7/258- وعن أُسامَة عن النَّبيّ ﷺ قَالَ: قُمْتُ عَلَى بابِ الْجنَّةِ، فَإِذَا عامَّةُ مَنْ دخَلَهَا الْمَسَاكِينُ، وأَصْحابُ الجَدِّ محْبُوسُونَ غيْر أَنَّ أَصْحاب النَّارِ قَدْ أُمِر بِهِمْ إِلَى النَّارِ، وقُمْتُ عَلَى بابِ النَّارِ فَإِذَا عامَّةُ منْ دَخَلَهَا النِّسَاءُ متفقٌ عَلَيهِ.
وَالجَدُّ بفتحِ الجيم: الحظُّ والْغِني. وَقوله: محْبُوسُونَ أَيْ: لَمْ يُؤذَنْ لهُمْ بَعْدُ فِي دُخُول الجَنَّةِ.
8/259- وعن أَبي هريرة عن النَّبيّ ﷺ قَالَ: لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي المَهْدِ إِلاَّ ثَلاثَةٌ: عِيسى ابْنُ مرْيَمَ، وصَاحِب جُرَيْجٍ، وكَانَ جُرَيْجٌ رَجُلًا عَابِدًا، فَاتَّخَذَ صَوْمَعةً فكانَ فِيهَا، فَأَتَتْهُ أُمُّهُ وَهَو يُصلي فَقَالَتْ: يا جُرَيْجُ، فقال: يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلاتِي، فَأَقْبلَ عَلَى صلاتِهِ فَانْصرفَتْ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَتْهُ وهُو يُصَلِّي، فقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ أُمِّي وَصَلاتِي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلاتِهِ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَد أَتَتْهُ وَهُو يُصَلِّي فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ أُمِّي وَصَلاتِي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلاتِهِ، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لاَ تُمِتْه حَتَّى ينْظُرَ إِلَى وُجُوه المومِسَاتِ. فَتَذَاكَّرَ بَنُو إِسْرائِيلَ جُريْجًا وَعِبَادَتهُ، وَكَانَتِ امْرَأَةٌ بغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بِحُسْنِهَا، فَقَالَتْ: إِنْ شِئْتُمْ لأَفْتِنَنَّهُ، فتعرَّضَتْ لَهُ، فَلَمْ يلْتَفِتْ إِلَيْهَا، فَأَتتْ رَاعِيًا كَانَ يَأَوي إِلَى صوْمعَتِهِ، فَأَمْكنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فَوقَع علَيْهَا فَحملَتْ، فَلَمَّا وَلدتْ قَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٌ، فَأَتَوْهُ فاسْتنزلُوه وهدَمُوا صوْمعَتَهُ، وَجَعَلُوا يَضْرِبُونهُ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: زَنَيْتَ بِهذِهِ الْبغِيِّ فَولَدتْ مِنْك. قال: أَيْنَ الصَّبِيُّ؟ فَجاءَوا بِهِ فَقَالَ: دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّي فَصلىَّ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَى الصَّبِيَّ فَطَعنَ فِي بطْنِهِ وقالَ: يَا غُلامُ مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: فُلانٌ الرَّاعِي، فَأَقْبلُوا علَى جُرَيْجُ يُقَبِّلُونَهُ وَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ وقَالُوا: نَبْنِي لَكَ صوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ: لاَ، أَعيدُوهَا مِنْ طِينٍ كَمَا كَانَتْ، فَفَعَلُوا، وَبيْنَا صَبِيٌّ يرْضعُ مِنْ أُمِّهِ، فَمَرَّ رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى دابَّةٍ فَارِهَةٍ وَشَارةٍ حَسَنَةٍ فَقالت أُمُّهُ: اللَّهُمَّ اجْعَل ابْنِي مثْلَ هَذَا، فَتَرَكَ الثَّدْيَ وَأَقْبَلَ إِلَيْهِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْنِي مِثْلهُ، ثُمَّ أَقَبَلَ عَلَى ثَدْيِهِ فَجَعْلَ يَرْتَضِعُ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رسولِ اللَّه ﷺ وَهُوَ يحْكِي ارْتِضَاعَهُ بِأُصْبُعِه السَّبَّابةِ فِي فِيهِ، فَجَعلَ يَمُصُّهَا"، قَالَ: "وَمَرُّوا بِجَارِيَةٍ وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا، وَيَقُولُونَ: زَنَيْتِ سَرَقْتِ، وَهِي تَقُولُ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوكِيلُ. فَقَالَتْ أُمُّهُ: اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْ ابْنِي مِثْلَهَا، فَتَركَ الرِّضَاعَ وَنَظَرَ إِلَيْهَا فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا، فَهُنالِكَ تَرَاجَعَا الحَدِيثِ، فقالَت: مَرَّ رَجُلٌ حَسنُ الهَيْئَةِ فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ ابْنِي مِثْلَهُ فَقُلْتَ: اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلنِي مِثْلَهُ، وَمَرُّوا بِهَذِهِ الأَمَةِ وَهُم يَضْربُونَهُا وَيَقُولُونَ: زَنَيْتِ سَرَقْتِ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْ ابْنِي مِثْلَهَا فَقُلْتَ: اللَّهُمَّ اجعَلْنِي مِثْلَهَا؟، قَالَ: إِنَّ ذلِكَ الرَّجُلَ كَانَ جَبَّارًا فَقُلت: اللَّهُمَّ لا تجْعَلْنِي مِثْلَهُ، وإِنَّ هَذِهِ يَقُولُونَ لها زَنَيْتِ، وَلَمْ تَزْنِ، وَسَرقْت، وَلَمْ تَسْرِقْ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا متفق عليه.
والمُومِسَاتُ: بضَمِّ الميمِ الأُولَى، وإِسكان الواو وكسر الميم الثانيةِ وبالسين المهملَةِ وهُنَّ الزَّوانِي. والمُومِسةُ: الزَّانِيَةُ. وقوله: دابَّةً فَارِهَة بِالْفَاءِ: أَي حاذِقَةٌ نَفِيسةٌ. الشَّارَةُ بِالشِّينِ المعْجمةِ وتَخْفيفِ الرَّاءِ: وَهِي الجمالُ الظَّاهِرُ فِي الهيْئَةِ والملْبسِ. ومعْنى ترَاجعا الحدِيث أَيْ: حدَّثَتِ الصَّبِي وحدَّثَهَا، واللَّه أعلم.
الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.
أما بعد:
فهذان الحديثان كالأحاديث السابقة في فضل الفقراء والمساكين المستقيمين المطيعين لله ، وأنهم على خير عظيم ولهم فضل كبير لما عندهم من العبادة والتقوى، ولما حرموا من أمور الدنيا ونعيمها وغناها ولذاتها، فالفقراء لهم فضل كبير إذا استقاموا على دين الله، فإن الله جل وعلا يرفع شأنهم ويعلي قدرهم لما أصابهم من المسكنة والحاجة، ولما فعلوا من الطاعات والاستقامة، وتقدم في ذلك عدة أحاديث تدل على فضل الفقراء المستقيمين على طاعة الله، وفي هذا الحديث أن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم، وأن أصحاب الجد محبوسون هم وأصحاب الغنى، غير أن أهل النار قد أمر بهم إلى النار، فهذا يفيد أن الفقراء أسرع دخولا إلى الجنة لقلة حسابهم وقلة التبعيات التي تلحقهم، وأن أهل الجد والغنى يتأخرون عنهم بسبب ما يتعلق بأموالهم وأعمالهم التي يحتاجون معها إلى حساب وجزاء، فهذا من الفضائل التي اختص بها الفقراء حتى سبقوا إلى الجنة.
وهكذا حديث جريج كان إنسانا مسكينا متعبدا، فظلم فأنجاه الله من شر الظلمة، وبين فضله وسلامته وعفته، وكانت له أم فجاءته تستأذنه في أشياء وتطلب منه أن يحدثها في أشياء، فكان يصلي، فتكررت عليه المراجعة تقول: يا جريج، وتصادفه يصلي في أيام ثلاثة، ويقول: يا رب أمي وصلاتي، ثم يقبل على صلاته ولا يجيب أمه، وقد غلط في هذا لأن إجابة الأم مهمة عظيمة، لكن من شدة حبه للصلاة ما أحب أن يتكلم في الصلاة، فدعت عليه في المرة الثالثة ألا يميته حتى ينظر في وجوه المومسات يعني الزانيات، فابتلي بسبب هذه الدعوة، استجيبت دعوتها، وكان في بني إسرائيل امرأة بغي زانية، وذكروا من عبادة جريج وأعماله الصالحة واتحاده في هذه البرية التي صار فيها صومعته، وأرادوا أن يفتنوه، أراد سفهاؤهم وأشرارهم أن يفتنوه، فقالت لهم البغي: أنا لكم بهذا، فجاءت إليه لتفتنه بجمالها فلم يلتفت إليها، وحماه الله منها، فتعرضت لراع من الرعاة فاتصل بها وزنا بها فحملت، فلما ولدت قالت: هذا الولد من جريج وكذبت عليه، فجاء أولئك الطغام والظلمة فهدموا صومعته وضربوه وآذوه، ما لكم؟ قالوا: زنيت بهذه، فقال: دعوني أصلي ركعتين، فصلى ركعتين، ثم أتوا بالصبي فجعل يطعن بأصبعه في بطنه، يعني يضع إصبعه على بطنه ويقول له: من أبوك يا غلام؟ فقال: أبوي فلان الراعي، أنطقه الله، النبي ﷺ يقول: لم ينطق في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم أنطقه الله في المهد، وهذا الرجل صاحب جريج، والرجل الثالث الذي يأتي في الحديث الآخر، فأنطق الله هذا الطفل وقال -وهو رضيع-: أبوي فلان الراعي، فأبرأ الله جريجا بإنطاق هذا الطفل الصغير ببراءته، وكانت هذه من آيات الله العظيمة، فجعلوا حينئذ يعتذرون إليه ويقولون: نعيد لك صومعتك من ذهب، قال: لا، أعيدوها من طين، ففي هذا أن الله جل وعلا يفرج كرب المظلومين، ويرحم الفقراء، ويظهر براءتهم إذا ظلمهم غيرهم بسبب تقواهم وعبادتهم لله وانقطاعهم عن الدنيا وملهياتها، والله جل وعلا هو القادر على كل شيء، الذي أنطق الكبير ينطق الصغير، هو على كل شيء قدير ، فأنطق عيسى وهو في المهد صغير قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا [مريم:30]، وأنطق هذا الطفل لبراءة جريج.
والثالث: امرأة كانت ترضع طفلا لها، فمر عليها رجل على دابة فارهة، يعني جميلة نفيسة، وعليها شارة ودش حسن، يعني عفش حسن على الدابة، فلما رأت الدابة وصاحبها قالت: اللهم اجعل ابني مثل هذا، لما رأت من فراهة الدابة وحسن الشارة والأثاث الذي عليها، فنظر إليها الطفل وقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل يرضع، فمروا بجارية تضرب ويقال لها: سرقت، زنيت، وتقول: حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله ونعم الوكيل، مظلومة، فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثل هذه، فأطلق الثدي ونظر إليها وقال: اللهم اجعلني مثلها، فتراجع الحديث مع أمه، قالت له: كيف يا غلام دعوت لك أن تكون مثل ذاك الرجل، صاحب الناقة الطيبة، والشارة الطيبة تقول: لا تجعلني مثله، وهذه المضروبة التي يقال لها: زنيت، تقول: اجعلني مثلها، لماذا؟ استغربت. قال: الأول جبار، يعني ظلوم غشوم، فقلت: الله لا يجعلني مثله، وهذه مظلومة فدعوت الله أن يجعلني مثلها، يعني أن أكون مظلوما لا ظالما، هذا مقصوده، يعني سأل الله أن يكون مظلوما لا ظالما، فهذا فيه إنطاق الطفل الصغير لبيان فضل الضعفاء والمساكين، وبيان رحمة حالهم، وأن الفقير قد يظلم، قد يؤذى بغير حق، وله عند الله المنزلة الكبيرة لكونه أوذي بغير حق وظلم، مع بعده عن مظاهر الدنيا وزخرفها كهذه الجارية التي تظلم يقال: سرقت، وهي بريئة، وفق الله الجميع.
س: الأفضل الغني الشاكر أم الفقير الصابر؟
ج: فيه خلاف بين العلماء، والأقرب أن الغني الشاكر أفضل.
33- باب ملاطفة اليتيم والبنات وسائر الضَّعَفة والمساكين والمنكسرين والإِحسان إليهم والشفقة عليهم والتواضع معهم وخفض الجناح لهم
قَالَ الله تَعَالَى: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر:88]، وَقالَ تَعَالَى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:28]، وَقالَ تَعَالَى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [الضحى:9-10]، وَقالَ تَعَالَى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الماعون:1-3].
1/260- عن سعد بن أَبي وَقَّاص قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ سِتَّةَ نفَر، فَقَالَ المُشْرِكُونَ للنَّبِيِّ ﷺ: اطْرُدْ هُؤُلاءِ لا يَجْتَرِئُون عليْنا، وكُنْتُ أَنا وابْنُ مسْعُودٍ ورجُل مِنْ هُذَيْلِ وبِلال ورجلانِ لَستُ أُسمِّيهِما، فَوقَعَ في نَفْسِ رَسُول اللَّه ﷺ مَا شاءَ اللَّه أَن يقعَ فَحَدَّثَ نفْسهُ، فأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُون رَبَّهُمْ بالْغَداةِ والعَشِيِّ يُريدُونَ وجْهَهُ [الأنعام:52] رواه مسلم.
2/261- وعن أَبي هُبيْرةَ عائِذِ بن عمْرو المزَنِيِّ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ بيْعةِ الرِّضوانِ ، أَنَّ أَبا سُفْيَانَ أَتَى عَلَى سلْمَانَ وصُهَيْب وبلالٍ في نفَرٍ فقالوا: مَا أَخَذَتْ سُيُوفُ اللَّه مِنْ عدُوِّ اللَّه مَأْخَذَهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَتَقُولُونَ هَذَا لِشَيْخِ قُريْشٍ وَسيِّدِهِمْ؟ فَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ، فَأَخْبرهُ فَقَالَ: يَا أَبا بَكْر لَعلَّكَ أَغْضَبتَهُم؟ لَئِنْ كُنْتَ أَغْضَبْتَهُمْ لَقَدْ أَغْضَبتَ رَبَّكَ؟ فأَتَاهُمْ فَقَالَ: يَا إِخْوتَاهُ آغْضَبْتُكُمْ؟ قالوا: لاَ، يغْفِرُ اللَّه لَكَ يَا أُخَيَّ. رواه مسلم.
قولُهُ: مَأْخَذَهَا أَيْ: لَمْ تَسْتَوفِ حقَّهَا مِنْهُ. وقولُهُ: يَا أُخيَّ رُوِي بفتحِ الهمزةِ وكسرِ الخاءِ وتخفيفِ الياءِ، ورُوِي بضم الهمزة وفتحِ الخاءِ وتشديد الياءِ.
3/262- وعن سهلِ بن سعدٍ قال: قال رسول اللَّه ﷺ: أَنَا وكافلُ الْيتِيمِ في الجنَّةِ هَكَذَا، وأَشَار بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وفَرَّجَ بَيْنَهُمَا. رواه البخاري.
و كَافِلُ الْيتِيم: الْقَائِمُ بِأُمُورِهِ.
الشيخ: هذه الآيات والأحاديث في فضل الإحسان إلى الفقراء والمساكين والأيتام ورحمتهم، وعدم التكبر عليهم وعدم الإساءة إليهم، يقول الله جل وعلا: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر:88] يعم الفقراء وغيرهم، ويقول سبحانه: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28] فأمره الله أن يصبر مع أهل الخير وألا يزدريهم وألا يهملهم ويضيعهم وألا يطردهم إذا جاؤوا مهاجرين أو مسلمين، وهكذا قوله جل وعلا: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ [الضحى:9-10]، وقوله جل وعلا: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الماعون:1-3] فالمشروع لأهل الإيمان الإحسان لليتامى والفقراء وعدم ازدرائهم وعدم التكبر عليهم، ولما قال كفار قريش للنبي ﷺ: اطرد عنا هؤلاء، يعني الضعفة من أتباعه ﷺ وقع في نفسه شيء من ذلك ليستجيبوا للإيمان ويحرص على هدايته لعلهم يهتدون؛ أنزل الله عليه النهي عن ذلك وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام:52] الإسلام بيد الله، من هداه الله فلنفسه ومن ضل فعليها، فلا يطرد الفقراء من أجل إسلام الكبار لا، بل الفقراء يعتنى بهم ويحسن إليهم ويرفق بهم ويقدرون سواء أسلم الكبار أو ما أسلم الكبار، وهكذا يقول ﷺ: أنا وكافل اليتيم كهاتين، وذكر إصبعيه الوسطى والسبابة فيه فضل الإحسان لليتيم وكفالته والرفق به والإنفاق عليه، وأن هذا من أسباب دخول الجنة، ولما ذهب أبو سفيان حال كفره قبل أن يسلم إلى المدينة في أيام الهدنة، لما بلغه النبي ﷺ يعد العدة لغزو قريش في مكة في وقت الهدنة بسبب خيانة بني بكر، ذهب إلى المدينة يريد أن يطلب من النبي ﷺ أن يتم الهدنة وألا يغزو قريشًا فمر على عمار و بلال وسلمان وهم من المستضعفين فقالوا: ما أخذت سيوف الله منك عني يا عدو الله مأخذها؛ لأنهم يخاطبون قبل أن يسلم لما كان من رؤساء قريش وهو الذي قاد الحرب يوم أحد ويوم الأحزاب، فأخبر الصديق بذلك، فقال الصديق: تقولون هذا لسيد قريش، فجاؤوا إلى النبي فأخبروه فقال له ﷺ: لئن كنت أغضبتهم فقد أغضبت ربك يعني يخاطب الصديق، يعني لئن كنت أغضبت عمارا وسلمان وبلالا الذين غاروا لله وتكلموا في حق أبي سفيان لقد أغضبت ربك، فجاءهم الصديق وقال: آغضبتكم يا إخواني؟ قالوا: لا، يغفر الله لك، فالمقصود أن إغضاب أهل الإيمان وعدم العناية بهم والتكبر عليهم أو ما هو أعظم من ذلك من ظلمهم فهذا فيه شر كثير، فالواجب احترامهم والإحسان إليهم وإن كانوا فقراء من مهاجرين أو غيرهم لأن لهم أخوة الإسلام، ولهم أيضا الرحمة لفقرهم وحاجتهم ووجوب المواساة لهم، فالواجب على أهل الإيمان أن يعرفوا لهم قدرهم وأن يواسوهم ويحترموهم وألا يحتقروهم لفقرهم وقلة مالهم. وفق الله الجميع.
4/263- وعن أَبي هريرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ: كَافِل الْيتيمِ لَهُ أَوْ لِغَيرِهِ، أَنَا وهُوَ كهَاتَيْنِ في الجَنَّةِ وَأَشَارَ الرَّاوي وهُو مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ بِالسَّبَّابةِ والْوُسْطى. رواه مسلم.
وقوله ﷺ: الْيَتِيمُ لَه أَوْ لِغَيرهِ معناهُ: قَرِيبهُ، أَوْ الأَجنَبِيُّ مِنْهُ، فَالْقرِيبُ مِثلُ أَنْ تَكْفُلَه أُمُّه أَوْ جدُّهُ أَو أخُوهُ أَوْ غَيْرُهُمْ مِنْ قَرَابتِهِ، واللَّه أَعْلَم.
5/264-وعنه قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: لَيْسَ المِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرةُ وَالتَّمْرتَانِ، وَلا اللُّقْمةُ واللُّقْمتانِ، إِنَّمَا المِسْكِينُ الذي يتَعَفَّفُ متفقٌ عليه.
وفي رواية في "الصحيحين": لَيْسَ المِسْكِينُ الَّذِي يطُوفُ علَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمةُ واللُّقْمتَان، وَالتَّمْرةُ وَالتَّمْرتَانِ، ولَكِنَّ المِسْكِينَ الَّذِي لاَ يَجِدُ غِنًى يُغنْيِه، وَلا يُفْطَنُ بِهِ فيُتصدَّقَ عَلَيهِ، وَلا يَقُومُ فَيسْأَلَ النَّاسَ .
6/265- وعنه عن النَّبيّ ﷺ قَالَ: السَّاعِي علَى الأَرْمَلَةِ وَالمِسْكِينِ كَالمُجاهِدِ في سبيلِ اللَّه وأَحْسُبهُ قَالَ: وَكَالْقائِمِ الذي لا يَفْتُرُ، وَكَالصَّائِمِ لاَ يُفْطِرِ متفقٌ عَلَيهِ.
الشيخ: هذه الأحاديث كلها تتعلق بالمسكين واليتيم، تقدم أحاديث عدة في الحث على رحمة الفقراء والمساكين والإحسان إليهم وقضاء حوائجهم والدفاع عنهم ورفع الظلم عنهم، وتقدم أنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء لقلة حسابهم مع أعمالهم الصالحة وتقواهم لله ، وفي هذا يقول ﷺ: أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة، وأشار بأصبعه السبابة والوسطى، وفي اللفظ الآخر: له أو لغيره سواء كان اليتيم من أقاربه أو من غير أقاربه فيه هذا الفضل العظيم الحث على الإحسان لليتامى والمساكين والرفق بهم وقضاء حوائجهم، واليتيم هو الذي مات أبوه ولم يبلغ الحلم، فإذا بلغ الحلم زال عنه اليتم، وهكذا إذا كان أبوه موجودا ما يسمى يتيما.
ويقول ﷺ: ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين هو المتعفف الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس يعني هذا أشد حاجة وأشد فقرا، وإلا الذي يطوف يسمى مسكين، لكن أشد مسكنة وأولى بالمساعدة والرحمة المتعفف المستحي الذي ما يطوف يستحي، وليس عنده ما يغنيه ولا يقوم فيسأل الناس، فهذا أولى بأن يساعد ويعتنى به.
والمقصود من هذا كله الحث على رحمة الفقراء والمساكين من الأيتام وغيرهم، وأن الله جل وعلا يعطي على هذا الإحسان أجرا كبيرا وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195]، إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56] الراحمون يرحمهم الرحمن، من لا يرحم لا يرحم نسأل الله أن يمنح الجميع التوفيق.
7/266- وعن أبي هريرة عن النَّبيّ ﷺ قَالَ: شَرُّ الطَّعَام طَعَامُ الْوليمةِ، يُمْنَعُها مَنْ يأْتِيهَا، ويُدْعَى إِلَيْهَا مَنْ يَأْبَاهَا، ومَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّعْوةَ فَقَدْ عَصَى اللَّه ورَسُولُهُ رواه مسلم.
وفي رواية في الصحيحين عن أَبي هريرةَ من قوله: بِئْسَ الطَّعَامُ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ يُدْعَى إِلَيْهَا الأَغْنِيَاءُ وَيُتْرَكُ الفُقَرَاءُ.
8/267- وعن أَنس عن النَّبيّ ﷺ قَالَ: مَنْ عَالَ جَارِيتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَومَ القِيامَةِ أَنَا وَهُو كَهَاتَيْنِ وَضَمَّ أَصَابِعَهُ. رواه مسلم.
جَارِيَتَيْنِ أَيْ: بِنْتَيْنِ.
9/268-وعن عائشةَ رضي اللَّه عنها قَالَتْ: دَخَلَتَ عليَّ امْرَأَةٌ ومعهَا ابْنَتَانِ لَهَا تَسْأَلُ فَلَم تَجِدْ عِنْدِي شَيْئًا غَيْرَ تَمْرةٍ واحِدةٍ، فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا فَقَسَمتْهَا بَيْنَ ابنَتَيْهَا وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا ثُمَّ قامتْ فَخَرَجتْ، فَدخلَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَيْنَا، فَأَخْبرتُهُ فَقَالَ: مَنِ ابْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ البَنَاتِ بِشَيْءٍ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ متفقٌ عَلَيهِ.
الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة تتعلق أيضا برحمة الفقراء والإحسان إليهم ومساعدتهم وسد خلتهم كما تقدم في الأحاديث الصحيحة، وتقدم في قوله جل وعلا: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]، وقوله جل وعلا: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ [الضحى:9-10] فالمسلمون يجب أن يكونوا أهل عطف وإحسان على فقرائهم، وألا يتكبروا عليهم، بل يجب أن يواسوهم ويحسنوا إليهم من الزكاة وغيرها، وأن يتواضعوا معهم جبرا لهم ومواساة وإحسانا.
تقدم في هذا عدة أحاديث، ومن ذلك هذا الحديث بئس الطعام طعام الوليمة يدعى إليها من يأباها، ويمنعها من يأتيها يعني يدعى إليها من يأباها من الأغنياء، ويترك من يريدها ويحتاج إليها من الفقراء، ولهذا في اللفظ الآخر: يدعى إليها الأغنياء، ويترك الفقراء يعني كثير من الناس تكون وليمته للأغنياء ولا يدعو الفقراء، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله هذا يدل على أن إجابة الدعوة واجبة إذا دعاك أخوك فعليك أن تجيب الدعوة إلا أن يسمح لك، أو يكون فيها منكر يكون عذرا لك، أو تكون عاجزا كالمريض ونحوه، وفي اللفظ الآخر: للمسلم على المسلم ست خصال: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس وحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه.
وفي اللفظ الآخر يقول ﷺ: من عال جاريتين حتى تبلغا كنت أنا وهو في الجنة كهاتين وأشار بأصابعه عليه الصلاة والسلام، فيه الحث على الإحسان إلى النساء الفقيرات من بنات وأخوات وغيرهن ولو من غير جماعته، ولو من غير قرابته إذا أحسن إليهن بالنفقة وغيرها مما يحتجن إليه فهذا من أسباب دخول الجنة ورفقة النبي عليه الصلاة والسلام وصحبته.
والمقصود من هذا الحث على عدم التكبر على الفقراء والحث على الإحسان إليهم سواء كن نساء أو كن ذكورا كاليتامى وغير اليتامى من الفقراء رجال أو نساء، فالسنة العطف عليهم، الإحسان إليهم، بل يجب عند الحاجة أن يواسون من الزكاة وغيرها وأن تسد حاجتهم.
وفي الحديث الثالث: أن عائشة رضي الله عنها أنها جاءتها امرأة تشحذ ومعها بنتان، فلم تجد في البيت إلا تمرة واحدة، بيت النبي ﷺ ما حصلت فيه شيء تعطيها طعام سوى تمرة ومعها ابنتان لها، فلما دفعت إليها التمرة شقتها بين البنتين نصفين ولم تأكل شيئا، فلما جاء النبي ﷺ أخبرته فقال: من ابتلي بشيء من هذه البنات فأحسن إليهم كن له سترا من النار يعني من رزق شيئا من البنات لأن وجود البنات والبنين اختبار وامتحان، فمن أحسن ورباهم وأحسن إليهم فله الجنة والكرامة، ومن أهمل أولاده وبناته ولم يربهم فهو على خطر عظيم. وفي رواية أخرى عند البخاري قالت: جاءت امرأة ومعها ابنتان لها فلم أجد في البيت إلا ثلاث تمرات فدفعتها إليها، فدفعت إلى كل واحدة من بنتيها تمرة ورفعت التمرة الثالثة لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها -التمرة الثالثة- فشقتها بينهما نصفين ولم تأكل شيئا، قالت: فأعجبني شأنها فلما جاء النبي ﷺ أخبرته فقال: إن الله أوجب لها بها الجنة إن الله أوجب لها بهذه الرحمة وبهذا الإحسان الجنة، هذا فيه الحث على الصدقة ولو بالقليل، اتقوا النار ولو بشق تمرة، يقوله النبي ﷺ: اتقوا النار ولو بشق تمرة، في بعض البلاد وفي بعض الأوقات تشتد الحاجة فالمطلوب من المؤمن أن يحسن ولو بالقليل، وفق الله الجميع.
10/269-وعن عائشةَ رضي اللَّهُ عنها قَالَتْ: جَاءَتني مِسْكِينَةٌ تَحْمِل ابْنْتَيْن لَهَا، فَأَطعمتهَا ثَلاثَ تَمْرَاتٍ، فَأَعطتْ كُلَّ وَاحدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً وَرفعتْ إِلى فِيها تَمْرةً لتَأَكُلهَا، فَاسْتَطعَمَتهَا ابْنَتَاهَا، فَشَقَّت التَّمْرَةَ الَّتي كَانَتْ تُريدُ أَنْ تأْكُلهَا بيْنهُمَا، فأَعْجبني شَأْنَها، فَذَكرْتُ الَّذي صنعَتْ لرسولِ اللَّه ﷺ فَقَالَ: إنَّ اللَّه قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الجنَّةَ، أَو أَعْتقَها بِهَا مَن النَّارِ رواه مسلم.
11/270-وعن أَبي شُريْحٍ خُوَيْلِدِ بْنِ عَمْروٍ الخُزاعِيِّ قَالَ: قَالَ النَّبيّ ﷺ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعيفينِ الْيَتِيمِ والمرْأَةِ حديث حسن صحيح رواه النسائي بإِسناد جيدٍ.
ومعنى أُحَرِّجُ: أُلحقُ الحَرَجَ، وَهُوَ الإِثْمُ بِمَنْ ضَيَّعَ حَقَّهُما، وَأُحَذِّرُ منْ ذلكَ تَحْذيرًا بَلِيغًا، وَأَزْجُرُ عَنْهُ زَجْرًا أَكيدًا.
12/271-وعن مُصْعبِ بنِ سعدِ بنِ أَبي وقَّاصٍ رضي اللَّه عنهما قَالَ: رأَى سعْدٌ أَنَّ لَهُ فَضْلًا علَى مَنْ دُونهُ، فَقَالَ النبيُّ ﷺ: هَل تُنْصرُونَ وتُرزقُونَ إِلاَّ بِضُعفائِكُم رواه البخاري هَكَذا مُرسلًا، فَإِن مصعَب بن سعد تَابِعِيُّ، ورواه الحافِظُ أَبو بكر الْبَرْقَانِى في صحيحِهِ مُتَّصلًا عن مصعب عن أَبيه .
13/272- وعن أَبي الدَّرْداءِ عُوَيْمرٍ قَالَ: سمِعتُ رسولَ اللَّه ﷺ يقُولُ: ابْغونِي الضُّعَفَاءَ، فَإِنَّمَا تُنْصرُونَ، وتُرْزقون بضُعفائِكُمْ رواه أَبو داود بإسناد جيد.
الشيخ: هذه الأحاديث كالتي قبلها في الحث على رحمة الفقراء والإحسان إليهم وعدم التكبر عليهم وعدم الإعراض عنهم ومواساتهم وقضاء حوائجهم.
في الحديث الأول: حديث المرأة التي جاءت إلى عائشة وسبق حديثها في الدرس السابق، وأنها جاءتها امرأة ومعها ابنتان لها تشحذ، قالت: فلم أجد في البيت إلا ثلاث تمرات فدفعتها إليها، فأعطت كل واحدة تمرة، ثم أخذت التمرة الثالثة لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها -التمرة الثالثة- فشقتها بينهما نصفين ولم تأكل شيئا، قالت عائشة: فأعجبني شأنها فلما جاء النبي ﷺ أخبرته فقال: إن الله قد أوجب لها بها الجنة، أو قال: أعتقها بها من النار يعني برحمتها لهاتين الطفلتين ولإحسانها إليهما، هذا فيه الحث على الإحسان للبنات وجميع الأولاد والرفق بهم لأنهم ضعفاء، فالواجب على الآباء والأمهات الرفق بالصغار والرحمة للصغار، وهكذا الأيتام.
وفي الحديث الثاني: يقول ﷺ: إني أحرج حق الضعيفين: المرأة، واليتيم والمعنى أنه يحرج الأمة أن يتساهلوا في حقهما أو يضيعوا حقهما، فاليتيم يجب أن يراعى ويحسن إليه، وهو الذي لا أب له قد مات أبوه وهو صغير، والمرأة كذلك، كثير من الناس يأكل حقهما ويظلمها، فالواجب الحذر من ذلك سواء كانت زوجة أو بنتا أو أختا أو غير ذلك، الواجب الحذر من حق المرأة وأن تعطى حقها، إن كان ميراثا أو غيره، لا يجوز للزوج أن يطمع فيها ويأخذ حقها بغير حق إلا برضاها إذا كانت رشيدة.
وهكذا الحديث الثالث والرابع: يقول ﷺ: هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم يعني بدعائهم وصلواتهم وخشيتهم لله وإقبالهم على الله ورحمة الله لهم، والمعنى الحث على الإحسان إليهم، فإنه من أسباب رحمة الله لك، إذا أحسن الناس إلى ضعفائهم وأيتامهم ونحو ذلك كان هذا من أسباب رحمة الله لهم، هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم يعني برحمة الله لهم وإحسانه إليهم عند عجزهم وعدم قدرتهم على الكسب والانتصاف ممن ظلمهم، فإذا أحسن الناس إليهم وأنصفوهم وأعطوهم حقوقهم فهذا من أسباب رحمة الله لهم، وفق الله الجميع.
34- باب الوصية بالنساء
قَالَ الله تَعَالَى وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]، وَقالَ تَعَالَى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:129].
1/273-وعن أبي هريرةَ قَالَ: قالَ رسول ُ اللَّه ﷺ: اسْتوْصُوا بِالنِّساءِ خيْرًا، فإِنَّ المرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوجَ مَا في الضِّلعِ أَعْلاهُ، فَإِنْ ذَهبتَ تُقِيمُهُ كَسرْتَهُ، وإِنْ تركتَهُ لمْ يزلْ أَعوجَ، فاستوْصُوا بِالنِّسَاءِ متفقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية في الصحيحين: المرْأَةُ كالضلعِ إِنْ أَقَمْتَها كسرْتَهَا، وإِنِ استَمتعْت بِهَا، اسْتَمتعْت وفِيها عَوجٌ.
وفي رواية لمسلمٍ: إِنَّ المرْأَةَ خُلِقتْ مِن ضِلَعٍ، لَنْ تَسْتقِيمَ لكَ علَى طريقةٍ، فَإِنْ استمتعْت بِهَا اسْتَمتَعْتَ بِهَا وفِيها عَوجٌ، وإِنْ ذَهَبْتَ تُقيمُها كسرتَهَا، وَكَسْرُهَا طلاقُها.
قولُهُ: عوجٌ هُوَ بفتح العينِ والواوِ.
2/274-وعن عبداللَّه بن زَمْعَةَ ، أَنه سمعَ النبيَّ ﷺ يخْطُبُ، وذكَر النَّاقَةَ والَّذِى عقَرهَا، فَقَالَ رَسُول اللَّه ﷺ: إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا [الشمس:12] انْبعثَ لَها رَجُلٌ عزِيزٌ، عارِمٌ منِيعٌ في رهْطِهِ" ثُمَّ ذكَرَ النِّساءَ، فَوعظَ فِيهنَّ، فَقالَ: يعْمِدُ أَحَدكُمْ فيجْلِدُ امْرأَتَهُ جلْد الْعَبْدِ فلَعلَّهُ يُضاجعُهَا مِنْ آخِر يومِهِ ثُمَّ وَعَظهُمْ في ضحكهِمْ مِن الضَّرْطَةِ وَقالَ: لِمَ يضحكُ أَحَدَكُمْ مِمَّا يفعلُ؟ متفق عليه.
وَالْعارِمُ" بالعين المهملة والراءِ: هُو الشِّرِّيرُ المُفْسِد، وقولُه: انبعثَ، أَيْ: قَامَ بسرعة.
3/275-وعن أَبي هريرةَ قَالَ: قالَ رَسُول اللَّه ﷺ: لاَ يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِه مِنها خُلقًا رضِيَ مِنْها آخَرَ أَوْ قَالَ: غيْرَهُ رواه مسلم.
وقولُهُ: يفْركْ هُوَ بفتحِ الياءِ وإِسكانِ الفاءِ وفتح الراءِ معناه: يُبغضُ، يقَالُ: فَركَتِ المرْأَةُ زَوْجَهَا، وفَرِكَهَا زَوْجُها، بكسر الراءِ، يفركُها بفتحهَا: أَيْ: أَبغضهَا، واللَّه أعلم.
الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة تتعلق بالتوصية بالنساء والإحسان إليهن، وأن الواجب على الزوج تقوى الله، وأن يحسن العشرة لزوجته وألا يظلمها فإنها مسكينة وأسيرة، ولهذا قال ﷺ: استوصوا بالنساء خيرا، فأنهن عوان عندكم يعني أسيرات عندكم فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإذا ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل، وفي اللفظ الآخر: وكسرها طلاقها يعني أن الإنسان إذا أراد منها أن تستقيم أبدا وألا يكون فيها نقص هذا مستحيل، لا بد من النقص، فإما أن يصبر ويتحمل ويعالج الأمور بالحكمة، وإما أن تقع المصيبة وهي الطلاق، والله جل وعلا قال: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]، وقال: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228]، وقال: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:129] فالواجب الإصلاح والتقوى والحذر من الظلم وعليها كذلك، عليها أيضا المعاشرة بالمعروف، وعليها أن تتقي الله، وأن تؤدي حقه، وأن تجتهد في إحسان العشرة، فإذا اجتهد هذا وهذا استقامت الأحوال، وإذا فرط هذا أو هذا حصلت المشاكل.
وهكذا قوله ﷺ: لا يجلد أحدكم امرأة جلد العبد، فلعله يضاجعها من آخر اليوم فإذا كان ولا بد من تأديب يكون خفيفا كما في حديث خطبته في حجة الوداع فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح، لما ذكر حق الزوج عليها وأنها لا تأذن في بيته لمن يكره ولا توطأ فراشه من يكره قال: فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح يعني خفيف، فالمقصود: أن الواجب على المؤمن أن يجتهد في العشرة الطيبة، وأن يتسامح عن بعض الزلات الخفيفة، وأن يكون حكيما في ذلك، ولهذا قال جل وعلا: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]، وقال وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34] هذا آخر الطب الضرب غير المبرح الخفيف، فالمرأة تحتاج إلى صبر وإلى عناية وإلى حكمة في الوصية، والإحسان والصبر والتوجيه إلى الخير حتى تستقيم الأحوال، أما مع الشدة وسوء الخلق فإن العاقبة الطلاق والفراق.
كذلك قوله ﷺ: لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن سخط منها خلقا رضي منها خلقا آخر يعني إذا كانت الزوجة مؤمنة طيبة فإنه لا يعدم منها أخلاقا طيبة، فلا يفركها من جميع الوجوه، ولا يبغضها من جميع الوجوه، لا بد تكون في أخلاقا طيبة، فإن كره منها خلقا رضي منها خلقا آخر، فالواجب الاقتصاد والصبر والمعاملة بالعدل، وألا تحمله بعض الأخلاق على الكسر الذي هو طلاقها، بل يتحمل ويعالج الأمور بالحكمة، الخلق الذي فيه انحراف يعالج بالحكمة والصبر والأسلوب الحسن حتى تستقيم الأحوال، فإنهن ناقصات عقل ودين، لا بد من الصبر ولا بد من العلاج، وهي كذلك عليها أن تجتهد وعليها أن تحرص على أسباب الألفة والمحبة والاستقامة والعشرة الطيبة، فإذا اجتهد هذا واجتهد هذا استقامت الأحوال، وإذا فرط هذا وفرط هذا جاءت الفرقة، وفق الله الجميع.
4/276-وعن عَمْرو بنِ الأَحْوَصِ الجُشميِّ أَنَّهُ سمِعَ النَّبيّ ﷺ في حَجِّةِ الْوَداع يقُولُ بَعْدَ أَنْ حَمِدَ اللَّه تَعَالَى، وَأَثنَى علَيْهِ وذكَّر ووعظَ، ثُمَّ قَالَ: أَلا واسْتَوْصوا بِالنِّساءِ خَيْرًا، فَإِنَّمَا هُنَّ عَوانٍ عَنْدَكُمْ لَيْس تمْلكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غيْرَ ذلِكَ إِلاَّ أَنْ يأْتِينَ بِفَاحشةٍ مُبيِّنةٍ، فإِنْ فَعلْنَ فَاهْجُروهُنَّ في المضَاجعِ، واضْربُوهنَّ ضَرْبًا غيْر مُبرِّحٍ، فإِنْ أَطعنَكُمْ فَلا تبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبيلًا، أَلا إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسائِكُمْ حَقًّا، ولِنِسائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، فَحَقُّكُمْ عَلَيْهنَّ أَن لا يُوطِئْنَ فُرُشكمْ منْ تَكْرهونَ، وَلا يأْذَنَّ في بُيُوتكمْ لِمن تكْرهونَ، أَلا وحقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَن تُحْسنُوا إِليْهنَّ في كِسْوتِهِنَّ وَطعامهنَّ. رواه الترمذي، وَقالَ: حديث حسن صحيحٌ.
قوله ﷺ عوانٍ أَيْ: أَسِيرَاتٌ، جمْعُ عانِيةٍ، بِالْعَيْنِ المُهْمَلَةِ، وَهِيَ الأَسِيرَةُ، والْعانِي: الأَسِيرُ. شَبَّهَ رسولُ اللَّه ﷺ المرْأَةَ في دُخُولَهَا تحْتَ حُكْم الزَّوْجِ بالأَسيرِ. والضرْبُ المُبرِّحُ: هُوَ الشَّاقُّ الشديدُ، وقوله ﷺ: فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أَيْ: لاَ تَطلُبوا طرِيقًا تحْتجُّونَ بِهِ عَلَيْهِنَّ وَتُؤذونهنَّ بِهِ، واللَّه أعلم.
5/277-وعن مُعَاويَةَ بنِ حَيْدةَ قَالَ: قلتُ: يَا رَسُول اللَّه مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدنَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: أَن تُطْعمَها إِذَا طَعِمْتَ، وتَكْسُوهَا إِذَا اكْتَسيْتَ وَلاَ تَضْربِ الْوَجهَ، وَلا تُقَبِّحْ، وَلا تَهْجُرْ إِلاَّ في الْبَيْتِ حديثٌ حسنٌ رواه أَبو داود، وَقالَ: معنى لا تُقَبِّحْ أَي: لا تقُلْ قَبَّحَكِ اللَّه.
6/278-وعن أبي هريرةَ ، قَالَ: قالَ رَسُول اللَّه ﷺ: أَكْمَلُ المُؤْمنين إِيمَانًا أَحْسنُهُمْ خُلُقًا، وَخِياركُمْ خيارُكم لِنِسَائِهِم رواه التِّرمذي وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
7/279-وعن إِياس بنِ عبداللَّه بنِ أَبي ذُباب قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: لاَ تَضْربُوا إِمَاءَ اللَّهِ فَجاءَ عُمَرُ إِلى رسولِ اللَّه ﷺ، فَقَالَ: ذَئِرْنَ النِّساءُ عَلَى أَزْواجهنَّ، فَرَخَّصَ في ضَرْبهِنَّ فَأَطاف بِآلِ رسولِ اللَّه ﷺ نِساءٌ كَثِيرٌ يَشْكونَ أَزْواجهُنَّ، فَقَالَ رَسُول اللَّه ﷺ: لَقَدْ أَطَافَ بآلِ بَيْت مُحمَّدٍ نِساءٌ كَثيرِ يشْكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ لَيْسَ أُولِئك بخيارِكُمْ رواه أَبُو داود بإسنادٍ صحيح.
قوله: ذَئِرْنَ هُوَ بذَال مُعْجَمَة مفْتوحَة ثُمَّ هَمْزة مَكْسُورَة ثُمَّ راءٍ سَاكِنَة ثُمَّ نُون، أي: اجْتَرَأْنَ، قوله: أَطاف أيْ: أحَاطَ.
الشيخ: هذه الأحاديث فيها الحث على القيام بحق الزوجات والإحسان إليهن والوصية بهن خيرا، والحذر من ظلمهن كما قال الله جل وعلا: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]، وقال سبحانه: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228] فالواجب على المؤمن المعاشرة بالمعروف، وعليها هي أن تعاشر بالمعروف، وأن ينصف كل واحد من نفسه، ولها على زوجها أن يستوصي بها خيرا: أن يحسن إليها في طعامها وكسوتها كما يحسن إليها في خلقه وخطابه لها، وغير ذلك مما يدخل في الخير استوصوا بالنساء خيرًا، وعليها هي أن تحفظ بيته وماله وألا تأذن في بيته لمن يكره ولا توطأ فراشه لمن يكره، وقال ﷺ: فإن فعلن يعني عصينكم فاضربوهن ضربا غير مبرح بعد الوعظ والتذكير فَعِظُوهُنَّ [النساء:34] أول ما يكون الوعظ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ [النساء:34] ثم بعدها الضرب، فليكن أولا الموعظة والتذكير والنصيحة، فإن لم تجد هجرها في البيت حسب ما يراه من المصلحة، لكن في الكلام لا يزيد على ثلاث في الكلام، لا يحل له الهجر فوق ثلاث في حق الإنسان، في حق نفسه، فإن لم ينفع ذلك ضربها ضربا غير مبرح ضربا خفيفا يحصل به التأديب ولا يحصل به مضرة، وعليها هي أيضا أن تجتهد في الإحسان إلى زوجها، والسمع والطاعة له بالمعروف، والقيام بما تقتضيه العادة العرفية في البيت من الطبخ والكنس والغسل وغير هذا مما جرت به العادة في كل أمة بحسب أعرافهم بينهم، ولما أذن ﷺ للرجال في ضرب الزوجات عند إساءتهن الخلق أطاف بأبيات النبي ﷺ أناس يشكون أزواجهم، فبلغ النبي ﷺ الناس ذلك قال: إنه طاف بأبيات النبي بأبيات محمد نساء كثير يشكون أزواجهن، أولئك ليسوا بخياركم يعني أولئك الضرابون ليسوا بخياركم، الذي يسمح ويتغاضى ويعفو ويصفح ويعالج الأمور بالحكمة أولى، فهي أسيرة مثل ما قال ﷺ: فإنهن عوان عندكم يعني أسيرات تحت سيطرة الزوج، فالواجب عليه أن يحسن، وأن يتحمل بعض الشيء، وألا يناقش في الدقيق والصغير، بل يكون عنده العفو والصفح، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم أهل الصفح والعفو والتحمل هذا هم الخيار، أما المحاسب على الدقيق والجليل والمشدد فهذا ليس من الخيار بل الخيار أهل الصفح والعفو والتحمل والإحسان إلى الزوجة، وألا يؤاخذ بالدقيق والجليل في حقه، لا يتشدد في حقه يتسامح عن بعض الشيء، أما إذا عصت الله فإنه يقوم عليها ويؤدبها ويعلمها ويرشدها؛ لأن هذا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من باب التعاون على البر والتقوى، أما في حقه قصرت في بعض الشؤون، في غسل ثياب، في بعض الطبخ، في بعض الكنس، في بعض الأشياء العادية، ينبغي ألا يشدد، ينبغي أن تكون المعالجة بالرفق والحكمة والأسلوب الحسن، وفق الله الجميع.
1/280-وعن عبداللَّه بنِ عمرو بن العاص رضي اللَّه عنهما أَن رَسُول اللَّه ﷺ قَالَ: الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتاعهَا المَرْأَةُ الصَّالحةُ رواه مسلم.
35- باب حق الزوج عَلَى المرأة
قَالَ الله تَعَالَى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء:34].
وأما الأحاديث فمنها حديث عمرو بن الأحوص السابق في الباب قبله.
1/281- وعن أبي هريرةَ قَالَ: قالَ رسولُ اللَّه ﷺ: إِذَا دعَا الرَّجُلُ امْرأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فلَمْ تَأْتِهِ فَبَات غَضْبانَ عَلَيْهَا لَعَنتهَا الملائكَةُ حَتَّى تُصْبحَ متفقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية لهما: إِذَا بَاتَتْ المَرْأَةُ هَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجهَا لَعنتْهَا المَلائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ.
وفي روايةٍ: قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِن رَجُلٍ يَدْعُو امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَتَأْبَى عَلَيْهِ إِلاَّ كَانَ الَّذي في السَّماءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا حَتَّى يَرْضَى عَنْها.
2/282- وعن أَبي هريرة أَيضًا أَن رَسُول اللَّه ﷺ قَالَ: لاَ يَحلُّ لامْرَأَةٍ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلا بِإِذْنِهِ، وَلا تَأْذَنْ في بَيْتِهِ إِلاَّ بِإِذنِهِ متفقٌ عَلَيهِ، وهذا لفظ البخاري.
الشيخ: هذه الأحاديث في بيان حق الزوج على زوجته، وأن حقه عظيم، وأن الواجب عليها السمع والطاعة له في المعروف، وعدم عصيانه في المعروف، وتقدم في ذلك أحاديث، وفي هذا المعنى يقول جل وعلا: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء:34] فهم قوامون عليهم بما فضل الله بعضهم على بعض، من عناية الرجل وقدرته على ملاحظتها وتوجيهها والحفاظ عليها وغير هذا مما أعطى الرجل من القوة في هذا الشأن، وأيضًا بما أنفق من ماله من مهر ونفقة وغير ذلك، فهو قوام عليها من جهتين: من جهة أنه أقوى في المحافظة عليها من نفسها، ومن جهة أنفق أيضا وبذل أموالا، فالواجب عليها السمع والطاعة له في المعروف.
وهذه الدنيا متاع، وخير متاعها الزوجة الصالحة فينبغي للرجل أن يلتمس الزوجة الصالحة لقوله ﷺ: الدنيا متاع، وخير متاعها الزوجة الصالحة، ولقوله ﷺ: تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك هو يختار الزوجة الصالحة الطيبة ويحرص، وهي عليها أن تتقي الله وأن تسمع وتطيع له في المعروف، وألا تعصي أمره ولاسيما إذا دعاها إلى حاجته في فراشه؛ لأن هذه أمور عظيمة وقد يكون عصيانها له يسبب شرا عظيما من الزنا أو الطلاق، فالواجب عليها السمع والطاعة، ولهذا قال ﷺ: إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء لعنتها الملائكة حتى تصبح، وفي لفظ: كان الذي في السماء ساخطا عليها يعني الله وملائكته حتى يرضى عنها فالواجب عليها السمع والطاعة له في المعروف، وعدم عصيانه في حاجته إليه، والله جل وعلا يملي ولا يغفل، فالواجب عليها أن تحذر عقوبة الله العاجلة، وألا تغتر بالإمهال والإنظار، ومن حقه عليها ألا تأذن في بيته إلا بإذنه، وألا يطأ فراشه أحد يكره، تلاحظ هذه الأمور حتى لا يدخل بيته من لا يرضاه، وحتى لا يتصل بها من لا يرضاه، وليس لها أن تصوم إلا بإذنه غير رمضان إذا كان شاهدا حاضرا، الرسول ﷺ نهى أن تصوم إلا بإذنه إذا كان شاهدا حاضرا إلا رمضان، رمضان فرض على الجميع، كونها تطوع بالصوم وهو حاضر ليس لها ذلك إلا بإذنه، أما إن كان غائبا فلا بأس، وفق الله الجميع.
3/283- وعن ابن عمرَ رضي اللَّهُ عنهما عن النَّبي ﷺ قال: كُلُّكُمْ راعٍ، وكُلُّكُمْ مسئولٌ عنْ رعِيَّتِهِ، والأَمِيرُ رَاعٍ، والرَّجُلُ راعٍ علَى أَهْلِ بَيْتِهِ، والمرْأَةُ راعِيةٌ عَلَى بيْتِ زَوْجِها وولَدِهِ، فَكُلُّكُمْ راعٍ، وكُلُّكُمْ مسئولٌ عنْ رعِيَّتِهِ متفقٌ عليه.
4/284- وعن أَبي عليٍّ طَلْق بن عليٍّ أَن رسولَ اللَّه ﷺ قَالَ: إِذَا دَعَا الرَّجُلُ زَوْجتَهُ لِحَاجتِهِ فَلْتَأْتِهِ وإِنْ كَانَتْ عَلَى التَّنُّور. رواه الترمذي والنسائي، وَقالَ الترمذي: حديث حسن صحيح.
5/285- وعن أَبي هريرة عن النبي ﷺ قال: لَوْ كُنْتُ آمِرًا أحَدًا أَنْ يسْجُدَ لأَحدٍ لأَمَرْتُ المرْأَة أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا. رواه الترمذي وَقالَ: حديث حسن صحيح.
الشيخ: تقدم أحاديث عديدة في بيان وجوب حق الزوج على زوجته، وأن الواجب عليها السمع والطاعة في المعروف كما قال جل وعلا: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء:34].
تقدم قوله ﷺ: إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء لعنتها الملائكة حتى تصبح، وفي اللفظ الآخر: كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها زوجها فالواجب على الزوجة طاعة زوجها في المعروف لا في المعصية، في حاجته إلى جماعها، في خدمته في خدمة البيت حسب العرف الذي ساد في البلد تقوم بالواجب حسب العرف في أمثالها وأمثاله، ولهذا يقول ﷺ: كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع وهو السلطان ومسؤول عن رعيته، سواء كان ملكا أو أمير بلد أو رئيس جمهورية كلهم مسؤولون عن رعيتهم، والرجل راع في أهل بيته ومسؤول عن رعيته عن زوجته وأولاده ومن تحت يده، هل أدى حق الله؟ هل صانهم؟ هل أحسن تأديبهم؟ هل وجههم إلى الخير؟ هل أنفق عليهم ما يلزم؟ إلى غير ذلك، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها وعن ولدها أيضا، يعني ترعى الزوج وترعى البيت من جهة أولادها، أو أيتام في البيت أو خدم هي مسؤولة، عليها أن تؤدي حق الله، وعليها أن تؤدي الأمانة، وأن تحسن الخلق مع أهل البيت كما تحسنه مع زوجها، والعبد أيضا راع في مال سيده وهو الخادم ومسؤول عن رعيته، ثم يقول ﷺ: ألا فكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته رئيس الشركة، مدير الشركة مسؤول عن رعيته، مدير المكتب مسؤول عن رعيته، وهكذا كل إنسان تحت يده شيء هو مسؤول، هل أدى الواجب؟ هل أدى الأمانة؟ هل نصح لله لمن لولاه أو خان الأمانة؟ هو مسؤول سوف يسأل يوم القيامة عن هذه الأمانة.
وفي الحديث الثاني يقول ﷺ: إذا دعا الرجل امرأته إلى حاجته كان عليها أن تجيب ولو على التنور يعني ولو كانت تعمل الخبز في التنور، أو تقوم على أشياء أخرى من خدمة البيت عليها، تلاحظ ترك الذي في يدها وتأتي إلى زوجها، أو تعتذر إليه بما يرضى ولا تعاند، وهذه المعاندات هي أسباب الطلاق وأسباب الفرقة، عليه هو أن ينظر أيضًا وألا يحرجها، عليه أن يكون عنده مروءة وعنده أيضا نظر لا يحرجها في المواضع التي فيها حرج، يكون عنده مروءة وعنده نظر، عليه أن يتقي الله في ذلك، فهي عليها أن تتقي الله وهو عليه أن يتقي الله في القيام بحقها وعدم إحراجها، وهي عليها أن تتقي الله في السمع والطاعة له في المعروف.
وهكذا في الحديث الثاني: يقول ﷺ: لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها يعني من عظم حقه عليها، لكن السجود لله فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النجم:62] السجود عبادة لله وحده لا تجوز لغيره، كانت في الأمم الماضية تجوز في التحية، ولهذا سجد إخوة يوسف وأبواه له تحية وتكريما، وسجد الملائكة لآدم تحية وتكريما وإظهارا لفضله، ثم إن الله نسخ ذلك في شريعة محمد ﷺ وحرم السجود لغير الله، فاستقر السجود لله وحده فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النجم:62] أما فيمن كان من قبلنا كانت أبيحت على سبيل التحية، ما هو على سبيل العبادة، على سبيل التكريم والتحية، ولهذا أمر الله الملائكة أن تسجد لآدم إكراما وإظهارا لفضله، وسجد إخوة يوسف وأبواه له لما رفعه الله، وخلصه من أيدي الظلمة من السجن، ويسر له أن تبوء عرش مصر سجدوا له، قد رأى رؤيا سابقة أنه رأى الشمس والقمر وأحدى عشر كوكبا له ساجدين، فصار تأويل هذه الرؤيا أن سجد أبوه وأمه وهما تأويل الشمس والقمر، والكواكب إخوته إحدى عشر كلهم سجدوا له تكريما واحتراما لما حباه الله به من النبوة والملك، ثم إن الله نسخ ذلك وحرم السجود لغير الله في هذه الأمور في شريعة محمد عليه الصلاة والسلام فلا يكون السجود إلا لله وحده، لا تحية ولا لغيرها، لا للزوج ولا للملك ولا لغيرهم، السجود لله وحده فقط، وهذه الشريعة شريعة محمد هي أكمل الشرائع، هي أكملها وأتمها وأعظمها، ولهذا حرم الله فيها السجود لغير الله، وحرم فيها أشياء لم تكن فيمن قبل، وعظم فيها أشياء من تعظيم الله جل وعلا، فشريعة محمد ﷺ أكمل الشرائع، ولهذا قال جل وعلا: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة:3] فالله أكمل لهذه الأمة دينها من جميع الوجوه، وجعل شريعتها أكمل الشرائع، وهي شريعة محمد عليه الصلاة والسلام، وفق الله الجميع.
س: الانحناء في التحية؟
ج: ما يجوز لا في التحية لا إلا إذا كان جالسا، وطمّن يسلم عليه أو يقبله، أما ينحني عند السلام لا، يسلم وهو مستقيم، يصافح أو يعانق، جاء في حديث فيه ضعف أن رجلا قال: يا رسول الله الرجل يلقى أخاه أينحني له؟ قال: لا، قال: يلتزمه ويقبله؟ قال: لا، قال: يأخذ بيده ويصافحه؟ قال: نعم فالمصافحة أكمل، وإذا عانقه كما جاء في الحديث الصحيح فلا بأس عند قدوم من السفر، قال أنس : «كان أصحاب النبي ﷺ إذا قدموا من سفر تعانقوا، وإذا تلاقوا في الطريق تصافحوا»، وكانت فاطمة إذا دخلت على أبيها عليه الصلاة والسلام قام إليها فقبلها وأخذ بيدها وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها هي قامت إليه وقبلته وأخذت بيده عليه الصلاة والسلام، المقصود أنه لا بأس بالتقبيل على الرأس، أو تقبيل بين العينين عند القدوم من السفر، عند المعانقة أو مع الوالدة أو مع الأب لا بأس التقبيل، والمعانقة أفضل بالعنق، يقول: هذا بعنقه وهذا بعنقه معانقة يسمى معانقة، وكان أبو بكر الصديق قد يقبل ابنته عائشة من خدها، لما جاء وهي مريضة قبلها من خدها .
6/286- وعن أُمِّ سلمةَ رضي اللَّهُ عنها قالت: قالَ رسول اللَّه ﷺ: أَيُّما امرأَةٍ ماتَتْ وزوْجُهَا عَنْهَا راضٍ دخَلَتِ الجَنَّةَ رواه الترمذي وَقالَ حديث حسن.
7/287- وعن معاذِ بنِ جبلٍ عن النَّبيّ ﷺ قَالَ: لاَ تُؤْذِي امْرَأَةٌ زَوْجَهَا في الدُّنْيا إِلاَّ قالَتْ زَوْجَتُهُ مِنَ الحُورِ الْعِينِ لاَ تُؤْذِيه قَاتلَكِ اللَّه، فَإِنَّمَا هُو عِنْدَكِ دخِيلٌ يُؤشِكُ أَنْ يُفارِقَكِ إِلَينا رواه الترمذي وَقالَ: حديث حسن.
8/288- وعن أُسامَةَ بنِ زيد رضي اللَّه عنهما عن النَّبيّ ﷺ قَالَ: مَا تركْتُ بعْدِي فِتْنَةً هِي أَضَرُّ عَلَى الرِّجالِ مِنَ النِّسَاءِ متفقٌ عَلَيهِ.
الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كلها تتعلق بشأن المرأة، وحق زوجها عليها، وتقدم في ذلك أحاديث، وحق الزوجة على زوجها أيضا، كل منهما عليه حق، فعلى الزوج أن يحسن العشرة كما قال تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]، وقال: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]، وقال النبي ﷺ: استوصوا بالنساء خيرا فالواجب على الزوج أن يتقي الله وألا يظلمها، وأن يستوصي بها خيرا، والواجب عليها أن تسمع وتطيع له في المعروف، وأن تحذر عصيانه في غير حق وإيذائه، فإيذاؤه وعصيانه من أسباب غضب الله عليها، وكونه يرضى عنها في طاعة الله وترضيه من أسباب سلامتها ودخولها الجنة، فطاعة الله وطاعة رسوله ﷺ وطاعة الزوج وطاعة الآباء والأمهات في المعروف كل هذا من أسباب السعادة، حق على الزوج أن يحسن إلى زوجته وينصفها ويعاشرها بالمعروف، وحق عليها أيضا أن تقوم بحقه، وأن تنصفه، وأن تحذر معصيته في غير حق، فطاعته وإرضاؤه فيما ليس من معصية الله من أسباب دخولها الجنة، وإيذاؤه من أسباب غضب الله عليها، فالواجب الحذر من ذلك.
وفي الحديث الأخير: يقول ﷺ: ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء فهي فتنة عظيمة، ولهذا قال في الحديث الصحيح: اتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء أخرجه مسلم في الصحيح، وذلك لما جعل الله في قلوب الرجال من الميول إلى النساء، ولهذا يقول سبحانه: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30]، وحرم الخلوة بالمرأة الأجنبية، وحرم الملامسة لها، والسفر بغير محرم، كل هذا صيانة للأعراض وحماية لها مما حرم الله جل وعلا، فهن فتنة، فالواجب على الرجل أن يحذر أسباب الفتنة، وأن يبتعد عن الخلوة والنظر إلى غير محرمه حتى لا تقع عليه الكارثة. وفق الله الجميع.
36-باب النفقة عَلَى العيال
قَالَ الله تَعَالَى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:233]، وَقالَ تَعَالَى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا [الطلاق:7]، وَقالَ تَعَالَى: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ [سبأ:39].
1/989-وعن أَبي هريرة قال: قال رسولُ اللَّه ﷺ: دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ في سبيلِ اللَّه، وَدِينَارٌ أَنْفَقتَهُ في رقَبَةٍ، ودِينَارٌ تصدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفقْتَهُ علَى أَهْلِكَ، أَعْظمُهَا أَجْرًا الَّذي أَنْفَقْتَهُ علَى أَهْلِكَ رواه مسلم.
2/290-وعن أَبي عبداللَّهِ وَيُقَالُ له: أبي عبدالرَّحمن ثَوْبانَ بْن بُجْدُدَ مَوْلَى رسولِ اللَّه ﷺ قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: أَفْضَلُ دِينَارٍ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ دِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى عِيالِهِ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى دابَّتِهِ في سبيلِ اللَّه، ودِينَارٌ يُنْفِقُهُ علَى أَصْحابه في سبِيلِ اللَّهِ رواه مسلم.
3/291-وعن أُمِّ سلَمَةَ رضي اللَّهُ عنها قَالَتْ: قلتُ يَا رسولَ اللَّهِ، هَلْ لِي أَجْرٌ فِي بَنِي أَبي سلَمةَ أَنْ أُنْفِقَ علَيْهِمْ، وَلَسْتُ بتَارِكَتِهمْ هَكَذَا وهَكَذَا، إِنَّما هُمْ بنِيَّ؟ فَقَالَ: نَعَمْ لَكِ أَجْرُ مَا أَنْفَقْتِ علَيهِم متفقٌ عَلَيهِ.
الشيخ: هذه الآيات والأحاديث في النفقة على العيال من الزوجة والأولاد والأيتام وسائر أهل البيت، هذه النفقة نفقة لازمة وفريضة، وهي أفضل من النفقة فيما سوى ذلك من النفقة في الجهاد، أو الصدقة على المساكين، أو عتق الرقاب، أو نحو ذلك، لأن هذه نفقة واجبة لازمة لا بد منها، وإنما الصدقة تكون من الفضل بعد ذلك، ولهذا يقول جل وعلا: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:233] يعني الزوجات والأولاد، قال تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ [الطلاق:7] هذا أمر، والأمر للوجوب، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7]، ويقول جل وعلا: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ [النساء:36] فذكر القربى واليتامى والمساكين بعد الوالدين، وكذلك قوله جل وعلا: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39] هذا عام، ولكن ما كان في الأهل والأولاد هو أعظمها وأهمها، لعظم ذلك ووجوبه وشدة الضرورة إلى القيام به يقول عليه الصلاة والسلام: دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرا الذي أنفقته في أهلك. هكذا الحديث الثاني، فالمقصود أن النفقة أقسام، النفقة في سبيل الله أقسام، لكن أعظمها ما كان في أهلك التي أوجب الله عليك الإنفاق عليهم، والإحسان إليهم، والقيام بحاجتهم من زوجة ووالدين محتاجين وأولاد وأيتام ونحو ذلك من أهل بيتك، ثم ما بعد ذلك من شراء الرقاب من النفقة في سبيل الله، من الصدقة على الفقراء والمساكين، الصدقة على الأيتام خارج بيتك إلى غير ذلك من وجوه البر، فالواجب على المؤمن أن يحاسب نفسه، وأن يتقي الله في ذلك، وأن يبدأ بالأهم فالأهم، وهكذا حديث أم سلمة لما سألت النبي ﷺ عن أولادها -أولاد أبي سلمة- ألها أجر في الإنفاق عليهم؟ ذكر أن لها أجرا في إنفاقها عليهم مع الأجر أن ذلك واجب، وأن في ترك ذلك الإثم أيضا مع القدرة، فإذا قصر صاحب البيت في ذلك مع القدرة أثم لأنهم في الذمة، ولهذا جاء الأمر {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة:233]، وعلى المولود يعني يجب على المولود له رزقهن، وقوله: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ [الطلاق:7] على الوجوب، وهكذا صلة الرحم خارج البيت من أقارب فقراء، إخوة فقراء، أعمام فقراء، بني أخ فقراء، هم مقدمون على غيرهم من أجل صلة الرحم، يقول سبحانه: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22-23]، ويقول عليه الصلاة والسلام: لا يدخل الجنة قاطع رحم، ويقول: من أحب أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أجله فليصل رحمه، ويقول ﷺ: ليس الواصل كالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها، وقال: يقول جل وعلا في الرحم: من وصلها وصلته ومن قطعها بتته.