11 من قوله: ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا..)

وقوله:  إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [المائدة:33] الآية، المحاربة هي المضادة والمخالفة، وهي صادقة على الكفر، وعلى قطع الطريق وإخافة السبيل، وكذا الإفساد في الأرض يطلق على أنواع من الشر، حتى قال كثير من السلف، منهم سعيد بن المسيب: إن قراض الدراهم والدنانير من الإفساد في الأرض. وقد قال تعالى: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:205]، ثم قال بعضهم: نزلت هذه الآية الكريمة في المشركين، كما قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا الحسين بن واقد عن يزيد عن عكرمة والحسن البصري، قالا: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ - إلى قوله-: أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:34] نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم من قبل أن يقدر عليه، لم يكن عليه سبيل، وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد إن قتل، أو أفسد في الأرض، أو حارب الله ورسوله، ثم لحق بالكفار قبل أن يقدر عليه، لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصاب.
ورواه أبو داود والنسائي من طريق عكرمة، عن ابن عباس: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، نزلت في المشركين فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه، لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصابه.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا الآية، قال: كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبي ﷺ عهد وميثاق، فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض، فخير الله رسوله إن شاء أن يقتل وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. رواه ابن جرير .
وروى شعبة عن منصور عن هلال بن يساف، عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال: نزلت في الحرورية إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا رواه ابن مردويه.
والصحيح أن هذه الآية عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات كما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي قلابة، واسمه عبد الله بن زيد الجرمي البصري، عن أنس بن مالك "أن نفرًا من عكل ثمانية، قدموا على رسول الله ﷺ فبايعوه على الإسلام، فاستوخموا الأرض، وسقمت أجسامهم فشكوا إلى رسول الله ﷺ ذلك، فقال: ألا تخرجون مع راعينا في إبله، فتصيبوا من أبوالها وألبانها فقالوا: بلى، فخرجوا فشربوا من أبوالها وألبانها فصحوا، فقتلوا الراعي، وطردوا الإبل، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فبعث في آثارهم فأدركوا فجيء بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسمرت أعينهم، ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا" لفظ مسلم، وفي لفظ لهما: "من عكل أو عرينة"، وفي لفظ: "وألقوا في الحرة فجعلوا يستسقون، فلا يسقون". وفي لفظ لمسلم: "ولم يحسمهم"، وعند البخاري قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله.
ورواه مسلم من طريق هشيم عن عبد العزيز بن صهيب، وحميد عن أنس، فذكر نحوه وعنده وارتدوا، وقد أخرجاه من رواية قتادة عن أنس بنحوه، وقال سعيد عن قتادة: "من عكل وعرينة"، وراه مسلم من طريق سليمان التيمي، عن أنس قال: "إنما سمل النبي ﷺ أعين أولئك، لأنهم سملوا أعين الرعاء"، ورواه مسلم من حديث معاوية بن قرة عن أنس قال: أتى رسول الله ﷺ نفر من عرينة فأسلموا وبايعوه، وقد وقع بالمدينة الموم وهو البرسام، ثم ذكر نحو حديثهم.
الطالب: عندنا: وقد وقع بالمدينة الدم.
الشيخ: حط نسخة.
 وزاد: عنده شباب من الأنصار قريب من عشرين فارسًا فأرسلهم وبعث معهم قائفا يقتص أثرهم، وهذه كلها ألفاظ مسلم -رحمه الله-.
وقال حماد بن سلمة: حدثنا قتادة وثابت البناني وحميد الطويل عن أنس بن مالك أن ناسًا من عرينة قدموا المدينة فاجتووها، فبعثهم رسول الله ﷺ في إبل الصدقة، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، ففعلوا فصحوا، فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، وساقوا الإبل، فأرسل رسول الله ﷺ في آثارهم، فجيء بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمر أعينهم، وألقاهم في الحرة. قال أنس: فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشًا حتى ماتوا، ونزلت إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية، وقد رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن مردويه وهذا لفظه، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقد رواه ابن مردويه من طرق كثيرة عن أنس بن مالك، منها ما رواه من طريقين عن سلام بن أبي الصهباء، عن ثابت، عن أنس بن مالك، قال: ما ندمت على حديث، ما ندمت على حديث سألني عنه الحجاج، قال: أخبرني عن أشد عقوبة عاقب بها رسول الله ﷺ. قال: قلت قدم على رسول الله ﷺ قوم من عرينة من البحرين، فشكوا إلى رسول الله ما لقوا من بطونهم، وقد اصفرت ألوانهم، وضخمت بطونهم، فأمرهم رسول الله ﷺ أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها، حتى إذا رجعت إليهم ألوانهم وانخمصت بطونهم، عمدوا إلى الراعي فقتلوه، واستاقوا الإبل، فأرسل رسول الله ﷺ في آثارهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم، ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا. فكان الحجاج إذا صعد المنبر يقول: إن رسول الله ﷺ قد قطع أيدي قوم وأرجلهم، ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا لحال ذود من الإبل، فكان الحجاج يحتج بهذا الحديث على الناس.

الشيخ: والآية الكريمة مثل ما قال المؤلف عامة للمشركين وغيرهم ممن يحارب الله ورسوله ويسعى في الأرض فسادًا، سواء كانوا كفارًا أو غير كفار، متى فعلوا هذا العمل الشنيع وهو التعرض للناس والإفساد في الأرض بنهب الأموال أو قتل الأبرياء أو ما أشبه ذلك أو في البلدان والقرى فإنهم يعاقبون بهذه العقوبة، ولي الأمر يعاقبهم بإحدى هذه العقوبات، إن شاء قتل، وإن شاء صلب، وإن شاء قطع الأيدي والأرجل من خلاف، وإن شاء نفى، وقد فعل هذا النبي ﷺ بهؤلاء الجماعة من عكل أو عرينة، لما أحسن إليهم ﷺ وبعثهم إلى إبل الصدقة لما اجتووا المدينة وسقمت بطونهم، وأرسلهم إلى إبل الصدقة وشربوا من أبوالها وألبانها، فلما صحوا قتلوا الراعي وسملوا عينه وأخذوا الإبل، فبعث النبي ﷺ في آثارهم، فجيء بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وتركهم حتى ماتوا، هذه من العقوبات الشنيعة لهؤلاء الذين أتوا ذنبًا شنيعًا، فكل من يسعى في الأرض فسادًا بالتقتيل ونهب الأموال فهذا جزاءه في المدن أو في القرى أو في الصحراء؛ لأن شره عظيم وفتنته عظيمة، فصارت عقوبته كذلك شديدة.
س.......................
س: صحة سبب النزول؟
الشيخ: الأقرب والله أعلم أنها عامة، لأن واقعة العرنيين واقعة من الواقعات، والآية تشريع عام للمسلمين.
س: العقوبات للتخيير لولي الأمر؟
الشيخ: للتخيير هذا هو الصواب يرى ما هو الأصلح.
وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سهل، حدثنا الوليد يعني ابن مسلم، حدثني سعيد، عن قتادة، عن أنس، قال: كانوا أربعة نفر من عرينة، وثلاثة نفر من عكل، فلما أتي بهم قطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، ولم يحسمهم، وتركهم يلتقمون الحجارة بالحرة، فأنزل الله في ذلك إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ[المائدة: 33] الآية.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن حرب الموصلي، حدثنا أبو مسعود يعني عبد الرحمن بن الحسن الزجاج، حدثنا أبو سعد يعني البقال، عن أنس بن مالك قال: كان رهط من عرينة أتوا رسول الله ﷺ وبهم جهد، مصفرة ألوانهم، عظيمة بطونهم، فأمرهم أن يلحقوا بالإبل، فيشربوا من أبوالها وألبانها، ففعلوا، فصفت ألوانهم، وخمصت بطونهم، وسمنوا، فقتلوا الراعي، واستاقوا الإبل، فبعث النبي ﷺ في طلبهم، فأتي بهم، فقتل بعضهم، وسمر أعين بعضهم، وقطع أيدي بعضهم وأرجلهم، إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إلى آخر الآية.
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا علي بن سهل، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا ابن لهيعة عن يزيد ابن أبي حبيب أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين وهم من بجيلة، قال أنس: فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، واستاقوا الإبل، وأخافوا السبيل، وأصابوا الفرج الحرام.
وقال حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال، عن أبي الزناد، عن عبد الله بن عبيد الله، عن عبد الله بن عمر أو عمرو- شك يونس- عن رسول الله ﷺ بذلك، يعني بقصة العرنيين، ونزلت فيهم آية المحاربة، ورواه أبو داود والنسائي من طريق أبي الزناد، وفيه عن ابن عمر من غير شك.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن خلف، حدثنا الحسن بن حماد عن عمرو بن هاشم، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن إبراهيم، عن جرير، قال: قدم على رسول الله ﷺ قوم من عرينة حفاة مضرورين، فأمر بهم رسول الله ﷺ فلما صحوا واشتدوا، قتلوا رعاء اللقاح، ثم خرجوا باللقاح عامدين بها إلى أرض قومهم، قال جرير فبعثني رسول الله ﷺ في نفر من المسلمين حتى أدركناهم بعد ما أشرفوا على بلاد قومهم، فقدمنا بهم على رسول الله ﷺ، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمل أعينهم، فجعلوا يقولون: الماء، ورسول الله ﷺ يقول: النار حتى هلكوا، قال: وكره الله -- سمل الأعين، فأنزل الله هذه الآية إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إلى آخر الآية، هذا حديث غريب، وفي إسناده الربذي وهو ضعيف، وفيه فائدة، وهو ذكر أمير هذه السرية، وهو جرير بن عبد الله البجلي، وتقدم في صحيح مسلم أن السرية كانوا عشرين فارسًا من الأنصار، وأما قوله: فكره الله سمل الأعين، فأنزل الله هذه الآية، فإنه منكر، وقد تقدم في صحيح مسلم أنهم سملوا أعين الرعاء، فكان ما فعل بهم قصاصًا، والله أعلم.
الشيخ: رواية موسى بن عبيدة ليست بشيء ضعيفة، والعمدة على ما رواه الشيخان من حديث أنس وما جاء في معناه، هم سملوا أعين الرعاة، فلهذا سملت أعينهم قصاصًا، وأما قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف فهذا من جهة الحرابة.
س: أبو سعد البقال أو أبو سعيد البقال، مكتوب عندنا أبو سعيد البقال؟
الشيخ: وعندكم أبو سعد؟
الطالب: نعم، أحسن الله إليك.
الشيخ: يراجع التقريب.
الطالب: أبو سعد البقال...
الشيخ: الذي عنده سعيد يحطه سعد.
.............................
الطالب: في تعليق لأحمد شاكر في حاشيته على تفسير الطبري: وهذا الخبر ضعيف جدًا، وهو أيضًا لا يصح، لأن جرير بن عبد الله البجلي صاحب رسول الله ﷺ وفد على النبي ﷺ في العام الذي توفى فيه، وخبر العرنيين كان في شوال ..
الشيخ: على كل حال من طريق موسى بن عبيدة ضعيف.
وقال عبد الرزاق عن إبراهيم بن محمد الأسلمي، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة، قال قدم على رسول الله ﷺ رجال من بني فزارة قد ماتوا هزلًا، فأمرهم النبي ﷺ إلى لقاحه، فشربوا منها حتى صحوا، ثم عمدوا إلى لقاحه فسرقوها، فطلبوا فأتي بهم النبي ﷺ فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم. قال أبو هريرة ففيهم نزلت هذه الآية إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، فترك النبي ﷺ سمر الأعين بعد، وروي من وجه آخر عن أبي هريرة.
وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا الحسين بن إسحاق التستري، حدثنا أبو القاسم محمد بن الوليد عن عمرو بن محمد المديني، حدثنا محمد بن طلحة عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن سلمة بن الأكوع قال: كان للنبي ﷺ غلام يقال له: يسار، فنظر إليه، يحسن الصلاة فأعتقه، وبعثه في لقاح له بالحرة فكان بها، قال: فأظهر قوم الإسلام من عرينة، وجاءوا وهم مرضى موعوكون قد عظمت بطونهم، قال: فبعث بهم النبي ﷺ إلى يسار، فكانوا يشربون من ألبان الإبل حتى انطوت بطونهم، ثم عدوا على يسار فذبحوه، وجعلوا الشوك في عينيه، ثم طردوا الإبل، فبعث النبي ﷺ في آثارهم خيلًا من المسلمين، أميرهم كرز بن جابر الفهري، فلحقهم فجاء بهم إليه فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، غريب جدا، وقد روى قصة العرنيين من حديث جماعة من الصحابة منهم جابر وعائشة وغير واحد، وقد اعتنى الحافظ الجليل أبو بكر بن مردويه بتطريق هذا الحديث من وجوه كثيرة جدًا، فرحمه الله وأثابه.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، سمعت أبي يقول: سمعت أبا حمزة عن عبد الكريم وسئل عن أبوال الإبل فقال: حدثني سعيد بن جبير عن المحاربين فقال: كان أناس أتوا رسول الله ﷺ، فقالوا: نبايعك على الإسلام، فبايعوه وهم كذبة، وليس الإسلام يريدون، ثم قالوا: إنا نجتوي المدينة، فقال النبي ﷺ: هذه اللقاح تغدوا عليكم وتروح، فاشربوا من أبوالها وألبانها، قال: فبينما هم كذلك إذ جاء الصريخ، فصرخ إلى رسول الله ﷺ فقال: قتلوا الراعي، واستاقوا النعم، فأمر النبي ﷺ فنودي في الناس أن يا خيل الله اركبي قال: فركبوا لا ينتظر فارس فارسًا، قال: وركب رسول الله ﷺ على أثرهم، فلم يزالوا يطلبونهم حتى أدخلوهم مأمنهم، فرجع صحابة رسول الله ﷺ وقد أسروا منهم، فأتوا بهم النبي ﷺ فأنزل الله: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ  الآية، قال فكان نفيهم أن نفوهم حتى أدخلوهم مأمنهم وأرضهم، ونفوهم من أرض المسلمين، وقتل نبي الله ﷺ منهم وصلب، وقطع وسمر الأعين، قال: فما مثل رسول الله ﷺ قبل ولا بعد، قال: ونهى عن المثلة، وقال: ولا تمثلوا بشيء قال: وكان أنس يقول ذلك، غير أنه قال: أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم، قال: وبعضهم يقول: هم ناس من بني سليم، ومنهم من عرينة، وناس من بجيلة.
وقد اختلف الأئمة في حكم هؤلاء العرنيين: هل هو منسوخ، أو محكم؟ فقال بعضهم: هو منسوخ بهذه الآية، وزعموا أن فيها عتابًا للنبي ﷺ كما في قوله: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: 43]، ومنهم من قال: هو منسوخ بنهي النبي ﷺ عن المثلة، وهذا القول فيه نظر، ثم صاحبه مطالب ببيان تأخر الناسخ الذي ادعاه عن المنسوخ، وقال بعضهم: كان هذا قبل أن تنزل الحدود، قاله محمد بن سيرين، وفي هذا نظر، فإن قصتهم متأخرة، وفي رواية جرير بن عبد الله لقصتهم ما يدل على تأخرها، فإنه أسلم بعد نزول المائدة، ومنهم من قال لم يسمل النبي ﷺ أعينهم، وإنما عزم على ذلك حتى نزل القرآن فبين حكم المحاربين، وهذا القول أيضًا فيه نظر، فإنه قد تقدم في الحديث المتفق عليه أنه سمل، وفي رواية سمر أعينهم.
الشيخ: والصواب أن الآية محكمة، وأنه ليس فيها مخالفة للنهي عن التمثيل، المسلمون منهيون عن التمثيل في الجهاد كقطع الأذن قطع اليد مع القدرة، هذا الذي نهي عنه، بل يقتلهم قتلاً شرعيًا ليس به تمثيل، أما ما في قصة العرنيين فهو من باب القصاص، فهم سملوا عين الراعي فسملت أعينهم من باب القصاص، فالقصاص في العين وفي الأذن أو في اليد، أو في الرجل عام، وأما قطع الأيدي والأرجل فهذا من خصائص المحاربين، فمن فعل مثل فعلهم تقطع يده ورجله من خلاف أو يقتل، ولي الأمر مخير إن شاء قتله وصلبه، وإن شاء قطع يده ورجله، هذا موكول إلى ولي الأمر؛ لأن في  هذا ردعًا شديدًا للمجرمين، متى علم المجرم أن هذا هو جزاءه كان هذا من أعظم ما يردعه عن إيذاء المسلمين في طرقاتهم وفي الصحراء وفي المدن، فالآية محكمة وهي من آخر ما نزل؛ لأن المائدة من آخر ما نزل، فهذا هو حكم الله فيمن آذى المسلمين بالنهب والسلب والقتل ونحو ذلك، في المدن أو في القرى أو في الصحراء، متى أمسكه ولي الأمر فهو بالخيار، وإذا كان قد قتل فالأولى القتل، ولهذا ذهب جمع من أهل العلم إلى أنه إذا قتلوا وجب قتلهم، والآية ظاهرها التخيير مطلقًا على حسب ما يراه ولي الأمر، فإذا رأى القتل قتل، وإذا رأى الصلب صلب، وإذا رأى قطع الأيدي والأرجل فعل، يعمل ما هو أصلح للمسلمين، وما هو أردع للمجرمين.
وأما النفي فاختلف العلماء في معنى النفي، فقال بعضهم: معناه أن ينفوا من البلاد وجميع القرى والمدن فلا يقرون في المدينة، بل لا يزالون ينفون من بلد إلى بلد ومن قطر إلى قطر حتى يموتوا، وقال آخرون كما ذكر أبو حنيفة وجماعة معنى النفي الحبس، أنهم يسجنون حتى يموتون في السجن؛ لأنهم إذا سجنوا فقد نفوا من الأرض، يعني أزيلوا من الأرض وصاروا في أرض السجن، وولي الأمر يعمل ما هو الأصلح من قتل أو صلب أو قطع أيديهم وأرجلهم؛ لأن الأحوال تختلف والأوقات تختلف وولي الأمر أبصر بأحوال المجرمين.
س:..........................
الشيخ: هذا أحد القولين، والقول الثاني أنه يتعين قتلهم إذا قتلوا، ولكن ظاهر الآية التخيير، قد يكون قطع أيديهم وأرجلهم أشد من القتل، تعذيب أشد.
س: التمثيل المنهي عنه إذا كان في حرب؟
الشيخ: لا يتعمد التمثيل.
س: إذا كان العدو يمثل بالمسلمين؟
الشيخ: إذا مثل بالمسلمين مثلوا به من باب القصاص.
س:...........................
الشيخ: ظاهر الآية أنها مستقلة، وإن جمع القتل والصلب فكله طيب هذا إلى ولي الأمر، ظاهر السياق أنه وحده يصلبهم حتى يموتوا من باب النكال الشديد.