16/411-وعن عائشةَ، رضي اللَّه عنها، قَالَتْ: سمعتُ رَسُول اللَّه ﷺ، يقول: يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُراةً غُرْلًا قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّه الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ جَمِيعًا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ،؟ قَالَ: يَا عَائِشَةُ الأَمرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُم ذلكَ.
وفي روايةٍ: الأَمْرُ أَهَمُّ مِن أَن يَنْظُرَ بَعضُهُمْ إِلى بَعْضٍ متفقٌ عَلَيهِ.
غُرلًا بضَمِّ الغَيْنِ المعجمة، أي: غير مختونين.
51-باب الرجاء
قَالَ الله تَعَالَى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، وَقالَ تعالى: وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ [سبأ:17]، وَقالَ تَعَالَى: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه:48]، وقال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [لأعراف:156].
1/412-وعن عُبادَة بنِ الصامِتِ، قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: منْ شَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وأَنَّ مُحمَّدًا عبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وأَنَّ عِيسى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وأَنَّ الجَنَّةَ حَقٌّ وَالنَّارَ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ عَلى مَا كانَ مِنَ العمَلِ متفقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية لمسلم: مَنْ شَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأَنَّ مُحَمَّدًا رسُولُ اللَّهِ، حَرَّمَ اللَّهُ علَيهِ النَّارَ.
2/413-وعن أَبي ذَرٍّ، ، قَالَ: قَالَ النبيُّ ﷺ: يقولُ اللَّهُ عزَّ وجَلّ: مَنْ جاءَ بِالحَسَنَةِ، فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِها أَوْ أَزْيَدُ، ومَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ، فَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ. وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، ومنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذرَاعًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَمَنْ أَتاني يَمْشِي، أَتَيْتُهُ هَرْولَةً، وَمَنْ لَقِيَني بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطِيئَةً لاَ يُشْرِكُ بِي شَيْئًا، لَقِيتُهُ بمثْلِها مغْفِرَةً رواه مسلم.
معنى الحديث: مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِطاعَتي تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بِرحْمَتي، وإِنْ زَادَ زِدْتُ، فَإِنْ أَتاني يَمشي وَأَسْرَعَ في طاعَتي أَتَيْتُه هَرْوَلَةً أَيْ: صَبَبْتُ علَيْهِ الرَّحْمَة، وَسَبَقْتهُ بِهَا، ولَمْ أُحْوِجْهُ إِلى المَشْيِ الْكَثِيرِ في الوُصُولِ إِلى المَقْصُودِ، وَقُرَابُ الأَرْضِ بضمِّ القافِ ويُقال بكسرها، والضم أَصحّ، وأَشهر، ومعناه: مَا يُقارِبُ مِلأَها، واللَّه أعلم.
الشيخ: الحديث الأول يدل على عظم شأن يوم القيامة، وأن خطره عظيم، وأن أهواله شديدة، فيوم القيامة يوم الأهوال والشدائد، ولهذا أخبر النبي ﷺ أن الناس يحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلا، يعني ليس عليهم نعال، عراة ليس عليهم لباس، غرلا غير مختونين تعاد إليهم القلفة حتى يقضي الله بين الناس، وأول من يكسى إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام. قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال عليه الصلاة والسلام: يا عائشة الأمر أشد من ذلك الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض، الأهوال عظيمة وليس الشأن شأن النظر، فكل أحد خائف ماذا يلقى؟ ماذا يصير؟ ماذا ينتهي أمره إليه؟ فهم في وجل وخوف، وتقدم أنهم يعرقون يوم القيامة حتى يبلغ العرق من بعضهم إلى ترقوته، وإلى فمه، من شدة الهول يكون عرقهم كالسيل يخوضون فيه، منهم من يكون إلى قدمه، إلى ركبته، إلى حجزته، ومنهم من يلجمه إلجاما، فهذا اليوم العظيم يجب الإعداد له، ويجب الحذر من التهاون بهذا اليوم العظيم الذي فيه الأهوال الشديدة، وذلك بطاعة الله والاستقامة على أمر الله كما قال سبحانه: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ [البقرة:197].
وفي الأحاديث الأخرى الدلالة على أن فضل الله واسع، وأنه سبحانه عظيم الرحمة، كثير الجود والكرم كما قال جل وعلا: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82]، وقال جل وعلا: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53] فالواجب على المؤمن أن يحسن ظنه بربه، وأن يجمع بين الخوف والرجاء، يخاف الله ويحذر السيئات ويرجوه ويحسن ظنه به كما في الحديث: يقول الله جل وعلا: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني فمن كانت أعماله طيبة حسن ظنه بالله، ومن ساءت أعماله ساء ظنه، فالواجب على المؤمن أن يجتهد في طاعة الله، وأن يحرص على أعمال الخير حتى يحسن ظنه بربه، وحتى يعظم رجاؤه، فهو سبحانه الجواد الكريم الذي وعد عباده بالمغفرة والرحمة إن استقاموا ووحدوه وأنابوا إليه، فإنه هو الغفور الرحيم نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [الحجر:49-50]، غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [غافر:3].
وبين ﷺ أن من جاء بحسنة فله عشر أمثالها أو أزيد يعني أو أزيده حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أكثر، ومن جاء بالسيئة فإنما يجزى بمثلها أو أغفر، وذكر المؤلف أيضا حديث عبادة بن الصامت أن النبي ﷺ قال: من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل هذا من أحاديث الفضائل، ومن أحاديث الرجاء، وأن من مات على التوحيد والإيمان فهو موعود بالجنة، إن كانت له ذنوب فهو تحت المشيئة، وإن لم تكن له ذنوب دخل الجنة من أول وهلة، أما إن كانت له ذنوب وسيئات مثل ما قال الله فيها: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].
فإذا اجتنب الكبائر غفر الله له الصغائر بتوحيده وإيمانه وأعماله الصالحة، ويقول جل وعلا في هذا المقام: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء:31] إذا تجنب العبد كبائر الذنوب وحذرها كفر الله عنه السيئات الصغائر إذا مات على التوحيد والإيمان، وقال النبي ﷺ: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن إذا اجتنب الكبائر فالواجب على كل مسلم أن يحذر السيئات، أن يحذر المعاصي، لأن الكبيرة قد تشتبه، فإن حدها اختلف فيه العلماء في حد الكبيرة، وأشهر ما قيل في ذلك أن الكبيرة ما جاء فيه الوعيد بالنار، أو بالغضب، أو كان فيها حد في الدنيا، وقال بعضهم زيادة كذلك إذا جاء نفي الإيمان عن صاحبها أو البراءة منه يعد من الكبائر، فالواجب على المؤمن أن يحذر السيئات كلها، وأن يبتعد عنها كلها كبائرها وصغائرها حتى يفوز بالسعادة والكرامة والعاقبة الحميدة، وفق الله الجميع.
3/414-وعن جابر، ، قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلى النبيِّ ﷺ فقال: يا رَسُولَ اللَّهِ، ما المُوجِبَتانِ؟ فَقَالَ: مَنْ مَات لاَ يُشرِكُ بِاللَّه شَيْئًا دخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ ماتَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ رواه مُسلم.
4/415-وَعن أَنسٍ، ، أَنَّ النَّبِيِّ ﷺ وَمُعَاذٌ ردِيفُهُ عَلى الرَّحْلِ قَالَ: يَا مُعاذُ قَالَ: لَبيَّيْكَ يَا رسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، قالَ: يَا مُعَاذُ قالَ: لَبَّيكَ يا رَسُول اللَّهِ وَسَعْديْكَ. قالَ: يَا مُعاذُ قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْديكَ ثَلاثًا، قالَ: مَا مِن عَبدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِله إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمدا عَبْدُهُ ورَسُولُهُ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلاَّ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ قالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ أُخْبِرُ بِها النَّاسَ فيستبشروا؟ قال: إِذًا يَتَّكلُوا فَأَخْبرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْد مَوْتِهِ تَأَثُّمًا. متفقٌ عَلَيهِ.
وقوله: تَأَثمًا أَيْ: خَوْفًا مِنَ الإِثمِ في كَتْمِ هذا العِلْمِ.
5/416-وعنْ أَبي هريرة أَوْ أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضيَ اللَّهُ عنهما: شَك الرَّاوِي، وَلاَ يَضُرُّ الشَّكُّ في عَينِ الصَّحابي، لأَنهم كُلُّهُمْ عُدُولٌ، قال: لما كان يَوْمُ غَزْوَةِ تَبُوكَ، أَصابَ الناسَ مَجَاعَةٌ، فَقالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَذِنْتَ لَنا فَنَحَرْنَا نَواضِحَنا، فَأَكلْنَا وَادَّهَنَّا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: افْعَلُوا، فَجَاءَ عُمَرُ ، فقالَ: يَا رَسولَ اللَّهِ إِنْ فَعَلْتَ قَلَّ الظَّهْرُ، وَلَكِنْ ادْعُهُمْ بفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ، ثُمَّ ادْعُ اللَّهِ لَهُمْ عَلَيْهَا بِالبَرَكَةِ لَعَلَّ اللَّه أَنْ يَجْعَلَ في ذلكَ البَرَكَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: نَعَمْ فَدَعَا بِنِطْعٍ فَبَسَطهُ، ثُمَّ دَعَا بِفَضْلِ أَزَاوَدِهِمْ، فَجعلَ الرَّجُلُ يجيءُ بِكَفِّ ذُرَةٍ، ويجيءُ الآخَرُ بِكَفِّ تَمْرٍ، ويجيءُ الآخَرُ بِكِسرَةٍ حَتى اجْتَمَعَ عَلى النِّطْعِ مِنْ ذَلِكَ شَيءٌ يَسِيرٌ، فَدَعَا رسُولُ اللَّهِ ﷺ عليه بِالبَرَكَةِ، ثُمَّ قالَ: خُذُوا في أَوْعِيَتِكُمْ، فَأَخَذُوا في أَوْعِيَتِهِمْ حَتَّى مَا تركُوا في العَسْكَرِ وِعاء إِلاَّ مَلأوهُ، وأَكَلُوا حَتَّى شَبعُوا وَفَضَلَ فَضْلَةٌ، فقالَ رَسُولُ ﷺ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ لاَ يَلْقَى اللَّه بِهِما عَبْدٌ غَيْرُ شاكٍّ، فَيُحْجبَ عَنِ الجَنَّةِ رواهُ مسلم.
الشيخ: في هذه الأحاديث الثلاثة الدلالة على أن من مات على التوحيد صدقا من قلبه، مخلصا لله، لم يصر على شيء من الكبائر، فإن الله يدخله بذلك الجنة، لقوله ﷺ لما سئل ما الموجبتان؟ يعني: ما هما الخصلتان الموجبتان للجنة والنار؟ فقال ﷺ: من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار هذه الموجبتان من لقي الله بالتوحيد والإيمان دخل الجنة، ومن لقيه بالشرك دخل النار، قال تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ [المائدة:72]، قال جل وعلا: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، أما من لقي الله بالتوحيد والإيمان فهو على خير عظيم فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110] من لقيه بالتوحيد والإيمان دخل الجنة، والمعنى من غير إصرار على الكبائر كما قال تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء:31].
فإذا لقيه بالتوحيد والإيمان غير مصر على سيئة، بل مؤديا للواجبات تاركا للمحرمات فهو من أهل الجنة، يقول ﷺ: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن إذا اجتنب الكبائر، وهكذا قال في الحديث الآخر حديث معاذ: من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبد الله ورسوله صدقا من قلبه دخل الجنة قال: أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا، وهكذا في الحديث الآخر: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئا قال معاذ: ألا أبشر الناس يا رسول الله؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا لكن معاذا أخبر بهذا عند موته تأثما، خوفا من الإثم، وقد جاءت الأحاديث الأخرى واضحة خبر بها النبي الصحابة وأن من مات على التوحيد والإيمان فله الجنة، وإن جرى خطوب قبل ذلك، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] من مات على التوحيد والإيمان فله الجنة، وإن كانت له سيئات فهو تحت مشيئة الله، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه على قدرها، ولكن مع التوحيد الخالص الصادق ما تبقى سيئة، لأن التوحيد الصادق الخالص يمحو السيئات، لكن تكون معه التوبة الصادقة، التوحيد الصادق الخالص تكون معه التوبة الماحية للذنوب، فلهذا يدخل الجنة وينجو من النار، فالواجب على كل مؤمن، وعلى كل مسلم أن يصدق في عبادته، وفي شهادته، أن يصدق مع الله في توحيده وإيمانه، وأن يحذر الإصرار على الشرك والمعاصي، فإن الإصرار على المعاصي فيه شر عظيم وخطر كبير، والله جل وعلا أمر عباده بأن يوحدوه وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء:36]، وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5].
فالواجب على جميع المكلفين أن يعبدوا الله وحده، وأن يخصوه بالعبادة، صلاتهم، وصومهم، ودعائهم، واستغاثتهم، وذبحهم، ونذرهم، كله لله وحده، فالذي يدعو الأصنام أو القبور أو الملائكة أو الأنبياء يستغيث بهم، أو الجن، أو ينذر لهم، هذا هو الشرك الأكبر، أما إذا مات على التوحيد والإيمان والصدق والإخلاص فهو من أهل الجنة، فإن كانت له ذنوب من الكبائر قد أصر عليها ولم يتب فهو تحت مشيئة الله، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه على قدرها، وبعد التعذيب في النار والتمحيص يخرجه الله من النار إلى الجنة، ولا يخلد في النار إلا الكفرة، أما الموحدون -وإن دخلوها بذنوبهم- لكن لا يخلدون، بعد التمحيص والتطهير يخرجهم الله بشفاعة الشفعاء، وبفضل رحمته من دون شفاعة أحد.
وفي الحديث الثالث: الدلالة على ما جعل الله في نفسه ﷺ من البركة، وعلامة من علامات نبوته، ومعجزة من المعجزات، الله جعله مباركا لما اشتد عليهم الحاجة في غزوة تبوك وأرادوا أن ينحروا ظهرهم أشار عمر بأن يجمعوا ما عندهم من أطعمة ويدعو فيها بالبركة، فقال النبي ﷺ: نعم، فجمعوا ما عندهم من أطعمة، هذا يأتي بكسرة خبز، وهذا يأتي بحفنة من طعام، وهذا يأتي بحفنة من تمر حتى جمعوا على النطع بعض الشيء، فدعا فيه النبي ﷺ بالبركة، سأل الله أن يبارك فيه، ثم قال: خذوا فصارت هذه الكسر القليلة أكواما عظيمة أنزل الله فيه البركة، وصاروا يأخذون في أوعيتهم ويأكلون وهم جم غفير، كل ذلك مما جعل الله من البركة، وهذا وقع للنبي مرات كثيرة عليه الصلاة والسلام، وهي من علامات النبوة، ومن دلائل صدق رسالته عليه الصلاة والسلام، وهكذا نبع الماء من بين أصابعه في أوقات كثيرة، في المدينة وفي غيرها إذا تعسر عليهم الماء، وفي المدينة في بعض الأوقات أمرهم بالوضوء، ما كان عندهم وضوء قريب فبسط يده في إناء فيه ماء قليل فجعل ينبع الماء من بين أصابعه حتى توضؤوا من عند آخرهم، وفي قصة المرأة صاحبة معها مزادتان فيها ماء، وكانوا يطلبون الماء في بعض أسفاره ﷺ، فبعث من يطلب الماء فصادفوا امرأة من البادية على بعير لها معها مزادتان فيها ماء، يعني راويتان فيها ماء، فقالوا لها: اذهبي إلى النبي ﷺ، فذهبوا بها إلى النبي ﷺ، فلما وصلت إليه أمر بفتح المزادتين، ثم قال: خذوا فشرب الناس وأخذوا في أسقيتهم وزال ما عندهم من الحاجة، ملؤوا أسقيتهم وتوضؤوا ورجعت المزادتان كما كانتا مملؤتين، قال: انظري يا أمة الله إلى مزادتيك ما نقص منهما شيء المزادتان ما نقصنا منهما شيئا، أخذوا حاجتهم من الماء كلما أخذوا أنزل الله البركة في المزادتين، فصارتا ممتلئتين كأنه ما أخذ منهما شيء، مع أنهم أخذوا الماء الكثير والشيء الكثير، وتوضؤوا وشربوا، فذهبت إلى قومها فقالت: لقد جئتكم من أسحر الناس، أو أنه نبي كما يقول لما رأت من العجائب والغرائب، فأسلم قومها بعد هذا ودخلوا في دين الله، والله المستعان.
المقصود أن الله جعل فيما يتعاطاه من الدعوة والتعليم والدعاء بالبركة، جعل الله في ذلك الخير الكثير والعلامات العظيمة الدالة على أنه رسول الله حقا، والمعجزات الباهرة الدالة على أنه رسول الله حقا، وبه الدلالة على أن من مات على التوحيد والإيمان والتصديق بالرسالة غير مصر على الكبائر فله الجنة والسعادة والكرامة، وفق الله الجميع.
6/417-وَعَنْ عِتْبَانَ بنِ مالكٍ، ، وَهُوَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي لِقَوْمي بَني سالمٍ، وَكَانَ يَحُولُ بَيْني وَبينهُم وادٍ إِذَا جاءَتِ الأَمطارُ، فَيَشُقُّ عَليَّ اجْتِيَازُهُ قِبَلَ مَسْجِدِهِمْ، فَجئْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فقلتُ لَهُ: إِنِّي أَنْكَرْتُ بَصَرِي، وَإِنَّ الوَادِيَ الَّذِي بيْني وَبَيْنَ قَوْمي يسِيلُ إِذَا جَاءَت الأَمْطارُ، فَيَشُقُّ عَليَّ اجْتِيازُهُ، فَوَدِدْتُ أَنَّكَ تَأْتي فَتُصَليِّ في بَيْتي مَكانًا أَتَّخِذُهُ مُصَلًّى، فقال رسُول اللَّهِ ﷺ: سأَفْعَلُ فَغَدا عليَّ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَبُو بَكْرٍ، بَعْدَمَا اشْتَدَّ النَّهَارُ، وَاسْتَأْذَنَ رسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَأَذِنْتُ لهُ، فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى قالَ: أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ؟ فَأَشَرْتُ لهُ إِلى المَكَانِ الَّذِي أُحبُّ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّه ﷺ، فَكَبَّرَ وَصَفَفْنَا وَراءَهُ، فَصَلَّى رَكَعَتَيْن، ثُمَّ سَلَّمَ وَسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ، فَحَبَسْتُهُ علَى خَزيرة تُصْنَعُ لَهُ، فَسَمَعَ أَهْلُ الدَّارِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ في بَيْتي، فَثَابَ رِجَالٌ منهمْ حتَّى كَثُرَ الرِّجَالُ في البَيْتِ، فَقَالَ رَجُلٌ: مَا فَعَلَ مَالِكٌ لا أَرَاهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: ذلِكَ مُنَافِقٌ لاَ يُحِبُّ اللَّه ورَسُولَهُ، فقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لاَ تَقُلْ ذَلِكَ أَلاَ تَراهُ قالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ تَعالى؟. فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، أَمَّا نَحْنُ فَوَاللَّهِ مَا نَرَى وُدَّهُ، وَلاَ حَديثَهُ إِلاَّ إِلى المُنَافِقينَ، فقالَ رسولُ اللَّه ﷺ: فَإِنَّ اللَّه قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهِ اللَّهِ متفقٌ عَلَيهِ.
وَ عِتْبَانِ بكسر العين المهملة، وإِسكان التاءِ المُثَنَّاةِ فَوْقُ وبَعْدهَا باءٌ مُوَحَّدَةٌ. وَ الخَزِيرَةُ بالخاءِ المُعْجمةِ، وَالزَّاي: هِي دقِيقٌ يُطْبَخُ بِشَحْمٍ، وقوله: ثابَ رِجالٌ بالثَّاءِ المِثَلَّثَةِ، أَيْ: جَاءوا وَاجْتَمعُوا.
7/418-وعن عمرَ بنِ الخطاب، ، قَالَ: قَدِمَ رسُولُ اللَّهِ ﷺ بِسَبْي فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْي تَسْعَى، إِذْ وَجَدتْ صَبيًا في السبْي أَخَذَتْهُ فَأَلْزَقَتْهُ بِبَطْنِها، فَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ رسُولُ اللَّه ﷺ: أَتُرَوْنَ هَذِهِ المَرْأَةَ طارِحَةً وَلَدَهَا في النَّارِ؟ قُلْنَا: لاَ وَاللَّهِ. فَقَالَ: للَّهُ أَرْحمُ بِعِبادِهِ مِنْ هَذِهِ بِولَدِهَا متفقٌ عليه.
8/419-وعن أبي هريرة، ، قَالَ: قَالَ رسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الخَلْقَ، كَتَبَ في كِتَابٍ، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ: إِنَّ رَحْمتي تَغْلِبُ غَضَبِي.
وفي روايةٍ: غَلَبَتْ غَضَبِي وفي روايةٍ سَبَقَتْ غَضَبِي متفقٌ عَلَيْهِ.
الشيخ: هذه الأحاديث تدل على سعة جوده جل وعلا ورحمته ، وأن الواجب على أهل الإيمان حسن الظن بالله، فإنه الرحمن الرحيم الجواد الكريم، لكن مع فعل ما شرع الله ومع الحذر مما حرم الله فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ [الكهف:110] لا بد من عمل فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:57] لا بد من هذا وهذا، حسن الظن بالله والإيمان بأنه سبحانه واسع الرحمة، وأنه الجواد الكريم، وأن من قال لا إله إلا الله صدقا من قلبه يبتغي وجه الله حرمه الله على النار، والصادق في قول لا إله إلا الله هو الذي يؤدي الواجبات وينتهي عن المحرمات، هذا الصادق، فإذا قصر في هذا وأتى بعض المحارم أو ترك بعض الواجبات صار ضعفا في قوله لا إله إلا الله، وضعفا في صدقه، وضعفا في ابتغائه وجه الله، ولهذا قال جل وعلا: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء:31] فالإقدام على الكبائر نقص في التوحيد، ونقص في الإيمان، ونقص في الصدق.
وقال عليه الصلاة والسلام: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، كفارات لما بينهن مالم تغش الكبائر فدل ذلك على أن المصلي الصائم وغيرهم قد يعذب لأنه لم يجتنب الكبائر، بل قصر في هذا، أما إذا صدق في الرجاء وصدق في الصلاة، وصدق في الصيام، وصدق في قوله لا إله إلا الله فإنه يجتنب المحارم ويبتعد عنها، ولهذا قال ﷺ: إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله فإذا كان يبتغي وجه الله فهو صادق، يقولها ابتغاء وجه الله صدقا من قلبه، وهذه الكلمة توجب له أداء الواجبات وترك المحارم، وإلا صار عرضة للوعيد، وفي هذا أن من أظهر التوحيد وأظهر الإيمان فإنه يحسن به الظن ولا يرمى بالنفاق إلا إذا ظهر منه النفاق، ولهذا أنكر النبي ﷺ على القائل إنه منافق ويحب المنافقين، وبين أن من أظهر التوحيد والإسلام فالواجب حسن الظن به حتى يتبين منه خلاف ذلك، والمنافقون يتظاهرون بالإسلام وهم مع الكفرة، قلوبهم مع الكفرة يعادون الإسلام وينكرونه، فلهذا قال الله في حقهم إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145] لأنهم قالوا بالأفواه ما ليس بالقلوب، وأظهروا من العمل ما لم يكونوا صادقين فيه، فلهذا صاروا في الدرك الأسفل من النار نعوذ بالله.
فدل ذلك على أن إظهار القول من غير صدق لا يكفي ولا ينفع، لا بد من صدق يقتضي أداء الفرائض وترك المحارم، هكذا الصادقون يقول ويعمل، وفي هذا دلالة على أنه ﷺ إذا قصد مكانا ليصلى فيه صار مكانا له حرمته وله فضله إذا قصد ذلك عليه الصلاة والسلام كما أتى عتبان وصلى في مكان في بيته، وهكذا مقام إبراهيم لما شرع الله الصلاة فيه وهو مقام إبراهيم شرع الله الصلاة فيه وجعله منسكا.
كذلك حديث المرأة التي رآها النبي ﷺ تتبع السبي تلتمس ولدا لها، فلما وجدت ولدها ألصقته في صدرها، فقال النبي ﷺ: أترون هذه يعني أتظنون هذه، ويجوز الفتح أترون يعني أتعلمون طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا، قال: فالله أرحم بعباده من هذه بولدها هو أرحم بهم سبحانه إذا أدوا حقه، أما إذا خالفوا أمره واجتنبوا طاعته وولوا الشيطان ما صاروا عبادا له، ما صاروا محلا للرحمة، فهو سبحانه أرحم بعباده من هذه بولدها، يعني عباده الذين اتقوه وأطاعوه، قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ [الأعراف:156] الآية، فالصادق المتقي الله جل وعلا يرحمه برحمته الواسعة ويدخله الجنة، ورحمته وسعت كل شيء، شملت النمل وسائر الحيوانات والطيور، كما شملت بني آدم وبني الجان، رحمته واسع من الذي رزق هذه الحيوانات صغيرها وكبيرها، من الذي رزقها إلا هو ، هو الرزاق ذو القوة المتين، وهذا من رحمته جل وعلا رزق الدويبة الصغيرة في جحرها، ورزق الكبار والصغار، وأنبت النبات وأنزل الأمطار وأجرى العيون والأنهار رحمة بعباده، خلقهم ورزقهم، ولكن عليهم أن يطيعوا أمره، وأن يشكروه، وإلا صاروا عرضة لعذابه وغضبه لأنهم لم يشكروا النعم لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7]، إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:7] فهو يرضى الشكر ولا يرضى الكفر، فالواجب على العباد أن يشكروه وأن يحذروا غضبه حتى يستحقوا رحمته وإحسانه.
كذلك يقول ﷺ: إن الله لما خلق الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش قال فيه: إن رحمتي تغلب غضبي، وفي اللفظ الآخر: إن رحمتي غلبت غضبي، وفي اللفظ الثالث: إن رحمتي سبقت غضبي، فهو سبحانه أسرع بالخير إلى عباده من الانتقام، يعفو ويصفح كثيرا، وجوده أوسع وأغلب، رحمته أوسع وأغلب، ولهذا سبقت غضبه، ولكن العبد إذا أقدم على معاصيه ومخالفة أمره وركوب نهيه فهو الذي أحل بنفسه غضب الله، ولكن ينبغي ويجب على العبد أن يتقي ربه، وأن يحذر معصيته حتى تحصل له الرحمة؛ لأن الله يقول: فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأعراف:156] يعني أجعلها للمتقين، أما الكافرون والمعرضون فلهم النار وليس لهم رحمة، إنما تكون الرحمة التي بها النجاة، وبها الراحة والطمأنينة، وبها السعادة لأهل التقوى، والإيمان لأهل التوحيد والإيمان، أما من كفر بالله وعصى أمره فليس له إلا غضب الله وعذابه، نسأل الله العافية، وفق الله الجميع.
9/420-وعن أبي هريرة قَالَ: سمِعْتُ رسُولَ اللَّهِ ﷺ يقول: جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وتِسْعِينَ، وَأَنْزَلَ في الأَرْضِ جُزْءَا واحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الجُزْءِ يَتَراحمُ الخَلائِقُ حَتَّى تَرْفَعَ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عَنْ ولَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ.
وفي روايةٍ: إِنَّ للَّهِ تَعَالى مائَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الجِنِّ والإِنْسِ وَالبَهَائمِ وَالهَوامِّ، فَبهَا يَتَعاطَفُونَ، وبِهَا يَتَراحَمُونَ، وَبها تَعْطِفُ الوَحْشُ عَلى وَلَدهَا، وَأَخَّرَ اللَّهُ تَعالى تِسْعًا وتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادهُ يَوْمَ القِيَامَةِ متفقٌ عَلَيهِ.
ورواهُ مسلم أَيضًا مِنْ روايةِ سَلْمَانَ الفَارِسيِّ، ، قَالَ: قَالَ رسُولُ اللَّه ﷺ: إِنَّ للَّهِ تَعَالَى ماِئَةَ رَحْمَةٍ فَمِنْها رَحْمَةٌ يَتَراحَمُ بِهَا الخَلْقُ بَيْنَهُمْ، وَتِسْع وَتِسْعُونَ لِيَوْم القِيامَةِ.
وفي رواية إِنَّ اللَّه تعالى خَلَقَ يَومَ خَلَقَ السَّمَواتِ والأَرْضَ مِائَةَ رَحْمَةٍ كُلُّ رَحْمَةٍ طِبَاقُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلى الأَرْضِ، فَجَعَلَ مِنها في الأَرْضِ رَحْمَةً فَبِها تَعْطِفُ الوَالِدَةُ عَلَى وَلَدِهَا وَالْوحْشُ وَالطَّيْرُ بَعْضُها عَلَى بَعْضٍ فَإِذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ، أَكْمَلَها بهِذِهِ الرَّحْمَةِ.
10/421- وعنه عن النَّبِيِّ ﷺ. فِيمَا يَحكِى عَن ربِّهِ، تَبَارَكَ وَتَعَالى، قَالَ: أَذنَب عبْدٌ ذَنبًا، فقالَ: اللَّهُمَّ اغفِرْ لِي ذَنبي، فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعالى: أَذَنَبَ عبدِي ذَنبًا، فَعلِم أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيأْخُذُ بِالذَّنبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذَنَبَ، فَقَالَ: أَيْ ربِّ اغفِرْ لِي ذَنْبي، فَقَالَ تبارك وتعالى: أَذنبَ عبدِي ذَنبًا، فَعَلَمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغفِرُ الذَّنبَ، وَيَأخُذُ بِالذنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذنَبَ، فَقَالَ: أَي رَبِّ اغفِرْ لِي ذَنبي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالى: أَذنَبَ عَبدِي ذَنبًا، فعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنبَ، وَيأْخُذُ بِالذَّنبِ، قدَ غَفَرْتُ لِعبدي.. فَلْيَفعَلْ مَا شَاءَ متفقٌ عَلَيهِ.
وقوله تَعَالَى: فَلْيَفْعلْ مَا شَاءَ أَي: مَا دَامَ يَفْعَلُ هَكَذا، يُذْنِبُ وَيتُوبُ أَغْفِرُ لَهُ، فإِنَّ التَّوبَةَ تَهِدِمُ مَا قَبْلَهَا.
11/422-وعنه قَالَ: قالَ رسول اللَّه ﷺ: وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذنِبُوا، لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلجَاءَ بِقوم يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّه تَعَالَى، فيَغْفرُ لَهُمْ رواه مسلم.
الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كلها تتعلق بسعة رحمة الله جل وعلا، هو القائل سبحانه: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156] وهو المسمي نفسه الرحمن الرحيم جل وعلا، فرحمته وسعت كل شيء، الجن والإنس والدواب جميعها، فهو سبحانه الرحمن الرحيم، ولكنه جل وعلا أوجب على عباده حقوقا، وحرم عليهم أشياء، فمن أدى حقه وترك معصيته استحق رحمته وفاز بجنته ورضاه جل وعلا، ومن تعدى الحدود ووقع في المعاصي تعرض لغضب الله وتعرض للعقوبة، ولكنه سبحانه لم يؤيسه من رحمته، بل متى تاب ورجع إليه تاب الله عليه ، وقد خلق مائة رحم بها يتراحم الخلائق، أنزل منها رحمة واحدة يتراحم بها الخلائق، وأمسك عنده تسعا وتسعين نوعا من الرحمة يرحم بها عباده يوم القيامة، فرحمته تتضاعف يوم القيامة رحمة لعباده الذين ماتوا على توحيده والإخلاص له، فالواجب على المؤمن ألا ييأس وألا يقنط، بل عليه أن يبادر بالتوبة من ذنوبه، والله يتوب على التائبين جل وعلا كما قال تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وقال سبحانه: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [طه:82]، وفي الحديث أنه ﷺ ذكر عن ربه جل وعلا أنه قال: أذنب عبدي ذنبا ثم تاب وعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، ثم أذنب وتاب فقال: ربي اغفر لي، علم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، ثم أذنب الثالثة ... علم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، فقال له جل وعلا: قد غفرت لك، وقال: فليفعل ما شاء يعني مادام توابا إذا زلت قدمه بادر بالتوبة كما قال جل وعلا: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82].
فالعبد مازال إذا أذنب تاب وجع، وعرف أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، فإنه على رجاء الرحمة، المصيبة أن يصر، قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:135-136] فالعبد إذا بادر بالتوبة وترك الإصرار وصدق في التوبة تاب الله عليه، أما من أصر وبقي على المعصية فهو متوعد بالعقوبة والخطر، لا حول ولا قوة إلا بالله.
فينبغي للمؤمن أن يحذر الذنوب غاية الحذر ويبتعد عنها، فإذا بلي بها فليبادر بالتوبة وليبادر بالندم والإقلاع، والله يتوب على التائبين كما قال جل وعلا: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82]، والعبد متى أصر على الذنوب صار على خطر، قد يطبع على قلبه كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] قد يطبع على قلبه إذا نكت في قلبه نكتة سوداء بالذنب، ثم نكتت أخرى قد يطبع على قلبه، فليحذر وليبادر بالتوبة وليقلع من الذنوب قبل أن يطبع على قلبه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
كذلك يقول ﷺ: لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم لأنه سبحانه غفور رحيم تواب حكيم، فلا بد من أن توجد آثار هذه الأسماء، فلهذا أوجد من خلقه قسمين: قسما يستحق الرحمة، وقسما يستحق العقوبة؛ لأنه الرحمن الرحيم، ولأنه شديد العقاب، فلو لم يذنبوا لذهب الله بهم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم حتى تظهر آثار أسمائه وصفاته، كتب على عباده أنه لا بد أن يقع الذنب، أعطاهم عقولا وأعطاهم شهوات، فمن تاب إليه وغلبت توبته واستقام على الأمر ربح السعادة وفاز بالنعيم، ومن غلبت عليه ذنوبه وسيئاته باء بالخيبة والخسارة إلا من تاب وآمن كما قال جل وعلا: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:68-70] والعبد يحذر، قد لا يوفق للتوبة، قد يكون إصراره على الذنوب واستهتاره بها من أعظم أسباب حرمانه التوفيق للتوبة، ومن أسباب خذلانه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، نسأل الله للجميع العافية والسلامة.
12/423-وعن أَبي أَيُّوبَ خَالِدِ بنِ زيد، قَالَ: سمعتُ رَسُولَ اللَّه ﷺ يقول: لَوْلا أَنَّكُمْ تُذنبُونَ، لخَلَقَ اللَّهُ خَلقًا يُذنِبونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ، فَيَغْفِرُ لَهُمْ رواه مسلم.
13/424-وعن أبي هُريرةَ، ، قَالَ: كُنَّا قُعودًا مَع رَسُول اللَّه ﷺ، مَعَنا أَبُو بكْر وَعُمَرُ، رضي اللَّه عنهما في نَفَرٍ، فَقَامَ رَسُول اللَّه ﷺ مِنْ بَيْن أَظْهُرنَا، فَأَبْطَأَ عَلَيْنَا، فَخَشَينا أَنْ يُقْتَطَعَ دُونَنَا، فَفَزَعْنا، فَقُمْنَا، فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَزعَ، فَخَرجتُ أَبْتَغِي رسولَ اللَّه ﷺ، حَتَّى أَتَيتُ حَائِطًا لِلأَنْصَارِ وَذَكَرَ الحَدِيثَ بطُوله إِلى قوله: فَقَالَ رَسُول اللَّه ﷺ: اذْهَبْ فَمَنْ لَقِيتَ وَرَاءَ هَذَا الحَائِطِ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَه إلاَّ اللَّه، مُسْتَيقِنًا بهَا قَلَبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالجَنَّةِ رواه مسلم.
14/425-وعن عبداللَّه بن عَمْرو بن العاص، رضي اللَّه عنهما، أَن النَّبِيَّ ﷺ تَلا قَوَل اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ في إِبراهِيمَ ﷺ: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْللْنَ كَثيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَني فَإِنَّهُ مِنِّي [إبراهيم:36]، وَقَوْلَ عِيسَى ﷺ: إِنْ تُعَذِّبْهُم فَإِنَّهُم عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُم فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ [المائدة:118]، فَرَفَعَ يَدَيْه وَقالَ: اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي وَبَكَى، فَقَالَ اللَّه : يَا جبريلُ اذْهَبْ إِلى مُحَمَّدٍ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فسلْهُ مَا يُبكِيهِ؟ فَأَتَاهُ جبرِيلُ فَأَخبَرَهُ رسولُ اللَّه ﷺ بِمَا قَالَ: وَهُو أَعْلَمُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا جِبريلُ اذهَبْ إِلى مُحَمَّدٍ فَقُلْ: إِنَّا سَنُرضِيكَ في أُمَّتِكَ وَلا نَسُوؤُكَ رواه مسلم.
الشيخ: هذه الأحاديث كالتي قبلها في بيان الرجاء، وأنه ينبغي للمؤمن أن يكون حسن الظن بربه، وأن يرجو رحمته، فهو سبحانه الجواد الكريم، وعد أولياءه وعباده المؤمنين الموحدين أن يغفر لهم ويرحمهم، وقال: لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم، وأمر أبا هريرة أن يبشر الناس أن من لقي الله بالتوحيد صادقا من قلبه فيبشره بالجنة، وأخبر النبي ﷺ أن الله جل وعلا قال: إنا لن نسوؤه في أمته، سنرضيه في أمته، فهذا كله يدل على أنه ينبغي للمؤمن أن يكون حسن الظن بالله، وهذه من الأحاديث المطلقة التي جاء تقييدها في النصوص الأخرى، وأن هذا الفضل وهذا الرجاء مقيدا باجتناب الذنوب والحذر من الكبائر، فمن أماته الله على التوحيد والإيمان صدقا من قلبه تائبا نادما مقلعا فالله يدخله الجنة وينجيه من النار ويمحو سيئاته، وهكذا من جاء بالتوحيد صادقا متضمنا توبته وندمه من السيئات إقلاعه منها أدخله الله به الجنة، أما من جاء بالتوحيد الناقص المشوب بالمعاصي فهذا هو الذي تحت المشيئة لقوله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] ما دون الشرك من المعاصي، فمن أتى بالتوحيد الخالص النقي السليم من الإصرار على المعاصي فهذا له الجنة من أول وهلة، أما من أتى بالتوحيد المشوب الملطخ بالذنوب والمعاصي فهو تحت مشيئة الله، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه على قدر المعاصي التي يموت عليها، ثم يخرجه الله من النار إلى الجنة.
وجاءت الأحاديث متواترة عن النبي ﷺ أن كثيرا من أمته يدخلون النار بمعاصيهم، ويشفع فيهم عدة شفاعات، يشفع الشفاعة الأولى يحد الله له حدا فيخرجهم من النار، ثم يشفع فيحد الله له حدا فيخرجهم من النار، ثم يشفع فيحد الله له حدا فيخرجهم من النار، ثم يشفع فيحد الله له حدا فيخرجهم من النار، ويبقى في النار فضل لم تشملهم الشفاعة فيخرجهم الله برحمته بعدما امتحشوا في النار بذنوبهم وسيئاتهم، وهؤلاء الذين يخرجون من النار يلقون في نهر الحياة، نهر يقال له نهر الحياة فينبتون فيه كما تنبت الحبة في حميل السيل، فإذا تتام خلقهم أدخلهم الله الجنة ، فينبغي لك يا عبد الله أن تحذر السيئات، وأن تكون نقي التوحيد، نقي الإيمان، سليما من الإصرار على الذنوب لأن الذنوب تقع ما هو الإنسان معصوم، لكن يجب على الإنسان متى أذنب أن يبادر بالتوبة، لا ييأس، فربنا وعد بالمغفرة وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:135-136] فاشترط في هذا الجزاء أنهم لا يصرون على المعاصي، وقال جل وعلا: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82] ذكر التوبة والعمل الصالح، وقال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، ثم قال: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ [الزمر:54] فالواجب مع التوبة الإنابة، إذا تاب إلى الله وأناب إليه فهو سعيد، فعليه أن يحاسب نفسه ويجاهدها لله، ويتوب من سيئاته، وينيب إلى الله بالعمل الصالح، وله البشرى بالجنة والكرامة، أما من أصر على السيئات ولم يبادر بالتوبة فهذا قد عرض نفسه للوعيد والخطر الذي بينه الله في كتابه، وبينه رسوله عليه الصلاة والسلام، نسأل الله للجميع الهداية والتوفيق.
15/426-وعن مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ، ، قَالَ: كُنتُ رِدْفَ النبيِّ ﷺ عَلَى حِمارٍ فَقَالَ: يَا مُعَاذُ هَل تَدري مَا حَقُّ اللَّه عَلى عِبَادِهِ، ومَا حَقُّ الْعِبادِ عَلى اللَّه؟ قُلْتُ: اللَهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى العِبَادِ أَن يَعْبُدُوه، وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحقَّ العِبادِ عَلى اللَّهِ أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لا يُشِركُ بِهِ شَيْئًا، فقلتُ: يَا رسولُ اللَّهِ أَفَلا أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: لاَ تُبَشِّرْهُم فَيَتَّكِلُوا متفقٌ عَلَيهِ.
16/427-وعن البَرَاءِ بنِ عازبٍ، رضيَ اللَّه عنهما، عن النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: المُسْلِمُ إِذَا سُئِلَ في القَبرِ يَشهَدُ أَن لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّه، وأَنَّ مُحَمَّدًا رسولُ اللَّه، فذلك قولهُ تَعَالَى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَوْل الثَّابِتِ فِي الحَياةِ الدُّنيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27] متفقٌ عَلَيهِ.
17/428-وعن أَنسٍ، ، عن رَسُول اللَّه ﷺ قَالَ: إِنَّ الكَافِرَ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً، أُطعِمَ بِهَا طُعمَةً مِنَ الدُّنيَا، وَأَمَّا المُؤمِن، فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى يَدَّخِرُ لَهُ حَسَنَاتِهِ في الآخِرَةِ، وَيُعْقِبُهُ رِزْقًا في الدُّنْيَا عَلى طَاعَتِهِ.
وفي روايةٍ: إِنَّ اللَّه لاَ يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا في الدُّنْيَا، وَيُجْزَى بِهَا في الآخِرَة، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ للَّهِ تَعَالَى في الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلى الآخِرَة لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا رواه مسلم.
الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كالتي قبلها في بيان فضل التوحيد والإيمان وأن المؤمن ... بالجنة والسعادة، وأنه يثبت في قبره، فإذا سئل عن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله أجاب، قيل: من ربك؟ قال: ربي الله، قيل: ما دينك؟ قال: الإسلام، قيل: من نبيك؟ قال: محمد ﷺ، وإذا سئل شهد أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فيثبته الله كما قال جل وعلا: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [إبراهيم:27].
وحديث معاذ يبين لنا أن حق الله على عباده هو توحيده والإخلاص له، هذا هو حق الله على عباده أن يعبدوه وحده بطاعة أوامره وترك نواهيه وتخصيصه بالعبادة، هذا حق الله على عباده، أما حقهم عليه إذا أدوا حقه فإن الله لا يعذبهم، بل يدخلهم الجنة وينجيهم من النار، قال معاذ: أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا، كان أمره النبي ﷺ بألا يبشرهم حتى لا يتكلوا، ثم بين هذا عليه الصلاة والسلام وأمر الصحابة بالتبليغ، فبلغوا عنه ذلك، وأن من مات على التوحيد والإيمان فله الجنة والسعادة، وإن كانت له ذنوب وسيئات فهو تحت المشيئة، لكن من مات على التوحيد والإيمان فمنتهاه الجنة وإن جرى عليه محن وعذاب قبل ذلك، إذا مات على شيء من الذنوب والكبائر لكن مصيره منتهاه الجنة وإن جرى عليه ما جرى من تعذيب في قبره أو في البرزخ فله في الآخرة المصير والنهاية إلى الجنة إذا مات على التوحيد والإيمان، أما إن مات سالما ليس معه سيئات أصر عليها مات على توبة صادقة وإيمان كامل فإنه له الجنة من أول وهلة، أما من كان عنده ذنوب ومعاصٍ مات عليها لم يتب فله كما قال جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] فالعصاة تحت المشيئة، وكثير منهم يعذبون في النار على معاصيهم، ثم بعد التطهير يخرجون من النار، وبعضهم يشفع فيه الشفعاء، وبعضهم يخرجه الله من دون شفاعة أحد ، ولا يبقى في النار ولا يخلد فيها إلا الكفار الذين ختم الله عليهم ببقائهم فيها كما قال : يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:37]، وقال تعالى: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167]، وقال تعالى: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا [النبأ:30]، وقال سبحانه: كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء:97].
فالواجب على المؤمن أن يحذر، وأن يتقي الله جل وعلا، وأن يستقيم على أمر الله ويحافظ على ما أوجب عليه ويحذر ما حرم الله عليه حتى يفوز بالجنة من أول وهلة، وحتى يبتعد عن الخطر وتبشير الناس بالتوحيد والإيمان وما لأهله أمر استقرت عليه الشريعة، وكان النبي ﷺ يبشر أصحابه في آخر الزمان بعد ذلك، ويأمرهم بالتبشير حتى يعلم المؤمن أن الموحد على خير عظيم وإن كان على خطر من جهة سيئاته لكنه لا يخلد في النار، فعلى كل مكلف أن يحذر معاصي الله، وأن يحذر الشرك أكثر وأكثر لأنه أعظم الذنوب، ولأن أهله مخلدون في النار، وما دون الشرك تحت مشيئة الرب .
وفي الحديث الثالث: يقول ﷺ: إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة في الدنيا وصل رحمه، أو تصدق، أو فرج كربة مكروب، أو ما أشبه ذلك يجزى في الدنيا، هذا الكافر يجزى بحسناته في الدنيا، فإذا أفضى إلى الآخرة ليس عنده شيء وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، لكن أعمالهم التي فيها خير يجزون بها في الدنيا كصلة الرحم والصدقات وغير هذا من وجوه الخير يجزون به، ولا يضيع لهم شيء عند الله، أما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا والآخرة جميعا، يثاب على حسناته في الآخرة، ويعطى عليها أيضا في الدنيا ما قسم الله له من الخير، وهذا من فضله جل وعلا أن المؤمن يجازى جزاءين: أحدهما: في الدنيا مما يعطيه الله من الخير والنعم والتوفيق، وفي الآخرة: بدخول الجنة والنجاة من النار، وهذا من لطفه وفضله وإحسانه على أوليائه وأهل طاعته، يجزيهم في الدنيا وفي الآخرة فضلا منه جل وعلا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا [المزمل:20]، قال تعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [الحديد:7]، وقال تعالى: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]، يخلفه مع الأجر العظيم.
فجدير بأهل الإيمان أن يسارعوا إلى الخيرات، وأن يسابقوا إلى الطاعات، وأن ينافسوا في كل خير رجاء فضل الله، مع العلم بأن الله سوف يجازيهم في الدنيا مع ذلك، ويؤجرهم في الدنيا مع ذلك، ويخلف عليهم ما أنفقوا مع ذلك فضلا منه فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن:16]، وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا [المزمل:20]، وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]، وفي الحديث الصحيح يقول النبي ﷺ: ما من يوم يصبح فيه الناس إلا وينزل فيه ملكان، أحدهما يقول: اللهم أعط منفقا خلفا، والثاني يقول: اللهم أعط ممسكا تلفا ففيه الحث على النفقة والإحسان والصدقة على الفقير والمسكين وصلة الرحم والإنفاق في وجوه الخير، وفق الله الجميع.
18/429-وعن جابرٍ، قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّهِ ﷺ: مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ كَمَثَلِ نَهَرٍ جَارٍ غَمْرٍ عَلَى بَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ رواه مسلم.
الْغَمْرُ الْكَثِيرُ.
19/430-وعن ابنِ عباسٍ، رضي اللَّه عنهما، قَالَ: سمعتُ رسولَ اللَّه ﷺ يقول: مَا مِنْ رَجُلٍ مُسلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جَنازتِه أَرَبَعُونَ رَجُلًا لاَ يُشرِكُونَ بِاللَّهِ شَيئًا إِلاَّ شَفَّعَهُمُ اللَّهُ فِيهِ رواه مسلم.
20/431-وعن ابنِ مسعودٍ، ، قال: كُنَّا مَعَ رسولِ اللَّهِ ﷺ في قُبَّةٍ نَحوًا مِنْ أَرَبعِينَ، فَقَالَ: أَتَرضَونَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الجَنَّةِ؟ قُلْنَا: نَعَم، قَالَ: أَتَرضَونَ أَن تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الجَنَّةِ؟ قُلْنَا: نَعَم، قَالَ: وَالَّذِي نَفسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنِّي لأَرجُو أَنْ تَكُونُوا نِصفَ أَهْلِ الجَنَّة، وَذَلِك أَنَّ الجَنَّةَ لاَ يَدخُلُهَا إِلاَّ نَفسٌ مُسلِمَةٌ، وَمَا أَنتُمْ في أَهْلِ الشِّركِ إِلاَّ كَالشَّعرَةِ البَيَضَاءِ في جلدِ الثَّورِ الأَسودِ، أَوْ كَالشَّعَرَةِ السَّودَاءِ في جلدِ الثَّورِ الأَحْمَرِ متفقٌ عَلَيهِ.
الشيخ: هذه الأحاديث أيضا فيها التبشير بالخير والحث على الرجاء وإحسان الظن بالله ، يقول النبي ﷺ: مثل الصلوات الخمس كمثل نهر غمر على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، فهل ترون يبقى من درنه شيء يعني من وسخه شيء يعني فهكذا الصلوات يمحو الله بها السيئات والخطايا كل يوم خمس مرات يصلي الإنسان يطلب ما عند الله، فهذا يدل على أنه ينبغي للمؤمن أن يعتني بالصلاة، وأن يكملها، وأن يخشع فيها، وأن يحذر السيئات، فإن الله يمحو بهذه الصلوات السيئات كما يمحو الوسخ والدرن بالماء الذي يتكرر من المؤمن كل مرة يغسل خمس مرات أو أكثر، فهي يمحو الله بها الخطايا، ولكن هذا عند عدم الإصرار على الكبائر، أما إذا أصر على الكبائر فإنها لا تكون مكفرة كما في الحديث الآخر يقول ﷺ: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن إذا اجتنب الكبائر فيمحو الله بها الصغائر عند اجتناب الكبائر، فيجب على المؤمن أن يحذر السيئات كلها، وأن يبتعد عنها حتى تكون هذه الصلوات درجات وحسنات عظيمة يرفعه الله بها درجات، ويمحو بها ما قد يقع من السيئات الصغائر.
ويقول ﷺ: ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه فهذا فيه أن صلاة الجنازة فيها خير عظيم، وكلما كثر العدد صار خيرا للميت، فإذا بلغوا أربعين موحدون مؤمنون يدعون له شفعهم الله فيه، في حديث عائشة: ما من ميت يقوم على جنازته أمة من الناس يبلغون مائة إلا شفعهم الله، ثم إن الله يسر وجعل العدد أقل أربعون، فهذا من فضله جل وعلا أن المسلم إذا قام على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا يشفعون فيه إلا شفعهم الله فيه.
وفي الحديث الآخر: حديث ابن مسعود الدلالة على أن اهل الإيمان هم الأقلون، وأن المشركين هم الأكثرون كما قال تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، وقال تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116]، وفي الحديث الصحيح أن الله يأمر يوم القيامة آدم يقول له: أخرج بعث النار، فيقول: يا رب وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون كلهم بعث النار وواحد في الجنة، هذا يدل على قلة المستجيبين للأنبياء، وقلة أهل الإيمان، قال تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ:20]، وقال تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13] ينبغي لك يا عبد الله أن تحرص على العمل الصالح، وأن تحذر السيئات، ولا تغتر بالأكثر، فإن الأكثر هم الأضل، والأقلون هم المؤمنون، ولما قال لأصحابه: إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة كما في الرواية الأخرى كبرنا، قال: إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة قال: فكبرنا، قال: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة قال: فكبرنا، وقال: ما أنتم في غيركم إلا كالشعرة السوداء في جلد الثور الأبيض، أو كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود يعني المؤمنون قليلون بالنسبة إلى أعداء الله، وانظر الآن اليهود والنصارى والبعثيون وغيرهم من الكفرة لا يحصيهم إلا الله، كلهم على الضلالة، والمسلمون الصادقون هم الأقلون، وهذا شاهد لما قاله ﷺ في قلة من استجاب للأنبياء، أكثر الخلق يتبعون أهواءهم ويتبعون ما عليه آباؤهم وأسلافهم ولا يبالون بالحق، بالدليل، فعليك يا عبد الله أن تحرص على لزوم الحق وإن قل أهله، وإن تحذر الباطل وإن كثر أهله، فالقليلون هم أهل الإيمان وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13]، وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ:20]، وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116]، وفي الحديث الصحيح يقول ﷺ: رأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد ما آمن معه من قومه أحد، وبعض الأنبياء لم يؤمن من قومه إلا واحد أو اثنان، وبعضهم الرهيط ثلاثة وأربعة وخمسة، وبعضهم قتله قومه، بعض الأنبياء قتله قومه كما قال الله عن بني إسرائيل: وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران:112] فهذا كله يدعو المؤمن والمؤمنة إلى الجد في طاعة الله، والحذر من تقليد الأكثرين، وألا ينخدع بزيد وعمرو، وأن يكون هدفه طاعة الله ورسوله، هذا هو الواجب على كل مؤمن ومؤمنة الاستقامة على أمر الله والتفقه في دين الله، والحذر من معاصي الله، والحذر أن يغتر بالأكثرين، الحق أهله قليل ليس هم الأكثرين، نسأل الله للجميع التوفيق والهداية.
س: إذا كان أقل من أربعين يشفعون في الميت؟
ج: يعني جنس الصحابة، المقصود جنس الصحابة.
21/432-وعن أَبي موسى الأَشعري، ، قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ دَفَعَ اللَّهُ إِلى كُلِّ مُسْلِمٍ يَهُوديًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَيَقُولُ: هَذَا فِكَاكُكَ مِنَ النَّارِ.
وفي رواية عنهُ عن النبيِّ ﷺ قَالَ: يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيامَةِ نَاسٌ مِنَ المُسْلِمِين بِذُنُوبٍ أَمْثَالِ الجبَالِ يَغفِرُهَا اللَّهُ لهمُ رواه مسلم.
قوله: دَفَعَ إِلى كُلِّ مُسْلِمٍ يهودِيًّا أَوْ نَصرانِيًا فَيَقُولُ: هَذا فكَاكُكَ مِنَ النَّارِ معْنَاهُ مَا جَاءَ في حديث أَبي هريرة، : لِكُلِّ أَحَدٍ مَنزِلٌ في الجَنَّةِ، ومَنزِلٌ في النَّارِ، فالمُؤْمِن إِذَا دَخَلَ الجنَّةَ خَلَفَهُ الكَافِرُ في النَّارِ، لأَنَّهُ مُسْتَحِق لذلكَ بكُفْرِه وَمَعنى فكَاكُكَ: أَنَّكَ كُنْتَ مُعَرَّضًا لِدُخُولِ النَّارِ، وَهَذا فِكَاكُكَ، لأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدَّرَ لِلنَّارِ عدَدًا يَمْلَؤُهَا، فإِذا دَخَلَهَا الكُفَّارُ بِذُنُوبِهمْ وَكُفْرِهِمْ، صَارُوا في مَعنى الفِكَاك لِلمُسلِمِينَ. واللَّه أَعلم.
22/433-وعن ابن عمَر رضي اللَّه عنهما قالَ: سمِعتُ رسولَ اللَّه ﷺ يقول: يُدْنَى المُؤْمِنُ يَومَ القِيَامَةِ مِنُ رَبِّهِ حتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيهِ، فَيُقَرِّرَهُ بِذُنُوبِه، فيقولُ: أَتَعرفُ ذنبَ كَذا؟ أَتَعرفُ ذَنبَ كَذَا؟ فيقول: رَبِّ أَعْرِفُ، قَالَ: فَإِنِّي قَد سَتَرتُهَا عَلَيكَ في الدُّنيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ اليَومَ، فَيُعطَى صَحِيفَةَ حسَنَاته متفقٌ عَلَيهِ.
كَنَفُهُ: سَتْرُهُ وَرَحْمَتُهُ.
23/434-وعن ابنِ مسعودٍ أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنَ امْرَأَةٍ قُبْلَة، فَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ فأَخبره، فأَنزل اللَّهُ تَعَالَى: وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ الَّليْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] فَقَالَ الرجل: أَلي هَذَا يَا رسولَ اللَّه؟ قَالَ: لجَميعِ أُمَّتي كُلهِمْ متفقٌ عَلَيهِ.
الشيخ: هذه الأحاديث كلها تتعلق بالرجاء، وأن المؤمن ينبغي له أن يحسن ظنه بربه، وألا يقنط من رحمته، قال جل وعلا: لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53]، وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [يوسف:87] يأتي يوم القيامة أقوام لهم ذنوب كثيرة فيغفرها الله لهم بتوبتهم وبأعمالهم الصالحة التي قدموها كما قال تعالى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] ما تحت الشرك تحت مشيئته ، فقد يغفرها لهم بالتوبة كما وعدهم، وقد يغفرها لهم بأشياء أخرى من أعمالهم الصالحة الكثيرة، أو بشفاعة الشفعاء كنبينا محمد ﷺ والأفراط وغيرهم، فلا ينبغي للمؤمن أن يقنط، ولكن ليس معنى هذا أنه يستريح للمعاصي ويقيم عليها ويصر عليها، لا بل يحذر، ومع الحذر يحسن ظنه بربه ويرجوه أن يغفر له ما سلف منه، وما فرط منه من الذنوب رجاء ثوابه وحذر عقابه ، والله يقول جل وعلا: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135] فالمؤمن لا يصر، بل يحذر ويتوب إلى الله ويقلع ويندم، ويسأل ربه التوبة، وهو الغفور الرحيم، يتوب ويعمل الحسنات ويحسن ظنه بربه جل وعلا.
هكذا الحديث الثاني: أن الله يدني عبده المؤمن يوم القيامة ويقرره بذنوبه ويقول: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فهذا أيضا من حسن الظن، وأن الإنسان قد تكون له ذنوب فيسترها الله عليه في الدنيا، ويغفرها له في الآخرة بأعماله الصالحة، أو بتوبته، أو بشفاعة الشفعاء، فلا ينبغي أن تقنط ولا تيأس لذنبك، بل متى وقع الذنب فبادر بالتوبة والإقلاع والندم، وأبشر بالخير، والمؤمن لا يقنط ولا ييأس، بل مع سوء عمله يبادر بالتوبة، يسأل ربه العفو، يحسن ظنه بربه ولا يصر على السيئة، لا يصر عليها بل يحذرها غاية الحذر، ويجتهد في التوبة منها والإقلاع منها لعله ينجو، وهكذا كونه يعطى فكاكه من اليهود والنصارى، المؤمن يدخله الله الجنة ويجعل مكانه في النار من شاء الله من أهل الكفر؛ لأن الكفار لهم مقاعد في الجنة ومقاعد في النار، والمسلم له مقعد في الجنة ومقعد في النار، فإذا أماته الله على الإسلام صارت مقاعد المسلمين التي في النار لأهل النار، نسأل الله العافية.
كذلك حديث الرجل الذي أصاب من امرأة قبلة فجاء تائبا نادما فأنزل الله فيه أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78] وقال: يا رسول الله هذا لي خاصة؟ قال: بل لأمتي عامة فالمقصود أن العبد متى فرطت منه سيئة فليبادر بالتوبة والإقلاع، وليحسن ظنه بربه، والله يتوب على التائبين، هذا جاء تائبا نادما، والله يتوب على التائبين ولو من الشرك، متى تاب المؤمن حتى من الشرك الذي هو أعظم الذنوب، المشركون الذين في عهد النبي ﷺ من أهل مكة وغيرهم لما تابوا تاب الله عليهم، وهكذا من أهل الطائف، ومن أهل المدينة وغيرهم، التوبة تجب ما قبلها، فعلى المؤمن أن يبادر بالتوبة ويحسن ظنه بربه وألا يقنط، وربك يقول جل وعلا: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53] بل يبادر بالتوبة ولا يقنط، وفي الآية الأخرى وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [يوسف:87].
فالمؤمن لا يقنط ولا ييأس بل يحسن ظنه بربه، لكن مع التوبة، مع العمل الصالح، مع الجد في طاعة الله، هكذا المؤمن يعمل ويكدح ويجتهد في طاعة الله، ومع هذا يحسن ظنه بربه ويسأله العفو، يسأله التوفيق وقبول التوبة، وفق الله الجميع.
24/435-وعن أَنسٍ، ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلى النبيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا رسولَ اللَّهِ أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، وَحَضَرتِ الصَّلاةُ فَصَلَّى مَعَ رَسُول اللَّه ﷺ فَلَمَّا قَضَى الصَّلاة قَالَ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا، فأَقِمْ فيَّ كتَابَ اللَّهِ، قَالَ: هَلْ حَضَرْتَ مَعَنَا الصَّلاَةَ؟ قَالَ: نَعم، قَالَ: قَدْ غُفِرَ لَكَ متفقٌ عَلَيهِ.
وقوله: أَصَبْتُ حَدًّا مَعنَاهُ: مَعْصِيَةً تُوجِبُ التَّعْزير، وَليس المُرَادُ الحَدَّ الشَّرْعِيَّ الْحقيقيَّ كَحَدِّ الزِّنَا وَالخمر وَغَيْرِهمَا، فَإِنَّ هَذِهِ الحُدودَ لا تَسْقُطُ بِالصلاةِ، وَلاَ يجوزُ للإمَامِ تَرْكُهَا.
25/436-وعنه قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه ﷺ: إِنَّ اللَّه لَيَرضي عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأَكلَةَ، فَيحْمَدُهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْربَ الشَّرْبَةَ، فَيَحْمدُهُ عَليها رواه مسلم.
الأَكْلَةُ بفتح الهمزة وهي المرَّةُ الواحدةُ مِنَ الأَكلِ كَالْغَدْوةِ والْعَشْوَةِ، واللَّه أعلم.
26/437-وعن أَبي موسى، ، عن النبيِّ ﷺ، قَالَ: إِنَّ اللَّه تعالى بَبْسُطُ يَدَهُ باللَّيلِ لَيَتُوبَ مُسيِءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدهُ بِالنَّهارِ ليَتُوبَ مُسيءُ اللَّيلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشمسُ مِنْ مَغْرِبَها رواه مسلم
الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كالتي قبلها في الحث على الرجاء وحسن الظن بالله ، والعناية بالتوبة وبما سلف من الذنوب، والله سبحانه يتوب على التائبين، وهو القائل : وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشورى:25]، وهو القائل جل وعلا: أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:74] فمن جاءه تائبا نادما صادقا تاب الله عليه، ومن هذا حديث صاحب الحد، قال: يا رسول الله أصبت حدا فأقمه علي؟ فقال: حضرت معنا الصلاة؟ قال: نعم، قال: إن الله قد غفر لك حدك، وفي اللفظ الآخر فأنزل الله أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78].
فالله جل وعلا يغفر لعبده إذا تاب، هذا جاء تائبا نادما ولم يبين الحد، ولم يستفسره النبي ﷺ فدل على أن من قال: إني أصبت حدا أو معصية فأقم علي، حده أنه يقال له التوبة إلى الله كافية، مادام تبت إلى الله ورجعت إلى الحق مثل ما قال النبي ﷺ لماعز، فالمقصود تشجيعه على التوبة والستر، ولا يستفصله ولا يسأله، بل يقول: عليك التوبة، ولزوم التوبة، والحمد لله لأن الرسول ﷺ لم يستفصل الرجل، بل قال: حضرت الصلاة؟ ثم قال له: إن الله غفر له بتوبته وحضوره الصلاة تائبا نادما، والله يحب الستر على عباده، يقول ﷺ: من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة فهذا الذي أصاب حدا يقال له: استتر بستر الله، وتب إلى الله، ولا تبين أمرك لأحد من الناس، وهكذا قوله ﷺ في الحديث الصحيح: إن الله يرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها فيه الحث على حمد الله عند الأكل والشرب، وأن هذا من أسباب رضا الله عنك أن تهتم بحمد الله عند أكلك وشربك، وهكذا التسمية في أوله تسمي الله في أوله، وتحمد الله في آخره، هذا من أسباب رضا الله.
ولما رأى النبي ﷺ صبيا تطوف يده في القصعة وهو عمر بن أبي سلمة قال: يا غلام سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك هكذا السنة أن يسمي الله ويأكل مما يليه ويأكل بيمينه، وإذا فرغ يحمد الله، هذا من أسباب رضا الله، إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها، وهكذا قوله ﷺ: إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها فيه الحث على التوبة ليلا ونهارا، كل إنسان يحاسب نفسه ويتوب إلى الله ليلا ونهارا رجاء أن يتوب الله عليه، يحسن ظنه بربه، ولا يصر على السيئة، بل يكون ملازما للتوبة في ليله ونهاره من جميع سيئاته القولية والعملية، وليحذر الإصرار، والله يقول: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:135] يعني بشيء من المعاصي ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:135-136] فشرط في هذا الجزاء العظيم عدم الإصرار، وفق الله الجميع.