17 من قوله: ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ )

سبب آخر في نزول هذه الآيات الكريمات
قال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن العباس، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، عن عبد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، قال: إن الله أنزل: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]... وفَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45]... وفَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47] قال: قال ابن عباس: أنزلها الله في الطائفتين من اليهود، وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقًا، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق، فكانوا على ذلك حتى قدم النبي ﷺ المدينة، فذلت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله ﷺ، ويومئذ لم يظهر، ولم يوطئهما عليه وهو في الصلح، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلًا، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة: أن ابعثوا لنا بمائة وسق، فقالت الذليلة: وهل كان في حيين دينهما واحد، ونسبهما واحد، وبلدهما واحد، دية بعضهم نصف دية بعض، إنما أعطيناكم هذا ضيمًا منكم لنا، وفرقًا منكم، فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم ذلك، فكادت الحرب تهيج بينهما، ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله ﷺ بينهم، ثم ذكرت العزيزة، فقالت: والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم، ولقد صدقوا، ما أعطونا هذا إلا ضيمًا منا وقهرًا لهم، فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه، وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه، فدسوا إلى رسول الله ﷺ ناسًا من المنافقين ليخبروا لهم رأى رسول الله ﷺ، فلما جاءوا رسول الله ﷺ، أخبر الله رسوله ﷺ بأمرهم كله وما أرادوا، فأنزل الله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [المائدة:41] إلى قوله الْفَاسِقُونَ [المائدة:47]، ففيهم والله أنزل، وإياهم عنى الله ، ورواه أبو داود من حديث ابن أبي الزناد عن أبيه بنحوه.
وقال أبو جعفر بن جرير حدثنا هناد بن السري وأبو كريب، قالا: حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق، حدثني داود بن الحصين عن عكرمة، عن ابن عباس: أن الآيات في المائدة قوله: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ  إلى الْمُقْسِطِينَ [المائدة:42] إنما أنزلت في الدية في بني النضير وبني قريظة، وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف، تؤدى لهم الدية كاملة، وأن قريظة كانوا يؤدون نصف الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله ﷺ، فأنزل الله ذلك فيهم، فحملهم رسول الله ﷺ على الحق في ذلك، فجعل الدية في ذلك سواء، والله أعلم أي ذلك كان، ورواه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث ابن إسحاق بنحوه.
الشيخ:  بكل حال مهما كان، سواء كانت في بني النضير وقريظة أو في قصة الزانيين لما رجماهما الحكم واحد، وهو تشريع عام يعم اليهود وغيرهم، كل من دخل في الإسلام فعليه أن يلتزم بحكم الإسلام، وليس له خروج عن حكم الإسلام في الديات ولا في غيرها، ولهذا قال --: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة:49]، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] الآيات، فهذا واجب على ولاة الأمور في هذه الأمة مع كل أحد من العرب والعجم يجب أن يحكم فيهم بشرع الله، وأن يكون شريفهم وضعيفهم سواء سواء، سواء كان من أشرافهم وتجارهم وأغنيائهم أو من ضعفتهم ومن أي قبيلة كان الحكم فيهم واحد، النفس بالنفس بشروطها، الزاني المحصن يرجم، البكر يجلد وهكذا، والسارق يقطع وهكذا.
ثم قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا عبيد الله بن موسى عن علي بن صالح، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كانت قريظة والنضير، وكانت النضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل القرظي رجلًا من النضير قتل به، وإذا قتل النضيري رجلًا من قريظة، ودي مائة وسق من تمر، فلما بعث رسول الله ﷺ قتل رجل من النضير رجلًا من قريظة، فقالوا: ادفعوه لنا، فقالوا: بيننا وبينكم رسول الله ﷺ، فنزلت وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ، ورواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم في المستدرك من حديث عبيد الله بن موسى بنحوه، وهكذا قال قتادة ومقاتل بن حيان وابن زيد وغير واحد.
وقد روى العوفي وعلي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلت في اليهوديين اللذين زنيا، كما تقدمت الأحاديث بذلك، وقد يكون اجتمع هذان السببان في وقت واحد، فنزلت هذه الآيات في ذلك كله، والله أعلم، ولهذا قال تعالى بعد ذلك: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ [المائدة:45] إلى آخرها، وهذا يقوي أن سبب النزول قضية القصاص، والله أعلم.
وقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] قال البراء بن عازب وحذيفة بن اليمان وابن عباس وأبو مجلز وأبو رجاء العطاردي وعكرمة وعبيد الله بن عبد الله والحسن البصري وغيرهم: نزلت في أهل الكتاب، زاد الحسن البصري: وهي علينا واجبة، وقال عبد الرزاق عن سفيان الثوري، عن منصور عن إبراهيم، قال: نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل، ورضي الله لهذه الأمة بها، رواه ابن جرير.
وقال ابن جرير  أيضا: حدثنا يعقوب، حدثنا هشيم، أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن سلمة بن كهيل، عن علقمة ومسروق أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة، فقال: من السحت، قال فقالا: وفي الحكم، قال: ذاك الكفر، ثم تلا: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، وقال السدي وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ يقول: ومن لم يحكم بما أنزلت فتركه عمدًا أو جار وهو يعلم فهو من الكافرين، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، قال: ومن جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق، رواه ابن جرير، ثم اختار أن الآية المراد بها أهل الكتاب، أو من جحد حكم الله المنزل في الكتاب.
الشيخ: يعني جحد الحكم ولم يقر به، والآية عامة في أهل الكتاب وفي غيرهم؛ لأن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، وقد ذكر الله ما كتب عليهم وأقره ولم ينسخه، وعمل به نبينا عليه الصلاة والسلام، قال: كتاب الله القصاص، ونفذه في اليهوديين، وفي الربيع، لكن من لم يجحده وإنما فعله لهوى فهذا هو مراد ابن جرير رحمه الله، كالذي يحكم بالرشوة يكون عاصيًا ظالمًا كافرًا، لكنه ظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، وكفر دون كفر، أما من جحد حكم الله واستحله فهذا كافر كفرًا أكبر، نسأل الله العافية.
 وقال عبد الرزاق، عن الثوري، عن زكريا، عن الشعبي: ومن لم يحكم بما أنزل الله، قال: للمسلمين.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى، حدثنا عبد الصمد، حدثنا شعبة عن ابن أبي السفر، عن الشعبي وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ قال: هذا في المسلمين، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45] قال: هذا في اليهود، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47] قال: هذا في النصارى، وكذا رواه هشيم والثوري، عن زكريا بن أبي زائدة، عن الشعبي، وقال عبد الرزاق أيضا: أخبرنا معمر عن ابن طاوس، عن أبيه قال: سئل ابن عباس عن قوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ الآية، قال: هي به كفر، قال ابن طاوس: وليس كمن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وقال الثوري، عن ابن جريج، عن عطاء أنه قال: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، رواه ابن جرير.
الشيخ: يعني إذا لم يستحله.
..........
وقال وكيع: عن سفيان عن سعيد المكي، عن طاوس وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ قال: ليس بكفر ينقل عن الملة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، عن سفيان بن عيينة، عن هشام بن حجير، عن طاوس، عن ابن عباس في قوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ قال: ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، ورواه الحاكم في مستدركه من حديث سفيان بن عيينة، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
.........
 س: ما حكم القاضي الذي يحكم بقانون الدولة وهو يخالف الشريعة؟
الشيخ: كفر دون كفر إذا كان لم يستحله، أما إذا استحله فكفر أكبر، نسأل الله العافية.
س: إذا رفع حكم الشريعة بالكامل ووضع حكم القوانين الوضعية؟
 الشيخ: هذا منكر لا يجوز، من استحل ذلك كفر، نسأل الله العافية.
س:...........
الشيخ: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، نسأل الله العافية، قد يفعله لهوى أو لتثبيت دولته أو لأسباب أخرى.