَى الْغَدَاةِ، وَأَوْتَرَ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَوَسَطَهُ، وَآخِرَهُ.

وَقَامَ لَيْلَةً تَامَّةً بِآيَةٍ يَتْلُوهَا وَيُرَدِّدُهَا حَتَّى الصَّبَاح، وَهِيَ: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ [المائدة:118].

وَكَانَتْ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ.

الشيخ: علَّق عندك بشيء في الحاشية؟

الطالب: رواه أحمد والنسائي في "الافتتاح" باب "ترديد الآية"، والحاكم وابن خزيمة من حديث جسرة، عن أبي ذرٍّ قال: قام النبيُّ ﷺ حتى أصبح بآيةٍ: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118]. وإسناده صحيح.

الشيخ: فقط؟

الطالب: .............

الشيخ: لو قال: حسن، كان أفضل؛ لأن جسرة وسط، انظر جسرة.

س: .............؟

ج: يعني: أطال الجلوس ..... أنه أطال الجلوس في قراءته وركوعه وسجوده حتى صلَّى ركعتين، ثم جاءه المؤذن يُؤذنه للفجر.

وفي الرواية الثانية: صلَّى أربعًا. يعني: ذهب الليل في هذا كله من شدة طوله، من شدة ما أطال: قرأ فيها البقرة والنساء وآل عمران في الركعة الأولى، خمسة أجزاء في الركعة الأولى، ثم ركع نحوًا من قيامه، ثم رفع نحوًا من ركوعه، ثم سجد نحوًا من قيامه، فأطاله كثيرًا عليه الصلاة والسلام، يعني: أنه قرأ فيها نحو عشرين جزءًا في الأربع ركعات؛ لأنه قرأ في الأولى البقرة والنساء وآل عمران.

الطالب: جسرة بنت دجاجة العامرية الكوفية، مقبولة، من الثالثة، ويقال: إنَّ لها إدراكًا. (د س ق).

الشيخ: غيرها، جسرة ثانية؟

الطالب: لا، ما في.

الشيخ: نعم، لو قال: حسن، كان أسهل من صحيحٍ.

س: كون الإمام يُكرر الآية على المأمومين؟

ج: ما في مانع، مثلما جاء في الحديث، وإن كان الحديثُ وسطًا، سنده أقرب إلى الحسن، لكن من باب التذكير والتَّنويه إذا رددها بعض الترداد لا بأس، مثل: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6] وأشباهها.

............

وَكَانَتْ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ:

أَحَدُهَا -وَهُوَ أَكْثَرُهَا: صَلَاتُهُ قَائِمًا.

الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي قَاعِدًا، وَيَرْكَعُ قَاعِدًا.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ قَاعِدًا، فَإِذَا بَقِيَ يَسِيرٌ مِنْ قِرَاءَتِهِ قَامَ فَرَكَعَ قَائِمًا.

وَالْأَنْوَاعُ الثَّلَاثَةُ صَحَّتْ عَنْهُ.

وَأَمَّا صِفَةُ جُلُوسِهِ فِي مَحَلِّ الْقِيَامِ: فَفِي "سُنَنِ النَّسَائِيِّ" عَنْ عبدالله بن شقيق، عَنْ عائشة قَالَتْ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي مُتَرَبِّعًا".

قَالَ النَّسَائِيُّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرَ أبي داود -يعني: الحفري- وأبو داود ثِقَةٌ، وَلَا أَحْسَبُ إِلَّا أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ خَطَأٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الشيخ: علَّق المحشي عليه؟ لا أعلم وجهًا لما قاله النَّسائي.

الطالب: عليه حاشية: رواه النَّسائي في "صلاة الليل" باب "كيف صلاة القاعد" من حديث أبي داود الحبلي، عن حفص بن غياث، عن حميد الطويل، عن عبدالله بن شقيق، عن عائشة رضي الله عنها. ورجاله ثقات.

وروى مالك في "الموطأ" بسندٍ صحيحٍ عن عبدالله بن دينار: أنه سمع عبدالله بن عمر، وصلَّى إلى جنبه رجلٌ، فلما جلس الرجلُ في أربع تربع وثنى رجليه، فلما انصرف عبدالله عاب ذلك عليه، فقال الرجلُ: فإنك تفعل ذلك؟! قال عبدالله بن عمر: "فإني أشتكي".

وروى هو والبخاري من حديث عبدالله بن عبدالله بن عمر: أنه كان يرى عبدالله بن عمر يتربع في الصلاة إذا جلس، ففعلته وأنا يومئذٍ حديث السن، فنهاني عبدالله بن عمر، قال: "إنما سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى، وتثني اليسرى"، فقلت: إنك تفعل ذلك؟! فقال: "إنَّ رجلي لا تحملاني".

الشيخ: وهذا غير ما روت عائشة، الذي قاله ابنُ عمر غير ما روته عائشة، هذا فيما إذا جلس بين السَّجدتين، أو للتشهد: يجلس على اليسرى، وينصب اليمنى، أما ما قالت عائشة فهذا في محل القيام، في محل القيام والقراءة يجلس مُتربعًا هكذا؛ لأنه أرفق به.

الطالب: في الحديث السابق: مَن نام عن الوتر أو نسيه فليُصله إذا أصبح، فيه حاشية، يقول: هذا الإعلال إنما يتَّجه إلى سند الترمذي وابن ماجه، أما سند أبي داود والحاكم والبيهقي فهو صحيح، فإنه عندهم من رواية أبي غسان، عن محمد بن مطرف المدني، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيدٍ الخدري، وهذا إسناد صحيح.

الشيخ: راجعته؟

الطالب: نعم راجعتُه في "سنن أبي داود" عن أبي سعيدٍ قال: قال رسولُ الله ﷺ: مَن نام عن وتره أو نسيه فليُصله إذا ذكره.

الشيخ: إذا ذكره، ما في: إذا أصبح؟

الطالب: لا، فليُصله إذا أصبح أو ذكر.

الشيخ: حتى عند أبي داود؟

الطالب: فليُصله إذا ذكره، فقط.

الشيخ: ما في: أصبح، ..... ضعيف، لكن يُحمل على ما فعل النبي ﷺ شفعًا، لا وترًا؛ لأنَّ فعله يُفسر هذا.

الطالب: .............

الشيخ: للسنية، للسنية؛ ولهذا ..... من حديث ابن عباسٍ مثلما أشار ابن القيم .....

فَصْلٌ

وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْوِتْرِ رَكْعَتَيْنِ جَالِسًا تَارَةً، وَتَارَةً يَقْرَأُ فِيهِمَا جَالِسًا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَرَكَعَ.

وَفِي "صَحِيحِ مسلم" عَنْ أبي سلمة قَالَ: سَأَلْتُ عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَتْ: "كَانَ يُصَلِّي ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي ثَمَان رَكَعَاتٍ، ثُمَّ يُوتِرُ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَرَكَعَ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ النِّدَاءِ وَالْإِقَامَةِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ".

وَفِي "الْمُسْنَدِ" عَنْ أم سلمة: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْوِتْرِ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ.

وَقَالَ الترمذي: رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ عائشة، وأبي أمامة، وَغَيْرِ وَاحِدٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ.

وَفِي "الْمُسْنَدِ" عَنْ أبي أمامة: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ وَهُوَ جَالِسٌ، يَقْرَأُ فِيهِمَا بِـإِذَا زُلْزِلَتِ [الزلزلة]، وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون].

وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ أنسٍ .

الشيخ: علَّق على رواية أحمد؟

الطالب: رواه أحمد في "المسند"، وإسناده حسن.

الشيخ: فقط ولا بيَّنه.

الطالب: ما ذكر.

الشيخ: طيب.

وَقَدْ أَشْكَلَ هَذَا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فَظَنُّوهُ مُعَارِضًا لِقَوْلِهِ ﷺ: اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا، وَأَنْكَرَ مالك رَحِمَهُ اللَّهُ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ، وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا أَفْعَلُهُ، وَلَا أَمْنَعُ مَنْ فَعَلَهُ، قَالَ: وَأَنْكَرَهُ مالكٌ.

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّمَا فَعَلَ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ لِيُبَيِّنَ جَوَازَ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْوِتْرِ، وَأَنَّ فِعْلَهُ لَا يَقْطَعُ التَّنَفُّلَ. وَحَمَلُوا قَوْلَهُ: اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَصَلَاةَ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَهُ عَلَى الْجَوَازِ.

وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ تَجْرِيَانِ مَجْرَى السُّنَّةِ، وَتَكْمِيلِ الْوِتْرِ، فَإِنَّ الْوِتْرَ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ قِيلَ بِوُجُوبِهِ، فَتَجْرِي الرَّكْعَتَانِ بَعْدَهُ مَجْرَى سُنَّةِ الْمَغْرِبِ مِنَ الْمَغْرِبِ، فَإِنَّهَا وِتْرُ النَّهَارِ، وَالرَّكْعَتَانِ بَعْدَهَا تَكْمِيلٌ لَهَا، فَكَذَلِكَ الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ وِتْرِ اللَّيْلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الشيخ: القاعدة لبيان الجواز أظهر؛ لأنها نوافل، ولم يرد ما يدل على أنَّ لها راتبةً، وقد أمر بقوله عليه الصلاة والسلام: اجعلوا من آخر صلاتكم في الليل وترًا، قد يظنّ بعضُ الناس أنَّ هذا للوجوب، وأنه يجب أن يكون الوترُ آخر شيءٍ، وبيَّن ﷺ أنَّ الأمر ليس للوجوب، ولكن الأفضل أن يكون الوترُ آخر شيءٍ، فإن فعل بعده شيئًا فلا حرج؛ ولهذا صلَّى ركعتين ليُعلم الناسَ أنه جائزٌ أن يُصلي بعد الوتر ما تيسر له، والإنسان قد يُوتر في أول الليل، ثم يُسهل الله له القيام في آخر الليل، فلا يمنع أن يُصلي ما تيسر له، ولا يحتاج إلى وتره في آخره، يكفيه الوتر الأول؛ لقوله ﷺ: لا وترانِ في ليلةٍ، فيُصلي ركعتين، أو أربعًا، أو ثمانيًا، أو ما شاء الله، من غير حاجةٍ إلى وترٍ ثانٍ، هذا أظهر في الجمع بين النصوص، وأما جعل ركعتين كالراتبة هذا محل نظرٍ.

فَصْلٌ

وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَنَتَ فِي الْوِتْرِ، إِلَّا فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ علي بن ميمون الرقي: حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ سفيان، عَنْ زُبَيْدٍ الْيَامِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يُوتِرُ فَيَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ.

وَقَالَ أحمدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عبدالله: أَخْتَارُ الْقُنُوتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ، إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْقُنُوتِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْفَجْرِ لَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَقُنُوتُ الْوِتْرِ أَخْتَارُهُ بَعْدَ الرُّكُوعِ، وَلَمْ يَصِحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ قَبْلُ أَوْ بَعْدُ شَيْءٌ.

وَقَالَ الخلال: أَخْبَرَنِي محمد بن يحيى الكحال أَنَّهُ قَالَ لأبي عبدالله فِي الْقُنُوتِ فِي الْوِتْرِ، فَقَالَ: لَيْسَ يُرْوَى فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ شَيْءٌ، وَلَكِنْ كَانَ عمرُ يَقْنُتُ مِنَ السَّنَةِ إِلَى السَّنَةِ.

وَقَدْ رَوَى أحمدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ الحسن بن عليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي الْوِتْرِ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، إِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، إِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ".

زَادَ البيهقي وَالنَّسَائِيُّ: وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ.

وَزَادَ النَّسَائِيُّ فِي رِوَايَتِهِ: وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ.

وَزَادَ الحاكم فِي "الْمُسْتَدْرَكِ" وَقَالَ: "عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي وِتْرِي إِذَا رَفَعْتُ رَأْسِي وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا السُّجُودُ".

وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي "صَحِيحِهِ"، وَلَفْظُهُ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَدْعُو".

قَالَ الترمذي: وَفِي الْبَابِ عَنْ عليٍّ ، وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ حَدِيثِ أبي الحوراء السَّعدي، واسمه: ربيعة بن شيبان، وَلَا نَعْرِفُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْقُنُوتِ فِي الْوِتْرِ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا. انْتَهَى.

وَالْقُنُوتُ فِي الْوِتْرِ مَحْفُوظٌ عَنْ عمر، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَالرِّوَايَةُ عَنْهُمْ أَصَحُّ مِنَ الْقُنُوتِ فِي الْفَجْرِ، وَالرِّوَايَةُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي قُنُوتِ الْفَجْرِ أَصَحُّ مِنَ الرِّوَايَةِ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ رَوَى أبو داود وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقُولُ فِي آخِرِ وِتْرِهِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ.

وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْهُ وَبَعْدَهُ، وَفِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنِ النَّسَائِيِّ: كَانَ يَقُولُ إِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ وَتَبَوَّأَ مَضْجَعَهُ. وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ وَلَوْ حَرَصْتُ.

وَثَبَتَ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ، فَلَعَلَّهُ قَالَهُ فِي الصَّلَاةِ وَبَعْدَهَا.

وَذَكَرَ الحاكمُ فِي "الْمُسْتَدْرَكِ" مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ ﷺ وَوِتْرِهِ: ثُمَّ أَوْتَرَ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي بَصَرِي نُورًا، وَفِي سَمْعِي نُورًا، وَعَنْ يَمِينِي نُورًا، وَعَنْ شِمَالِي نُورًا، وَفَوْقِي نُورًا، وَتَحْتِي نُورًا، وَأَمَامِي نُورًا، وَخَلْفِي نُورًا، وَاجْعَلْ لِي يَوْمَ لِقَائِكَ نُورًا.

قَالَ كريب: وَسَبَّعَ فِي الْقُنُوتِ، فَلَقِيتُ رَجُلًا مِنْ وَلَدِ العباس فَحَدَّثَنِي بِهِنَّ، فَذَكَرَ "لَحْمِي وَدَمِي، وَعَصَبِي وَشَعْرِي وَبَشَرِي"، وَذَكَرَ خَصْلَتَيْنِ. وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: وَكَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لمسلم فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَخَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ -يَعْنِي صَلَاةَ الصُّبْحِ- وَهُوَ يَقُولُ. فَذَكَرَ هَذَا الدُّعَاءَ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْضًا: وَفِي لِسَانِي نُورًا، وَاجْعَلْ فِي نَفْسِي نُورًا، وَأَعْظِمْ لِي نُورًا. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: وَاجْعَلْنِي نُورًا.

وَذَكَرَ أبو داود وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقْرَأُ فِي الْوِتْرِ بِـسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى]، وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون]، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص]، فَإِذَا سَلَّمَ قَالَ: سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَمُدُّ بِهَا صَوْتَهُ فِي الثَّالِثَةِ وَيَرْفَعُ". وَهَذَا لَفْظُ النَّسَائِيِّ. زَادَ الدَّارَقُطْنِيُّ: رَبِّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ.

وَكَانَ ﷺ يَقْطَعُ قِرَاءَتَهُ، وَيَقِفُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ فَيَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] وَيَقِفُ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] وَيَقِفُ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4].

الشيخ: انظر كلامه على حديث .....

الطالب: رواه النَّسائي وابن ماجه ومحمد بن مسلم في "قيام الليل"، وسنده حسن.

وفي الباب عن عبدالله بن مسعودٍ عند الخطيب في كتاب "القنوت"، وعن ابن عباسٍ عند أبي نعيم في "الحلية"، وعن ابن عمر عند الطبراني في "الأوسط"، وهي على ضعفها تقوي حديث أُبي بن كعبٍ .

الشيخ: في المتن: ابن ماجه؟ وفي الحاشية يقول: النَّسائي وابن ماجه؟

الطالب: في المتن: رواه ابن ماجه.

الشيخ: وفي الحاشية؟

الطالب: في الحاشية: رواه النَّسائي وابن ماجه.

الشيخ: أيش قال "التقريب" على علي بن ميمون.

الطالب: علي بن ميمون الرقي العطار ثقة، من العاشرة، مات سنة ستٍّ وأربعين. (س، ق).

............

الطالب: عن علي بن ميمون الرقي: حدثنا مخلد بن يزيد، عن سفيان، عن زبيد اليامي، وسعيد بن عبدالرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن أُبي بن كعبٍ .

الشيخ: انظر مخلد بن يزيد؟

الطالب: مخلد بن يزيد القرشي الحراني، صدوق له أوهام، من كبار التاسعة، مات سنة ثلاث وتسعين. (خ، م، د، س، ق).

الشيخ: يمكن هذه أوهام، المحفوظ في الأحاديث الصَّحيحة كلها بعد الركوع، هذا هو المحفوظ: القنوت بعد الركوع، حديث ابن عمر في "صحيح البخاري"، وفي أحاديث أبي هريرة الكثيرة، وأحاديث أخرى كلها بعد الركوع.

س: الراجح؟

ج: بعد الركوع.

س: لكن في الفجر وإلا في النَّوازل فقط؟

ج: في النَّوازل، وفي القنوت، أما الفجر دائمًا لا، ما هو بشرعيٍّ، إنما في النَّوازل فقط، أما القنوت في الفجر دائمًا هذا خلاف السنة، إنما يفعل في النَّوازل.

س: النَّوازل في الصَّلوات الخمس؟

ج: لكن الفجر أفضلها.

..............

كَانَ ﷺ يَقْطَعُ قِرَاءَتَهُ، وَيَقِفُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ فَيَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] وَيَقِفُ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] وَيَقِفُ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4].

وَذَكَرَ الزُّهْرِيُّ أَنَّ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كَانَتْ آيَةً، آيَةً. وَهَذَا هُوَ الْأَفْضَلُ.

الشيخ: وهذا عملًا بقوله جلَّ وعلا: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل:4]، فإنَّ قراءته للقرآن مُرتَّلًا يقف عند رؤوس الآي أنفع له وللمُستمعين؛ حتى يتمكَّنوا من التَّدبر والتَّعقل، وهو كذلك يتمكن من التَّدبر والتَّعقل، فإن حدر القراءة فلا بأس، إن حدرها قراءة واضحة، ليس فيها هذرمة ولا إسقاط حروفٍ جاز ذلك، لكن الترتيل هو الأفضل والأكمل.

س: .............؟

ج: يعني يقف على رؤوس الآي.

س: ..............؟

ج: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2- 4]، هذا الأفضل، فإن قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ جاز، يُسمَّى: الوصل.

س: .............؟

ج: فيه نظر، هذا قول جماعةٍ من أهل التجويد، ولكن فيه نظر، هو من تحسين التلاوة، ومن مُزينات التلاوة، ولكن الوجوب فيه نظر؛ لأنَّ معناه الترقيق والتَّفخيم، والمدود هذه لا تخلّ بالمعاني، ولكن الإتيان بها على الوجه الذي ذكر المجيدون للتجويد يكون أفضل، من ذلك تحسين القراءة، وتزيين القراءة، وإكمال الحروف وإعطائها حقَّها.

س: ما يُعتبر هذا ..... بقول الرسول ﷺ: ليس منَّا مَن لم يتغنَّ بالقرآن، وهذا منه؟

ج: هذا ما هو بلازمٍ، فسّره النبيُّ قال: يجهر به، يُحسن صوته به، تحسين الصوت والجهر به ما يلزم منه .....

س: ..... يقول: إنَّ القرآن لا يُقرأ إلا بالإجازة، ولا يُقرأ بالوجادة؟

ج: هذا معناه التَّحسين، يعني: تحسين الصوت به، ولإقامة حروفه.

س: لا، يقول: لا يقرأ إلا مجاز؟

ج: حتى يأخذ لفظَ القرآن كما ينبغي؛ لأنَّ العامي الذي ما أخذه عن أحدٍ قد يُغير ويُحرف الكلمات والحروف، مثلما قال رحمه الله، ينبغي أن يكون للمُتعلم شيخٌ في القرآن يُوجهه: تفخيم الراءات في إدغام، في إظهار، في مدود، في تحسين اللفظ بالقراءة، يعني: يُوجهه التَّوجيهات التي تجعله يقرأ قراءةً واضحةً حسنةً.

س: لكن هذا على سبيل الوجوب؟

ج: محل نظرٍ، لكن ..... له وهو محتاج لهذا الشيء.

وَهَذَا هُوَ الْأَفْضَلُ: الْوُقُوفُ عَلَى رُؤُوسِ الْآيَاتِ وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِمَا بَعْدَهَا، وَذَهَبَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ إِلَى تَتَبُّعِ الْأَغْرَاضِ وَالْمَقَاصِدِ، وَالْوُقُوفِ عِنْدَ انْتِهَائِهَا. وَاتِّبَاعُ هَدْيِ النَّبِيِّ ﷺ وَسُنَّتِهِ أَوْلَى، وَمِمَّنْ ذَكَرَ ذَلِكَ البيهقي فِي "شُعَبِ الْإِيمَانِ"، وَغَيْرُهُ، وَرَجَّحَ الْوُقُوفَ عَلَى رُؤُوسِ الْآيِ وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِمَا بَعْدَهَا.

الشيخ: نعم، مثل: وَالْعَصْرِ ۝ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ۝ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [العصر]، الَّذِينَ آمَنُوا مُتعلقة بما قبلها، ما هو بجميع الناس بخسارةٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا، ولكن الأفضل الوقوف على رؤوس الآي والبيان، يأتي بالبيان، ولو تنفس فالبيان يأتي، ولا يضرّ هذا الوقف.

وَكَانَ ﷺ يُرَتِّلُ السُّورَةَ حَتَّى تَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ أَطْوَلَ مِنْهَا، وَقَامَ بِآيَةٍ يُرَدِّدُهَا حَتَّى الصَّبَاحِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْأَفْضَلِ مِنَ التَّرْتِيلِ وَقِلَّةِ الْقِرَاءَةِ، أَوِ السُّرْعَةِ مَعَ كَثْرَةِ الْقِرَاءَةِ: أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟
عَلَى قَوْلَيْنِ:
فَذَهَبَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَغَيْرُهُمَا إِلَى أَنَّ التَّرْتِيلَ وَالتَّدَبُّرَ مَعَ قِلَّةِ الْقِرَاءَةِ أَفْضَلُ مِنْ سُرْعَةِ الْقِرَاءَةِ مَعَ كَثْرَتِهَا.

الشيخ: يعني قراءة نصف جزء مع تدبرٍ أفضل من جزءٍ مع السرعة وعدم التَّدبر، هكذا الختمة مع التَّدبر أفضل من ختمتين مع السرعة؛ لأنَّ الفائدة في الأولى أكثر؛ لأنه يقرأ ويستفيد علمًا، ولكن مع السرعة الفائدة العلمية قليلة.

والقرآن ما أُنزل لمجرد التلاوة حتى يرسل، أُنزل للفهم والعمل والعلم، لا لمجرد أن يقرأه فقط، يأخذ حروفًا، وإن كان كل حرفٍ له حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لكن هذا لا يمنع التَّدبر؛ لأنَّ المقصود هو التَّدبر: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29]، أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ [المؤمنون:68]، أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].

وَاحْتَجَّ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْقِرَاءَةِ فَهْمُهُ وَتَدَبُّرُهُ، وَالْفِقْهُ فِيهِ، وَالْعَمَلُ بِهِ، وَتِلَاوَتُهُ وَحِفْظُهُ وَسِيلَةٌ إِلَى مَعَانِيهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: "نَزَلَ الْقُرْآنُ لِيُعْمَلَ بِهِ، فَاتَّخذُوا تِلَاوَتَهُ عَمَلًا"؛ وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمُ الْعَالِمُونَ بِهِ، وَالْعَامِلُونَ بِمَا فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْفَظُوهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ.

وَأَمَّا مَنْ حَفِظَهُ وَلَمْ يَفْهَمْهُ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا فِيهِ فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، وَإِنْ أَقَامَ حُرُوفَهُ إِقَامَةَ السَّهْمِ.

الشيخ: بل حُجَّة عليه، يقول النبيُّ ﷺ في الخوارج: يحقر أحدُكم صلاتَه مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآنَ لا يُجاوز حناجرهم؛ لأنهم ما قرأوه للعمل، قرأوه لغير ذلك.

س: "فاتَّخذوا تلاوته عملًا" أمر هذا أم خبر؟

ج: محتمل، يحتمل أنه ذمٌّ لبعض الناس أنهم اتَّخذوا التلاوة عملًا بدلًا من العمل بالأحكام، ويحتمل أنه أراد أن يتَّخذوا تلاوته يعني مع العمل، يعني: تأملوها وتدبروها واخشعوا فيها حتى تكون من جملة العمل المطلوب.

س: ..............؟

ج: لا، عليه أن يجتهد حتى لا ينسى، أما الأحاديث التي فيها: مَن حفظ ونسي فعليه كذا، وعليه كذا، ولقي الله ..... ضعيف، إنما المهم أن يعتني، نعم النبي قال: تعاهدوا هذا القرآن، فوالذي نفسي بيده إنه لأشدّ تفصِّيًا من الإبل في عقلها، تعاهدوه يعني: حفظًا، الحفظ.

قَالُوا: وَلِأَنَّ الْإِيمَانَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ، وَفَهْمُ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرُهُ هُوَ الَّذِي يُثْمِرُ الْإِيمَانَ، وَأَمَّا مُجَرَّدُ التِّلَاوَةِ مِنْ غَيْرِ فَهْمٍ وَلَا تَدَبُّرٍ فَيَفْعَلُهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَالْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ: رِيحُهَا طَيِّبٌ، وَطَعْمُهَا مُرٌّ.

وَالنَّاسُ فِي هَذَا أَرْبَعُ طَبَقَاتٍ:

أَهْلُ الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ، وَهُمْ أَفْضَلُ النَّاسِ.

وَالثَّانِيَةُ: مَنْ عَدِمَ الْقُرْآنَ وَالْإِيمَانَ.

الشيخ: وهم شرُّ الناس: مَن عدم القرآنَ والإيمانَ شرُّ الناس، نسأل الله العافية.

الثَّالِثَةُ: مَنْ أُوتِيَ قُرْآنًا، وَلَمْ يُؤْتَ إِيمَانًا.

الرَّابِعَةُ: مَنْ أُوتِيَ إِيمَانًا، وَلَمْ يُؤْتَ قُرْآنًا.

قَالُوا: فَكَمَا أَنَّ مَنْ أُوتِيَ إِيمَانًا بِلَا قُرْآنٍ أَفْضَلُ مِمَّنْ أُوتِيَ قُرْآنًا بِلَا إِيمَانٍ.

الشيخ: كالمنافقين يقرؤون ولا إيمانَ، وهم في الدَّرك الأسفل من النار، نعوذ بالله؛ لأنَّ قراءتهم لم تنفعهم، ولم يعملوا بها، بل قرأوا رياءً وتلبيسًا وخداعًا، لا لأنهم يُؤمنون به، وهكذا الخوارج عند مَن كفَّرهم، وهكذا عند مَن لم يُكفرهم لم ينتفعوا بذلك، بل كفَّروا المسلمين وضللوهم وقاتلوهم.

قَالُوا: فَكَمَا أَنَّ مَنْ أُوتِيَ إِيمَانًا بِلَا قُرْآنٍ أَفْضَلُ مِمَّنْ أُوتِيَ قُرْآنًا بِلَا إِيمَانٍ، فَكَذَلِكَ مَنْ أُوتِيَ تَدَبُّرًا وَفَهْمًا فِي التِّلَاوَةِ أَفْضَلُ مِمَّنْ أُوتِيَ كَثْرَةَ قِرَاءَةٍ وَسُرْعَتَهَا بِلَا تَدَبُّرٍ.

قَالُوا: وَهَذَا هَدْيُ النَّبِيِّ ﷺ، فَإِنَّهُ كَانَ يُرَتِّلُ السُّورَةَ حَتَّى تَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ أَطْوَل مِنْهَا، وَقَامَ بِآيَةٍ حَتَّى الصَّبَاحِ.

س: ............؟

ج: يعني يُرتل في قراءته حتى يكون الزمانُ الذي رتل فيه هذه السورة أطول من السورة الأخرى التي هي أطول منها إذا قرأها الإنسانُ بغير ترتيلٍ.

وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: كَثْرَةُ الْقِرَاءَةِ أَفْضَلُ.

وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ: الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ. رَوَاهُ الترمذي وَصَحَّحَهُ.

الشيخ: علَّق بشيءٍ؟

الطالب: رواه الترمذي في "فوائد القرآن" باب "ما جاء فيمَن قرأ حرفًا من القرآن ما له من الأجر"، وحسَّنه. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا.

الشيخ: وهذا ما لهم حُجَّة فيه؛ لأنَّ قراءة حرفٍ من القرآن مع التَّدبر يُعطى فيه حسنات مُضاعفة، قد تضاعف الحسنة إلى مئات الحسنات، وآلاف الحسنات، فكلما كان التَّدبر أكثر والعمل أكثر صارت المضاعفةُ أكثر، وقراءة بلا تدبرٍ مُضاعفتها أقلّ، وقراءة بتدبر مُضاعفة أكثر، فبعض الناس يُعطى الحسنة بعشر أمثالها، وبعض الناس يُعطى الحسنة بسبعمئة حسنةٍ، ما هو بعشرٍ، بسبعمئة، وبآلاف أيضًا، والله يُضاعف لمن يشاء ، كما قال : مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:261].

هكذا جاء من حديث ابن عباسٍ: إنَّ الله كتب الحسنات والسيئات ثم بيَّن ذلك، فمَن همَّ بالحسنة ولم يعملها كتبها الله له حسنة، وإذا عملها كتبها الله له عشر حسنات إلى سبعمئة ضعفٍ إلى أضعاف كثيرةٍ، وقد تضاعف الحسنة بآلاف على حسب تقوى العبد وإيمانه ورغبته بما عند الله وإخلاصه وصدقه، والله المستعان.

س: .............؟

ج: هذا ما يجوز، هذا بدعة، ولا له ثواب، ما قرأ لله، قرأ للقروش، ما له ثواب، ولا يجوز فعل هذا.

س: ..............؟

ج: ما يكفر، لكن ما يجوز عمله، هذا غلط، لا يكفر.

س: ..............؟

ج: ما يجوز، يقول الشيخُ تقي الدِّين رحمه الله: أجمع العلماء على أنها لا تجوز: أخذ الأجرة على التلاوة. قال: بلا نزاعٍ، إنما الخلاف في مسألة التعليم -المعلم- والصواب أنه يجوز أن يأخذ المعلمُ؛ لأنه ينحبس للتعليم، ويشقّ عليه ذلك، وهكذا للدواء، للتَّطبب، أما أن يأخذ عنه لمجرد التلاوة فهذا لا يجوز عند جميع أهل العلم.

قَالُوا: وَلِأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي رَكْعَةٍ، وَذَكَرُوا آثَارًا عَنْ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ فِي كَثْرَةِ الْقِرَاءَةِ.

وَالصَّوَابُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ثَوَابَ قِرَاءَةِ التَّرْتِيلِ وَالتَّدَبُّرِ أَجَلُّ وَأَرْفَعُ قَدْرًا، وَثَوَابَ كَثْرَةِ الْقِرَاءَةِ أَكْثَرُ عَدَدًا، فَالْأَوَّلُ: كَمَنْ تَصَدَّقَ بِجَوْهَرَةٍ عَظِيمَةٍ، أَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا قِيمَتُهُ نَفِيسَةٌ جِدًّا، وَالثَّانِي: كَمَنْ تَصَدَّقَ بِعَدَدٍ كَثِيرٍ مِنَ الدَّرَاهِمِ، أَوْ أَعْتَقَ عَدَدًا مِنَ الْعَبِيدِ قِيمَتُهُمْ رَخِيصَةٌ.

الشيخ: وهذا نوعٌ من الجواب، لكن مثلما تقدم: القول الأول أظهر، وأنَّ المضاعفة أكثر، وأنَّ هؤلاء المرتلين أكثر عددًا، وأكثر ثوابًا، والمثال الذي قاله وإن كان له بعض الوجاهة، لكن ما تقدم أظهر؛ فإنَّ المضاعفة تحصل للمُرتلين والمتدبرين والمتعقلين، تكون أكثر من الأعداد التي حصلت لأولئك الذين أكثروا القراءة، فهب أنه قرأ مئة حرفٍ في مئة حسنةٍ إلى أضعافها، مئة حسنة، لكن ذاك الذي قرأ مئة حرفٍ أو أكثر بتدبر وتعقل يُعطى من الأجور أكثر من ذلك بكثيرٍ، ويحصل له بهذا ثواب أكثر، مع كونه وافق القراءة التي تنبغي، وافق طريقة النبي عليه الصلاة والسلام.

س: .............؟

ج: هذا مشهور عن عثمان، ولا تتبعتُ سنده، لكنه مشهور، وإن ثبت عنه فلا يلزم من ذلك أنه قرأ قراءةً ليس فيها ترتيل ولا تدبر؛ لأنَّ الله جلَّ وعلا يُسهل على بعض الناس قراءة القرآن، وإن كان يقرأه بالترتيل والتَّدبر والتَّعقل، والإنسان إذا جرب ذلك عرف، إذا جرب ذلك في رمضان أو في غيره، وقت خلو المعدة، مع رغبة في القراءة، ومحبة لها، والنشاط فيها، يقرأ في الساعة الواحدة من الأجزاء ما لا يقرأها مَن ليس عنده النشاط، ما لا يقرأ في ساعات متعددة؛ لأنَّ الناس يختلفون في القراءة وسهولتها ..... فيها، وإذا تأمل الإنسانُ في نفسه ذلك في بعض الأحيان يعرف ذلك.

وَفِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" عَنْ قتادة قَالَ: سَأَلْتُ أنسًا عَنْ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: "كَانَ يَمُدُّ مَدًّا".

وَقَالَ شعبة: حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي رَجُلٌ سَرِيعُ الْقِرَاءَةِ، وَرُبَّمَا قَرَأْتُ الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "لَأَنْ أَقْرَأَ سُورَةً وَاحِدَةً أَعْجَبُ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ الَّذِي تَفْعَلُ، فَإِنْ كُنْتَ فَاعِلًا وَلَا بُدَّ فَاقْرَأْ قِرَاءَةً تُسْمِعُ أُذُنَيْكَ، وَيَعِيهَا قَلْبُكَ".

وَقَالَ إبراهيمُ: قَرَأَ علقمةُ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، وَكَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ، فَقَالَ: "رَتِّلْ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، فَإِنَّهُ زَيْنُ الْقُرْآنِ".

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "لَا تَهُذُّوا الْقُرْآنَ هَذَّ الشِّعْرِ، وَلَا تَنْثُرُوهُ نَثْرَ الدَّقَلِ، وَقِفُوا عِنْدَ عَجَائِبِهِ، وَحَرِّكُوا بِهِ الْقُلُوبَ، وَلَا يَكُنْ هَمُّ أَحَدِكُمْ آخِرَ السُّورَةِ".

الشيخ: صدق رحمة الله عليه: حرِّكوا به القلوب، وقفوا عند عجائبه، وترغيبه، وترهيبه، ما ينبغي أن يكون همُّ الإنسان فقط أنه يُكمل السورة حتى ينتهي منها، لا، المقصود أن يفهم هذا الكتاب، وماذا أراد الله منه، والله المستعان.

وَقَالَ عبدُالله أَيْضًا: "إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَأَصْغِ لَهَا سَمْعَكَ، فَإِنَّهُ خَيْرٌ تُؤْمَرُ بِهِ، أَوْ شَرٌّ تُصْرَفُ عَنْهُ".

الشيخ: وهكذا إذا سمعت الله يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ فأنت واحدٌ منهم، انتبه وانظر ماذا يُقال، فإنك واحدٌ من الناس، مخلوق، فإن كنت مؤمنًا فأنت واحدٌ من المؤمنين، وواحد من الناس، فأرعها سمعك، وتأمل ماذا يُقال، ماذا يُطلب منك: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1]، فانتبه لهذا الأمر المطلوب، وهو التقوى، وهكذا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ [البقرة:278]، انتبه، هل أنت مُنتبه لهذا الواجب الذي أُمرتَ به؟

س: عندما أقرأ القرآنَ أشعر أني سارح، هل أُعيد القراءة أو أسكت .....؟

ج: أنت بالخيار: إن أعدتها فلا بأس، وإن استمررت مع التَّدبر والتَّعقل فلا بأس.

وَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: دَخَلَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ وَأَنَا أَقْرَأُ سُورَةَ هُودٍ، فَقَالَتْ: يَا عبدالرحمن، هَكَذَا تَقْرَأُ سُورَةَ هُودٍ؟! وَاللَّهِ إِنِّي فِيهَا مُنْذُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَمَا فَرَغْتُ مِنْ قِرَاءَتِهَا.

............

وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُسِرُّ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ تَارَةً، وَيَجْهَرُ بِهَا تَارَةً، وَيُطِيلُ الْقِيَامَ تَارَةً، وَيُخَفِّفُهُ تَارَةً، وَيُوتِرُ آخِرَ اللَّيْلِ -وَهُوَ الْأَكْثَرُ- وَأَوَّلَهُ تَارَةً، وَأَوْسَطَهُ تَارَةً.

وَكَانَ يُصَلِّي التَّطَوُّعَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي السَّفَرِ قِبَلَ أَيِّ جِهَةٍ تَوَجَّهَتْ بِهِ، فَيَرْكَعُ وَيَسْجُدُ عَلَيْهَا إِيمَاءً، وَيَجْعَلُ سُجُودَهُ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِهِ، وَقَدْ رَوَى أحمد وأبو داود عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى رَاحِلَتِهِ تَطَوُّعًا اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَكَبَّرَ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ خَلَّى عَنْ رَاحِلَتِهِ، ثُمَّ صَلَّى أَيْنَمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ".

فَاخْتَلَفَ الرُّوَاةُ عَنْ أحمد: هَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: فَإِنْ أَمْكَنَهُ الِاسْتِدَارَةُ إِلَى الْقِبْلَةِ فِي صَلَاتِهِ كُلِّهَا، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ فِي مَحْملٍ أَوْ عِمَارِيَّةٍ وَنَحْوِهَا، فَهَلْ يَلْزَمُهُ؟ أَوْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ الرَّاحِلَةُ؟

فَرَوَى محمد بن الحكم، عَنْ أحمد فِيمَنْ صَلَّى فِي مَحْملٍ: أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ إِلَّا أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَدُورَ، وَصَاحِبُ الرَّاحِلَةِ وَالدَّابَّةِ لَا يُمْكِنُهُ.

وَرَوَى عَنْهُ أبو طالبٍ أَنَّهُ قَالَ: الِاسْتِدَارَةُ فِي الْمَحْملِ شَدِيدَةٌ، يُصَلِّي حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ.

وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ فِي السُّجُودِ فِي الْمَحْملِ: فَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ عبدالله أَنَّهُ قَالَ: وَإِنْ كَانَ مَحْملًا فَقَدَرَ أَنْ يَسْجُدَ فِي الْمَحْملِ فَيَسْجُدُ.

وَرَوَى عَنْهُ الميموني: إِذَا صَلَّى فِي الْمَحْملِ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَسْجُدَ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ.

وَرَوَى عَنْهُ الفضل بن زياد: يَسْجُدُ فِي الْمَحْملِ إِذَا أَمْكَنَهُ.

وَرَوَى عَنْهُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: السُّجُودُ عَلَى الْمِرْفَقَةِ إِذَا كَانَ فِي الْمَحْملِ، وَرُبَّمَا أَسْنَدَ عَلَى الْبَعِيرِ، وَلَكِنْ يُومِئُ وَيَجْعَلُ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكوعِ. وَكَذَا رَوَى عَنْهُ أبو داود.

...