19 من حديث (لو كان لي مثل أحد ذهبا..)

10/465- وعن أبي هريرة ، عنْ رسولِ اللَّه ﷺ قَالَ: لَوْ كَانَ لِي مِثلُ أُحُدٍ ذَهَبًا، لَسرَّني أَنْ لاَ تَمُرَّ علَيَّ ثَلاثُ لَيَالٍ وَعِندِي مِنْهُ شَيءٌ إلاَّ شَيءٌ أُرْصِدُه لِدَينٍ متفقٌ عليه.

11/466-وعنه قال: قال رسول اللَّه ﷺ: انْظُرُوا إِلَى منْ أَسفَل منْكُمْ وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هَوَ فَوقَكُم فهُوَ أَجْدرُ أَن لاَ تَزْدَرُوا نعمةَ اللَّه عَليْكُمْ متفقٌ عَلَيْهِ وهذا لفظ مسلمٍ.

وفي رواية البخاري، إِذا نَظَر أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضلَ عليهِ في المالِ وَالخَلْقِ فلْينْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْهُ.

12/467-وعنه عن النَّبيّ ﷺ قَالَ: تَعِسَ عبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالقطيفَةِ وَالخَمِيصَةِ، إِنْ أُعطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعطَ لَمْ يَرْضَ رواه البخاري.

الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كالتي قبلها في الحث على الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة والإعداد لها، وعدم الاشتغال بما يصده عن الآخرة من المكاثرة في الدنيا، ولهذا يقول ﷺ: لو كان لي مثل أحد ذهبا ما يسرني أن تمر علي ثلاثة أيام وعندي منه دينار إلا دينار أرصده لدين، ولكن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا فهذا فيه الحث على الإنفاق والجود والكرم وعدم كنز الأموال، ولكن ينفق في سبيل الله، قال تعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [الحديد:7]، وقال تعالى: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]، ويقول النبي ﷺ في الحديث الصحيح لما ذكر النار وذكر عرض العباد عليهم قال: ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، وليس بينه وبينه ترجمان، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر عن شماله فلا يرى إلا ما قدم، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة، ويقول ﷺ: انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من فوقكم فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم الإنسان ينظر إلى من دونه في المال، وفي المسكن، وفي الوظيفة حتى لا يزدري نعمة الله عليه، ولا ينظر إلى من فوقه من أهل الأموال والوظائف الكبار والتجارات، فإن نظر إليهم ازدرى نعمة الله عليها وتنقصها، فالمشروع للمؤمن أن ينظر إلى من دونه في المال والجاه والخلقة وغير ذلك حتى يعرف قدر نعمة الله عليه، وأن الله فضله على كثير، أما إذا نظر إلى من فوقه فهو حري بألا يشكر نعمة الله، وحري بأن يزدريها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ويقول ﷺ: تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش عبدها الذي يعمل لها، عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة والقطيفة الذي يعمل لها من أجلها، إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، لا يعمل للآخرة، ولكن يعمل للدنيا، فهذا دعا عليه النبي ﷺ بالتعاسة، وفسر هذا بقوله: إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش سماه عبدا لها لأنه يعمل لها، يرضى لها، ويغضب لها، لا يغضب لله ويرضى لله، بل يغضب لما لم يحصل له من الدنيا، ويرضى لما حصل، فهو عبد الدنيا ليس عبدا لله، فالواجب على المؤمن أن يكون عبدا لله، وأن يستعين بنعم الله على طاعة الله، وأن يطلب المال من جهته الحلال، وأن يكون همه ما يرضي الله ويقرب لديه، وألا يكون غضبه للدنيا ورضاه للدنيا. وفق الله الجميع.

13/468-وعن أبي هريرة، ، قَالَ: "لقَدْ رَأَيْتُ سبعِين مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، مَا منْهُم رَجُلٌ عَلَيْهِ رداءٌ، إِمَّا إِزَارٌ، وإِمَّا كِسَاءٌ، قدْ ربطُوا في أَعْنَاقِهِمْ، فَمنْهَا مَا يبْلُغُ نِصفَ السَّاقَيْن، ومنْهَا مَا يَبْلُغُ الكَعْبينِ، فَيجْمَعُهُ بيدِه كراهِيَةَ أَنْ تُرَى عوْرتُه" رواه البخاري.

14/469-وعنه قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: الدُّنْيَا سِجْنُ المُؤْمِنِ وجنَّةُ الكَافِرِ رواه مسلم.

15/470-وعن ابن عمر، رضي اللَّه عنهما، قَالَ: أَخَذ رسول اللَّه ﷺ بِمَنْكِبَيَّ، فقال: كُنْ في الدُّنْيا كأَنَّكَ غريبٌ، أَوْ عَابِرُ سبيلٍ.

وَكَانَ ابنُ عمرَ، رضي اللَّه عنهما، يقول: إِذَا أَمْسيْتَ، فَلا تَنْتظِرِ الصَّباحَ، وإِذَا أَصْبحْت، فَلا تنْتَظِرِ المَساءَ، وخُذْ منْ صِحَّتِكَ لمرضِكَ، ومِنْ حياتِك لِموتكَ. رواه البخاري.

قالوا في شَرْحِ هَذَا الحديث معناه: لاَ تَركَن إِلَى الدُّنْيَا وَلاَ تَتَّخِذْهَا وَطَنًا، وَلاَ تُحدِّثْ نَفْسكَ بِطُول الْبقَاءِ فِيهَا، وَلا بالاعْتِنَاءِ بِهَا، وَلاَ تَتَعَلَّقْ مِنْهَا إلاَّ بِما يَتَعَلَّقُ بِه الْغَرِيبُ في غيْرِ وطَنِهِ، وَلاَ تَشْتَغِلْ فِيهَا بِما لاَ يشتَغِلُ بِهِ الْغرِيبُ الَّذِي يُريدُ الذَّهاب إِلَى أَهْلِهِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقٌ.

الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كالتي قبلها في الحث على الرغبة في الآخرة والاستعداد للآخرة، والحذر من الركون إلى الدنيا والاشتغال بها عن الآخرة، فإنها في الحقيقة سجن المؤمن وجنة الكافر كما في الحديث، فجدير بالمؤمن أن يعد للآخرة وأن تكون أكبر همه، وأن يحرص على ما أوجب الله عليه، وعلى ترك ما حرم الله عليه،  وأن يكون ... أبدا في ليله ونهاره في إعداد وتأهب وحذر.

الحديث الأول ذكر أنه رأى أهل الصفة، وهم سبعون ليس لهم رداء، إنما عليهم الأزر من شدة الحاجة والفقر، النبي ﷺ لما هاجر إلى المدينة كثر المهاجرون والدنيا قليلة وآواهم الأنصار وأحسنوا، ولكن مع هذا كله فالحاجة عظيمة حتى رأى سبعين من أهل الصفة ليس عليهم رداء، ما عليهم إلا الأزر من شدة الحاجة.

ويقول ﷺ: الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر سجن المؤمن لأنه ينتظر الآخرة، همه الآخرة كالسجين الذي همه أن يطلق من السجن، وجنة الكافر لإعراضه عن الآخرة واشتغاله بالشهوات، فجدير بالمؤمن أن يتعلق قلبه بالآخرة، وأن يعد لها العدة، وأن يعتبر هذه الدنيا كالسجن ينتظر الخلاص منها إلى الجنة، فلا يميل إلى الدنيا وشهواتها حتى تشغله عن الآخرة، بل يأخذ منها ما يعينه على طاعة الله، ينفق في سبيل الله، يتصدق، يحسن، يطلب الرزق، لكن لا تشغله عن الآخرة مع تجارته، مع زراعته، مع أعماله الدنيوية هو مشغول أيضا بالآخرة، يستعين بأمور الدنيا على أمور الآخرة، هكذا المؤمن لا تشغله الدنيا عن آخرته، ولهذا قال النبي ﷺ لابن عمر رضي الله عنهما: كن في الدنيا كأنك غريب، أخذ بمنكبه وقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل يعني استعد للآخرة، الغريب وعابر السبيل يستعد للنقلة إلى بلده، إذا مر ببلد إنما يأخذ منها حاجته، ليست وطنا له، فهكذا أنت وطنك الجنة ليست الدنيا وطنك، فاستعد للآخرة وخذ منها من الدنيا ما يعينك على طاعة ربك، والوصول إلى دار الكرامة، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول مستفيدا من هذا الحديث: إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك يوصي أصحابه بذلك أن يستعدوا للآخرة إذا أصبحوا استعدوا، وإذا أمسوا استعدوا، لا يدري متى يرتحل، قد يمسي ولا يصبح، قد يصبح ولا يمسي، فالحزم هو الاستعداد، وأن يغتنم صحته لمرضه وحياته لموته.

في حديث آخر يقول ﷺ: اغتنم خمسا قبل خمس: اغتنم صحتك قبل مرضك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فرغك، وصحتك قبل مرضك، وحياتك قبل موتك رواه الحاكم وغيره، ويقول ﷺ: بادروا بالأعمال سبعا، هل تنتظرون إلا فقرا منسيا، أو غنى مطغيا، أو مرضا مفسدا، أو هرما مفندا، أو موتا مجهزا، أو الدجال، فالدجال شر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر، ويقول ﷺ: بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مسلما ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا، فالرسول ﷺ حذر من الركون إلى الدنيا والاغترار بها وطول الأمل، فإنه قد يضره ويغره طول الأمل، فينبغي له أن يكون قصير الأمل فيما تعلق بالآخرة، وإن عمل للدنيا وزرع وعمر بيته واتجر، لكن مع هذا كله فقلبه معلق بالآخرة، وتجارته وزراعته وما أشبه ذلك يستعين بها على طاعة الله، وعلى الصدقة والإنفاق في وجوه البر والإحسان، وفق الله الجميع.

16/471-وعن أَبي الْعبَّاس سَهْلِ بنِ سعْدٍ السَّاعديِّ، ، قَالَ: جاءَ رجُلٌ إِلَى النبيِّ ﷺ: فقالَ: يَا رسولَ اللَّه دُلَّني عَلى عمَلٍ إِذا عَمِلْتُهُ أَحبَّني اللَّه، وَأَحبَّني النَّاسُ، فقال: ازْهَدْ في الدُّنيا يُحِبَّكَ اللَّه، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحبَّكَ النَّاسُ حديثٌ حسنٌ رواه ابن مَاجَه وغيره بأَسانيد حسنةٍ.

17/472-وعن النُّعْمَانِ بنِ بَشيرٍ، رضيَ اللَّه عنهما، قالَ: ذَكَر عُمَرُ بْنُ الخَطَّاب، ، مَا أَصَابَ النَّاسُ مِنَ الدُّنْيَا، فَقَالَ: "لَقَدْ رَأَيْتُ رسول اللَّه ﷺ يَظَلُّ الْيَوْمَ يَلْتَوي مَا يَجِدُ مِنَ الدَّقَل مَا يمْلأُ بِهِ بطْنَهُ". رواه مسلم.

"الدَّقَلُ" بفتح الدال المهملة والقاف: رَدِئُ التَّمْرِ.

18/473-وعن عائشةَ، رضي اللَّه عنها، قالت: تُوفِّيَ رسولُ اللَّه ﷺ، وَمَا في بَيْتي مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلاَّ شَطْرُ شَعيرٍ في رَفٍّ لي، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَال علَيَّ، فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ. متفقٌ عليه.

"شَطْرُ شَعيرٍ" أَي شَيْء مِنْ شَعيرٍ. كَذا فسَّرهُ التِّرمذيُّ.

الشيخ: هذه الأحاديث كالتي قبلها في الحث على الرغبة في الآخرة، والإعداد للآخرة، وعدم الإقبال على الدنيا والاستكثار منها، فقد كان السلف الصالح يهتمون بالآخرة، ويقنعون باليسير من الدنيا حتى لا تشغلهم عن الآخرة، ومن ذلك ما كان عليه المسلمون في مكة، ولما هاجروا إلى المدينة من الحاجة والشدة صبروا حتى فرج الله الأمور، وفتح عليهم الفتوح ويسر لهم الأرزاق، ومن هذا قوله ﷺ لما قال له رجل: أخبرني بعمل إذا فعلته أحبني الله، وأحبني الناس؟ قال: ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس ازهد في الدنيا معناه عدم الاشتغال بما يصده عن الآخرة، ما هو معناه تركها وعدم التجارة، أو عدم الأسباب، لا، معناه عدم التعلق بها حتى تشغله عن الآخرة، فقد كان الصحابة فيهم التجار، وفيهم المزارعون، وفيهم أهل الصنعة والعمل، لكن لم تشغلهم عن الآخرة، وعن الجهاد في سبيل الله، فالمعنى ازهد فيها يعني لا تعلق فيها قلبه وإن اتجرت، وإن عملت، لكن لا تعلق بها قلبك اجعل أمرها يسيرا، إنما تريدها لتستعين بها على الآخرة، لا تشغلك عن الآخرة، وهكذا الزهد بما عند الناس، إذا لم تسألهم ما في أيديهم أحبوك، وإذا سألتهم وشحذتهم أبغضوك؛ لأن الناس يحبون من استغنى عنهم، ويكرهون من أشغلهم بالشحاذة والطلب والسؤال، فالمؤمن يكون قلبه معلقا بالله، حريصا على الإعداد للآخرة، ويقنع من الدنيا بما يسر الله له من أسباب الرزق، لا تكن أكبر همه الدنيا، هكذا المؤمن.

وذكر عمر أن الرسول ﷺ كان في بعض الأيام يمر عليه اليومان وما يجد ما يملأ به بطنه من الدقل، من رديء التمر، كان الصحابة يخرجون بعض الأحيان من بيوتهم أخرجهم الجوع يلتمسون ما يسدون به الجوعة.

وتقول عائشة أنه حين توفي ما في البيت إلا شيء من شعير، فهذا يدل على أنه ﷺ ما يبالي بهذه الدنيا، وتقدم قوله ﷺ: لو كان لي مثل أحد ذهبا ما يسرني أن تمر علي ثلاثة أيام وعندي منه دينار، ولكن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا يعني أوزعه بين عباد الله، إلا دينار أرصده لدين، ولما جاءه مال من البحرين، جزية البحرين، جزية المجوس وألقي في المسجد، قسمه في مجلسه بين الناس عليه الصلاة والسلام، وما قام ومنه شيء، وزعه بين أصحابه على حسب حاجاتهم، بعض الناس قد يفهم من هذا أن الدنيا تترك وأنه يرضى بالحاجة والفقر لا يطلب الدنيا، ويطلب الرزق إما بيع، أو شراء، أو زراعة، أو نجارة، أو حدادة، أو غير هذا، لكن لا يعلق قلبه بها، يطلبها ليستعين بها على الآخرة، ليستغني بها عن الناس، هكذا المؤمن، فالزهد فيها عدم الاشتغال بها عن الآخرة، وعدم إيثارها على الآخرة، وليس معناه تركها بالكلية، فلم يتركها الرسل ولا الصحابة والأخيار، بل طلبوها وعملوا واجتهدوا، وكان نبي الله داود يصنع الدروع، والصحابة فيهم التجار كعبدالرحمن بن عوف، والصديق، وغيرهم. وفي الأنصار كلهم كانوا مزارعين، عندهم الزراعة يزرعون ويبيعون ويتصدقون، فنعم المال الصالح للرجل الصالح، نعم المال الطيب للرجل الطيب الذي يقول به هكذا وهكذا في الناس، لكن لا يعلق قلبه به، بل يعلق قلبه بالآخرة، وتكون الدنيا تبعا ينفقها في وجوه البر كما قال تعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [الحديد:7]، ويقول ﷺ لما سئل أي الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور، وقال ﷺ: ما أكل أحد طعاما خيرا من أن يأكل من عمل يده، وكان نبي الله داود يأكل من عمل يده عليه الصلاة والسلام، وفق الله الجميع.

19/474-وعن عمرو بنِ الحارِث أَخي جُوَيْرِية بنْتِ الحَارثِ أُمِّ المُؤْمِنِينَ، رضي اللَّه عنهما، قَالَ: "مَا تَرَكَ رسولُ اللَّه ﷺ عِنْدَ مَوْتِهِ دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا، وَلاَ عَبْدًا، وَلا أَمَةً، وَلا شَيْئًا إِلاَّ بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ الَّتي كَان يَرْكَبُهَا، وَسِلاحَهُ، وَأَرْضًا جَعَلَهَا لابْنِ السَّبيِلِ صَدَقَةً" رواه البخاري.

20/475-وعن خَبَّابِ بنِ الأَرَتِّ، ، قَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ رسول اللَّه ﷺ نَلْتَمِسُ وَجهَ اللَّه تَعَالَى فَوَقَعَ أَجْرُنا عَلى اللَّه، فَمِنَّا مَنْ مَاتَ وَلَمْ يأْكُلْ مِنْ أَجرِهِ شَيْئًا، مِنْهُم مُصْعَبُ بن عَمَيْر، ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرَكَ نَمِرَةً، فَكُنَّا إِذَا غَطَّيْنا بهَا رَأْسَهُ، بَدَتْ رجْلاهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رِجْلَيْهِ، بَدَا رَأْسُهُ، فَأَمَرَنا رسولُ اللَّه ﷺ، أَنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ، وَنَجْعَلَ عَلى رجْليهِ شَيْئًا مِنَ الإِذْخِرِ، ومِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ، فَهُوَ يَهدبُهَا. متفقٌ عَلَيْهِ.

"النَّمِرَةُ": كسَاء مُلَوَّنٌ منْ صُوفٍ. وَقَوْلُه: "أينَعَت" أَيْ: نَضَجَتْ وَأَدْرَكَتْ. وقوله: "يَهْدِبُهَا" هو بفتح الباءِ وضم الدال وكسرها. لُغَتَان. أَيْ: يَقْطِفُهَا وَيجْتَنِيهَا، وَهَذِهِ اسْتِعَارَةٌ لمَا فَتَحَ اللَّه تَعَالى عَلَيْهِمْ مِنَ الدُّنْيَا وَتَمَكنُوا فيهَا.

21/476-وعن سَهْلِ بنِ سَعْد السَّاعديِّ، ، قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه ﷺ: لَوْ كَانَت الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّه جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، مَا سَقَى كَافرًا منْها شَرْبَةَ مَاءٍ. رواه الترمذي، وَقالَ: حديث حسن صحيح.

الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كالتي قبلها في الحث على الرغبة في الآخرة والإعداد لها، والاستكثار من الأعمال الصالحة، وعدم الاغترار بالدنيا وزهرتها، وعدم الركون إليها، فإنها متاع قليل كما قال تعالى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38]، ومن هذا قول عمرو بن الحارث أن الرسول ﷺ ما ترك عند موته عبدا ولا أمة ولا شيئا إلا بغلته البيضاء، وسلاحه، وأرضا جعلها صدقة، يعني أنه ما كان يجمع الدنيا، فكان ﷺ كل ما ورد إليه شيء أنفقه، ينفقه في وجوه البر، في أعمال الخير، في أصحابه وفي غيرهم عليه الصلاة والسلام.

تقدم قوله ﷺ: لو كان لي مثل أحد ذهبا لأنفقته في سبيل الله، وفي اللفظ الآخر: لا يسرني أن تمر علي ثلاثة أيام وعندي منه دينار إلا دينار أرصده لدين، ولكن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا يعني أنفقه في وجوه الخير، في عباد الله، هكذا ينبغي لولاة الأمور ولأهل الثروة النفقة في سبيل الله، والإكثار من مواساة الفقراء والمساكين، والقيام بالمشاريع الخيرية كما قال الله سبحانه آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [الحديد:7]، ويقول عليه الصلاة والسلام: نعم المال الصالح للرجل الصالح الذي يقول به هكذا وهكذا وهكذا فالمال الطيب نعم الزاد للمؤمن إذا أنفقه في وجوه الخير وأعطى منه المسكين والفقير وابن السبيل وغير ذلك، هذا أهل الإيمان إنما يستعينون بنعم الله على طاعة الله ولو كثرت الأموال، ولو اتجروا ولو زرعوا لكن ينفقون، يتجرون كما فعل المهاجرون، يزرعون كما فعل الأنصار، ولكن ينفقون في وجوه الخير.

وهكذا قول عبدالرحمن بن عوف لما مات مصعب بن عمير، لما قتل يوم أحد لم يخلف إلا نمرة إن غطوا بها رجليه بدا رأسه، وإن غطوا بها رأسه بدت رجلاه، فأمر النبي ﷺ أن تجعل على رأسه وعلى عورته، وأن يجعل على رجليه الإذخر، قال: "ثم أينعت لنا ثمرتنا فكل واحد يهدبها"، يعني يقطفها ويجتنيها، يعني وسع الله عليهم، وسع على الصحابة وفتح الله عليهم فتوح وجاءتهم الأموال فأنفقوا منها في سبيل الله، أكلوا وأنفقوا رضي الله عنهم وأرضاهم، فهكذا ينبغي للمؤمن أن يكون حريصا على الإنفاق في وجوه الخير، والمساعدة للمحاويج وإقامة المشاريع الخيرية، وأن تكون أمواله نافعة للمسلمين يواسي الفقير، ويقيم المشاريع الخيرية، ويعين الغارم، وهكذا تكون أمواله نافعة للمسلمين، هكذا المؤمن ينفق ويحسن ولكن مع ذلك لا تشغله عن الآخرة وليس معناه أنه يعطل الدنيا لا، لا يعطلها كما تقدم، بل يتجر ويعمل ويكتسب وينفق مثلما قيل: يا رسول الله أي الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور، وقال: ما أكل أحد طعاما خيرا من أن يأكل من عمل يده، وكان نبي الله داود يأكل من عمل يده عليه الصلاة والسلام، هكذا المؤمن يعمل ويكدح وينفق في سبيل الله، يجتهد في وجوه الخير ولا تشغله الدنيا عن الآخرة، لكنه لا يعطلها، بل يعمل يكتسب حتى يستغني عما في أيدي الناس.

كذلك حديث سهل بن سعد يقول النبي ﷺ: لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء يعني أنها لا قيمة لها، ولهذا أعطاها الله من يحب ومن لا يحب، وأكثرها في أيدي أعداء الله، أكثر الأموال في أيدي أعداء الله لأنها لا قيمة لها، وإذا كثرت الأموال وأنفقها العبد فيما يضره صارت من أعظم الزاد إلى النار نعوذ بالله، لكن إذا أنفقها فيما يرضي الله وفيما يقرب لديه نفعته ونفعت المسلمين كما فعل عبدالرحمن بن عوف وغيره من أثرياء المسلمين، وكما فعل الصديق أنفق على النبي ﷺ في سبيل الله، وصرف أمواله في سبيل الله، فكانت له الأجور العظيمة والفضل العظيم، وهكذا عمر، وهكذا عثمان، هكذا غيرهم من أثرياء الصحابة أنفقوا وصار لهم بذلك الأجر العظيم والفضل الكبير والذكر الجميل، وفق الله الجميع.

22/477-وعن أَبي هُرَيْرَة ، قالَ: سمعتُ رسولَ اللَّه ﷺ يقول: أَلاَ إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلعون مَا فِيهَا، إِلاَّ ذِكْرَ اللَّه تَعَالَى، ومَا وَالاَه وَعالمًا وَمُتَعلِّمًا. رواه الترمذي، وقال: حديثٌ حسنٌ.

23/478-وعن عبداللَّه بنِ مسعودٍ، ، قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: لا تَتَّخِذُوا الضَّيْعَةَ فَتَرْغَبُوا في الدُّنْيا. رواه الترمذي، وقال: حديثٌ حسنٌ.

24/479-وعن عبداللَّه بنِ عمرو بنِ العاصِ رضي اللَّه عنهما، قال: مَرَّ عَلَيْنَا رسولُ اللَّه ﷺ وَنحنُ نُعالجُ خُصًّا لَنَا فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقُلْنَا: قَدْ وَهِي، فَنَحْنُ نُصْلِحُه، فَقَالَ: مَا أَرَى الأَمْرَ إِلاَّ أَعْجَلَ مِنْ ذلكَ. رواه أَبو داود، والترمذيُّ بإِسناد البخاريِّ ومسلم، وقال الترمذيُّ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.

الشيخ: هذه الأحاديث كالتي قبلها في الحث على الرغبة في الآخرة والإعداد لها، والحذر من الركون إلى الدنيا والاشتغال بها عن الآخرة، فينبغي للمؤمن أن تكون له همة عالية وتشمير إلى دار السلام بالعمل الصالح، والرغبة فيما عند الله، ولا تشغله الدنيا وشهواتها وتجاراتها عما أوجب الله عليه، ولهذا في الحديث يقول ﷺ: الدنيا ملعونة ملعون ما فيها يعني مذمومة مذموم ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالما ومتعلما، وما والاه يعني من طاعة الله ورسوله والمؤمنين، هذا هو الذي يوالي ذكر الله أهل الإيمان والتقوى، وكل ما هو مشروع للعباد وطاعة لله كله داخل في ذكر الله، أما الدنيا وشهواتها وما يشغله عن الآخرة فمذموم، فالمراد باللعن هنا الذم كما قال جل وعلا في شجرة الزقوم إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ ۝ طَعَامُ الْأَثِيمِ ۝ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ۝ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان:43-46] فذمها عيبها وأنها مشغلة عن الآخرة إلا ذكر الله وما والاه من طاعة الله واتباع مرضاته، والدعوة إلى سبيله، والاستعانة بنعمه على طاعته، وكسب الرزق الحلال إلى غير هذا مما هو مشروع ومباح، وعالما بشرع الله، ومتعلما يريد النجاة.

كذلك الحديث الثاني في النهي عن اتخاذ الضيعة، فترغبوا عن الآخرة، يعني المزارع هذا إن صح فالمراد النهي عن الاشتغال بها عن الآخرة، ولكن في صحته نظر، فقد اتخذ الأنصار مزارع عظيمة، ونفع الله بهم العباد بمزارعهم، فاتخاذ المزارع والضيعات إذا لم تشغل عن الآخرة فلا حرج فيها، ولكن ينبغي للمؤمن أن يحذر أن تشغله عن الآخرة، وأن تشغله مزارعه وتجاراته عن الآخرة، وهكذا حديث الخص واشتغالهم ما أرى الأمر إلا أسرع من ذلك يعني ينبغي للمؤمن أن تكون همته ونشاطه وجده فيما يقربه من الله ويباعده من غضبه، وينبغي ألا تشغله مصالح الدنيا وشهوات الدنيا وأعمال الدنيا عن الآخرة، فكل ما ورد في هذا الباب محمول على هذا المحمل الذي يرضاه الله، وهو أن يشتغل بالدنيا فيما يرضي الله، ويبتعد عنها إذا كانت تشغل عن الله كما تقدم في الحديث: لما سئل أي الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور، وكذلك قوله ﷺ: إن خير ما أكل الإنسان من عمل يده، وإن داود كان يأكل من عمل يده عليه الصلاة والسلام، فالمؤمن مأمور بطلب الرزق من طريق الزراعة والتجارة وسائر الأعمال، لكن على وجه لا يشغله عن الآخرة، بل يستعين بنعم الله على طاعة الله، ويعمل بالأسباب التي تقربه من الله وتباعده عن الحاجة إلى الناس، وعما حرم الله عليه من مزرعة أو تجارة أو حدادة أو خرازة أو كتابة أو نجارة أو غير ذلك مما هو ينفع في الدنيا ويعينه ويسد حاجته عن الحاجة إلى الناس، وإنما المذموم أن يشتغل بالدنيا على وجه يشغله عن الآخرة، ويصده عن الآخرة، وفق الله الجميع.

25/480-وعن كَعْبِ بنِ عِيَاضٍ، ، قَالَ: سمعتُ رسولَ اللَّه ﷺ يقُولُ: إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فتنةً، فِتنَةُ أُمَّتي المَالُ رواه الترمذي، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.

26/481-وعن أَبي عمرو، ويقالُ: أَبو عبداللَّه، ويقالُ: أَبو لَيْلى عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ ، أَنَّ النبيَّ ﷺ قَالَ: لَيْسَ لابْن آدَمَ حَقٌّ في سِوى هَذِهِ الخِصَال: بَيْتٌ يَسْكُنُهُ، وَثَوْبٌ يُوَارِي عَوْرَتَهُ، وَجِلْفُ الخُبز وَالمَاءِ رواه الترمذي، وقال: حديث صحيح.

قَالَ الترمذي: سمعتُ أَبَا داوُدَ سلَيمَانَ بنَ سَالمٍ البَلْخِيَّ يقولُ: سَمِعْتُ النَّضْر بْنَ شُمَيْلٍ يقولُ: الجلفُ: الخُبزُ لَيْس مَعَهُ إِدَامٌ. وقَالَ: غيرُهُ: هُوَ غَلِيظُ الخُبْزِ. وقَالَ الرَّاوِي: المُرَادُ بِهِ هُنَا وِعَاءُ الخُبزِ، كالجَوَالِقِ وَالخُرْجِ، واللَّه أعلم.

27/482-وعنْ عبداللَّه بنِ الشخيرِ -بكسر الشين والخاءِ المشددةِ المعجمتين- ، أَنَّهُ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وهُوَ يَقْرَأُ: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر:1] قَالَ: يَقُولُ ابنُ آدَم: مَالي، مَالي، وَهَل لَكَ يَا ابْنَ آدمَ مِنْ مالِكَ إِلاَّ مَا أَكَلت فَأَفْنيْتَ، أَو لبِستَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضيْتَ؟ رواه مسلم.

الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كالتي قبلها فيما يتعلق بالوصية بالإقبال على الآخرة والعناية بها، والاستعداد لها، والحذر من التشاغل بالدنيا وزهرتها العاجلة، وأن الواجب على المؤمن أن يهتم بالآخرة، وأن يعنى بأسباب النجاة، وأن يحذر من أسباب الهلاك، وألا تشغله الدنيا وشهواتها عن إعداده للآخرة، والأحاديث في هذا كثيرة، والقرآن دل على هذا أيضا.

يقول في الحديث الأول: فتنة أمتي المال هذا يدل عليه قوله تعالى: أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [الأنفال:28]، وقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المنافقون:9] فالمال والأولاد فتنة، يعني اختبار وامتحان، فمن استعان بالمال على طاعة الله، وبالأولاد على طاعة الله، وعلمهم ما يرضي الله، وجاهدهم في سبيل الله فله الخير العظيم والجزاء الأوفى بسبب إحسانه، ومن فتن بالمال حتى صده عن الحق صار سبب هلاكه نسأل الله العافية. المال اختبار وامتحان، فإما أن يعمل بطاعة الله فيكون سعيدا، وأما إن يشغله عن الآخرة فيهلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وهكذا الحديث الثاني: ليس للعبد في هذه الدنيا إلا بيت يؤويه، أو لباس يستر عورته، أو جلف الخبز والماء يعني ليس له من هذه الدنيا إلا حاجاته الضرورية: لباسه، وطعامه، وشرابه، وسكنه، فينبغي للإنسان ألا يشغل بالتوسع والزيادات التي تشغله عن الآخرة.

تقدم قوله ﷺ: من أصبح آمنا في سربه، معافى في بدنه ،له قوت يومه وليلته فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها هذه الدنيا متاع، قال تعالى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38]، وفي الآية: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ [الرعد:26] فهي متاع عاجل، فينبغي للمؤمن أن يعاملها كالمتاع، مثل متاع المسافر يستعين بها على طاعة الله، يستعين على ما يوصله إلى بلده، وبلدنا الجنة، بلدنا ودارنا الأولى هي الجنة، دار أبينا، فالواجب السعي لهذه الدار، الواجب السعي حتى تصل إلى دارك القديمة، وأن تبتعد عن كل ما يشغلك عن السعي لها، والفوز بها، هكذا ينبغي للمؤمن، والله يقول جل وعلا: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ۝ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ۝ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۝ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:133-136]، ويقول جل وعلا: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21]، هكذا ينبغي لأهل الإيمان من الجن والإنس المسابقة لهذه الدار، المسابقة لهذا الخير، للمغفرة والجنة لمرضات الرب، لمقابلته سبحانه بأنواع الطاعات وأنواع الخير.

وفي الحديث الآخر يقول ﷺ: ما تعدون المفلس فيكم؟ يسأل الصحابة: ما تعدون المفلس فيكم؟ قالوا: من لا درهم له ولا متاع، قال: لكن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصوم وصدقة، وقد ضرب هذا، وشتم هذا، وأخذ مال هذا، وسفك دم هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته ولم يقض ما عليه أخذ من سيئاتهم فطرح عليه، ثم طرح في النار أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فالواجب على المؤمن أن يعتني بالدار الآخرة، وأن يهتم بها، وأن يعد لها العدة، هكذا ينبغي للمؤمن.

وفي الحديث الثالث: أن النبي ﷺ قال في هذه الدار أنه ينبغي للمؤمن أن يعد العدة لآخرته، وأن يجتهد في طاعة ربه جل وعلا، وليس له من ماله إلا ما تصدق فأمضى، أو أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، هذا الحال يلبس ما يستر به عورته، وما يقيم بدنه من الطعام والشراب، وما يقدمه للآخرة من الصدقات، هكذا ينبغي للمؤمن أن يلاحظ في ماله أنه لا حظ له فيه، ولا شيء له فيه إلا حاجته، ستر عورته وإقامة بنيته بالأكل والشرب الذي يناسبه، والصدقة في سبيل الله والإنفاق في سبيل الله كما قال تعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [الحديد:7] ما هي الفائدة من الجمع الزائد والاشتغال به عن الآخرة، أما إذا اتجر وطلب الرزق على وجه لا يشغله عن الآخرة ولا يضره فالحمد لله، اجتهد الناس الصحابة، فيهم التجار، وفيهم الأغنياء، وفيهم الحراثون والمزارعون، ولم يضرهم ذلك، المصيبة أن يشتغل بالدنيا عن الآخرة، أن تشغله عن الآخرة، أما إذا باع واشترى وتسبب في طلب الرزق في الحراثة، في التجارة، في غير هذا فلا حرج بشرط ألا تشغله عن الآخرة، بل يستعين بها على طاعة الله، وفق الله الجميع.

28/483-وعن عبداللَّه بن مُغَفَّلٍ، ، قَالَ: قَالَ رجُلٌ للنَّبِيِّ ﷺ: يا رسولَ اللَّه، واللَّه إِنِّي لأُحِبُّكَ، فَقَالَ: انْظُرْ مَاذَا تَقُولُ؟ قَالَ: وَاللَّه إِنِّي لأُحِبُّكَ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ تُحبُّني فَأَعِدَّ لَلفقْر تِجْفافًا، فإِنَّ الفَقْر أَسْرَعُ إِلَى مَنْ يُحِبُّني مِنَ السَّيْل إِلَى مُنْتَهَاهُ رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.

التِّجْفَافُ بكسرِ التاءِ المثناةِ فوقُ وَإسكانِ الجيمِ وبالفاءِ المكررة، وَهُوَ شَيْءُ يَلْبِسُهُ الفَرسُ، لِيُتَّقَي بِهِ الأَذَى، وَقَدْ يَلْبَسُهُ الإِنْسَانُ.

29/484-وعن كَعبِ بنِ مالكٍ، ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ: مَا ذِئْبَان جَائعَانِ أُرْسِلا في غَنَم بأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ المَرْءِ عَلَى المالِ، وَالشرفِ لِدِينهِ. رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

30/485-وعن عبداللَّه بنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ: نَامَ رسولُ اللَّه ﷺ عَلَى حَصيرٍ فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ في جَنْبِهِ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ الَّله لوِ اتَّخَذْنَا لكَ وِطَاءً، فقال: مَالي وَلَلدُّنْيَا؟ مَا أَنَا في الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا. رواه الترمذي، وَقالَ: حديث حسن صحيح

الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كالتي قبلها في الحث على الإعداد للآخرة، والزهد في الدنيا وعدم الركون إليها، وأن يكون المؤمن على حذر منها، وليس معناه أنه يدع الكسب الحلال وطلب الرزق، ليس معناه هذا، ولكن المعنى أنه يحذر الركون إليها والاشتغال بها.

في الحديث الأول لما قال له رجل: إني لأحبك يا رسول الله، قال: أعد للفقر تجفافا، فإنه أسرع إلى من يحبني من السيل إلى منحدره هذا إن صح معناه أنه ينبغي له أن يكون على استعداد لما قد يصيبه بسبب إيثاره الآخرة وعمله للآخرة من حاجة ونحو ذلك، وليس معناه تعطيل الدنيا، ولكن الدنيا تطلب بالطريقة الشرعية التي تعين العبد على طاعة الله، وتغنيه عما في أيدي الناس كما قال النبي ﷺ: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن هكذا رواه مسلم في الصحيح: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن، ولما سئل أي الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور.

فالتجارة وطلب الرزق أمر مطلوب لكن بالطريقة الشرعية، وليحذر الإنسان أن يجزع، إن أصابه شيء من فقر أو حاجة بسبب عدم نفع بعض الأسباب، ولكن المهم أنه يعد للآخرة العدة، ويشتغل بما يغنيه عما في أيدي الناس بالطرق الشرعية المباحة، أما إذا آثر الدنيا واشتغل بها فهو على خطر عظيم، ولهذا في الحديث الثاني: ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه يعني الحرص على المال والشرف والجاه إذا زاد عن حده أفسد، ولكن إذا طلبه الإنسان من الطريق الشرعي والكسب الشرعي فلا حرج ولا يضره، إنما يضره إذا توسع في ذلك وطلب المال بالطرق الأخرى المنحرفة، وآثر الجشع والحرص، أو الحرص على الجاه والشرف، هذا هو الذي يضره، أما إذا طلب المال من طريقه الشرعي، ومن طريقه الحلال، مع تعلقه بالآخرة وعمله للآخرة فإنه لا يضره، لا يضره ذلك، ولكن إنما يضر العبد إذا مال إلى الدنيا وآثرها واشتغل بها عن الآخرة، فالمؤمن على حذر في هذه الدار، المؤمن يجب أن يكون على حذر كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71]، يجب أن يكون على حذر من خطر الدنيا وشرها، وما قد تجر إليه من فساد إذا آثرها على الآخرة واشتغل بها وأصابه الجشع والحرص، فإن هذا يضره كثيرا.

كذلك كونه نام على حصير فأثر في جنبه، هذا جاء أيضا من حديث عمر لما دخل عليه وهو في مشربة، قال له عمر: يا رسول الله أنت هكذا وملوك فارس والروم في كذا وكذا، قال: أفي شك يا ابن الخطاب هي لهم في الدنيا ولنا في الآخرة ألا تحب أن تكون لهم في الدنيا ولنا في الآخرة، يعني الدنيا وزهرتها، وهكذا قال: مالي وللدنيا إلا كراكب قال في ظل دوحة يعني ظل شجرة، المقصود من الدلالة على زهده في الدنيا، ورغبته في الآخرة، ولهذا كان إذا جاءته الأموال أنفقها في سبيل الله وفي المستضعفين والمحاويج، ويقول كما تقدم في الحديث الصحيح: ما أحب أن يكون لي مثل أحد ذهبا تمر علي ثلاثة أيام وعندي منه دينار، إلا دينار أرصده لدين، ولكن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه، وعن شماله، ومن وراء ظهره، وفي رواية: وهكذا وهكذا من أمام، ويمين، وشمال والمقصود من هذا كله الحث على النفقة في الخير، وعدم الاشتغال بالدنيا عن الآخرة، وعدم إيثارها على الآخرة، وليس معناه كما يظن بعض الصوفية تعطيلها، وأن يبقى في بيته يتكفف الناس، ويسأل الناس، ويطوف بالناس، لا هذا غلط، ولكن يطلب الرزق كما قال ﷺ في الحديث الصحيح: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، وكذلك لما سئل أي الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور، وقال ﷺ: ما أكل أحد طعاما خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه الصلاة والسلام كان يأكل من عمل يده، فالمؤمن مأمور بطلب الرزق، والسعي في طلب الرزق، والحرص على ما يغنيه مما في أيدي الناس، لكن بالطريق الحلال والطريق المشروع، وفق الله الجميع.

31/486-وعن أَبي هريرةَ ، قَالَ: قالَ رسولُ اللَّه ﷺ: يَدْخُلُ الفُقَراءُ الجَنَّةَ قَبْلَ الأَغْنِيَاءِ بِخَمْسِمائَةِ عَامٍ. رواه الترمذي، وقال: حديث صحيح.

32/487-وعن ابن عَبَّاسِ، وعِمْرَانَ بن الحُصَيْن، ، عن النبيِّ ﷺ قَالَ: اطَّلعْتُ في الجَنَّةِ فَرَأَيْت أَكْثَرَ أَهلِهَا الفُقَراءَ، وَاطَّلَعْتُ في النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّساءَ. متفقٌ عَلَيْهِ من رواية ابن عباس.

ورواه البخاري أيْضًا من روايةِ عِمْرَان بنِ الحُصَينِ.

33/488-وعن أُسامةَ بنِ زيدٍ رضيَ اللَّه عنهما، عن النبيِّ ﷺ قَالَ: قُمْتُ عَلى بَاب الجَنَّةِ، فَكَانَ عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا المَساكينُ، وأَصَحَابُ الجَدِّ محبُوسُونَ، غَيْرَ أَنَّ أَصحَابَ النَّار قَد أُمِرَ بِهمْ إِلَى النَّارِ متفقٌ عَلَيْهِ.

وَ الجَدُّ الحَظُّ وَالغِنَى. وقد سبق بيان هَذَا الحديث في باب فضلِ الضَّعَفَةِ.

34/489-وعن أَبي هريرة، ، عن النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلا كُلُّ شيْءٍ مَا خَلا اللهَ بَاطِلُ. متفقٌ عليه.

الشيخ: هذه الأحاديث كالتي قبلها فيها التسلية للفقراء، والتبشير لهم بأن ما فاتهم من الدنيا فالله يعوضهم عنه في الآخرة، ويرزقهم بدلا منه الخير الكثير، وأن الله جل وعلا وعدهم الخير، وسبقت لهم من الله الفضائل العظيمة، ومن ذلك أنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء بمقدار نصف يوم، خمسمائة عام لقلة حسابهم، أهل الجد أهل الغنى والسعة محبوسون لما هناك من المناقشة والحساب وغير ذلك، أما الفقراء فحملهم خفيف، ليس هناك شيء قد فاتهم من الدنيا، الغني الذي قد يشغل الناس ويسبب مشاكل فلهذا سبقوا في دخول الجنة، وهم أكثر أهل الجنة لأن الفقر من أسباب منعهم من أشياء كثيرة مما يقع فيه الأغنياء من الكبر والخيلاء والمعاصي.

فالواجب على المؤمن الصبر والاحتساب إذا أصيب بالفقر، وأن يرجو من الله أن يعوضه الخير العظيم، ولكن سبق أنه ليس معنى هذا أن الإنسان يطلب الفقر ويترك الأسباب لا، المؤمن يأخذ بالأسباب ويطلب الرزق من طريق التجارة، من طريق الأعمال الأخرى المباحة، من طريق الزراعة، هكذا كما قال النبي ﷺ: احرص على ما ينفعك واستعن بالله، وقال ﷺ لما سئل أي الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور، وقال: خير ما أكل الإنسان من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده عليه الصلاة والسلام، لكن إذا أصيب الإنسان بالفقر والحاجة فليصبر وليحتسب، وليرجو ما عند الله من الخير العظيم والأجر العظيم، ومن ذلك سبقه الأغنياء في دخول الجنة، ومن ذلك قلة الحساب، ومن ذلك أن أكثر أهل الجنة من الفقراء، وأكثر أهل النار النساء لقلة صبرهن وكثرة أعمالهن السيئة من كفر العشير والسب وغير هذا، فالرسول ﷺ يبين للأمة أن الفقر والحاجة لا يضر المؤمن إذا استقام دينه، وأنه يسبق إلى الجنة وله فيها خير عظيم، وأن هذه المصيبة يعوض عنها خيرا كثيرا، ولكن ليس معناه أنه يرضى بالفقر، وأنه يترك الأسباب ويشحذ الناس لا، بل يأخذ بالأسباب ويعمل بالأسباب ويتجر ويزرع، ويعمل الأسباب المباحة الطيبة حتى يغنيه الله عما في أيدي الناس، وإذا أصيب بالفقر فليصبر وليحتسب ولا يجزع.

وقول الشاعر:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل ......................

 معناه صحيح، كل شيء ما خلا الله باطل لأنه سبحانه هو المالك لكل شيء، وهو القاهر لكل شيء، وهو على كل شيء قدير، وما سوى الله كله ذليل، عبد فقير لله باطل لا قيمة، إنما هو بيد الله يتصرف به كيف يشاء، وهو سبحانه الخلاق الرزاق المالك لكل شيء.

وقوله: وأصحاب الجد محبوسون يعني أصحاب الغنى يعني محبوسون لما يتعلق به غناهم من الحساب، وما بينهم وبين الناس في ذلك، فيتأخر دخولهم الجنة لما يتعلق بأموالهم من حساب وغير ذلك، وإن كان الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر على الصحيح لأنه أنفق من أمواله وشكر الله فصارت له المرتبة العليا، إذا شكر الله على نعمه وأدى حق أمواله ونفع بها الناس صار له أجر عظيم، ومن ذلك قصة الذين قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي الحديث، فعلمهم التسبيح والتهليل والتحميد، ثم جاؤوا فقالوا: إن إخواننا الأغنياء سمعوا بما عملنا فعملوا مثله،  فقال ﷺ: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم وفق الله الجميع.

56-باب فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار عَلَى القليل من المأكول والمشروب والملبوس وغيرها من حظوظ النفس وترك الشهوات

قَالَ الله تَعَالَى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ۝ إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا [مريم:59-60]، وقال تَعَالَى: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ۝ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [القصص:79-80]، وقال تَعَالَى: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:8]، وقال تَعَالَى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا [الإسراء:18].

والآيات في الباب كثيرةٌ معلومةٌ.

1/490-وعن عائشةَ، رضي اللَّه عنها، قالت: مَا شَبعَ آلُ مُحمَّدٍ ﷺ مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ حَتَّى قُبِضَ. متفقٌ عَلَيْهِ.

وفي رواية: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّد ﷺ مُنْذُ قَدِمَ المَدِينةَ مِنْ طَعامِ البرِّ ثَلاثَ لَيَال تِبَاعًا حَتَّى قُبِض.

2/491-وعن عُرْوَةَ عَنْ عائشة رضي اللَّه عنها، أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: وَاللَّه يَا ابْنَ أُخْتِي إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إلى الهِلالِ ثمَّ الهِلالِ، ثُمَّ الهلالِ ثلاثةُ أَهِلَّةٍ في شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَ في أَبْيَاتِ رسولِ اللَّه ﷺ نارٌ. قُلْتُ: يَا خَالَةُ فَمَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قالتْ: الأَسْوَدَانِ: التَّمْرُ وَالمَاءُ إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لرسول اللَّه ﷺ جِيرانٌ مِنَ الأَنْصَارِ، وَكَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ وَكَانُوا يُرْسِلُونَ إِلى رسولِ اللَّه ﷺ مِنْ أَلبانها فَيَسْقِينَا. متفقٌ عَلَيْهِ.

3/492-وعن أَبي سعيدٍ المقْبُريِّ عَنْ أَبي هُرَيرةَ، ، أَنه مَرَّ بِقَوم بَيْنَ أَيْدِيهمْ شَاةٌ مَصْلِيةٌ، فَدَعَوْهُ فَأَبى أَنْ يَأْكُلَ، وقال: خَرج رَسُول اللَّه ﷺ مَنْ الدُّنْيَا ولمْ يشْبعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ. رواه البخاري.

"مَصْلِيَّةٌ" بفتحِ الميم: أَيْ: مَشْوِيةٌ.

الشيخ: هذه الآيات الكريمات والأحاديث المذكورة كالتي قبلها في الحث على الرغبة في الآخرة، والعناية بأسباب النجاة والحذر من الركون إلى الشهوات، والحظ العاجل في هذه الدنيا ومتاعها، فالواجب على المؤمن أن تكون همته عالية، وأن تكون رغبته في الآخرة مؤثرة على سلوكه في هذه الدنيا، وألا يشتغل بشهوات الدنيا وزينتها عن الآخرة كما قال جل وعلا: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16]، وقال جل وعلا: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59]، وقال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا [الإسراء:18] والآيات في هذه المعنى كثيرة.

والمقصود منها الحث على الرغبة في الآخرة والتزود لها وعدم الاشتغال بالدنيا والركون إليها، وليس معناها ترك الطيبات لا، الله جل وعلا قال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ [المؤمنون:51]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ [البقرة:172] فلا بأس أن يأكل من الطيبات من اللحم والخبز والحنطة والشعير وغير ذلك إذا كانت لم تشغله عن الآخرة ولم تصده عن الآخرة، وهكذا ما جاء في الأحاديث من كونه ﷺ ضاقت عليه الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير ثلاثة أيام متتابعة، وهكذا في الحديث الآخر كونه عليه الصلاة والسلام قد يمر عليه الشهران لم توقد في أبياته نار، وكانوا يعيشون بالتمر والماء، كل هذا يدل على الرغبة في الآخرة وعدم التعلق بالدنيا والحرص عليها.

وكذلك ذكر الشاة المصلية التي ذكرها أبو هريرة أنه دعي إليها كل هذا مما يدل على شدة رغبتهم في الآخرة، وليس معناه أنهم تركوا الدنيا ولم يريدوها، لا بل باعوا واشتروا واتجروا المهاجرون والأنصار في كثير من أنواع التجارة، والأنصار لهم الزراعة والحراثة كل هذا فعلوه، لكن تعرض لهم في المدينة الحاجات لأنهم هاجروا إليها وتركوا أموالهم في مكة وصبروا على شدة العيش حتى وسع الله عليهم بعدما فتحوا الفتوحات، وغزوا في سبيل الله، وجاهدوا في سبيل الله فتح الله عليهم وجاءتهم الدنيا وهي راغمة.

فالمقصود من هذه الآيات والأحاديث كلها الحث على عدم الركون للدنيا، وعدم الاشتغال بها عن الآخرة، وعدم إيثارها عن الآخرة، وليس معناها أن الإنسان يتعمد الخشونة من العيش ويترك الطيبات، لا بل قال الله: كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ [المؤمنون:51]، وقال: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ [البقرة:172] فأنت مأمور بالأكل من الطيبات والشكر لله جل وعلا، لكن إياك أن تؤثر الدنيا على الآخرة، إياك أن تؤثر التجارة على طاعة الله وعلى إقامة الصلاة وعلى إيتاء الزكاة وعلى الجهاد في سبيل الله، وعلى غير هذا مما أوجب الله، لكن اجمع بين الأمرين: اتق الله، واعمل للآخرة واجتهد في طاعة الله، وخذ من الدنيا بنصيب، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون:51]، والله جل وعلا شرع لعباده طلب الرزق فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ [العنكبوت:17]، ويقول النبي ﷺ: احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن، ويقول: ما أكل أحد طعاما أفضل من أن يأكل من عمل يده، وكان نبي الله داود عليه الصلاة والسلام يأكل من عمل يده، وسئل أي الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور فالإنسان يعمل ويكدح ويطلب الرزق لكن لا يؤثر الدنيا على الآخرة، يستعين برزق الله على طاعة الله، سواء كان نجارا أو حدادا أو خرازا أو تاجرا أو مزارعا أو غير ذلك، يستعين بنعم الله على طاعة الله، ويطلب الرزق ويحرص على ما ينفعه، لكن لا يؤثر الدنيا على الآخرة، يستعين بنعم الله على طاعة الله، وما أعطاه الله من الرزق يستعين به على طاعة وابتغاء مرضاته، ولا تشغله الدنيا عن الآخرة، أما أنه يتعمد ترك الطيبات ويتعمد الفقر هذا ليس من الشرع وليس من الدين، وفق الله الجميع.

56-باب فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار عَلَى القليل من المأكول والمشروب والملبوس وغيرها من حظوظ النفس وترك الشهوات

قَالَ الله تَعَالَى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ۝ إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا [مريم:59-60]، وقال تَعَالَى: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ۝ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [القصص:79-80]، وقال تَعَالَى: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:8]، وقال تَعَالَى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا [الإسراء:18].

والآيات في الباب كثيرةٌ معلومةٌ.

1/490-وعن عائشةَ، رضي اللَّه عنها، قالت: مَا شَبعَ آلُ مُحمَّدٍ ﷺ مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ حَتَّى قُبِضَ. متفقٌ عَلَيْهِ.

وفي رواية: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّد ﷺ مُنْذُ قَدِمَ المَدِينةَ مِنْ طَعامِ البرِّ ثَلاثَ لَيَال تِبَاعًا حَتَّى قُبِض.

2/491-وعن عُرْوَةَ عَنْ عائشة رضي اللَّه عنها، أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: وَاللَّه يَا ابْنَ أُخْتِي إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إلى الهِلالِ ثمَّ الهِلالِ، ثُمَّ الهلالِ ثلاثةُ أَهِلَّةٍ في شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَ في أَبْيَاتِ رسولِ اللَّه ﷺ نارٌ. قُلْتُ: يَا خَالَةُ فَمَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قالتْ: الأَسْوَدَانِ: التَّمْرُ وَالمَاءُ إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لرسول اللَّه ﷺ جِيرانٌ مِنَ الأَنْصَارِ، وَكَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ وَكَانُوا يُرْسِلُونَ إِلى رسولِ اللَّه ﷺ مِنْ أَلبانها فَيَسْقِينَا. متفقٌ عَلَيْهِ.

3/492-وعن أَبي سعيدٍ المقْبُريِّ عَنْ أَبي هُرَيرةَ، ، أَنه مَرَّ بِقَوم بَيْنَ أَيْدِيهمْ شَاةٌ مَصْلِيةٌ، فَدَعَوْهُ فَأَبى أَنْ يَأْكُلَ، وقال: خَرج رَسُول اللَّه ﷺ مَنْ الدُّنْيَا ولمْ يشْبعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ. رواه البخاري.

"مَصْلِيَّةٌ" بفتحِ الميم: أَيْ: مَشْوِيةٌ.

الشيخ: هذه الآيات والأحاديث تدل على أنه ينبغي للمؤمن العناية بكسبه والحذر من الميل إلى الدنيا وزينتها حتى لا يقع فيما حرم الله، وحتى لا يقع في الإسراف والتبذير، بل عليه أن يتقي الله ويراقب الله في مأكله ومشربه وملبسه حتى لا يتعاطى إلا الحلال، فالله جل وعلا أباح لعباده ما فيه الغنية والكفاية عما حرم الله جل وعلا، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172].

فالله أحل لعباده الطيبات وحرم عليهم الخبائث، فعليهم أن يكتفوا بما أحل الله لهم من النعيم من الطعام، من بر، من شعير، من لحم الغنم والإبل وغير ذلك، وما يسر الله من النقود لحاجات البيت وحاجات الإنسان والحذر من الإسراف والتبذير وإيثار الدنيا، يقول الله جل وعلا في كتابه الكريم: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:16]، ويقول جل وعلا: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا [الإسراء:18]، ويقول جل وعلا: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:20].

وقد جرى لقارون ما جرى وأعطي من الدنيا ما أعطي، وفرعون أعطي من الدنيا ما أعطي، وما أغنى عنهم شيئا، بل صاروا إلى النار، وعجل لهم العذاب في الدنيا، قارون بالخسف به وبداره الأرض لما آثر الدنيا وزينتها، وفرعون كذلك أهلكه الله بالغرق لما آثر الباطل وعصى الرسل، وهكذا غيرهم من أصحاب نوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم، كلهم هلكوا بسبب إيثارهم الدنيا ورغبتهم في الدنيا، وإيثارهم ذلك على طاعة الرسل واتباع الرسل، فالواجب على جميع المسلمين الحذر من الإسراف والتبذير، والقناعة بما يسر الله، والحذر من طلب الدنيا بمعاصي الله، أو بالإسراف والتبذير، أو بالربا، أو بما حرم الله من المكاسب الخبيثة، وأن يقنع بالقليل حتى يأتيه الكثير الطيب بالطرق الطيبة، وألا يحمله الجشع وحب الشهوات على ما حرم الله ، تقول عائشة رضي الله عنها: ربما مر على النبي ﷺ اليومان.

وفي الرواية الأخرى: الثلاثة أيام ما شبع من خبز الشعير، وفي الرواية الأخرى: من خبز البر ثلاثة أيام متتابعة، وهي تقول: لقد هل هلال، ثم هلال، ثم هلال، ثلاثة أهلة ما أوقد في أبيات النبي ﷺ نار، قال لها عروة ابن أختها: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء، هكذا كانت أصحاب النبي ﷺ في المدينة، وهكذا كان النبي ﷺ في المدينة عمدتهم على الله، ثم على التمر والماء، ما كان هناك توسع في المآكل والمشارب، وربما كان للنبي ﷺ بعض الجيران يهديه بعض اللبن فيشرب ويسقي.

والمقصود أن هذا كله يدل على أنه ينبغي للمؤمن عدم التوسع في الدنيا الذي ربما ساقه إلى الحرام، ربما جره إلى الإسراف والتبذير، ربما جره إلى المكاسب الخبيثة، فالواجب على المؤمن أن يقتنع بما أحل الله، وأن يحذر ما حرم الله، ولا مانع أن يتجر ويطلب الرزق ويعمل حتى يكسب من الدنيا ما يسر الله له، فقد كان عبدالرحمن بن عوف، وكان الصديق، وكان عمر وجماعة من الصحابة أهل تجارة، وهو عمل، فلا بأس بالتجارة وطلب الرزق، لكن الواجب أن يؤثر الآخرة، وألا تكون الدنيا هي المطلوب وهي الأهم، لا بل الدنيا تكون خادمة للدين، وسببا للعمل بما يرضي الله، والإحسان إلى عباد الله، وإيجاد المشاريع الخيرية، وليحذر أن يؤثرها على طاعة الله، أو يكسبها من طريق الحرام، أما طلبها من طريق الحلال والتجارة والبيع والشراء والزراعة، فهذا مطلوب، يقول النبي ﷺ لما سئل: أي الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور، ويقول ﷺ: ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه دابة أو طير أو إنسان إلا كان له صدقة، فالحاصل أن المؤمن إذا طلب الدنيا بطرقها الشرعية المباحة، واستعان بها على طاعة الله وعلى الإحسان على عباد الله ومواساة الفقراء وأخرج الزكاة، فهذا شيء لا بأس به طيب، ينفع نفسه وينفع الناس، لكن يحذر أن تشغله عن الآخرة، أو يكسبها من طريق حرام، هذا هو الذي يجب الحذر منه، أما كسبها من طريق الحلال لينفقها في وجوه البر والإحسان وليستعين بها على طاعة الله فهذا أمر مطلوب، وفعله الأخيار من الصحابة ومن بعدهم رضي الله عنهم وأرضاهم، وفق الله الجميع.

وأما تورع بعض الصحابة عن الشاة المصلية، فهذا من اجتهاده ، ولا بأس أن يأكل المصلية، ولا بأس أن يأكل من أنواع الفواكه والملذات، الله جل وعلا قال: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:57] الطيبات منها المصلية، ومنها الرمان، ومنها الخوخ، ومنها البطيخ، ومنها التمر كلها من الطيبات، فإذا أكل من الطيبات مع شكر الله ولم يسرف ولم يبذر فكل هذا طيب، ولكن إنما يخاف عليه من الإسراف أو التبذير أو المكاسب الخبيثة التي لم يبحها الله ولم يحلها، أما إذا أخذ الأموال من وجهها، واستعان بها على طاعة الله، وأكل من الطيبات من فواكه، أو من لحم مشوي، أو غير مشوي مما أباح الله فكل هذا لا بأس به، والحمد لله، وفق الله الجميع.