10/104-العاشر: عن أنس عن رسولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: يتْبعُ الميْتَ ثلاثَةٌ: أهلُهُ ومالُه وعمَلُه، فيرْجِع اثنانِ ويبْقَى واحِدٌ: يرجعُ أهلُهُ ومالُهُ، ويبقَى عملُهُ متفقٌ عَلَيهِ.
11/105-الحادي عشر: عن ابن مسعودٍ قَالَ: قَالَ النبيُّ ﷺ: الجَنَّةُ أقَربُ إِلَى أَحدِكُم مِنْ شِراكِ نَعْلِهِ والنَّارُ مِثْلُ ذلِكَ رواه البخاري.
12/106-الثاني عشر: عن أبي فِراس رَبِيعةَ بنِ كَعْبٍ الأسْلَمِيِّ خادِم رسولِ اللَّهِ ﷺ، ومِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ قَالَ: كُنْتُ أبيتُ مَعَ رسولِ اللَّه ﷺ، فآتِيهِ بِوَضوئِهِ، وحاجتِهِ فَقَالَ: سلْني فقُلْت: أسْألُكَ مُرافَقَتَكَ في الجنَّةِ. فقالَ: أوَ غَيْرَ ذلِك؟ قُلْت: هُوَ ذَاك. قَالَ: فأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرةِ السجُودِ رواه مسلم.
الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فهذه الأحاديث كالتي قبلها في الحث على جهاد النفس بالعمل الصالح والحرص على تكثير الأعمال الصالحات؛ لأن العبد في حاجة إلى المزيد من العمل الصالح كلما زاد خيرا زاد ثوابه في الجنة، ونعيمه في الجنة، ومنزلته في الجنة، فينبغي له أن يجاهد هذه النفس في اكتساب الأعمال الصالحات والاستكثار منها كما قال الله سبحانه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]، وقال جل وعلا: وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ [العنكبوت:6].
في هذا الحديث يقول ﷺ: يتبع الميت ثلاثة يعني غالبا أهله وماله وعمله الغالب أن الميت يتبعه أقاربه إذا كان له أقارب للدفن والصلاة وماله فيرجع اثنان، ويبقى واحد ماله مثل الآلات التي يحفر بها، ومثل الأدوات التي يحمل فيها الماء وما أشبه ذلك مما يتعلق بالمال وعمله، فيرجع اثنان بعد الدفن ويبقى واحد، يرجع أهله، وإن كان معه مال من أدوات حفر أو أدوات ماء يصب على القبر أو ما أشبه ذلك مما يحتاج إليه في الدفن رجع، ويحتمل أيضا أن يلتحق بذلك من كان له صلة به من أجل المال ممن يساعدهم بالمال، فيرجع اثنان ويبقى العمل.
فجدير بالمؤمن أن يهتم بهذا الذي يبقى ويحرص على هذا الذي يبقى وهو العمل، يبقى معه في قبره وبعد بعثه ونشوره، هذا هو الذي يبقى ويؤجر عليه إن كان صالحا، ويندم عليه إن كان سيئا، هذا الذي يبقى معك جدير بأن تحرص عليه وأن تجتهد في أن يكون طيبا نافعا ينفعك في قبرك، ويوم بعثك ونشورك، وذلك العمل الذي ينفع هو العمل الصالح من صلاة، وصوم، وصدقات، وتسبيح، وتهليل، وقراءة قرآن، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وغير هذا من الأعمال هذه التي تبقى، فجدير بك أن تحرص على هذه الأشياء.
أما كثرة الأموال أو الأصدقاء فهذا يرجع، ما ينفعك إلا ما كان لله، ما أنفقته من مالك في سبيل الله، وما أنفقته في وجوه الخير من دعوة إلى الله وتوجيه إلى الخير، والجهاد في سبيل الله، وبر الوالدين، وصلة رحم، وصدقات، يبقى لك ينفعك.
والحديث الثاني: يقول ﷺ: الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك وهذا يدل على أن الجنة والنار قريبتان ليس بينك وبينهما إلا الموت، والموت ما تدري متى يهجم عليك، قد يهجم عليك صباحا أو مساء، فهو أقرب شيء إليك بأمر الله جل وعلا، كم من خارج من بيته لم يرجع، إما سكتة، وإما انقلاب سيارة، وإلا دهس سيارة، وإلا غير ذلك، فالموت بيد الله ليس بيدك، أنت له حد محدود متى حضر انتقض صاحبه، فالحزم أن تعد لهذا الموت قبل أن يهجم عليك وأنت لا تشعر، وأنت مفرط.
فالجنة قريبة، والنار قريبة، فالجنة قريبة إذا مت على الخير، والنار قريبة إذا مت على الشر، فاختر لنفسك، والحازم والكيس الذي يعمل حتى يفوز بالجنة وينجو من النار بتوفيق الله، يسأل ربه التوفيق، ويحرص ويضرع إلى الله يسأله أن يوفقه وأن يعينه ويعمر أوقاته بما يستطيع من الخير، لا يكسل ولا يضعف، ولا يطول الأمل يقول سأعيش وأشيب، ويمكن أبلغ ثمانين سنة، تسعين سنة، ليس الأمر بيدك، ما تدري متى يهجم الأجل، فالحزم أن تكون أبدا في ليلك ونهاك في جميع ساعاتك على عمل صالح، على تقوى، على جد ونشاط، هذا الحزم وهذا الكيس، أما التساهل ومجازفة الأمور فهذا عاقبته الندامة والعياذ بالله.
والحديث الثالث: حديث ربيعة بن كعب الأسلمي كان يخدم النبي ﷺ فقال: يا رسول الله -لما قال له رسول الله: سل- قال: أسألك مرافقتك في الجنة، وفي رواية الأخرى: أسألك أن تشفع لي أن أسلم من النار، قال: أو غير ذلك أو تطلب شيئا آخر؟ قال: لا، هذا أطلب، يعني أطلب أني أكون معك في الجنة، وأن تشفع لي في هذا الأمر، فقال: أعني على نفسك بكثرة السجود يعني كثرة الصلاة، يعني أعني على أن تحصل الجنة، وأن أشفع لك بأن تكثر من الصلاة، أكثر من الصلاة، هذا يدل على فضل الصلاة، ومن هذا حديث ثوبان قلت: يا رسول الله أخبرني بأحب الأعمال إلى الله؟ أو قال: بعمل يدخلني الجنة؟ قال: عليك بكثرة السجود، فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة.
ففي هذا الحديث وما جاء في معناه الترغيب في الإكثار من الصلاة في الليل والنهار، في الضحى تكثر من الصلاة، في الليل تكثر من الصلاة، بين الظهر والعصر تكثر من الصلاة، كل الأوقات ما عدا ما بعد العصر وما بعد الفجر حتى تطلع الشمس، أوقات النهي فقط، فالحزم والسنة والمشروع أن تكثر من الصلاة، والتسبيح والتهليل، وأنواع الذكر وقراءة القرآن، وأنواع الخير في جميع الأوقات إلا الصلاة تتركها في وقت النهي بعد العصر إلى غروب الشمس، وبعد الفجر إلى ارتفاع الشمس إلا ذوات الأسباب، ذوات الأسباب لا بأس بذلك مثل: صلاة الطواف، وتحية المسجد، وصلاة الكسوف، هذه لا بأس إذا وقعت في وقت النهي تفعل.
والمقصود من هذا كله أنه ينبغي للمؤمن أن يعمر أوقاته بالخير، وألا يتساهل ويقول: أنا سأعيش طويلا والأجل بعيد، وأنا سوف أمتع بسنوات، لا هذا من الغرور، ما تدري أنت، ما تدري، الحزم أنك أبدا دائما على عمل صالح، على خير، على اجتهاد في ليلك ونهار، تخشى هجوم الأجل، وتريد من ربك الخير والفضل والمغفرة. وفق الله الجميع.
13/107-الثالث عشر: عن أبي عبداللَّه ويُقَالُ: أبُو عبدالرَّحمنِ ثَوْبانَ موْلى رسولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: سمِعْتُ رسولَ اللَّه ﷺ يَقُولُ: عليكَ بِكَثْرةِ السُّجُودِ، فإِنَّك لَنْ تَسْجُد للَّهِ سجْدةً إلاَّ رفَعكَ اللَّهُ بِهَا دَرجَةً، وحطَّ عنْكَ بِهَا خَطِيئَةً رواه مسلم.
14/108- الرابع عشر: عن أَبي صَفْوانَ عبداللَّه بنِ بُسْرٍ الأسلَمِيِّ، ، قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: خَيْرُ النَّاسِ مَن طالَ عمُرُه وَحَسُنَ عملُه رواه الترمذي، وَقالَ حديثٌ حسنٌ.
بُسْر: بضم الباءِ وبالسين المهملة.
15/109- الخامس عشر: عن أنسٍ ، قَالَ: غَاب عمِّي أَنَسُ بنُ النَّضْرِ ، عن قِتالِ بدرٍ، فَقَالَ: يَا رسولَ اللَّه غِبْت عَنْ أوَّلِ قِتالٍ قَاتلْتَ المُشرِكِينَ، لَئِنِ اللَّهُ أشْهَدَنِي قتالَ المُشركِينَ لَيَرِيَنَّ اللَّهُ مَا أصنعُ، فَلَمَّا كانَ يومُ أُحدٍ انْكشَفَ المُسْلِمُون فَقَالَ: اللَّهُمَّ أعْتَذِرُ إليْكَ مِمَّا صنَع هَؤُلاءِ -يَعْني أصْحَابَه، وأبرأُ إلَيْكَ مِمَّا صنعَ هَؤُلاَءِ -يَعني المُشْرِكِينَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ سعْدُ بْنُ مُعاذٍ، فَقالَ: يَا سعْدُ بْنَ معُاذٍ الْجنَّةُ ورَبِّ الكعْبةِ، إِنِى أجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ. قَالَ سعْدٌ: فَمَا اسْتَطعْتُ يا رسول اللَّه ما صنَعَ، قَالَ أنسٌ: فَوجدْنَا بِهِ بِضْعًا وثمانِينَ ضَرْبةً بِالسَّيفِ، أوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ، أَوْ رمْيةً بِسهْمٍ، ووجدْناهُ قَد قُتِلَ وَمثَّلَ بِهِ المُشرِكُونَ، فَما عرفَهُ أَحدٌ إِلاَّ أُخْتُهُ بِبنَانِهِ. قَالَ أنسٌ: كُنَّا نَرى أوْ نَظُنُّ أنَّ هَذِهِ الآيَة نزلَتْ فيهِ وَفِي أشْباهِهِ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب:23] إِلَى آخِرها. متفقٌ عَلَيهِ.
قوله: لَيُريَنَّ اللَّهُ رُوى بضم الياءِ وكسر الراءِ، أي لَيُظْهِرنَّ اللَّهُ ذَلِكَ لِلنَّاسِ، ورُوِى بفتحهما، ومعناه ظاهر، واللَّه أعلم.
الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كلها تتعلق بالمجاهدة للنفس في طاعة الله، تقدم جملة من الأحاديث في المجاهدة والعناية بطاعة الله، وعمارة الوقت بذلك؛ لأن هذه الدار دار العمل، ودار المجاهدة، والآخرة دار الجزاء قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، وقال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31]، وقال تعالى: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ [الحج:78].
فالجهاد في هذه الدار أمر مطلوب، وهو جهاد النفس في طاعة الله والكف عن محارم الله، من هذا حديث ثوبان أنه سأل النبي ﷺ قال: يا رسول الله دلني على أحب الأعمال إلى الله، أو على عمل أدخل به الجنة؟ قال: عليك بكثرة السجود، فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة، ومثل ما رواه مسلم أيضا عن ربيعة بن كعب الأسلمي أنه قال: يا رسول الله -لما قال له: سل- قال: أسألك مرافقتك في الجنة، وفي اللفظ الآخر: أسألك أن تشفع لي، قال: أعني على نفسك بكثرة السجود والمعنى كثرة الصلاة، يعني أكثر من الصلاة ليلا ونهارا، التطوع فهي من أسباب دخول الجنة والنجاة من النار، ومن أسباب شفاعة النبي ﷺ في صاحبها.
والحديث الثاني: يقول ﷺ: خيركم من طال عمره وحسن وعمله، وفي اللفظ الآخر: وشركم من طال عمره وساء عمله فخير الناس من طال عمره وحسن عمله، وهذا يحتاج إلى مجاهدة، كلما تقدم العمر فالإنسان في أشد الحاجة إلى المجاهدة حتى يختم بالخير في صلاته، وصومه، وأذكاره، ومعاملته للناس، وغير ذلك، خير الناس من طال عمره وحسن عمله لأنه إذا طال العمر مع حسن العمل زادت الحسنات، وزادت رفعة الدرجات، وأنواع النعيم، خير الناس من طال عمره وحسن عمله، والضد بالضد شر الناس من طال عمره وساء عمله نسأل الله العافية، فالمؤمن يحرص يجتهد في إحسان العمل، وكثرة العمل الطيب الصالح يرجو ثوابه عند الله -جل وعلا.
وهكذا حديث أنس في قصة عمه أنس بن النضر الأنصاري ، كان أنس غاب عن غزوة بدر -أنس بن النضر- فقال : غبت عن أول غزوة قاتلت فيها العدو، لئن أدركني الله مشهدا آخر ليرين الله ما أصنع، يعني ليشهدن الله مني الشيء الذي يرضيه عني من الاجتهاد في قتال المشركين، وقد صدق فيما قال، وأوفى بما قال، فلما كانت غزوة أحد وجرى فيها ما جرى من انكشاف المسلمين وانهزامهم وتقدم المشركين وقتلهم من قتلوا، تقدم أنس بن النضر وقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني إخوانه المسلمين الذين انهزموا، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء يعني المشركين من شركهم وباطلهم، ثم تقدم يقاتل فقابله سعد بن معاذ فقال: يا سعد -سيد الأوس، يا سعد إني أجد ريح الجنة من دون أحد قال سعد: فما استطعت أن أفعل ما فعل، فتقدم أنس وقاتل حتى قتل يوم أحد ، فوجدوا فيه بعضا وثمانين ما بين طعنة برمح، أو ضربة بسيف، أو رمية بسهم، يعني وجدوا فيه ضربات كثيرة من المشركين، فقتل شهيد ، والشاهد من هذا أنه صمم وجاهد نفسه حتى تقدم لقتال العدو . وفق الله الجميع.
16/110- السادس عشر: عن أبي مسعود عُقْبَةَ بن عمروٍ الأنصاريِّ البدريِّ قَالَ: لمَّا نَزَلَتْ آيةُ الصَّدقَةِ كُنَّا نُحَامِلُ عَلَى ظُهُورِنا، فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ، فَقَالُوا: مُراءٍ، وجاءَ رَجُلٌ آخَرُ فَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ فقالُوا: إنَّ اللَّه لَغَنِيٌّ عَنْ صاعِ هَذَا، فَنَزَلَتْ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ الآية [التوبة:79] متفقٌ عليه. هذا لفظ البخاري.
ونُحَامِلُ بضم النون، وبالحاءِ المهملة: أَيْ يَحْمِلُ أَحَدُنَا على ظَهْرِهِ بِالأجْرَةِ، وَيَتَصَدَّقُ بها.
17/111- السابَع عشر: عن سعيدِ بنِ عبدالعزيزِ، عن رَبيعةَ بنِ يزيدَ، عن أَبِي إدريس الخَوْلاَنيِّ، عن أَبِي ذَرٍّ جُنْدُبِ بنِ جُنَادَةَ، ، عن النَّبِيِّ ﷺ فيما يَرْوِى عَنِ اللَّهِ تباركَ وتعالى أنَّهُ قَالَ: يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظالمُوا، يَا عِبَادِي كُلُّكُم ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُوني أهْدكُمْ، يَا عِبَادي كُلُّكُمْ جائعٌ إِلاَّ منْ أطعمتُه، فاسْتطْعموني أطعمْكم، يَا عِبَادي كُلُّكُمْ عَارٍ إلاَّ مِنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُوني أكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُوني أغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّوني، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُوني، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أوَّلَكُمْ وآخِركُمْ، وَإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أتقَى قلبِ رجلٍ واحدٍ مِنْكُمْ مَا زادَ ذلكَ فِي مُلكي شيئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أوَّلكم وآخرَكُم وإنسَكُم وجنكُمْ كَانوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِركُمْ وَإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعيدٍ وَاحدٍ، فَسألُوني فَأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسانٍ مَسْألَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا َيَنْقُصُ المِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يَا عِبَادِي إنَّما هِيَ أعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمِدِ اللَّه، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إلاَّ نَفْسَهُ. قَالَ سعيدٌ: كَانَ أَبُو إدريس إِذَا حدَّثَ بهذا الحديث جَثَا عَلَى رُكبتيه. رواه مسلم.
وروينا عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه اللَّه قَالَ: لَيْسَ لأهل الشام حديث أشرف من هذا الحديث.
الشيخ: هذان الحديثان أيضا في المجاهدة، تقدم أنه ينبغي للمؤمن أن يجاهد نفسه في طاعة الله، وأن يحملها على الخير، وأن يحذر الكسل والضعف والتسويف، هذه الدار دار العمل، دار النشاط والجد، هكذا عمرها الأخيار في طاعة الله، وسابقوا فيها إلى مراضي الله، هكذا ينبغي للمؤمن أن يكون ذا جد ونشاط ومجاهدة كما قال سبحانه في كتابه العظيم: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]، ويقول جل وعلا: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31].
يقول أبو مسعود : كنا نحامل في عهد النبي ﷺ لما أمر بالصدقة، كان الرجل منهم يحمل على ظهره لحاجة الناس، هذا يحمل خشب، وهذا يحمل طعام، وهذا يحمل كذا، بالأجرة يحملون على ظهورهم ويتصدقون، هذا من رغبتهم في الخير، يذهب إلى السوق ويحمل لفلان وفلان ويأخذ الأجرة ويتصدق بها على المحاويج الذين لا يستطيعون أن يحملوا، ولا أن يعملوا، وهذا من شرف النفوس، ومن عظم الجهاد أن يحمل على ظهره ليتصدق، يعمل يكدح ليتصدق، فكان الرجل إذا أتى الشيء الكثير قال المنافقون: هذا مرائي، وإذا أتى بالقليل قالوا: الله غني عن صدقة هذا، فالمنافقون لا يسلم من شرهم المسلمون، لا الضعيف ولا الكبير، فأنزل الله في حقهم الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:79] توعدهم بالعذاب والسخرية بهم، فالمتصدق يشكر على قليله وكثيره، تصدق بقليله أو بكثير هو مشكور على نشاطه، وعلى اجتهاده حسب طاقته، اتقوا النار ولو بشق تمرة ولا ينبغي أن يلقب بالرياء من أكثر، ولا بالبخل والشح من أقل، بل يشجع هذا وهذا.
ثم ذكر المؤلف حديث أبي ذر، وهو حديث عظيم من الأحاديث القدسية اشتمل على مسائل عديدة يرويها الرسول عن ربه، الرسول ﷺ يروي عن ربه هذا الحديث القدسي، وهو ما يرويه الرسول عن ربه غير القرآن يسمى أحاديث قدسية، يقول الرسول ﷺ: يقول الله : يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلت بينكم محرما فلا تظالموا، يقول سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا [النساء:40]، ويقول جل وعلا: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، ويقول سبحانه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7-8]، ولهذا يقول ﷺ: يقول الله : يا عباد إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يعني إنكم في حاجة إلي، كلكم محتاجون، كلهم فقراء إلى ربهم، يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15] كل العباد فقراء إليه، وفي ضرورة إلى رزقه وفضله وإحسانه.
يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم، كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ثم يقول جل وعلا: يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني يعني أنه غني عنا ، هو الغني ونحن الفقراء وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ [محمد:38] هو النافع الضار جل وعلا، أما العباد ما عندهم نفع ولا ضر، هو غني عنهم ، فإن نفعوا غيرهم أحسنوا لأنفسهم، وإن ضروا غيرهم أساؤوا لأنفسهم.
يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك من ملكي شيئا لو كان الناس كلهم مسلمين ما زاد ملكه جل وعلا، هو غني عنهم أسلموا أو كفروا، فالمصلحة لهم، إن أسلموا لهم، وإن أساؤوا فعليهم.
يا عبادي لو أنكم أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا لو كانوا كلهم كفار فجار ما نقص ملكه، هو غني عنهم .
يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد يعني في مكان واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي شيئا إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، وهل ينقص المخيط شيئا إذا أدخل البحر! المخيط لا ينقص شيئا من البحر، والمعنى أن جميع طلباتهم لا تؤثر في ملكه شيئا، لو أعطاهم كل ما طلبوا فهو سبحانه الغني الحميد، لا تضره مسألة السائلين، ولا عطاء السائلين، ولا إعراضهم، وملكه كامل وقائم سألوا أم لم يسألوا، أعطاهم أو لم يعطهم، لو أنهم كلهم سألوه وكل واحد أعطي مسألته ما نقص ذلك من ملكه شيئا .
يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه هذه النهاية، النهاية أنها أعمالنا في هذه الدار يحصيها الله علينا، فمن عمل صالحا فلنفسه، ومن أساء فعليها كما قال : إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا [الإسراء:7]، وقال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا [فصلت:46] فأنت يا عبد الله اجتهد في إعداد الخير، وفي تقديم الخير لعلك تنجح وتربح، فأعمالك محصاة عليك خيرها وشرها، ويوم القيامة كل عامل يوفى عمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فمن وجد خيرا في ميزانه وفي كتابه فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه لأنه هو المفرط، هو المضيع، هو الكسلان، فلهذا فاته الخير، وفاته الربح، نسأل الله السلامة، وفق الله الجميع.
12- بابُ الحثِّ عَلَى الازدياد من الخير في أواخِر العُمر:
قَالَ الله تَعَالَى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر:37].
قال ابن عباس والمحققون: معناه: أولم نُعَمِّرْكُمْ سِتِّينَ سَنَةً. وَيُؤَيِّدُهُ الحديث الَّذِي سنذْكُرُهُ إنْ شاء الله تَعَالَى، وقيل: معناه ثماني عَشْرَة سَنَةً. وقيل: أرْبَعينَ سَنَةً. قاله الحسن، والكلبي، ومسروق، ونُقِلَ عن ابن عباس أيضًا. وَنَقَلُوا: أنَّ أَهْلَ المدينَةِ كانوا إِذَا بَلَغَ أَحَدُهُمْ أربْعينَ سَنَةً تَفَرَّغَ للعِبادَةِ. وقيل: هُوَ البلوغ.
وقوله تعالى: وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر:37] قَالَ ابن عباس والجمهور: هُوَ النَّبيّ ﷺ. وقيل: الشَّيبُ. قاله عِكْرِمَةُ، وابن عيينة، وغيرهما. والله أعلم.
1/112-وأمَّا الأحاديث فالأوَّل: عن أَبِي هريرةَ ، عن النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: أعْذَرَ اللَّهُ إِلَى أمرئ أخَّرَ أجلَه حَتَّى بلَغَ سِتِّينَ سَنَةً رواه البخاري.
قَالَ العلماءُ معناه: لَمْ يتْركْ لَه عُذْرًا إِذْ أمْهَلَهُ هذِهِ المُدَّةَ، يُقال: أعْذَرَ الرَّجُلُ إِذَا بلغَ الغايَةَ في الْعُذْرِ.
2/113-الثاني: عن ابن عَبَّاسٍ، رضي اللَّه عنهما، قَالَ: كَانَ عمر يُدْخِلُني مَع أشْياخ بْدرٍ، فَكأنَّ بعْضَهُمْ وجدَ فِي نفسِهِ فَقَالَ: لِمَ يَدْخُلُ هَذِا معنا ولنَا أبْنَاء مِثْلُه؟ فَقَالَ عمرُ: إِنَّهُ منْ حيْثُ علِمْتُمْ، فدَعَاني ذاتَ يَوْمٍ فَأدْخلَني معهُمْ، فما رأَيْتُ أنَّه دعاني يوْمئِذٍ إِلاَّ لِيُرِيهُمْ قَالَ: مَا تقُولُون في قول اللَّه تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1].
فَقَالَ بَعضُهُمْ: أمِرْنَا نَحْمَدُ اللَّهَ ونَسْتَغْفِره إذَا نَصرنَا وفَتَحَ علَيْنَا. وسكَتَ بعضهُمْ فَلَمْ يقُلْ شَيئًا، فَقَالَ لي: أكَذلك تقُول يَا ابنَ عباسٍ؟ فقلت: لا. قَالَ فما تقول؟ قُلْتُ: هُو أجلُ رسولِ اللَّه ﷺ أعْلمَه لَهُ قَالَ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1] وذلك علامةُ أجلِك فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:3] فَقَالَ عمر : مَا أعْلَم مِنْهَا إلاَّ مَا تَقُول. رواه البخاري.
3/114-الثالث: عن عائشةَ رضي اللَّه عنها قَالَتْ: مَا صَلَّى رسولُ اللَّه ﷺ صلاةً بعْد أَنْ نزَلَت علَيْهِ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1] إلاَّ يقول فِيهَا: سُبْحانك ربَّنَا وبِحمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي متفقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية الصحيحين عنها: كَانَ رَسُول اللَّه ﷺ يُكْثِر أنْ يَقُول فِي ركُوعِه وسُجُودِهِ: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ ربَّنَا وَبحمْدِكَ، اللَّهمَّ اغْفِرْ لِي يتأوَّل الْقُرْآن.
معنى: يتأوَّل الْقُرُآنَ أيْ: يعْمل مَا أُمِرَ بِهِ في الْقُرآنِ في قولِهِ تَعَالَى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النصر:3].
وفي رواية لمسلم: كَانَ رسولُ اللَّه ﷺ يُكْثِرُ أنْ يَقولَ قبْلَ أَنْ يَمُوتَ: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وبِحْمدِكَ، أسْتَغْفِركَ وأتُوبُ إلَيْكَ. قَالَتْ عائشةُ: قُلْتُ: يَا رسولَ اللَّه مَا هذِهِ الكلِمَاتُ الَّتي أرَاكَ أحْدثْتَها تَقولها؟ قَالَ: جُعِلَتْ لِي علامةٌ في أمَّتي إِذَا رَأيتُها قُلتُها إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1] إِلَى آخِرِ السورة.
وفي رواية لَهُ: كَانَ رسولُ اللَّه ﷺ يُكْثِرُ مِنْ قَوْلِ: سُبْحانَ اللَّهِ وبحَمْدِهِ، أسْتَغْفِرُ اللَّه وَأَتُوبُ إلَيْه. قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رسولَ اللَّه، أَرَاكَ تُكْثِرُ مِنْ قَوْل: سُبْحَانَ اللَّهِ وبحمْدِهِ، أسْتغْفِر اللَّه وأتُوبُ إليْهِ؟ فَقَالَ: أخْبرني ربِّي أنِّي سَأرَى علاَمَةً فِي أُمَّتي فَإِذَا رأيْتُها أكْثَرْتُ مِن قَوْلِ: سُبْحانَ اللَّهِ وبحَمْدِهِ، أسْتَغْفِرُ اللَّه وَأتُوبُ إلَيْهِ، فَقَدْ رَأَيْتُها: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1] فَتْحُ مَكَّةَ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:2-3].
الشيخ: هذه الآية الكريمة مع الأحاديث الثلاثة تدل على أنه ينبغي للمؤمن أن يستكثر من الأعمال الصالحات، ومن التسبيح والتحميد والاستغفار كلما طال به الأجل، كلما تقدمت به السن، فينبغي أن يتزود من هذا الخير الذي هو ميسر بحمد الله، وهو الإكثار من تسبيح الله واستغفاره، وهكذا يستحب له الإكثار من بقية الأعمال الصالحات حتى يختم حياته بأفضل ما يستطيع، قال تعالى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر:37] يخاطب أهل النار لما تمنوا الرجعة أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:37].
فالمؤمن يجتهد في الخير دائما، لكن عند كبر السن يكون اجتهاده أكثر وحرصه على الخير أكمل حتى يختم حياته بأفضل ما يستطيع لأن أهل النار لما قالوا: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر:37] رد الله عليهم: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:37]، وفي الحديث الصحيح يقول ﷺ: لقد أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة يعني ما أبقى له عذرا المدة طويلة من حين بلغ الحلم وهو مؤاخذ ومطلوب وعليه الجد، وأنه كلما تقدمت السن صارت الحجة أكبر وأعظم لأن الله فسح له في الأجل ومكنه من العمل، فصارت النعمة عليه أكمل والحجة عليه أكبر، لقد أعذر الله إلي امرئ أخر أجله حتى بلغ ستين سنة.
وفي الحديث الآخر يقول ﷺ: أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك يعني أقلهم من يطول عمره إلى الثمانين والتسعين والمائة.
وفي الحديث الآخر يقول ﷺ في الركوع والسجود: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه لما رأى العلامة التي أخبره الله بأنها توجد: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3] يعني فذلك علامة أجلك، ذلك علامة قرب أجلك كما قال ابن عباس وعمر رضي الله عنهما، وقد جاءت هذه الآية رآها فتح الله عليه مكة، وصار الناس يدخلون في دين الله أفواجا، بعد الشدة وبعد الحرب فتح الله عليه مكة ودخل الناس في دين الله أفواجا، وكان ابن عباس يدخل مع الكبار عند عمر يحضر مجالسه، وكان -يعني عمر- كان يجمع كبار الصحابة ويستشيرهم، وهم أهل مجلسه يستشيرهم في مهمات المسلمين، فقال بعضهم: لماذا تدخل ابن عباس معنا ولنا أبناء مثله ما يحضرون؟ قال: إنه من قد علمتم، يعني من قد أعطاه الله الفهم والعلم، فأحضره ذات يوم وسأله عن هذه الآية ما تقولون في قوله جل وعلا: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1] فقال بعضهم: أمر الله نبيه ﷺ إذا فتح الله عليه ودخل الناس في دين الله أن يسبح ربه ويحمده، فقال ما تقول يا ابن عباس؟ قال: أقول إنها علامة أجله عليه الصلاة والسلام، إن الله جعل له علامة إذا رآها يكثر من هذا، فقال عمر: لا أعلم منها إلا ما علم ابن عباس، أنها تعزية وتذكير للنبي ﷺ بأن الأمر قد قرب، وأن المهمة قد انتهت، وهي مهمة التبليغ والبيان قد حصلت، ودخل الناس في دين أفواجا، وفتح الله عليه مكة، وحصل البلاغ والبيان، فالله بلغ العباد وأرسل لهم النذير، وهو محمد عليه الصلاة والسلام كما في الآية الكريمة أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر:37] وهو محمد ﷺ، ويقول جل وعلا: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا [الأحزاب:45-46] فالرسل نذر، الرسل عليهم السلام نذر للعباد، ومحمد رسول ونبي ونذير للأمة وشاهد عليها، وقد قامت به الحجة على من بلغته رسالته، فالواجب على كل مسلم، وكل مؤمن، وكل مؤمنة، العناية بما خلق له من طاعة الله وعبادته، والاستكثار مما أوجب الله عليه، ومن الخير يشرع له الاستكثار من أنواع الخير، ولاسيما كلما تقدم في السن، كلما تقدم في السن فيشرع له أن يتقدم، وأن يستكثر من أنواع الخير حتى يختم حياته بأفضل ما يجد. وفق الله الجميع.
4/115-الرابع: عن أنسٍ قَالَ: إنَّ اللَّه تَابعَ الوحْيَ عَلَى رسولِ اللَّه ﷺ قَبْلَ وَفَاتِهِ، حتَّى تُوُفِّي أكْثَرَ مَا كَانَ الْوَحْيُ. متفقٌ عَلَيهِ.
5/116-الخامس: عن جابر قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ: يُبْعثُ كُلُّ عبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ علَيْهِ رواه مسلم.
الشيخ: هذان الحديثان كالأحاديث السابقة فيهما الحث على اكتساب الخيرات والمسارعة إلى الطاعات، والجد في العمل الصالح كلما تقدم في السن، وكلما زاد العمر حتى يموت على خير حال، وعلى أحسن حال كما قال الله جل وعلا: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3]، وقال جل وعلا: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر:37] فالإنسان عمر وأقيمت عليه الحجة ليجتهد في طاعة الله، ليعمل بشرع الله، ليجتهد في أسباب النجاة، وليحذر أسباب الهلاك، وكلما زاد العمر وزادت الحسنات والأعمال الصالحات صار خيرا له وأرفع لدرجته في دار الكرامة، ولما كان في آخر حياته النبي ﷺ تتابع الوحي عليه ليبلغ رسالات الله، وليختم الله له بأحسن الأعمال، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة عليه الصلاة والسلام، وجاهد في الله حق جهاده عليه الصلاة والسلام حتى كمل رسالة ربه، ونصح لعباد الله، وأقام عليهم الحجة، ولقي ربه قد بلغ البلاغ المبين عليه الصلاة والسلام.
فأنت يا عبد الله عليك أن تجتهد وأن تحرص لعلك تنجو، لعلك تسلم، لعلك تفوز بدرجات عالية بسبب أعمالك التي ختمت بها حياتك، والمرء يبعث على ما مات عليه كما قال ﷺ: يبعث المرء على ما مات عليه إن مات على خير وعمل صالح بعث على ذلك، وإن مات على شر بعث على ذلك، فليحرص المؤمن على أن يختم حياته بأحسن ما يستطيع، سوف يبعث على ذلك على خير أعماله إن اجتهد في الصالحات، وعلى شر أعماله إن ختم بها حياته، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والله يقول جل وعلا: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148]، ويقول وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ [آل عمران:133]، ويقول سبحانه: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الحديد:21] فربنا ندب عباده وأرشدهم إلى المسابقة والمسارعة والاستباق إلى الخيرات ما دامت المهملة، ما دام العبد يستطيع المسابقة قد أمتعه الله بالعقل والبصيرة والقوة فليسارع، رزق الله الجميع التوفيق والهداية.
13- باب في بَيان كثرةِ طرق الخير
قَالَ الله تَعَالَى: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة:215]، وَقالَ تَعَالَى: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [البقرة:197]، وَقالَ تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [الزلزلة:7]، وَقالَ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ [الجاثية:15] والآيات في الباب كثيرة.
وأما الأحاديث فكثيرة جدًا، وهي غيرُ منحصرةٍ، فنذكُرُ طرفًا مِنْهَا:
1/117-الأوَّل: عن أَبِي ذرٍّ جُنْدَبِ بنِ جُنَادَةَ قَالَ: قُلْتُ يَا رسولَ اللَّه، أيُّ الأعْمالِ أفْضَلُ؟ قَالَ: الإِيمانُ بِاللَّهِ، وَالجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ. قُلْتُ: أيُّ الرِّقَابِ أفْضَلُ؟ قَالَ: أنْفَسُهَا عِنْد أهْلِهَا، وأكثَرُهَا ثَمَنًا. قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أفْعلْ؟ قَالَ: تُعينُ صَانِعًا أوْ تَصْنَعُ لأخْرَقَ قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّه أرَأيتَ إنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ الْعملِ؟ قَالَ: تَكُفُّ شَرَّكَ عَن النَّاسِ فَإِنَّها صدقةٌ مِنْكَ عَلَى نَفسِكَ متفقٌ عليه.
الصانِعُ بالصَّاد المهملة هَذَا هُوَ المشهور، ورُوِى ضَائعًا بالمعجمة: أيْ ذَا ضِياع مِنْ فقْرِ أوْ عِيالٍ ونْحو ذلكَ، والأخْرَقُ: الَّذي لا يُتقنُ مَا يُحاوِلُ فِعْلهُ.
2/118-الثاني: عن أَبِي ذرٍّ أيضًا أنَّ رسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: يُصْبِحُ عَلَى كلِّ سُلاَمَى مِنْ أَحَدِكُمْ صدقَةٌ، فَكُلٌ تَسبِيْحةٍ صَدقةٌ، وكُلُّ تحْمِيدَةٍ صدقَةٌ، وكُلُّ تهْلِيلَةٍ صَدَقةٌ، وكلُّ تَكْبِيرةٍ صَدَقَةٌ، وأمْرٌ بالمعْرُوفِ صدقَةٌ، ونَهْيٌ عَنِ المُنْكَرِ صدقَةٌ، ويُجْزِئُ مِنْ ذَلكَ رَكعَتَانِ يرْكَعُهُما مِنَ الضُّحى رواه مسلم.
السُّلاَمَى بضم السين المهملة وتخفيف اللام وفتح الميم: المفْصِلُ.
3/119-الثَّالثُ عنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبيُّ ﷺ: عُرِضَتْ عَلَيَّ أعْمالُ أُمَّتي حسَنُهَا وسيِّئُهَا فوجَدْتُ في مَحاسِنِ أعْمالِهَا الأذَى يُماطُ عَنِ الطَّرِيقِ، وَوجَدْتُ في مساوئ أعْمالِها النُّخَاعَةُ تَكُونُ فِي المَسْجِدِ لاَ تُدْفَنُ رواه مسلم.
الشيخ: هذه الآيات الكريمات والأحاديث في بيان كثرة طرق الخير، وأن الله جل وعلا يسر لعباده لتحصيل الحسنات طرقا كثيرة من طرق الخير يكتسب بها الحسنات والأعمال الصالحات، والأجر من الله رفيع الدرجات، فجدير بالمؤمن أن يعرفها وأن يستكثر منها، أعني طرق الخير، يقول الله جل وعلا: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة:215] من خير نكرة في العموم تعم كل قليل وكثير، وفي الآية الأخرى: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [البقرة:197]، ويقول جل وعلا: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7-8]، ويقول سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40] فهذا فيه الحث على فعل الخير والاستكثار من الخير مطلقا، قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا [فصلت:46] فالمؤمن يعمل الصالحات ويستكثر من الخيرات يرجو ثواب الله ويرجو جوده وإحسانه كما قال تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ [الإسراء:7].
وفي هذه الأحاديث الدلالة على كثير من أنواع الخير، فالمؤمن يتحرى أنواع الخير ويجتهد في جهاد نفسه في فعل الخيرات، والله جل وعلا هو الجواد الكريم الذي يثيب عباده على حسناتهم قليلها وكثيرها، ومن هذا قوله ﷺ: يصبح على كل سلامى من الناس صدقة، على كل مفصل صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى ركعتان من الضحى فيها خير كثير، وقد أوصى النبي ﷺ أبا هريرة وأبا الدرداء بصلاة الضحى، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، والوتر قبل النوم، وهكذا في الحديث الآخر: يصبح على كل سلامى من الناس صدقة، كل تحميدة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، ويكف الأذى عن الطريق صدقة قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر، فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر.
وهذا الحديث الأخير فيه الحث على إزالة الأذى من الطريق، وأن هذا من أجور الأمة، كونه يزيل الأذى حجر عن الطريق، عظم عن الطريق، حفرة يواسيها في الطريق حتى لا تؤذي الناس، ومن مساوئها النخاعة في المسجد لا تدفن النخاعة يعني النخامة في المسجد، لا يبصق فيه بل يبصق في ثوبه أو في منديله، البصاق في المسجد خطيئة لا يجوز لأنه تقذير.
كذلك حديث أبي ذر السابق لما سأل النبي ﷺ أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله، وجهاد في سبيله والإيمان بالله يشمل جميع أعمال الخير من صلاة، وصوم، وصدقات كلها إيمان، والجهاد في سبيل الله كذلك، قال: فأي الرقاب أفضل؟ يعني في العتق، قال: أغلاها ثمنا، وأنفسها عند أهلها وهكذا في الضحايا والهدايا كلما كانت أغلى وأنفس صارت أفضل، قال: فإن ضعفت عن ذلك؟ قال: تعين صانعا، أو تصنع لأخرق إذا أعنت صانعا على صنعته، أو إنسانا ضعيفا ما يحسن عملت له حاجته خطت ثوبه، أصلحت سيارته، أصلحت مكينة ما، إلى غير هذا، إنسان ما يحسن فساعدته في إصلاح شأنه فأنت مأجور، قال: فإن ضعفت عن ذلك؟ قال: تكف شرك عن الناس، فإن ذلك صدقة منك على نفسك كونه يكف شره عن الناس لا يؤذي أحدا هذه أيضا نعمة كبيرة، يكف لسانه ويكف جوارحه عن الأذى، يعني يكون معينا في الخير باذلا للخير، كافا شره عن الناس، وفق الله الجميع.
4/120-الرابع عَنْ أبي ذر : أنَّ ناسًا قالوا: يَا رسُولَ اللَّهِ، ذَهَب أهْلُ الدُّثُور بالأجُورِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّى، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بَفُضُولِ أمْوَالهِمْ قال: أوَ لَيْس قَدْ جَعَلَ لَكُمْ مَا تَصَدَّقُونَ بِهِ: إنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدقَةً، وكُلِّ تَكبِيرةٍ صَدَقَةً، وكلِّ تَحْمِيدةٍ صَدَقَةً، وكلِّ تِهْلِيلَةٍ صَدقَةً، وأمرٌ بالمعْرُوفِ صدقةٌ، ونَهْىٌ عنِ المُنْكر صدقةٌ، وفي بُضْعِ أحدِكُمْ صدقةٌ قالوا: يَا رسولَ اللَّهِ أيَأتِي أحدُنَا شَهْوَتَه، ويكُونُ لَه فِيهَا أجْر؟، قَالَ: أرأيْتُمْ لَوْ وضَعهَا في حرامٍ أَكَانَ عليهِ وِزْرٌ؟ فكذلكَ إِذَا وضَعهَا في الحلاَلِ كانَ لَهُ أجْرٌ رواه مسلم.
الدُّثُورُ: بالثاءِ المثلثة: الأموالُ، واحِدُها: دَثْرٌ.
5/121-الخامس: عَنْهُ قَالَ: قَالَ لي النبيُّ ﷺ: لاَ تَحقِرنَّ مِن المعْرُوفِ شَيْئًا ولَوْ أنْ تلْقَى أخَاكَ بِوجهٍ طلِيقٍ رواه مسلم.
6/122-السادس: عن أَبِي هريرةَ قَالَ: قَالَ رسُولُ اللَّه ﷺ: كُلُّ سُلاَمَى مِنَ النَّاسِ علَيْهِ صدَقةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ: تعدِلُ بيْن الاثْنَيْنِ صدَقَةٌ، وتُعِينُ الرَّجُلَ في دابَّتِهِ، فَتحْمِلُهُ عَلَيْهَا، أوْ ترْفَعُ لَهُ علَيْهَا متَاعَهُ صدقةٌ، والكلمةُ الطَّيِّبةُ صدَقةٌ، وبِكُلِّ خَطْوَةٍ تمْشِيها إِلَى الصَّلاَةِ صدقَةٌ، وَتُميطُ الأذَى عَن الطرِيق صَدَقةٌ متفق عليه.
ورواه مسلم أيضًا من رواية عائشة رَضي اللَّه عنها قالت: قالَ رسُول اللَّه ﷺ: إنَّهُ خُلِقَ كُلُّ إنْسانٍ مِنْ بني آدم علَى سِتِّينَ وثلاثمائَةِ مَفْصِلٍ، فَمنْ كَبَّر اللَّه، وحمِدَ اللَّه، وَهَلَّلَ اللَّه، وسبَّحَ اللَّه واستَغْفَر اللَّه، وعَزلَ حَجرًا عنْ طَرِيقِ النَّاسِ أوْ شَوْكَةً أوْ عظْمًا عَن طَرِيقِ النَّاسِ، أوْ أمَرَ بمعرُوفٍ أوْ نهى عنْ مُنْكَرٍ، عَددَ السِّتِّينَ والثَّلاَثمائة، فَإِنَّهُ يُمْسي يَوْمئِذٍ وَقَد زَحزحَ نفْسَهُ عنِ النَّارِ.
الشيخ: هذه الأحاديث تبين لنا كالتي قبلها كثرة طرق الخير، الله جل وعلا أوضح لعباده طرقا كثيرة من طرق الخير، وحثهم عليها لتكثر حسناتهم وتعظم أجورهم، فينبغي للمؤمن أن يسلك تلك الطرق التي فيها الخير، وأن يحرص على أن يكون نصيبه منها وافرا.
في الحديث الأول يقول أبو ذر وجماعة من الفقراء: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور، في اللفظ الآخر: بالدرجات العلا والنعيم المقيم، قال لهم النبي ﷺ: لم؟ وما ذاك؟ قال الفقراء: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، نحن ما عندنا أموال، سبقونا حصلوا أجورا كثيرة، ونحن ما حصلنا لأننا فقراء وهم أغنياء، يتصدقون من أموالهم ويعتقون الرقاب ونحن ما نستطيع، فقال النبي ﷺ: أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به يعني إن الله أعطاكم شيئا تتصدقون به غير الأموال إن لكم بكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة، أمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وإزاحة الحجر عن الطريق أو الأذى أو الشوك صدقة، وفي بضع الإنسان صدقة في فرجه إذا جامع زوجته له فيها صدقة، عف نفسه وأعف فرجه، قالوا: يا رسول الله يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: نعم، أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟ فهكذا إذا وضعها في الحلال كان له أجر رحمة الله أغلب، وفضله أوسع، فكما أنه لو زنا صار آثما عليه، إثم عظيم، فإذا وضعها في الحلال جامع زوجته وأحصن فرجه صار له أجر عظيم، وهذا من فضل الله جل وعلا ومن جوده كرمه أن الإنسان يأتي شهوته ويعف فرجه ويكون له في ذلك أجر، ولاسيما مع الاحتساب.
وهكذا كل معروف صدقة، كل معروف يفعله الإنسان صدقة، مساعدة أخيه في أي شيء صدقة، الدعاء لأخيه صدقة، السلام صدقة، الإصلاح بين الناس صدقة إلى غير ذلك، وهكذا قوله ﷺ: يصبح على كل سلامى من الناس صدقة في كل يوم تعدل بين اثنين أو تحمل للرجل متاعه على دابته أو تعينه في حاجة كلها صدقات، وهكذا أنواع التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير صدقات، والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإزالة الأذى عن الطريق صدقات.
وفي الحديث الآخر: حديث عائشة: إن الله خلق ابن آدم على ثلاثمائة وستين مفصل كل إنسان، كل آدم مخلوق على ثلاثمائة وستين مفصل، فإذا سبح الله، وحمد الله، وهلل الله، وكبر الله، واستغفر الله، وأمر بمعروف، ونهى عن منكر، أزال حجرا عن الطريق، أو شوكا، أو عظما، أو غير هذا من وجوه الخير، بعدد هذه المفاصل يكون قد زحزح نفسه عن النار، فينبغي للمؤمن أن يجتهد في هذه الخيرات ويغتنم حياته في أنواع الخير من التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير والصدقة التي يستطيع، كل معروف صدقة ولو بشق تمرة حسب الطاقة، أمر بمعروف، نهي عن منكر، إزالة الأذى عن الطريق، بشاشتك في وجه أخيك، رد السلام عليه، بداءته بالسلام، الدعاء له كلها من وجوه الخير، كلها من طرق الخير. في الرواية الأخرى: أن الأغنياء سمعوا الخبر فجعلوا يفعلون هذا وهذا، يفعلون ما شرع الله لهم من الصدقات ويفعلون أيضا ما بينه الرسول للفقراء من التسبيح والتهليل والتحميد، فقالوا: يا رسول الله سمع إخواننا بما فعلنا، فقال النبي ﷺ: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، فإذا جمع الغني بين الصدقات بماله والعتق والتوسعة على الفقراء، وضم إلى هذا التسبيح والتهليل، والتحميد والتكبير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاستغفار، وإزالة الأذى عن الطريق إلى غير هذا من وجوه الخير اجتمع له الخير كله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، فالمؤمن ينافس في الخيرات كما قال تعالى: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26] ويسارع ويسابق يرجو رحمة ربه، يخلص لله لا يكون رياء ولا سمعة، يخلص لله ويجتهد في الخيرات وله البشرى بالخير العظيم والعاقبة الحميدة.
7/123-السابع: عَنْهُ عن النَبِيِّ ﷺ قَالَ: منْ غدَا إِلَى المَسْجِدِ أَوْ رَاحَ، أعدَّ اللَّهُ لَهُ في الجنَّةِ نُزُلًا كُلَّمَا غَدا أوْ رَاحَ متفقٌ عَلَيهِ.
النُّزُل: القُوتُ والرِّزْقُ ومَا يُهَيَّأ للضَّيفِ.
8/124-الثامن: عَنْهُ قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: يَا نِسَاء المُسْلِماتِ لاَ تَحْقِرنَّ جارَةٌ لِجارتِهَا ولَوْ فِرْسِنَ شاةٍ متفقٌ عَلَيهِ.
قَالَ الجوهري: الفِرْسِنُ مِنَ الْبعِيرِ: كالحافِرِ مِنَ الدَّابَّةِ، قَالَ: ورُبَّمَا اسْتُعِير في الشَّاةِ.
9/125-التاسع: عَنْهُ عن النَّبيّ ﷺ قَالَ: الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسبْعُونَ، أوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شَعْبَةً؛ فَأفْضلُهَا قوْلُ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ، وَأدْنَاهَا إمَاطَةُ الأذَى عنِ الطَّرِيقِ، وَالحيَاءُ شُعْبةٌ مِنَ الإِيمانِ متفقٌ عَلَيهِ.
البضْعُ من ثلاثة إِلَى تسعةٍ، بكسر الباءِ وقد تفْتَحُ. والشُّعْبةُ: القطْعة.
الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كالتي قبلها في بيان كثرة طرق الخير، والحث على المسارعة إلى الخيرات واغتنام الفرص، وأن يستكثر المؤمن من أنواع الخير كما تقدم في قوله جل وعلا: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة:215]، وقوله جل وعلا: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [الزلزلة:7]، وقوله جل وعلا: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133]، وقوله سبحانه: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148] فالمؤمن يعمر أوقاته باكتساب الخيرات، وينتهز الفرص في كل عمل صالح حتى يقدم لنفسه أسباب النجاة، ومن هذا اعتياد المساجد والحرص على الصلاة في الجماعة، فإن هذا من أفضل القربات.
ولهذا يقول ﷺ: إذا غدا الرجل إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلا في الجنة كلما غدا أو راح يعني غدو المؤمن للمسجد ورواحه للمسجد من أسباب إعداد النزل له في الجنة، يعني من أسباب كثرة الخيرات له في الجنة وأنواع النعيم، والغدو: أول النهار، والرواح: آخر النهار، يعني ذهب إلى المسجد في الصباح صلاة الفجر، في الرواح الظهر والعصر والمغرب العشاء كل هذا من أسباب تزويده بالنعم العظيمة والخير الكثير في الجنة، فالمؤمن ينتهز الفرص، يحرص على أسباب الخير، كونه يعد له نزل في الجنة كلما غدا أو راح فهذا معناه الحث على كثرة زيارة المسجد، والحرص على الذهاب إليه حتى لا تفوته الجماعة دائما.
وهكذا قوله ﷺ: الإيمان بضع وسبعون شعبة أو قال بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان، وقوله ﷺ: يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة، وقوله: اتقوا النار ولو بشق تمرة كل هذا فيه الحث على تقديم الخير، فالجيران يتهادين الجيران، من السنة لهم والخير التهادي والتعاون على الخير فيما بين الجيران، يقول ﷺ لأبي ذر: إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك، ويقول ﷺ: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره.
وهكذا إهداء الجار ولو الشيء القليل من باب التحاب، من باب التواصل يهدي إليه لبن، تمر، فاكهة، لحمة على حسب حال الجار، إن كان فقيرا يحرص على الهدية إليه، وأما الجار الغني فبالطرق الأخرى من المواصلة، والتزاور والتواصي بالخير، والتناصح، وشعب الإيمان كثيرة بضع وستون أو قال: بضع وسبعون شعبة؛ أعظمها وأزكاها وأشرفها شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، هذه أعلى الشعب وأرفعها: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ثم بقية الشعب من صلاة وزكاة، صوم وحج وأنواع الصدقات، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، واجتناب المحارم، ومن ذلك الحياء، كون الإنسان يكون عنده حياء عن الأخلاق الرديئة، عنده خلق كريم يستحي من أن يأتي الأعمال السيئة أو المنتقدة، هكذا إزالة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان، حجر يزيله عن الطريق، شوكة عن الطريق، حفرة يسويها في الطريق، يعني يزيل كل ما يؤذي المسلمين في الطرقات، هذا من شعب الإيمان ومن خصال الخير، وفق الله الجميع.
س: من سكن في نفس القرية، اسمه جار؟
ج: كل من قرب من الإنسان فهو جاره، أقرب الجيران إليك أقربهم بابا، يروى أن الجار إلى أربعين لكن في سنده بعض المقال، لكن كلما قرب منك فهو أقرب إلى الإكرام والعناية، جيرانك عن يمينك وعن شمالك وأمامك وخلفك.
9/126-العاشر: عَنْهُ أنَّ رَسُول اللَّه ﷺ قَالَ: بَيْنمَا رَجُلٌ يَمْشِي بطَريقٍ اشْتَدَّ علَيْهِ الْعَطشُ، فَوجد بِئرًا فَنزَلَ فِيهَا فَشَربَ، ثُمَّ خَرَجَ فإِذا كلْبٌ يلهثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بلَغَ هَذَا الْكَلْبُ مِنَ العطشِ مِثْلَ الَّذِي كَانَ قَدْ بَلَغَ مِنِّي، فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَملأَ خُفَّه مَاءً ثُمَّ أَمْسَكَه بِفيهِ، حتَّى رقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَه فَغَفَرَ لَه. قَالُوا: يَا رسولَ اللَّه إِنَّ لَنَا في الْبَهَائِم أَجْرًا؟ فَقَالَ: في كُلِّ كَبِدٍ رَطْبةٍ أَجْرٌ متفقٌ عليه.
وفي رواية للبخاري: فَشَكَر اللَّه لهُ فَغَفَرَ لَه، فَأدْخَلَه الْجنَّةَ.
وفي رواية لَهُما: بَيْنَما كَلْبٌ يُطيف بِركِيَّةٍ قَدْ كَادَ يقْتُلُه الْعطَشُ إِذْ رأتْه بغِيٌّ مِنْ بَغَايا بَنِي إِسْرَائيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فاسْتَقت لَهُ بِهِ، فَسَقَتْهُ فَغُفِر لَهَا بِهِ.
الْمُوقُ: الْخُفُّ. وَيُطِيفُ: يَدُورُ حَوْلَ رَكِيَّةٍ وَهِيَ الْبِئْرُ.
10/127-الْحادي عشَرَ: عنْهُ عن النَّبيّ ﷺ قَالَ: لَقَد رأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجنَّةِ فِي شَجرةٍ قطَعها مِنْ ظَهْرِ الطَّريقِ كَانَتْ تُؤْذِي الْمُسلِمِينَ. رواه مسلم.
وفي رواية: مرَّ رجُلٌ بِغُصْنِ شَجرةٍ عَلَى ظَهْرِ طرِيقٍ فَقَالَ: واللَّهِ لأُنَحِّينَّ هَذَا عنِ الْمسلِمِينَ لا يُؤْذِيهُمْ، فأُدْخِلَ الْجَنَّةَ.
وفي رواية لهما: بيْنَما رجُلٌ يمْشِي بِطريقٍ وَجَدَ غُصْن شَوْكٍ علَى الطَّرِيقِ، فأخَّرُه فشَكَر اللَّهُ لَهُ، فغَفر لَهُ.
12/128-الثَّاني عشَر: عنْه قالَ: قَال رسولُ اللَّه ﷺ: منْ توضَّأ فأحَسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أتَى الْجُمعةَ، فَاستمع وأنْصتَ، غُفِر لَهُ مَا بيْنَهُ وبيْنَ الْجُمعةِ وزِيادةُ ثَلاثَةِ أيَّامٍ، ومَنْ مسَّ الْحصا فَقد لَغَا رواه مسلم.
الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كالأحاديث السابقة في بيان كثرة طرق الخير، وأنه ينبغي للمؤمن أن يجتهد في أنواع الخير يرجو ثواب الله ويخشى عقابه، فكم من عمل صالح صار سببا لدخوله الجنة ونجاته من النار لأنه فعله مخلصا لله، متقربا إليه، راحما لعباده، ومن ذلك قصة هذا الرجل الذي أخذه العطش واشتد به العطش فنزل في ركية فشرب، فلما صعد رأى كلبا يأكل الثرى من شدة العطش، فقال: لقد أصابه ما أصابني، فنزل وأخذ له ماء وأسقاه فشكر الله له فأدخله الجنة بهذه الرحمة، وفي لفظ: فغفر له.
وفي الرواية الأخرى: أن امرأة بغيا من بني إسرائيل رأت كلبا يلهث من العطش يأكل الثرى، فنزعت موقها -يعني خفها- وأنزلته في القليب وجذبت به ماء فسقته، فرحمهما الله بذلك، وغفر لها بذلك وهذا معناه أن الأعمال الصالحات مع الإخلاص والصدق والرحمة قد يغفر الله بها الذنوب ويمحو بها السيئات، ويوفق صاحبها للاستقامة حتى يدخل الجنة، فينبغي للمؤمن ألا يقنط، وأن يجتهد في الخير وعمل الصالحات، فكم من عمل صالح أخلصه لله فرحمه الله بذلك ووفقه حتى مات على غاية من العمل الصالح والاستقامة ودخل الجنة، فكم من عمل صالح يجر إلى أعمال صالحة وإلى ثبات وإلى استقامة حتى الموت.
وهكذا صاحب الغصن من الشوك الذي قطعه، أو شجرة تؤذي الناس في الطريق فأزالها يرجو ما عند الله من المثوبة، فشكر الله له وأدخله به الجنة لأنه رحم المسلمين، وأزال عنهم ما يؤذيهم، حفرة في الطريق، شوك في الطريق، أحجار في الطريق يزيلها مثل غصن الشوك إذا أزالها يرجو ما عند الله فله في هذا أجر كبير، وربما كان سببا لدخوله الجنة ولنجاته من النار حسب إخلاصه لله وصدقه في رحمة عباده، وأنواع الخير كثيرة يجمعها قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [الزلزلة:7]، وقوله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40]، وقوله ﷺ: اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة.
والحديث الثاني يقول ﷺ: من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فصلى ما قدر له، ثم استمع الخطيب وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام هذا يدل على فضل السعي للجمعة والإنصات، وأن يصلي ما قدر الله له، قبل ذلك وينصت للخطيب فإن هذا فيه فضل عظيم، وإذا اغتسل يكون أفضل، إذا اغتسل ثم أتى الجمعة وصلى ما يسر الله له ثم أنصت للخطيب ولم يلغ كان له بهذا خير عظيم، ومن مس الحصا فقد لغى كونه ينصت ويستمع ولا يعبث فهو موعود بالمغفرة، وهكذا من توضأ فأحسن الوضوء، ثم صلى ركعتين قربة إلى الله غفر الله له ما تقدم من ذنبه، هذا يدل على كثرة أنواع الخير، لكن مع الإخلاص لله والصدق، ثم الاستقامة على الحق. وفق الله الجميع.