18 من حديث (أبي نجيح عمرو بن عبسة قال: كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة..)

27/438-وعن أَبي نجيحٍ عَمرو بن عَبَسَةَ بفتح العين والباءِ السُّلَمِيِّ، ، قَالَ: كنتُ وَأَنَا في الجَاهِلِيَّةِ أَظُنُّ أَنَّ النَّاسَ عَلى ضَلالَةٍ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شيءٍ، وَهُمْ يَعْبُدُونَ الأَوْثَانَ، فَسَمِعْتُ بِرَجُلٍ بِمكَّةَ يُخْبِرُ أَخْبَارًا، فَقَعَدْتُ عَلى رَاحِلَتي، فَقَدِمْتُ عَلَيْهِ، فَإِذَا رسولُ اللَّه ﷺ مُسْتَخْفِيًا جُرَءَاءُ عليهِ قَوْمُهُ، فَتَلَطَّفْتُ حَتَّى دَخلْتُ عَلَيهِ بِمَكَّة، فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَنَتَ؟ قَالَ: أَنا نَبي قلتُ: وما نبيٌّ؟ قَالَ: أَرْسَلِني اللَّه قُلْتُ: وبِأَيِّ شَيْءٍ أَرْسلَكَ؟ قَالَ: أَرْسَلني بِصِلَةِ الأَرْحامِ، وكسرِ الأَوْثان، وَأَنْ يُوَحَّدَ اللَّه لا يُشْرَكُ بِهِ شَيْء قُلْتُ: فَمنْ مَعَكَ عَلى هَذا؟ قَالَ: حُر وَعَبْدٌ ومعهُ يوْمَئِذٍ أَبو بكرٍ وبلالٌ رضي اللَّه عنهما. قُلْتُ: إِنِّي مُتَّبعُكَ، قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَستطِيعَ ذلكَ يَوْمَكَ هَذا، أَلا تَرى حَالي وحالَ النَّاسِ؟ وَلَكِنِ ارْجعْ إِلى أَهْلِكَ فَإِذا سمعْتَ بِي قَدْ ظَهَرْتُ فَأْتِني قَالَ فَذهبْتُ إِلى أَهْلي، وَقَدِمَ رَسُول اللَّه ﷺ المَدينَةَ، وكنتُ في أَهْلي. فَجَعَلْتُ أَتَخَبَّرُ الأَخْبَارَ، وَأَسْأَلُ النَّاسَ حينَ قَدِمَ المَدِينَةَ حَتَّى قَدِمَ نَفرٌ مِنْ أَهْلي المدينةَ، فقلتُ: مَا فَعَلَ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي قدِم المدينةَ؟ فقالوا: النَّاسُ إِليهِ سِراعٌ وَقَدْ أَرَادَ قَوْمُه قَتْلَهُ، فَلَمْ يَستْطَيِعُوا ذلِكَ، فَقَدِمتُ المدينَةَ فَدَخَلتُ عليهِ، فقلتُ: يَا رسولَ اللَّه أَتَعرِفُني؟ قَالَ: نَعم أَنتَ الَّذي لَقيتنَي بمكةَ قَالَ: فقلتُ: يَا رَسُول اللَّه أَخْبرني عمَّا عَلَّمكَ اللَّه وَأَجْهَلُهُ، أَخبِرنْي عَنِ الصَّلاَةِ؟ قَالَ: صَلِّ صَلاَةَ الصُّبحِ، ثُمَّ اقْصُرْ عَنِ الصَّلاةِ حَتَّى تَرتفَعِ الشَّمْسُ قِيدَ رُمْحٍ، فَإِنَّهَا تَطْلُعُ حِينَ تَطلُعُ بَيْنَ قَرْنَي شَيْطَانٍ، وَحِينئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الكفَّارُ، ثُمَّ صَل، فَإِنَّ الصَّلاَةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورةٌ حَتَّى يستقِلَّ الظِّلُّ بالرُّمحِ، ثُمَّ اقْصُر عَنِ الصَّلاةِ، فإِنه حينئذٍ تُسجَرُ جَهَنَّمُ، فإِذا أَقبلَ الفَيء فصَلِّ، فإِنَّ الصَّلاةَ مَشهودةٌ مَحضُورَةٌ حَتَّى تُصَلِّيَ العصرَ، ثُمَّ اقْصُر عَنِ الصلاةِ حَتَّى تَغْرُبَ الشمسُ، فإِنها تُغرُبُ بَيْنَ قَرنيْ شيطانٍ، وحينئذٍ يَسْجُدُ لَهَا الكُفَّارُ.

قَالَ: فقلتُ: يَا نَبِيَّ اللَّه، فالوضوءُ حدثني عَنْهُ؟ فَقَالَ: مَا منْكُمْ رجُل يُقَرِّبُ وَضُوءَهُ، فَيَتَمَضْمضُ ويستنْشِقُ فَيَنْتَثِرُ، إِلاَّ خَرَّتْ خطايَا وجههِ وفيهِ وخياشِيمِهِ. ثم إِذا غَسَلَ وجهَهُ كما أَمَرَهُ اللَّه إِلاَّ خَرَّتْ خَطَايَا وجهِهِ مِنْ أَطرافِ لحْيَتِهِ مَعَ الماءِ. ثُمَّ يغسِل يديهِ إِلى المِرفَقَينِ إِلاَّ خَرَّتْ خَطَايَا يَدَيْهِ مِنْ أَنامِلِهِ مَعَ الماءِ، ثُمَّ يَمْسحُ رَأْسَهُ، إِلاَّ خَرَّتْ خَطَايَا رَأْسِهِ من أَطرافِ شَعْرهِ مَعَ الماءِ، ثُمَّ يَغْسِل قَدَمَيهِ إِلى الكَعْبَيْنِ، إلاَّ خَرت خَطَايَا رِجْلَيه مِنْ أَنَامِلِهِ مَع الماءِ، فإِن هُوَ قامَ فصلَّى، فحمِدِ اللَّه تَعَالَى، وأَثْنَى عليهِ وَمجَّدَهُ بالَّذي هُوَ لَهُ أَهل، وَفَرَّغَ قلبه للَّه تَعَالَى. إِلا انصَرَفَ مِنْ خطيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ يومَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ.

فحدّثَ عَمرو بنُ عَبسةَ بهذا الحديثَ أَبَا أُمَامَة صاحِبِ رسولِ اللَّه ﷺ، فَقَالَ لَهُ أَبُو أُمَامَة: يَا عَمْروُ بنُ عَبَسَةَ، انْظُر مَا تقولُ، في مقامٍ واحِدٍ يُعطى هَذَا الرَّجُلُ؟ فَقَالَ عَمْرو: يَا أَبَا أُمامةَ، لقد كِبرَتْ سِنِّي، ورَقَّ عَظمِي، وَاقْتَرَبَ أَجَلي، وَمَا بِي حَاجة أَنْ أَكذِبَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلا عَلَى رَسُول اللَّهِ ﷺ، لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ رَسُول اللَّه ﷺ إِلاَّ مَرَّةً أَوْ مَرْتَيْن أَوْ ثَلاثًا، حَتَّى عَدَّ سبعَ مَراتٍ، مَا حَدَّثتُ أَبدًا بِهِ، ولكنِّي سمِعتُهُ أَكثَرَ من ذلِكَ. رواه مسلم.

قوله: جُرَءَاءُ عليهِ قومُهُ: هُوَ بجيمٍ مضمومة وبالمد عَلَى وزنِ عُلماء، أَي: جاسِرُونَ مُستَطِيلونَ غيرُ هائِبينَ. هذِهِ الرواية المشهورةُ، ورواه الحُمَيْدِي وغيرهُ: حِراء بكسر الحاءِ المهملة. وَقالَ: معناه غِضَابُ ذُوُو غَمٍّ وهمٍّ، قَدْ عيلَ صبرُهُمْ بهِ، حَتَّى أَثَّرَ في أَجسامِهِم، من قوَلِهم: حَرَىَ جِسمُهُ يَحْرَى، إِذَا نقصَ مِنْ أَلمٍ أَوْ غم ونحوه، والصَّحيحُ أَنَهُ بالجيمِ.

وقوله ﷺ: بَيْنَ قَرنَي شيطانٍ أَيْ: ناحيتي رأسهِ، والمرادُ التَّمثِيلُ. معناهُ: أَنه حينئذٍ يَتَحرَّكُ الشَّيطانُ وشيِعتهُ وَيَتَسَلَّطُونَ.

وقوله: يُقَرِّبُ وَضُوءَه معناه: يُحْضِرُ الماءَ الَّذِي يَتَوَضَّأُ بِه. وقوله: إِلاَّ خَرّتْ خَطاياهُ هُوَ بالخاءِ المعجمة: أَيْ سقطَت. ورواه بعضُهُم جرتْ بالجيم. والصحيح بالخاءِ، وَهُوَ رواية الجُمهور.

وقوله: فَيَنْتَثرُ أَيْ: يَستَخرجُ مَا في أَنفه مِنْ أَذَى، والنَّثرَةُ: طرَفُ الأَنفِ.

28/439-وعن أَبي موسى الأشعري ، عن النَّبيّ ﷺ قَالَ: إِذا أَرادَ اللَّه تَعَالَى، رحمةَ أُمَّةٍ، قَبضَ نبيَّهَا قَبلَها، فجعلَهُ لَهَا فَرَطًا وسلَفًا بَيْنَ يَدَيها، وإذَا أرادُ هَلَكةَ أُمَّةٍ، عذَّبها ونبيُّهَا حَيُّ، فَأَهْلَكَهَا وهوَ حَيُّ ينظُرُ، فَأَقَرَّ عينَهُ بِهلاكها حِينَ كذَّبوهُ وعصَوا أَمْرَهُ رواه مسلم.

الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.

أما بعد:

فهذان الحديثان فيهما أيضا الدلالة على سعة رحمة الله جل وعلا وجوده وكرمه، وأنه ينبغي لأهل الإيمان حسن الظن بالله وحسن الرجاء، والحذر من القنوط واليأس، فالحديث الأول حديث عمرو بن عبسة السلمي قدم على النبي ﷺ في مكة وهو مستخف من أجل أذى قومه في أول البعثة، فتلطف حتى دخل عليه وسأله فقال: ما أنت؟ فقال: نبي، فقال: وما نبي؟ قال: أرسلني الله، قال: وبم أرسلك؟ قال: أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله وحده فهو أرسل نبيه وأرسل أنبياءه جميعا بالدعوة إلى توحيد الله، والإخلاص له، وبصلة الأرحام وكسر الأوثان، وأن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا ، قال: وكان معه على هذا حر وعبد، يعني أبا بكر الصديق وبلال رضي الله عنهما، فقال له عمرو: إني متبعك، قال: إنك لا تستطيع يومك هذا، ألا ترى حال قومك معي، ولكن ارجع إلى قومك فإذا علمت بأني ظهرت فائت إلي.

هذا يبين لنا حالة النبي ﷺ في أول البعثة، وأنه أوذي وتجرأ عليه قومه بالأذى، وكان يستخفي في أول الأمر في بيته من كثرة أذاهم حتى ظهر دين الله وانتصر وانتشر في مكة وفي غيرها، وأسلم جم غفير من أهل مكة، ولم يزل ﷺ يصبر على الدعوة ويصبر على الأذى حتى يسر الله له الهجرة، وكان مقامه في مكة ثلاثة عشرة سنة، وهو في مكة يدعو إلى توحيد الله وينهى عن الشرك بالله، ويصبر على الأذى من قومه، ثم فرض الله عليه الصلوات الخمس قبل الهجرة بثلاث سنين، ثم يسر الله له الهجرة، وكان قومه قد حرصوا على قتله فأنجاه الله من شرهم، كفاه الله شرهم وهاجر هو والصديق وعامر بن هبيرة مولى الصديق، ومعهم الدليل عبدالله الديلي حتى وصلا إلى المدينة وأظهر الله دينه وآواه الأنصار وكثر المهاجرون في المدينة وانتشر الحق وقام سوق الجهاد بعد ذلك، وقدم عليه عمرو بن عبسة في المدينة لما أخبر بوصوله المدينة، قدم عليه ودخل عليه، فقال: أتعرفني؟ قال: نعم، أنت الذي جئتني بمكة.

فسأله أن يعلمه الصلوات، فعلمه الصلوات الخمس، وأن المحافظة عليها والعناية بها من أسباب تكفير السيئات وحط الخطايا، وعلمه الوضوء، وأن الوضوء كذلك من أسباب تكفير الخطايا، وعلمه متى يصلي، فبين له أنه يصلي الفجر ثم يمسك حتى ترتفع الشمس قيد رمح، ثم يصلي فالصلاة محضورة مشهودة إلى وقوف الشمس، ثم يمسك عن الصلاة حتى تزول الشمس، ثم يصلي ما بينها وبين العصر، ثم يمسك بعد صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس، ثم يصلي بعد ذلك ما شاء في الليل، وأخبره أن الصلوات الخمس من حافظ عليها وأداها كما أمره الله، وهكذا الوضوء من أداه كما أمره الله كان من أسباب تكفير السيئات وحط الخطايا، ففي هذا الحث على العناية بالصلاة والمحافظة عليها، واستكمال الوضوء، وأن ذلك من أكمل أسباب المغفرة والرحمة إلا من أصر على الكبائر، من أصر على الكبائر فإنها تكون من أسباب عدم المغفرة له كما قال ﷺ: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن إذا اجتنب الكبائر.

وفي الحديث الثاني: الدلالة على أن الله إذا أراد بأمته خيرا قبض نبيها ولم يعاجلها بالعقوبة، وهذه الأمة بحمد الله أراد الله بها خيرا فقبض نبيها ولم يعاجلها بالعقوبة، بل لطف بها ورحم حتى ظهر دين الله وانتصر دين الله وقام سوق الجهاد، وكان هذا من رحمة الله، وإذا أراد الله بقوم شرا عجل لهم العقوبة ونبيهم حي حتى تقر عينه بعقوبة الله لهم كما جرى لقوم نوح وهود وصالح وشعيب ولوط، أقر الله عينهم بإهلاك أممهم الظالمة المكذبة، أما نبينا ﷺ فقد أقر الله عينه بإسلام الكثير ودخول الأنصار في الإسلام، وإيواؤهم للمسلمين، وكثرة المهاجرين، وقيام دين الله وانتصار الحق في حياته حتى فتح الله عليه مكة وانتشر الحق، فأقر الله عينه بظهور الإسلام وانتصار الإسلام على الكفر، وهذا من رحمة الله له ولأمته.

52- باب فضل الرجاء

قَالَ الله تَعَالَى: إخبارًا عن العبدِ الصالِحِ: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۝ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا [غافر:44-45].

1/440-وعن أَبي هريرة، ، عن رَسُول اللَّه ﷺ أَنَّهُ قَالَ: قالَ اللَّه، ، أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدي بِي، وأَنَا مَعَهُ حَيْثُ يَذْكُرُني، وَاللَّهِ للَّهُ أَفْرَحُ بتَوْبةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ يجدُ ضالَّتَهُ بالْفَلاةِ، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا، تَقرَّبْتُ إِلَيْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرّبَ إِلَيَّ ذِراعًا، تقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وإِذَا أَقْبَلَ إِلَيَّ يمْشي، أَقبلتُ إلَيه أُهَرْوِلُ متفقٌ عليه، وهذا لفظ إحدى رِوايات مسلم. وتقدم شرحه في الباب قبله.

ورُوِيَ في الصحيحين: وأنا معه حين يذكرني بالنون، وفي هذه الرواية حيث بالثاء وكلاهما صحيح.

3/441-وعن جابِر بن عبداللَّه، رضي اللَّه عنهما، أَنَّهُ سَمعَ النَبِيَّ ﷺ قَبْلَ موْتِهِ بثلاثَةِ أَيَّامٍ يقولُ: لاَ يَمُوتَنّ أَحَدُكُم إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ باللَّه  رواه مسلم.

3/442-وعن أَنسٍ، قَالَ: سمعتُ رسولَ اللَّهِ ﷺ يقُولُ: قَالَ اللَّه تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعوْتَني وَرَجوْتَني غَفَرْتُ لَكَ عَلى مَا كَانَ مِنكَ وَلاَ أُبَالِي، يَا ابْنَ آدمَ لَوْ بَلغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السماءِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَني غَفَرتُ لَكَ وَلاَ أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَم إِنَّكَ لَو أَتَيْتَني بِقُرابٍ الأَرْضِ خَطَايا، ثُمَّ لَقِيْتَني لاَ تُشْرِكُ بِي شَيْئًا، لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.

عَنَانُ السماءِ بفتح العين، قيل: هو مَا عَنَّ لَكَ مِنْهَا، أيْ: ظَهَرَ إذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ، وقيلَ: هو السَّحَابُ.

وَ قُرابُ الأَرض بضم القاف، وقيلَ بكسرِها، والضم أصح وأشهر، وَهُوَ: مَا يقارِبُ مِلأَهَا، واللَّه أعلم.

الشيخ: كل هذه الأحاديث تدل على فضل الرجاء، وعظم شأن الرجاء، وأنه ينبغي للمؤمن أن يكون حسن الظن بالله عظيم الرجاء، مع الحذر من السيئات، لأن الأفعال إذا ساءت ساءت الظنون، فالواجب على المؤمن أن يحسن ظنه بالله ويكثر من ذكره كما قال جل وعلا: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني فينبغي للمؤمن أن يكون كثير الذكر حسن الظن بالله جل وعلا مع الحذر من السيئات.

كذلك قوله: من تقرب إلي شبرا تقربت منه ذراعا، ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة كل هذا يدل على عظم فضله وجوده وكرمه ، وأنه ينبغي للمؤمن أن يجتهد في طاعته وابتغاء مرضاته، والحذر من المعاصي، وأنه سبحانه أقرب إلى عبده بالخير من كل شيء ، فهو أرحم بعباده من المرأة بولدها، فيبغي للمؤمن أن يكون حسن الظن بالله، كثير الذكر، كثير الرجاء، حسن الظن بالله مع حسن العمل، يقول جل وعلا: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة.

كل هذا بابه واحد، بابه الحث على حسن الظن بالله، والاجتهاد في طاعة الله، والإكثار من ذكره جل وعلا، والحذر من الشرك دقيقه وجليله، هذه أحاديث الرجاء، ومقابلها أحاديث الوعيد على السيئات والمعاصي، فكما أنه وعد عباده الخير فقد توعدهم على المعاصي كما قال جل وعلا: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، وقال تعالى: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32] إلى غير ذلك، وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء:36] إلى غير هذا مما فيه الوعيد والتحذير.

فينبغي للمؤمن أن يكون جامعا بين الأمرين يحذر السيئات ويحذر مغبتها، ويجتهد في الطاعات ويحسن ظنه بربه جل وعلا، فيكون بين هذا وهذا كالجناحين للطائر؛ جناح الرجاء وجناح الخوف، يسير إلى الله بين الخوف والرجاء لا يقنط ولا يأمن، يقول سبحانه: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99] لكن يكون سائرا إلى الله على حسن الظن وعلى الحذر، يذكر ذنوبه ويحذر ويخاف الله، ويبادر بالتوبة ويذكر حسناته وطاعاته، فيحسن ظنه بربه ويرجوه ، وهكذا حتى يلقى ربه لا يقنط ولا ييأس، ولا يأمن من مكر الله جل وعلا، بل يكون خائفا حذرا كما قال الله جل وعلا لعباده الصالحين من الأنبياء وغيرهم: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]، وقال أيضا في حقهم أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [الإسراء:57] هكذا أهل الإيمان، هكذا أهل الصدق، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ ۝ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ۝ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:57-61] مع خوفهم ووجلهم سارعوا إلى الخيرات وسبقوا إليها بخلاف المفرطين المضيعين الآمنين من مكر الله فهم على خطر عظيم أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]، وبخلاف القانطين كذلك لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53]، وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [يوسف:87]، وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56].

فلا هذا ولا هذا، لا قنوط ويأس ولا أمن وإعراض، ولكن بين بين، بين الخوف والرجاء، بين الحذر وبين حسن الظن بالله، فيذكر عظمته وإحسانه وكبرياءه فيسارع إلى مراضيه وطاعته، ويذكر عظيم انتقامه وكراهته لما حرم الله وغضبه على من تعاطى ذلك فيحذر السيئات، هكذا المؤمن يسير إلى الله بين الخوف والرجاء، بين الحذر والبعد عن محارم الله، وبين الرجاء وحسن الظن بالله ، وفق الله الجميع.

53-باب الجمع بين الخوف والرجاء

اعْلَمْ أنَّ المختار للعبد في حالة صِحَّتِهِ أنْ يَكُونَ خَائفًا رَاجِيًا، وَيَكُونَ خَوْفُهُ وَرَجَاؤُهُ سَواءً، وفي حَالِ المَرَضِ يُمحَّضُ الرَّجاءُ، وقواعِدُ الشَّرْع مِنْ نصُوصِ الكِتَابِ والسُّنَةِ وغَيْرِ ذَلِكَ مُتظاهِرَةٌ عَلَى ذلك.

قَالَ الله تَعَالَى: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]، وقال تَعَالَى: إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف:87]، وقال تَعَالَى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106]، وقال تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأعراف:167]، وقال تَعَالَى: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ۝ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14]، وقال تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ۝ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ۝ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ۝ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [القارعة:6-9] والآيات في هذا المعنى كثيرةٌ. فَيَجْتَمعُ الخَوفُ والرجاءُ في آيَتَيْنِ مُقْتَرِنَتَيْنِ أَو آيات أَو آية.

1/443-وعن أَبي هريرة، ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: لَوْ يَعْلَمُ المُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ العُقُوبَةِ، مَا طَمِعَ بجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الكافِرُ مَا عِنَد اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ، مَا قَنطَ مِنْ جنَّتِهِ أَحَدٌ رواه مسلم.

2/444-وعن أَبي سَعيد الخدرِيِّ، ، أَنَّ رسولَ اللَّه ﷺ قَالَ: إِذَا وُضِعتِ الجَنَازَةُ واحْتمَلَهَا النَّاسُ أَو الرِّجالُ عَلى أَعْنَاقِهمِ، فَإِنْ كانَتْ صالِحَةً قالَتْ: قَدِّمُوني قَدِّمُوني، وَإنْ كانَتْ غَير صالحةٍ، قالَتْ: يَا ويْلَهَا، أَيْنَ تَذْهَبُونَ بَها؟ يَسْمَعُ صَوتَها كُلُّ شيءٍ إلاَّ الإِنْسَانُ، وَلَوْ سَمِعَهُ لَصَعِقَ رواه البخاري.

3/445-وعن ابن مسعودٍ، ، قالَ: قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: الجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِه وَالنَّارُ مِثْلُ ذلِكَ رواه البخاري.

الشيخ: هذه الأحاديث والآيات فيما يتعلق بالخوف والرجاء، وتقدم جملة من ذلك في الرجاء والخوف، الواجب على كل مكلف أن يخاف الله ويرجوه في جميع الأحوال، يكون خائفا فيحذر المعاصي، راجيا فيسارع إلى الطاعات، فلا يقنط ولا ييأس ولا يأمن، هكذا المؤمن في جميع أحواله يكون خائفا راجيا كما قال الله جل وعلا: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا [الأنبياء:90] رغبا رجاء ورهبا خوفا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90] هذه صفات الأنبياء والأخيار، وقال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [الإسراء:57]، وقوله: فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، ويقول وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40] إلى غير هذه من الآيات، ويقول سبحانه: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ۝ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [الحجر:49-50]، ويقول سبحانه: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ [غافر:3]، ويقول سبحانه: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]، ويقول سبحانه: وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف:87]، ويقول سبحانه إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ۝ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14].

فهذا يوجب الرجاء والخوف، يوجب للمؤمن حسن الظن بالله فيرجوه، والخوف من غضبه فيحذر ما حرم الله عليه، هذا هو الواجب على جميع المكلفين أن يجمعوا بين الخوف والرجاء، ويكون الخوف حال الصحة أغلب كما قال جمع من أهل العلم، وقال بعضهم: يكون الخوف والرجاء للمؤمن كالجناحين للطائر لا يغلب الرجاء فيأمن، ولا يغلب الخوف فيقنط، ولكن يسير بين خوف ورجاء كما قال الله سبحانه في أوليائه الصالحين من النبيين وغيرهم إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]، ولكن بكل حال في حال الصحة ينبغي أن يحذر وأن يغلب جانب الخوف لأنه أزجر له عن المعاصي، وفي حال المرض إذا غلب جانب الرجاء وحسن الظن بالله كان هذا أفضل لقول الله جل وعلا: أنا عند ظن عبدي بي فيحسن ظنه بالله ويرجوه جل وعلا ولاسيما في حال المرض مع التوبة الصادقة، هكذا المؤمن يكون تائبا راجيا خائفا، ويقول ﷺ: لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما ييأس من رحمة أحد فهو سبحانه الرؤوف الرحيم، وهو سبحانه شديد العقاب كما قال  نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ۝ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [الحجر:49-50]، وقال غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ [غافر:3]، ويقول عليه الصلاة والسلام: الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك، فينبغي لك يا عبد الله الحذر من السيئات وعدم سوء الظن بالله، فتكون خائفا راجيا تحسن ظنك بربك وترجوه، وتخاف سيئاتك وتحذرها، هكذا المؤمن يخاف ويرجو.

هكذا حديث الجنازة إذا حملت إن كانت صالحة قالت: قدموني قدموني، وإن كانت سوى ذلك قالت: يا ويلها أين تذهبون بها، يسمعها كل شيء إلا الإنسان، وفي لفظ: إلا الثقلين فالمقصود أن الإنسان على خطر، فالواجب ما دام في حال المهلة قبل الموت أن يكون خائفا راجيا، وأن تكون أعماله على ضوء ذلك، فالخوف يحمله على الحذر من السيئات، والتفريط والرجاء يحمله على حسن الظن بالله وعدم القنوط، فلا يقنط ولا يأمن، هذا هو الواجب على كل مكلف من الجن والإنس، من الرجال والنساء، الواجب أن يسير إلى الله بين الخوف والرجاء، يرجوه ويحسن ظنه به فيستقيم على طاعته، ويبتعد عن معاصيه ويخافه فيحذر معاصيه وينيب إلى طاعته، فيكون الرجاء والخوف حاملين له على طاعة الله ورسوله، وترك ما نهى الله عنه ورسوله، فالرجاء يحمله على حسن الظن، والخوف يحمله على الحذر من الأمن، نسأل الله للجميع التوفيق والهداية.

54- باب فضل البكاء من خشية الله تَعَالَى وشوقًا إِليه

قَالَ الله تَعَالَى: وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء:109]، وقال تَعَالَى: أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ۝ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ [النجم:59-60].

1/446-وعَن ابن مَسعودٍ، ، قالَ: قَالَ لي النبيُّ ﷺ: اقْرَأْ علَّي القُرآنَ قلتُ: يَا رسُولَ اللَّه، أَقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قالَ: إِني أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي فقرَأْتُ عَلَيْهِ سورَةَ النِّساء، حَتَّى جِئْتُ إِلى هذِهِ الآية: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّة بِشَهيد وِجئْنا بِكَ عَلى هَؤلاءِ شَهِيدًا [الآية:41] قَالَ:  حَسْبُكَ الآنَ فَالْتَفَتَّ إِليْهِ، فَإِذَا عِيْناهُ تَذْرِفانِ. متفقٌ عَلَيْهِ.

2/447-وعن أنس، ، قالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّه ﷺ خُطْبَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ، فقالَ: لَوْ تعْلمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا قَالَ: فَغَطَّى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وُجُوهَهُمْ ولهمْ خَنِينٌ. متفقٌ عَلَيْهِ. وَسَبَقَ بيَانُهُ في بابِ الخَوفِ.

3/448-وعن أبي هريرةَ، ، قَالَ: قالَ رسُولُ اللَّهِ ﷺ: لاَ يَلِجُ النَّارَ رَجْلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّه حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ في الضَّرْع وَلا يَجْتَمعُ غُبَارٌ في سَبِيلِ اللَّه ودُخانُ جَهَنَّمَ رواه الترمذي، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.

الشيخ: هذه الآيات الكريمات والأحاديث الكريمة فيها الحث على البكاء من خشية الله، وأنه ينبغي للمؤمن أن يكون عند قراءة القرآن، وفي الصلاة، وفي سائر أوقاته عنده خضوع لله وتذكر لعظمته حتى يرق قلبه وحتى تدمع عينه، ولاسيما في قراءته القرآن، وفي صلاته، وفي الوقوف بين يدي ربه ينبغي له أن تكون عنده عناية بهذا الأمر وإقبال على تلاوة القرآن وتدبر معانيه، والإقبال على صلاته وما فيها من القراءة والتعظيم لله، والتسبيح لله، والخشوع له حتى تدمع عينه، حتى يرق قلبه، حتى يبكي من خشية الله كما ذكر الله عن عباده الصالحين: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء:109]، إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [مريم:58]، أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ۝ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ ۝ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ [النجم:59-61] حثهم على البكاء من خشية الله، «كان النبي ﷺ إذا قرأ القرآن يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء» عليه الصلاة والسلام وذلك من خشيته لربه ، وخشوعه بين يديه ، فينبغي للمؤمن أن تكون له عناية بالخشوع، والخشية لله، ودمع العين، وهذا يحصل عند التدبر والتعقل والتفكر في عظمة الله، وعظيم حقه عند قراءة كتابه، وعند الصلاة، وفي غير هذا من مواضع العبادة حتى تدمع العين، حتى يخشع القلب.

وفي حديث ابن مسعود أن النبي ﷺ قال له: اقرأ علي القرآن، فقال ابن مسعود : كيف أقرأ عليك القرآن؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري فقرأ عليه ابن مسعود من أول سورة النساء حتى بلغ قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ يعني يا محمد عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [النساء:41] قال: حسبك. قال ابن مسعود: فالتفت إليه إذا عيناه تذرفان، تذكر هذا الموقف العظيم كونه يؤتى به يوم القيامة شهيدا على أمته، تذكر هذا الموقف العظيم وبكى من خشية الله ، وهو سيد الخلق مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع هذا يبكي من خشية الله عند سماع كلام الله، وفي صلاته بين يدي الله، هذا يدل على أنه ينبغي للمؤمن أن تكون له عناية بأسباب البكاء من خشية الله.

وفي حديث أنس أن النبي خطب الناس ذات يوم ووعظهم وذكرهم وقال في خطبته: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا قال أنس: فغطى الناس رؤوسهم ولهم خنين من البكاء مما تأثرت قلوبهم من الوعظ والتذكير، فينبغي للمؤمن أن يتأسى برسول الله وبأصحابه.

وفي هذا الحديث الأخير: لا يلج النار عين بكت من خشية الله فهذا يدل على أن البكاء فيه خير عظيم، وأنه من أسباب الوقاية من النار البكاء من خشية الله، وفي اللفظ الآخر: لا تلج النار عين سهرت في سبيل الله، ولا عين بكت من خشية الله والبكاء من خشية الله له أسباب، منها تدبر القرآن وتذكر يوم القيامة، وتذكر الجنة والنار، وتذكر خطر عذاب القبر ونعيمه، وتذكر ما يعطيه الله المؤمنين من النعيم وما يصيب الكافرين والمعرضين من العقاب، عند تذكر هذه الأمور يحصل للقلب خشوع وللعين دمع، وفق الله الجميع لما يرضيه، ورزقنا وإياكم الاستقامة وصلاح القلوب والثبات على الحق.

4/449-وعن أبي هريرة قالَ: قالَ رسُولُ اللَّه ﷺ: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ: إِمامٌ عادِلٌ، وشابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّه تَعالى، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّق بالمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا في اللَّه اجتَمَعا عَلَيهِ وتَفَرَّقَا عَلَيهِ، وَرَجَلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمالٍ فَقَالَ: إِنّي أَخافُ اللَّه، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةَ فأَخْفاها حتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمالهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينهُ، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّه خالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ متفقٌ عَلَيْهِ.

5/450-وعَن عبداللَّه بنِ الشِّخِّير، ، قَالَ: أَتَيْتُ رسُولَ اللَّه ﷺ وَهُو يُصلِّي ولجوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ المرْجَلِ مِنَ البُكَاءِ. حديث صحيح رواه أَبو داود، والتِّرمذيُّ في الشَّمائِل بإِسنادٍ صحيحٍ.

6/451-وعن أَنسٍ، ، قالَ: قالَ رسُولُ اللَّه ﷺ لأَبِيِّ بنِ كَعْبٍ، : إِنَّ اللَّه، ، أَمْرَني أَنْ أَقْرَأَ علَيْكَ: لَمْ يَكُن الَّذِينَ كَفَرُوا قَالَ: وَسَمَّاني؟ قَالَ: نَعَمْ فَبَكى أُبَيٌّ. متفقٌ عَلَيْهِ.

وفي رواية: فَجَعَلَ أُبَيٌّ يَبْكي.

الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كالتي قبلها في الحث على البكاء من خشية الله، وأنه ينبغي للمؤمن أن تكون عنده عناية بقلبه حتى يخشع لله، حتى يبكي من خشية الله لأن قسوة القلب من أسباب بعده عن الله، ورقة القلب والبكاء من خشية الله، من أسباب رضا الله ومحبته، ومن أسباب المسارعة إلى مراضيه والبعد عن مساخطه.

تقدم قوله تعالى في عباد الله الصالحين: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [مريم:58]، وقال: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء:109]، وقال جل وعلا: أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ۝ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ ۝ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ [النجم:59-61]، وفي هذا يقول ﷺ: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل يعني سلطان عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد كل ما صلى قلبه معلق بالمسجد حتى يصلي الصلاة الأخرى، ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه وهكذا المرأتان، والرجل والمرأة تحابا في الله، الخامس: رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله وهكذا العكس امرأة دعاها ذو منصب وجمال فقالت: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه يعني اجتهد في الإخلاص لله في صدقاته، ولا بأس بالجهر بالصدقة إذا دعت المصلحة إلى ذلك كما قال تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ [البقرة:271] فإبداؤها للمصلحة لا بأس، لكن إذا كان ما هناك مصلحة في إبدائها فالسر بها أفضل، السابع: رجل ذكر الله خاليا ما عنده أحد ففاضت عيناه لأنه لو كان عنده قد يقال: إنه يرائي، لكن ذكر الله ما عنده أحد بينه وبين ربه ففاضت عيناه خشية لله، وتعظيما لله، فهذا يدل على فضل البكاء من خشية الله، ويدل على قوة الإيمان، والحرص على القرب من الله، والبعد من معصيته، وذلك يحصل بأسباب مراقبة الله والتدبر لنعمه عليك، والتدبر لأسباب عقابه، والخطر الذي قد يحف بك بسبب تفريطك، فعند التدبر والتعقل لأسباب الغضب ولأسباب النجاة وما عند الله من الخير وما عند الله من العقوبة فهذا يسبب البكاء من خشية الله جل وعلا، فينبغي للمؤمن أن يلاحظ أسباب البكاء من خشية الله حتى تدمع عينه من خشية الله.

تقدم في الحديث عينان لا تمسهما: النار عين بكت من خشية الله، وعين سهرت في سبيل الله، وفي حديث عبدالله بن الشخير يقول: «أنه دخل على النبي ﷺ وهو يصلي، ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء» المرجل: القدر، من شدة خوفه من الله وتعظيمه له ، ولما قرأ عليه ابن مسعود القرآن وأتى على قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [النساء:41] قال له النبي ﷺ: حسبك، قال: فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان، كما تقدم تذكر مقام يوم القيامة وحضوره للشهادة على أمته فبكى من خشية الله ، ولما قال لأبي بن كعب : إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة لم يكن قال أبي: يا رسول الله سماني لك ربي، قال: نعم فجعل يبكي تعظيما له وخشية لله ، وهذا فيه منقبة لأبي أن الله أمر نبيه أن يقرأ عليه سورة لم يكن، فالحاصل أن البكاء من خشية الله من صفات الصالحين، ومن صفات الأخيار، ومن صفات الأنبياء، فيشرع للمؤمن أن يتحرى ذلك، وأن يتعاطى أسباب ذلك لعله يبكي من خشية الله . وفق الله الجميع.

7/452-وعن أنس قالَ: قالَ أَبو بَكْرٍ لعمرَ، رضي اللَّه عنهما بعدَ وفاةِ رسولِ اللَّه ﷺ: انْطَلِقْ بِنا إِلَى أُمِّ أَيمنَ، رضي اللَّه عنها، نَزُورُها كَمَا كَانَ رسُولُ اللَّه ﷺ يَزُورُها، فَلَمَّا انْتَهَيا إِليْها بَكَتْ فقَالا لَهَا: مَا يُبْكِيكِ؟ أَمَا تَعْلَمِينَ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّه تَعَالَى خَيْرٌ لِرَسُولِ اللَّه ﷺ، قالَتْ: إِني لاَ أَبْكِي، أَنِّي لأَعْلَمُ أَنَّ مَا عنْدَ اللَّه خَيرٌ لِرَسُولِ اللَّه ﷺ، ولكِنِّي أَبْكِي أَنَّ الوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّماءِ فَهَيَّجَتْهُما عَلى البُكاءِ، فَجَعَلا يَبْكِيانِ مَعهَا. رواهُ مسلم. وقد سبق في بابِ زيارَةِ أَهل الخَيْرِ.

8/453-وعن ابن عَمَر، رضي اللَّه عنهما، قَالَ: "لَمَّا اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّه ﷺ وَجَعُهُ قيلَ لَهُ في الصَّلاَةِ فقال: مُرُوا أَبا بَكْرِ فَلْيُصَلِّ بالنَّاسِ فقالتْ عائشةُ، رضي اللَّه عنها: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقيقٌ إِذا قَرَأَ القُرآنَ غَلَبَهُ البُكاءُ، فقال: مُرُوهُ فَلْيُصَلِّ.

وفي رواية عن عائشةَ، رضي اللَّه عنها، قالَتْ: قلتُ: إِنَّ أَبا بَكْرٍ إِذا قَامَ مقامَكَ لَم يُسْمع النَّاس مِنَ البُكَاءِ. متفقٌ عليه.

9/454-وعن إِبراهيمَ بنِ عبدالرَّحمنِ بنِ عوفٍ أَنَّ عبدالرَّحمنِ بنَ عَوْفٍ، ، أُتِيَ بطَعامٍ وكانَ صائِمًا، فقالَ: قُتِلَ مُصْعَبُ بنُ عُمَيرٍ، ، وهُوَ خَيْرٌ مِنِّي، فَلَمْ يُوجَدْ لَه مَا يُكَفَّنُ فيهِ إِلاَّ بُرْدَةٌ إِنْ غُطِّي بِها رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلاُه، وإِنْ غُطِّيَ بِهَا رِجْلاه بَدَا رأْسُهُ، ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنَ الدُّنْيَا مَا بُسِطَ، أَوْ قالَ: أُعْطِينَا مِنَ الدُّنْيا مَا أُعْطِينَا وقَدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنا عُجِّلَتْ لَنا، ثُمَّ جَعَلَ يبْكي حَتَّى تَرَكَ الطَّعامَ. رواهُ البخاري.

الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كالتي قبلها في الحث على البكاء من خشية الله، وبيان حال الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وأنهم كانوا خيار الناس في كل شيء بعد الأنبياء، وكانوا أهل خشوع وخشية وبكاء من خشية الله ورقة قلوب، هكذا ينبغي للمؤمن أن يكون رقيق القلب، يخشى الله ويراقبه ويبكي من خشيته ، هذا أبو بكر الصديق وهو أفضل الصحابة وأفضل الأمة بعد الأنبياء، أفضل الأمة أبو بكر الصديق ثم عمر، بعد وفاة النبي ﷺ قالت: نذهب إلى أم أيمن نزورها كما كان النبي ﷺ يزورها، وأم أيمن كانت حاضنة النبي ﷺ، حضنته وربته في صغره، وكان النبي يزورها ويكرمها كثيرا عليه الصلاة والسلام، فقال الصديق لعمر: نزورها كما كان النبي ﷺ يزورها، فزارها، فلما سلما عليها بكت، فقالا لها: ما يبكيك؟ أما تعلمين أن ما عند الله لرسول الله خير لرسول الله؟ قالت: إني لا أبكي من أجل هذا، لا أبكي من أجل أني لا أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله، ما عند الله خير، ما في شك أن ما عند الله خير لرسول الله، ولكني أبكي لما تذكرت انقطاع الوحي، كان ينزل الوحي صباحا ومساء بأمور المسلمين وأحكامهم وأمرهم نهيهم، وبوفاته ﷺ انقطع الوحي وختمت النبوة، فهيجتهما على البكاء وجعلا يبكيان أيضا، فهذا فيه رقة قلوب الصديق وعمر، وفيه زيارة الأخيار من الرجال والنساء، وأن زيارة المرأة الكبيرة السن التي لا يخشى من زيارتها فتنة، أن هذا أمر مشروع إذا كان فيه مصلحة كما زار أم أيمن، وهي امرأة كبيرة السن حاضنة للنبي ﷺ، كان النبي يزوروها فزارها تأسيا بالنبي ﷺ في ذلك، فهذا يدل على أنه لا بأس بزيارة المرأة المسنة ذات الخير للذكرى والفائدة والمصلحة الشرعية.

كذلك حديث لما مرض عليه الصلاة والسلام وثقل عن الصلاة بالناس قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس في مرض موته عليه الصلاة والسلام، فقالت عائشة: يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق إذا صلى بالناس فقرأ لا يكاد يسمع الناس من البكاء رضي الله عنه وأرضاه، فهذا يدل على أنه كثير البكاء من خشية الله، مع كونه أفضل الصحابة، وهو الصديق، ومشهود له بالجنة، من العشرة، هو رأس العشرة المشهود لهم بالجنة، ومع هذا يبكي كثيرا من خشية الله ، فهذا يدل على أن من صفة الأخيار ومن صفة أهل الإيمان البكاء من خشية الله ، فهذا يدل على أنه ينبغي لأهل الإيمان أن تكون لهم عناية بهذا الأمر عند قراءة القرآن، وعند سماع القرآن، وعند تذكر أحوال الصالحين وأعمالهم الطيبة يكون البكاء من خشية الله ، هكذا أهل الإيمان يتذكرون أعمال الصالحين وأعمال الأخيار فيبكون من خشية الله يرجون ثوابه ويخشون عقابه ، ولا شك أن في البكاء من خشية الله ما يعين على المسارعة إلى طاعته والانكفاف عن معاصيه، والحذر من كل ما يغضبه جل وعلا.

وهكذا قصة عبدالرحمن بن عوف ، الزهري أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، لما قدم له الطعام وتذكر حال المهاجرين الأولين وما أصابهم من الحاجة وذكر مصعب بن عمير وأنه لما قتل يوم أحد لم يوجد إلا قميصه، قطعة من ثياب إن غطي بها رأسه بدت رجلاه، وإن غطي بها رجلاه بدا رأسه، فأمر النبي ﷺ أن يغطى بها عورته ورأسه، وأن يوضع على رجليه الإذخر يوم أحد، فجعل يبكي وقال: نخشى أن تكون حسناتنا عجلت لنا، يعني من هذه النعم التي أعطاهم الله، وبسط عليهم بعد الشدة، بسط الله عليهم الرزق وأوسع عليهم وفتحوا الفتوحات ونصروا الإسلام وانتشر دين الله وكثرت الأموال، فقال عبدالرحمن: نخشى أن تكون حسناتنا عجلت لنا، ثم بكى وامتنع عن الطعام، كف عن الطعام بكاء من خشية الله ، فهكذا ينبغي لأهل الإيمان التأسي بالأخيار عند ذكر أحوال الآخرة، وعند ذكر الجنة والنار، وعند قراءة القرآن، عند ذكر ما أنعم الله من النعم يكون للإنسان شيء من الخشوع والبكاء من خشية الله حسب الإمكان، يرجو ثواب الله ويخشى عقابه، ويتأسى بالخيرة من عباد الله، وبنبي الله عليه الصلاة والسلام، والمهم في هذا كله العناية بما أوجب الله، والحذر مما حرم الله، والخوف من غضبه وعقابه، ولا شك أن البكاء من خشية الله من أسباب المسارعة إلى مراضيه، ومن أسباب صلاح القلوب ورقتها، ومن أسباب الحذر مما حرم الله كما قال الله عن الصالحين من الأنبياء والأخيار إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [مريم:58]، ويقول سبحانه: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء:109]، هكذا الأخيار، رزق الله الجميع التوفيق والهداية، وصلاح القلوب والأعمال.

10/455-وعن أَبي أُمامة صُدَيِّ بْنِ عَجلانَ الباهِليِّ، ، عن النبيِّ ﷺ قَالَ: لَيْسَ شَيءٌ أَحَبَّ إِلى اللَّه تَعَالَى مِنْ قَطْرَتَين، وأَثَرَيْنِ: قَطْرَةُ دُمُوعٍ مِنْ خَشيَةِ اللَّه، وَقَطرَةُ دَمٍ تُهرَاقُ في سَبِيلِ اللَّه تعالى، وَأَمَّا الأَثَرَانِ فَأَثَرٌ في سَبيلِ اللهِ تَعَالَى، وَأَثَرٌ في فَرِيضَةٍ منْ فَرَائِضِ اللَّه تَعَالَى رواه الترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ.

وفي البابِ أحاديثُ كثيرةٌ، منها:

حديث العْرباض بنِ ساريةَ، ، قَالَ: "وعَظَنَا رسُول اللَّه ﷺ مَوْعِظَةً وَجِلَتْ منها القُلُوبُ، وذَرَفْت منْهَا العُيُونُ".

الشيخ: هذان الحديثان كالأحاديث السابقة في فضل البكاء من خشية الله، وأنه ينبغي للمؤمن أن يتعاطى أسباب البكاء من خشية الله، فيخشع قلبه ويطمئن إلى طاعة ربه ويزيد لذتها، والسرور بها كما فعل السلف الأخيار من الأنبياء والصالحين، وذلك بالتدبر للقرآن العظيم، والتدبر لما أخبر الله به عن ذاته وصفاته، وعن الجنة والنار، وغير ذلك حتى تخشع القلوب، وحتى تلين، وحتى تدمع العين، وفي هذا الحديث: ليس أحب إلى الله من قطرتين وأثرين، عين بكت من خشية الله، وقطرة دم في سبيل الله، وأثر في الجهاد في سبيل الله، وأثر في السير إلى مساجد الله لأداء العبادة فالمؤمن يحاسب نفسه ويجاهدها لله حتى تدمع عينه، حتى يخشع قلبه في صلاته بالليل والنهار، وفي قراءته، وفي تفكيره ونظره فيما أوجب الله، وفيما حرم الله، وفيما أعد الله لأوليائه، وما أعد لأعدائه حتى يخشع القلب.

ومن هذا حديث العرباض بن سارية السلمي حيث قال: أن الرسول ﷺ وعظهم موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا؟ قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة فأوصاهم بتقوى الله وحثهم على التمسك بالقرآن والسنة، والاستقامة على الطريق الذي تركهم عليه، والحذر من البدع والمحدثات، وبين أن كل بدعة ضلالة، وأن الهدى والسعادة في اتباع ما جاء به عليه الصلاة والسلام، والسير على منهاجه كما قال عليه الصلاة والسلام: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد، وقال ﷺ: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد، والله يقول سبحانه يقول للناس: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153]، ويقول : اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6-7] فصراط الله هو توحيده وطاعته واتباع رسوله ﷺ، هذا هو صراط الله، وما حاد عن ذلك من المعاصي والبدع فهو السبل التي حذر الله من اتباعها، وقد أنزل كتابه سبحانه هدى للناس، وبيانا للناس، ونذارة وبشارة وصراطا مستقيما، وأمر بتدبره والاستقامة عليه، وحذر من خلاف ذلك كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص:29]، هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ [إبراهيم:52]، وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل:89]، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153].

فالواجب على جميع الثقلين الجن والإنس، والعرب والعجم، والذكور والإناث، الواجب عليهم جميعا أن يلزموا صراطه وسبيله، وأن يستقيموا على ذلك، وأن يحذروا ما حرم الله عليهم، وأن يحذروا الإحداث في الدين مما لم يأذن به الله، وأن يكون لهم عناية بأسباب البكاء من خشيته، والحذر من معصيته، والإقامة على طاعته، هكذا يكون المؤمن ينظر في أسباب النقم وأسباب الهلاك وما أعد الله للمجرمين، وينظر في أسباب السعادة وما أعد الله للمطيعين، حتى يخشع قلبه وحتى تدمع عينه، وحتى يبتعد عن أخلاق المجرمين، وعن صفات الضالين، وفق الله الجميع.

55-باب فضل الزهد في الدنيا والحث عَلَى التقلل منها وفضل الفقر

قَالَ الله تَعَالَى: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس:24]، وقال تَعَالَى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ۝ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف:45-46]، وقال تَعَالَى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20]، وقال تَعَالَى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14]، وقال تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر:5]، وقال تَعَالَى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ۝ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ۝ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ۝ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ۝ كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ [التكاثر:1-5]، وقال تَعَالَى: وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:64]، والآيات في الباب مشهورة.

وأما الأحاديث فأكثر مِنْ أن تحصر فننبِّهُ بطرف منها عَلَى مَا سواه.

1/456-عن عمرو بنِ عوفٍ الأَنْصاريِّ، ، أَنَّ رسولَ اللَّه ﷺ بَعَثَ أَبا عُبيدةَ بنَ الجرَّاحِ، ، إِلَى البَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجزْيَتِهَا فَقَدمَ بِمالٍ منَ البحْرَينِ، فَسَمِعَت الأَنصَارُ بقُدومِ أَبي عُبَيْدَةَ، فوافَوْا صَلاةَ الفَجْرِ مَعَ رسولِ اللَّه ﷺ، فَلَمَّا صَلى رسولُ اللَّه ﷺ انْصَرَفَ، فَتَعَرَّضُوا لَهُ، فَتَبَسَّمَ رسولُ اللَّه ﷺ حِينَ رَآهُمْ، ثُمَّ قَالَ: أَظُنُّكُم سَمِعتُم أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيء مِنَ الْبَحْرَيْنِ فقالوا: أَجَل يَا رسول اللَّه، فقال: أَبْشِرُوا وأَمِّلُوا مَا يَسرُّكُمْ، فواللَّه مَا الفقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلكنّي أَخْشى أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُم كَمَا بُسطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، فَتَهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ متفقٌ عليه.

2/457-وعن أَبي سعيدٍ الخدريِّ، ، قالَ: جَلَسَ رسولُ اللَّه ﷺ عَلى المِنْبَرِ، وَجَلسْنَا حَوْلَهُ. فقال: إِنَّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُم مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِن زَهْرَةِ الدُّنيَا وَزيَنتهَا متفقٌ عليه.

3/458-وعنه أَنَّ رسولَ اللَّه ﷺ، قَالَ: إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّه تَعالى مُسْتَخْلِفكُم فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْملُونَ، فاتَّقُوا الدُّنْيَا، واتَّقُوا النِّسَاءِ رواه مسلم.

الشيخ: في هذه الآيات الكريمات والأحاديث الثلاثة، وما جاء في معناها الحث على الرغبة في الآخرة والزهد في الدنيا، وعدم الحرص على المال وكثرته والمنافسة فيه، فإن ذلك فيه الخطر العظيم، ولكن يجتهد الإنسان فيما يكفيه ويغنيه عن الناس، ويحذر أن يشغل بالدنيا عن الآخرة فإنه فتنة، فيجب أن يحذرها، ولكنه يسعى في الكسب الطيب، ويحرص على الكسب الطيب الذي يغنيه عما في أيدي الناس، ولا يحرص على الكثرة التي تفضي به إلى الربا، والرغبة فيما عند الناس، والتثاقل عن أمور الآخرة، ولهذا قال جل وعلا: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ [يونس:24] هكذا شأن الدنيا، قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ الآية [آل عمران:14]، وقال تعالى: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [فاطر:5] في آيات كثيرات، وليس المقصود أن يدع الأسباب ويدع الكسب ويرضى بالفقر لا، ولكن المقصود أن يحذر التنافس في الدنيا الذي يشغله عن الآخرة كما قال عليه الصلاة والسلام: إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء يعني اتقوا فتنتها، واتقوا فتنة النساء.

ولما جاء الأنصار إليه لما قدم أبو عبيدة بمال من البحرين، من جزية البحرين، قال للأنصار: أبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، وإنما أخشى عليكم الدنيا أن تبسط عليكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم، ويقول ﷺ: إن مما أخاف عليكم ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها فالمقصود من هذا أنه يخشى على المؤمن من الفتنة بها، والاستكثار منها كما وقع لقارون وغيره فهلك بسبب ذلك، ولكن الإنسان يطلب منها ما يقوم بحاجته، وما يعينه على طاعة الله، ويحرص على الأسباب الطيبة والكسب الطيب، وينفق مما أعطاه الله، هكذا المؤمن. سئل النبي ﷺ: أي الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور فالبيع المبرور، والعمل باليد لطلب الرزق الحلال هذا أمر مطلوب للمؤمن حتى يستغني عما في أيدي الناس، ولما جاءه رجل يشحذ أمره أن يعمل، أعطاه الفأس وأمره أن يحطب ويحتش ويبيع ويستغني هكذا.

وفي الحديث الآخر يقول ﷺ: لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة من الحطب على ظهره فيبيعها فيكف بها وجهه خير له من سؤال الناس أعطوه أو منعوه فالمقصود من هذا الحث على الكسب وطلب الرزق، وعدم الحرص على كثرة الدنيا والاستكثار منها على الوجه الذي يضره ويسبب فتنته ويشغله عن الآخرة، أما على وجه يغنيه عن الناس ويعينه على طاعة الله وينفق في وجوه البر والخير فهذا أمر مطلوب، كما كان للصحابة كعبدالرحمن بن عوف وغيره من أصحاب النبي ﷺ من أهل المال نفعهم أموالهم ونفعوا بها الناس، وكما جرى للصديق نفعه الله بماله وأنفقه في سبيل الله، وهكذا عمر، وهكذا غيرهم، فالترجمة قد يغتر بها بعض الناس في قوله: "وفضل الفقر" فضل الفقر، فضل الصبر عليه، وإلا ما هو معناه أنه يرضى به ولا يتسبب لا، لا يرضى بالفقر ولكن يصبر، إذا أصيب يصبر ويحتسب ويطلب الرزق، لا يخلد إلى الراحة وسؤال الناس لا، بل يصبر ويحتسب ويعمل ويكدح ويجتهد في طلب الرزق من طريق البيع والشراء، من طريق الاحتشاش، الاحتطاب، العمل بيده، كاتب، حداد، نجار، خباز، يعمل كما قال ﷺ أي الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور، ويقول ﷺ: ما أكل أحد طعاما خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده كان يعمل عليه الصلاة والسلام السرابيل للناس، يعمل دروع ويعمل آلات الحرب، وهو نبي الله عليه الصلاة والسلام، يعمل محاريب وتماثيل إلى غير ذلك. المقصود أنه عليه الصلاة والسلام كان يعمل، يجتهد، يصنع الدروع، يصنع آلات الحرب، ويبيع ويستفيد، وهو نبي الله عليه الصلاة والسلام، فهكذا ينبغي لأهل الإيمان أن يكون لهم أسباب وكسب يغنيهم عما في أيدي الناس، زراعة كما للأنصار كان لهم زراعة، وكان المهاجرون أهل تجارة يبيعون ويشترون، لكن يحرص المؤمن على ألا تشغل تجارته أو زراعته أو أسبابه الأخرى عن طاعة الله، وعما يرضي الله، وعن النفقة في سبيل الله، هذا المطلوب ولا ينبغي أن يرضى بالفقر ولا يتسبب ولا يكدح ولا يعمل، لا بل يعمل وما أصابه من الحاجة يصبر ويحتسب، يصبر يسأل ربه العون، ولا تحمله الحاجة على السرقة، أو الربا، أو ظلم الناس لا، يتصبر ويعمل، يأخذ بأسباب الربح، بأسباب الكسب، حداد، نجار، خراز، زراع، تاجر يطلب الأسباب التي تعينه على طاعة الله ، ويجمع هذا قوله ﷺ لما سئل أي الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور، وقال ﷺ كما روى البخاري: ما أكل أحد طعاما خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده عليه الصلاة والسلام. وفق الله الجميع.

4/459-وعن أَنسٍ ، أَنَّ النبيَّ ﷺ قَالَ: اللَّهُمَّ لاَ عَيْشَ إِلاَّ عَيْشُ الآخِرَةِ متفقٌ عَلَيْهِ.

5/460-وعنهُ عن رَسُولِ اللَّه ﷺ قَالَ: يَتْبَعُ المَيِّتَ ثَلاثَةٌ: أَهْلُهُ وَمالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ، وَيَبْقَى معه وَاحدٌ، يَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ متفقٌ عَلَيهِ.

6/461-وعنه قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: يُؤْتِيَ بَأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِن أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ في النَّارِ صَبْغَةً ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعيمٌ قَطُّ؟ فيقول: لا، واللَّه يا رَبِّ. وَيُؤْتِى بأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا في الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَةً في الجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةُ قَطُّ؟ فيقولُ: لاَ، وَاللَّه، مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ رواه مسلم.

الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كالتي قبلها في الحث على الرغبة في الآخرة، والإعداد لها، وعدم التشاغل بالدنيا عن الآخرة، وأنه ينبغي للمؤمن أن يكون أكبر همه الإعداد للآخرة، والعمل للآخرة، وأن يحذر الشغل بالدنيا، والمنافسة فيها، والاستكثار منها، فإن ذلك قد يصده عن الآخرة، ولهذا قال ﷺ: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة يعني لا عيش كامل إلا عيش الآخرة، عيش الدنيا موجود، عيش الدنيا لكن ليس بكامل، منغص بالأمراض والموت وغير ذلك، ولكن عيش الآخرة ليس فيه تنغيص، عيش كامل ونعيم كامل، ولهذا قال ﷺ: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة يعني لا عيش كامل سليم من المنغصات إلا عيش الآخرة.

وقال ﷺ: يتبع الميت ثلاثة: أهله، وماله، وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله، ويبقى عمله يتبعه أهله في الغالب، أبوه وإخوانه وأقاربه يتبعونه إلى الدفن غالبا، هكذا ماله مثل: أدوات الحفر، حفر القبر، وما أشبه ذلك مما يحتاج إليه، ثم يرجعون ويبقى عمله، إن كان صالحا أو غير صالح، إن كان عمله صالحا فما أعظم سعادته، وإن كان عمله خبيثا فما أعظم شقاوته، نسأل الله السلامة.

والمقصود من هذا أنه ينبغي للمؤمن أن يعد للآخرة، وأن يجتهد في هذه الدنيا فيما يرضي الله عنه، وفيما يكون سببا لسعادته عند موته، وفي قبره وفي آخرته، وليحذر التشاغل بالدنيا والاستكثار منها على وجه يصده عن الآخرة، أما طلب الدنيا لحاجته والتجارة والحراثة فلا بأس، هكذا كان الأنصار والمهاجرون، المهاجرون يتجرون والأنصار يحرثون لطلب الرزق، لكن لم يشغلهم عن الآخرة، ولم يشغلهم عن الجهاد، فطلب الرزق والتجارة والزراعة إذا لم تشغل عن الآخرة فأمر مطلوب.

وفي الحديث الصحيح يقول ﷺ لما سئل أي الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور، وفي الحديث الآخر يقول ﷺ: ما أكل أحد طعاما خيرا من أن يأكل من عمل يده، وكان نبي الله داود يأكل من عمل يده فالمؤمن إذا سعى في طلب الرزق على وجه لا يضره عمله في الآخرة، هذا أمر مطلوب، عمل الأنبياء، وعمل الصالحون وطلبوا الرزق لكن على وجه لا يصدهم عن الآخرة، ولا يشغلهم عن الآخرة.

وفي الحديث الثالث: يقول ﷺ: يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيغمس في النار غمسة يعني يدخل النار فيقال له: هل مر بك نعيم؟ هل مر بك سرور؟ فيقول: لا ما مر بي نسي نعيمه في الدنيا لما رأى العذاب والعياذ بالله، نسي كل شيء بسبب شدة العذاب نعوذ بالله، ويؤتى بأبأس أهل الدنيا من الفقراء في الدنيا، فإذا أدخل الجنة قيل له: هل مر بك بؤس؟ هل مر بك شدة؟ فيقول: لا يا رب ما مر نسي ما أصابه في الدنيا، لما رأى النعيم في الجنة والسرور في الجنة نسي ما أصابه في الدنيا من الشدة والتعب والفقر، نسي هذا كله، فهذا يدل على أن المؤمن إذا دخل الجنة نسي كل ما أصابه في الدنيا من التعب، والكافر والعياذ بالله ينسى ما مر به في الدنيا من النعيم إذا دخل النار، كل ذلك النعيم ذهب كأنه لم يكن، فالحازم هو الذي يعد للآخرة، هذا هو الحازم، وهذا هو الكيس الذي يعد للآخرة ويعمل للآخرة، يستعين بالدنيا على عمل الآخرة، والمفرط العاجز هو الذي يعمل للدنيا وينسى أمر الآخرة، نسأل الله العافية، نسأل الله للجميع التوفيق.

7/462-وعن المُسْتَوْردِ بنِ شدَّادٍ ، قَالَ: قالَ رسولُ اللَّه ﷺ: مَا الدُّنْيَا في الآخِرَةِ إِلاَّ مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحدُكُمْ أُصْبُعَهُ في الْيَمِّ. فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ؟ رواه مسلم.

7/463-وعن جابرٍ، أَنَّ رسولَ اللَّه ﷺ مَرَّ بِالسُّوقِ وَالنَّاسُ كنفتيه، فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ، فَتَنَاوَلَهُ، فَأَخَذَ بَأُذُنِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟ فَقالوا: مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ، وَمَا نَصْنَعُ بِهِ؟ ثُمَّ قَالَ: أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ؟ قَالُوا: وَاللَّه لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فيه، لأنه أَسَكُّ، فكَيْفَ وَهو مَيَّتٌ، فقال: فَوَاللَّه للدُّنْيَا أَهْونُ عَلى اللَّه مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ رواه مسلم.

قوله كنفتيه أَيْ: عن جانبيه. وَ الأَسكُّ الصغير الأُذُن.

9/464-وعن أَبي ذرٍّ ، قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ ﷺ في حَرَّةٍ بِالمَدِينَةِ، فَاسْتَقْبلَنَا أَحُدٌ فقال: يَا أَبَا ذَرٍّ. قلت: لَبَّيْكَ يَا رسولَ اللَّه. فقال: مَا يَسُرُّني أَنَّ عِنْدِي مِثل أَحُدٍ هَذَا ذَهبًا تَمْضِي عَلَيَّ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ وعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ، إِلاَّ شَيْءٌ أَرْصُدُهُ لِدَيْنِ، إِلاَّ أَنْ أَقُولَ بِهِ في عِبَاد اللَّه هكَذَا وَهَكَذا عن يَمِينهِ وعن شِمَالِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، ثُمَّ سَارَ فقال: إِنَّ الأَكثَرِينَ هُمُ الأَقَلُّونَ يَومَ القيامةِ إِلاَّ مَنْ قَالَ بالمَالِ هكذَا وَهكَذَا عن يمينهِ، وعن شمالهِ، ومِنْ خَلفه وَقَليلٌ مَا هُمْ. ثُمَّ قَالَ لي: مَكَانَك لاَ تَبْرَحْ حَتَّى آتيَكَ. ثُمَّ انْطَلَقَ في سَوَادِ اللَّيْلِ حَتَّى تَوَارَى، فسمِعْتُ صَوْتًا قَدِ ارْتَفَعَ، فَتَخَوَّفْتُ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ عَرَضَ للنَّبِيِّ ﷺ فَأَرَدْتُ أَنْ آتِيَهُ فَذَكَرْتُ قَوْله: لا تَبْرَحْ حَتَّى آتيَكَ فلم أَبْرَحْ حَتَّى أَتَاني، فَقُلْتُ: لَقَدْ سَمِعْتُ صَوتًا تَخَوَّفْتُ مِنْهُ، فَذَكَرْتُ لَهُ. فقال: وَهَلْ سَمِعْتَهُ؟ قلت: نَعَم، قَالَ: ذَاكَ جِبريلُ أَتاني فقال: مَن ماتَ مِنْ أُمتِكَ لا يُشرِكُ باللَّه شَيئًا دَخَلَ الجَنَّةَ، قلتُ: وَإِنْ زَنَي وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ متفقٌ عليه. وهذا لفظ البخاري.

الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة، والتي قبلها وما جاء في معناها كلها تدل على حقارة الدنيا، وأنها لا تزن عند الله شيئا، وأن العاقل لا يؤثرها على الآخرة، العاقل يستعين بها على الآخرة، ولا يؤثرها على الآخرة، فهي متاع وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185]، وقال : أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38] فلا يليق بالمؤمن ولا يليق بالعاقل أن يؤثرها على الآخرة، ويؤثر شهواتها على ما أعد الله لأهل الإيمان والتقوى في الجنة، ومن هذا قوله ﷺ: لأن يدخل أحدكم أصبعه في اليم إذا أدخل أصبعه في اليم فإنها لا تزن عند الله هذه القطرة التي تحملها أصبعها، فالدنيا في الآخرة ليس لها قيمة، ما الدنيا في الآخرة إلا كما يدخل أحدكم أصبعه في اليم ثم يرفعها فماذا تنقص من ملك الله، وما عند الله، وفي الحديث الآخر: لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضه ما سقى منها كافرا شربة ماء فالمقصود أنها ليس لها قيمة، ولهذا قال ﷺ: ما الدنيا في الآخرة إلا كما يدخل أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم ترجع؟ ماذا يعلق بها، ومر بجدي أسك في الطريق فقال: أيكم يحب أن يكون له هذا بدرهم، قالوا: ما نحب ولو بلاش، قال: إن الدنيا عند الله أهون عليكم من هذا أهون على الله من هذا التيس الذي هو أهون عليكم، يعني إنها عنده سبحانه هينة لا قيمة لها، كما أن هذا التيس الأسك ليس له قيمة، فهذه الدنيا عند الله أهون من هذا، يعني ليس لها قدر ولا قيمة إلا من اتقى الله فيها وعمرها بالتقوى، هكذا ينبغي للمؤمن، ولهذا يقول ﷺ: لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة من ماء، ولكنها متاع قليل، جعلها الله متاعا لعباده يستعين بها أهل الإيمان على التقوى، ويغتر بها أهل العقول الضعيفة والبصائر المنحرفة.

وفي الحديث الآخر: حديث أبي ذر كان مع النبي ﷺ في حرة المدينة، فقال: يا أبا ذر لو كان عندي مثل أحد ذهبا ما مر علي ثلاثة أيام وعندي منه دينار إلا دينار أرصده لدين، ولكن أقول به هكذا وهكذا وهكذا يعني في عباد الله، يعني أنفق وأحسن، هكذا يقول ﷺ لو كان عنده مثل أحد ذهبا ما أحب أن تمر عليه ثلاثة أيام وعنده منه دينار ولكن ينفقه في عباد الله هكذا وهكذا عن يمينه، وعن شماله، ومن خلفه، هكذا ينبغي للأخيار أن تهون عندهم الدنيا، وأن ينفقوا ويحسنوا وألا يغتروا بها، ولهذا يقول جل وعلا: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [الحديد:7]، ويقول جل وعلا: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن:16]، وفي حديث أبي ذر أن الرسول ذهب في بعض تلك الحرة وغاب عنه، وسمع أصواتا، وقال له: لا تبرح مكانك، فلما سمع أصواتا أراد أن يذهب إليه ثم ذكر قوله لا تبرح مكانك فرجع إلى النبي ﷺ فقال: إن جبرائيل أتاني وقال: من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا أدخله الله الجنة، قال أبو ذر: يا رسول الله وإن زنا وإن سرق؟ قال: وإن زنا وإن سرق، قلت: يا رسول الله وإن زنا وسرق؟ قال في الثالثة في الرواية الأخرى: وإن زنا وإن سرق، على رغم أنف أبي ذر هذا يدل على أن المعاصي لا تمنع من دخول الجنة إذا مات على التوحيد والإيمان، ولكن قد يعذب على قدرها، وبعد التطهير والتمحيص يخرجه الله من النار، وإنما يخلد فيها الكفرة، أما العاصي من زنا وشرب المسكر، أو نحو ذلك فمصيره إلى الجنة إذا كان موحدا مؤمنا، وإن دخل النار، وإن مكث فيها ما شاء الله، وإن عذب فيها فمنتهاه الجنة بعد التطهير والتمحيص وإخراجه من النار يعود إلى الجنة، إما بشفاعة الشفعاء، وإما بغير ذلك من مجرد فضله إذا لم يتب، أما من تاب ورجع إلى الله وأناب ومات على التوبة فإنه يدخل الجنة من أول وهلة، أما من مات على المعاصي فهو تحت مشيئة الله.

كما قال : إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] تحت المشيئة؛ الزنا، الربا، العقوق، المسكر، إلى غير هذا، هذه المعاصي التي دون الشرك تحت المشيئة، إذا مات عليها ولم يتب فقد يغفر له بشفاعة الشفعاء قبل دخول النار، وقد يعذب ثم يشفع فيه الشفعاء كما ثبت في الأحاديث المتواترة أنه ﷺ يشفع عدة شفاعات في أناس من الموحدين قد دخلوا النار بذنوبهم فيشفع الأولى فيحد الله له حدا فيخرجهم من النار، ثم يشفع الثانية فيحد الله له حدا فيخرجهم من النار، ثم يشفع الثالثة فيحد الله له حدا فيخرجهم من النار، ثم يشفع الرابعة فيحد الله له حدا فيخرجهم من النار، وتبقى بقية من العصاة في النار لا تنالهم الشفاعة فيخرجهم الله بفضله ورحمته بعد ذلك، فضلا منه سبحانه بعدما امتحشوا، بعدما احترقوا فيها بسبب ذنوبهم ومعاصيهم، ثم يلقون في نهر الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، فإذا تكامل خلقهم أدخلهم الله الجنة، هذه حال العصاة إذا ماتوا ولم يتوبوا تحت مشيئة الله، قد يغفر لبعضهم، وكثير منهم لا يغفر له بل يدخل النار ويعذب بمعاصيه، وإذا طهر في النار أخرج منها برحمة الله على حسب أحوالهم، متفاوتون فيها، منهم من يبقى فيها طويلا، ومنهم من يبقى فيها غير طويل على حسب معاصيهم، وبعد التطهير والتمحيص يخرجهم الله من النار إلى الجنة بسبب إسلامهم وتوحيدهم الذي ماتوا عليه، أما من مات على الكفر والضلال فإنه لا يخرج منها أبد الآباد كما قال تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:37] يعني الكفرة، وقال تعالى: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167]، وقال في حقهم كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء:97]، وقال تعالى: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا [النبأ:30]، نسأل الله العافية.