20 من حديث (لم يأكل النبي ﷺ على خوان حتى مات..)

 

4/493-وعن أَنسٍ ، قَالَ: لمْ يأْكُل النَّبِيُّ ﷺ عَلَى خِوَانٍ حَتَّى مَات، وَمَا أَكَلَ خُبزًا مرَقَّقًا حَتَّى مَاتَ. رواه البخاري.

وفي روايةٍ لَهُ: وَلا رَأَى شَاةَ سَمِيطًا بِعَيْنِهِ قطُّ.

5/494-وعن النُّعمانِ بن بشيرٍ رضي اللَّه عنهما قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ نَبِيَّكُمْ ﷺ وَمَا يَجِدُ مِنْ الدَّقَلِ مَا يَمْلأُ بِهِ بَطْنَهُ، رواه مسلم.

الدَّقَلُ: تمْرٌ رَدِيءٌ.

6/495-وعن سهل بن سعدٍ ، قال: ما رَأى رُسولُ ﷺ النّقِيّ منْ حِينَ ابْتعَثَهُ اللَّه تَعَالَى حتَّى قَبَضَهُ اللَّه تَعَالَى، فقِيلَ لَهُ هَلْ كَانَ لَكُمْ في عهْد رسول اللَّه ﷺ مَنَاخلُ؟ قَالَ: مَا رَأى رسولُ اللَّه ﷺ مُنْخَلاَ مِنْ حِينَ ابْتَعثَهُ اللَّه تَعَالَى حَتَّى قَبَضُه اللَّه تَعَالَى، فَقِيلَ لهُ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ الشَّعِيرَ غيرَ منْخُولٍ؟ قَالَ: كُنَّا نَطْحُنَهُ ونَنْفُخُهُ، فَيَطيرُ مَا طارَ، وَمَا بَقِي ثَرَّيْناهُ. رواه البخاري.

قَوْله: "النَّقِيّ": هُوَ بفتح النون وكسر القاف وتشديد الياءِ، وهُوَ الخُبْزُ الحُوَّارَى، وَهُوَ: الدَّرْمَكُ، قَوْله: "ثَرَّيْنَاهُ" هُو بثاءٍ مُثَلَّثَةٍ، ثُمَّ رَاءٍ مُشَدَّدَةٍ، ثُمَّ ياءٍ مُثَنَّاةٍ مِنْ تَحْت ثُمَّ نون، أَيْ: بَلَلْناهُ وعَجَنَّاهُ.

الشيخ: في هذه الأحاديث الدلالة على أنه ﷺ ما كان يتكلف في الطعام، بل كان يأكل ما تيسر، تارة من خبز الشعير، وتارة من خبز الحنطة، وتارة من غير ذلك من التمر، ما كان يتكلف، ولهذا تقدم في حديث عائشة: أنه ربما مرت عليهم الأيام الثلاثة ما شبع فيها من خبز مرقق، أو من خبز الشعير، هذا يدل على أنه أصابهم في المدينة جوع وحاجة ومشقة، فصبر عليه الصلاة والسلام، وصبر الصحابة ، وكان غالب قوتهم التمر، ومع اللبن في بعض الأحيان، ولهذا تقدم قول عائشة رضي الله عنها: لقد هل هلال، ثم هلال، ثم هلال وما أوقد في أبيات النبي نار، قيل لها: يا أم المؤمنين ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء، وفي هذا أنه ﷺ ما أكل شيئا من اللحم المشوي والمصلي ونحو ذلك، إنما كان يأكل من اللحوم المعتادة المذبوحة التي تطبخ طبخا، ولكن تنوع الناس بعد ذلك، والأمر في هذا واسع، كونه يشوى أو يصلى بالنار كل هذا لا حرج فيه، والحمد لله.

لكن هذا يدل على أنه ﷺ ما كان يتكلف في طعامه، بل يأكل ما تيسر من خبز مرقق، أو غير مرقق من خبز الشعير، أو حنطة، أو غير ذلك مما تيسر، ما كان يتكلف في طعامه وشرابه عليه الصلاة والسلام، وربما مرت عليه الأيام، وهو في غاية من الجوع، وربما ربط الحجر على بطنه من شدة الجوع لقلة المال ذاك الوقت، ثم وسع الله ويسر وفتح الله الفتوح وجاءت الأموال وفتحت خيبر، ثم جاءهم الأموال مما فتح الله عليهم من الأموال التي فتحت من طريق القبائل التي استولوا عليها، والمزارع التي استولوا عليها من خيبر وغيرها، فتوسع المسلمون بعد ذلك، ثم فتح الله الفتوح بعد وفاته ﷺ على المسلمين، كنوز كسرى وكنوز قيصر، وصارت الأموال الكثيرة بأيدي المسلمين وبأيدي الصحابة كما قال ﷺ: والذي نفسي بيده لتنفق كنوزهما في سبيل الله يعني كنوز كسرى وقيصر، وقد وقع ذلك، فتح الله على المسلمين فتوحات وفتح عليهم الأموال وجاءتهم الأرزاق من كل مكان، لكن في هذا الدلالة على أنه ينبغي للمؤمن الصبر إذا أصابته الحاجة أو المجاعة يصبر، فقد صبر النبي ﷺ، وصبر الصحابة في مكة، وفي المدينة أول ما هاجروا على الشدة والحاجة، ثم فرج الله الأمور بعد ذلك، فلا ينبغي التكلف، بل ينبغي للمؤمن أن يكون وسطا في أموره، قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67]، وقال سبحانه: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء:29] يعني لا تكن بخيلا ولا شحيحا، بل وسط، لا بخل ولا شح ولا سرف وتبذير، بين ذلك، بين الإسراف والتبذير وبين الشح والبخل، يكون وسطا في نفقاته ومآكله ومشاربه، لا يبذر ولا يسرف ولا يبخل ويشح على من تحت يده، ولكن وسطا، ولهذا يقول جل وعلا: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ [الإسراء:29] يعني بالبخل، وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء:29] يعني بالإسراف والتبذير، فالوسط هو السبيل بينهما وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67]، وكان ﷺ ينفق ويعطي عطاء من لا يخشى الفقر، إذا جاءه الضيف وجاءه المحتاجون أعطاهم مما يسر الله، وأحسن إليهم بما يسر الله له من نقود أو ملابس، أو طعام حاضر، أو تمر، أو غير هذا، كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر عليه الصلاة والسلام، ويرغب الناس في الخير ويؤلفهم على الإسلام، وجاءه مرة أعرابي يسأله فأعطاه غنما بين جبلين، فرجع إلى قومه وقال: يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.

المقصود أن الإمام والعالم والأمير والدعاة إلى الله ينبغي أن يكونوا قدوة في الخير، والسماح والتيسير والجود وعدم التكلف وعدم التبذير وعدم الإسراف، بل يكونوا وسطا في أموالهم، أهل جود وأهل كرم وأهل إحسان على المحاويج والفقراء.

7/496-وعن أبي هُريرةَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّه ﷺ ذاتَ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ، فَإِذا هُوَ بِأَبي بكْرٍ وعُمَرَ رضي اللَّه عنهما، فَقَالَ: مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُما هذِهِ السَّاعَةَ؟ قَالا: الجُوعُ يَا رَسولَ اللَّه. قالَ: وَأَنا، والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لأَخْرَجَني الَّذِي أَخْرَجَكُما، قُوما فقَاما مَعَهُ، فَأَتَى رَجُلًا مِنَ الأَنْصارِ، فَإِذَا هُوَ لَيْسَ في بيتهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ المرَأَةُ قالَتْ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا. فقال لَهَا رَسُولُ اللَّه ﷺ: أَيْنَ فُلانٌ قالَتْ: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا الماءَ، إِذْ جاءَ الأَنْصَاريُّ، فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّه ﷺ وَصَاحِبَيْهِ، ثُمَّ قالَ: الحَمْدُ للَّه، مَا أَحَدٌ اليَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيافًا مِنِّي، فانْطَلقَ فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وتَمْرٌ ورُطَبٌ، فَقَالَ: كُلُوا، وَأَخَذَ المُدْيَةَ، فَقَالَ لَهُ رسُولُ اللَّه ﷺ: إِيَّاكَ وَالحَلُوبَ فَذَبَحَ لَهُمْ، فَأَكلُوا مِنَ الشَّاةِ وَمِنْ ذلكَ العِذْقِ وشَرِبُوا. فلمَّا أَنْ شَبعُوا وَرَوُوا قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ لأَبي بكرٍ وعُمَرَ رضي اللَّه عنهما: وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ، لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هذَا النَّعيمِ يَوْمَ القِيامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هذا النَّعِيمُ رواه مسلم.

قَوْلُها: يَسْتَعْذبُ أَيْ: يَطْلبُ الماءَ العَذْبَ، وهُوَ الطَّيبُ. وَ العِذْقُ بكسر العين وإسكان الذال المعجمة: وَهُو الكِباسَةُ، وهِيَ الغُصْنُ. وَ المُدْيةُ بضم الميم وكسرِها: هي السِّكِّينُ. وَ الحلُوبُ ذاتُ اللبَن. وَالسؤالُ عَنْ هَذَا النعِيم سُؤالُ تَعدِيد النِّعَم لا سُؤالُ توْبيخٍ وتَعْذِيبٍ. واللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا الأنصارِيُّ الَّذِي أَتَوْهُ هُوَ أَبُو الهَيْثمِ بنُ التَّيِّهان ، كَذا جاءَ مُبَينًا في روايةِ الترمذي وغيره.

8/497-وعن خالدِ بنِ عُمَرَ العَدَويِّ قَالَ: خَطَبَنَا عُتْبَةُ بنُ غَزْوانَ، وكانَ أَمِيرًا عَلى البَصْرَةِ، فَحمِدَ اللَّه وأَثْنى عليْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَا بعْدُ، فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَنَتْ بصُرْمٍ، ووَلَّتْ حَذَّاءَ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلاَّ صُبَابَةٌ كَصُبابةِ الإِناءِ يتصابُّها صاحِبُها، وإِنَكُمْ مُنْتَقِلُونَ مِنْها إِلَى دارٍ لاَ زَوالَ لهَا، فانْتَقِلُوا بِخَيْرِ مَا بِحَضْرَتِكُم فَإِنَّهُ قَدْ ذُكِرَ لَنا أَنَّ الحَجَرَ يُلْقَى مِنْ شَفِير جَهَنَّمَ فَيهْوى فِيهَا سَبْعِينَ عَامًا لاَ يُدْركُ لَها قَعْرًا، واللَّهِ لَتُمْلأَنَّ.. أَفَعَجِبْتُمْ،؟ ولَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ مَا بَيْنَ مِصْراعَيْنِ مِنْ مَصاريعِ الجَنَّةِ مَسيرةَ أَرْبَعِينَ عَامًا، وَلَيَأْتِينَّ عَلَيها يَوْمٌ وهُوَ كَظِيظٌ مِنَ الزِّحامِ، وَلَقَدْ رأَيتُني سابعَ سبْعَةٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ما لَنا طَعامٌ إِلاَّ وَرَقُ الشَّجَرِ، حَتَّى قَرِحَتْ أَشْداقُنا، فالْتَقَطْتُ بُرْدَةً فشَقَقْتُها بيْني وَبَينَ سَعْدِ بنِ مالكٍ فَاتَّزَرْتُ بنِصْفِها، وَاتَّزَر سَعْدٌ بنِصفِها، فَمَا أَصْبَحَ اليَوْم مِنَّا أَحَدٌ إِلاَّ أَصْبَحَ أَمِيرًا عَلى مِصْرٍ مِنْ الأَمْصَارِ، وإِني أَعُوذُ باللَّهِ أَنْ أَكْونَ فِي نَفْسي عَظِيمًا، وعِنْدَ اللَّهِ صَغِيرًا. رواهُ مسلم.

قَوْله: آذَنَتْ هُوَ بَمدِّ الأَلِفِ، أَيْ: أَعْلَمَتْ. وَقَوْلُه: بِصُرْمٍ: هُوَ بضم الصاد، أيْ: بانْقطاعِها وَفَنائِها. وَقوله ووَلَّتْ حَذَّاءَ هُوَ بحاءٍ مهملةٍ مفتوحةٍ، ثُمَّ ذال معجمة مشدَّدة، ثُمَّ أَلف ممدودَة، أَيْ: سَريعَة. وَ الصُّبابةُ بضم الصاد المهملة: وهِي البقِيَّةُ اليَسِيرَةُ. وقولُهُ: يَتَصابُّها هُوَ بتشديد الباءِ قبل الهاء، أَيْ: يجْمَعُها. وَالكَظِيظُ: الكثيرُ المُمْتَلئُ. وَقَوْلُه: قَرِحَتْ هُوَ بفتحِ القاف وكسر الراءِ، أَيْ: صارَتْ فِيهَا قُرُوحٌ.

9/498-وعن أَبي موسى الأَشْعَريِّ قَالَ: أَخْرَجَتْ لَنا عائِشَةُ رضي اللَّهُ عنها كِساء وَإِزارًا غَلِيظًا قالَتْ: قُبِضَ رسُولُ اللَّهِ ﷺ في هَذَيْنِ. متفقٌ عَلَيْهِ.

الشيخ: هذه الأحاديث الدلالة كلها تدل على ما أصاب الرسول ﷺ والصحابة من الشدة والحاجة والفقر بعد الهجرة إلى المدينة، ثم فرج الله بعد ذلك ويسر الأمور بعد ذلك، فهذا فيه دلالة على أنه ينبغي لأهل الإيمان الصبر والاحتساب، وألا يجزعوا مما يصيبهم من الحاجة والفقر، وألا يحملهم ذلك على ما حرم الله عليهم، فقد صبر الأخيار وعلى رأسهم رسول الله ﷺ صبروا على الحاجة والفقر والجوع حتى فرج الله الأمور، هكذا ينبغي لأهل الإيمان التصبر والتحمل والرضا بما يسر الله من العيش حتى يتيسر الأمر من طريق الحلال، ولا ينبغي للمؤمن أن يعجل فيستبيح ما حرم الله من أجل الحاجة، أو من أجل مباهاة الناس، أو مكاثرة الناس.

في الحديث الأول أنه ﷺ خرج من بيته جائعا ما في بيته ما يسد حاجته، فصادف الصديق وعمر رضي الله عنهما وقد خرجا أيضا في ساعة يستغرب خروجهما فيها، فقال: ما الذي أخرجكما هذه الساعة؟ قالوا: الجوع، فقال: والذي نفسي بيده ما أخرجني إلا الذي أخرجكما وهو الجوع، ثم توجهوا إلى بعض الأنصار فوجدوه يستعذب الماء فرحبت بهم زوجته، فلما جاء رحب بهم وقال: ما في الدنيا أحد أكرم أضيافا مني، ثم قدم لهم عذقا من التمر فيه رطب، وفيه تمر، وفيه بسر يعني بلح ما بعد رطب، فأكلوا منه وشربوا من الماء، ثم عمد إلى شاة عنده سخلة عنده فذبحها لهم وطبخها وأكرمهم، فقال لهم ﷺ بعدما شبعوا من التمر واللحم: والله لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة يعني هل أديتم شكره، فما يعطاه الإنسان من ملابس أو مآكل أو مشارب أو مسكن أو زوجة من النعيم فليشكر الله على ما أنعم عليه من نعمة السكن، نعمة اللباس، نعمة الطعام ضد الجوع، نعمة الولد، إلى غير هذا، هذه من النعم التي العبد مأمور بأن يشكر الله عليها وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7]، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ [البقرة:152] وإذا كان سيد الخلق وإمامهم وأفضل الصحابة بعده أصابهم هذا الجوع والشدة، فكيف بمن بعدهم؟ فالواجب الصبر كما صبروا، وعدم القنوط وعدم الجزع، إذا أصاب الإنسان حاجة فليصبر وليحتسب، فقد أصاب من قبله ممن هو أفضل منه الحاجة وصبروا.

وهكذا خطبة عتبة بن غزوان -وهو أمير البصرة- أخبر أنهم ربما مضى عليهم الأيام والليالي ليس لهم طعام إلا ورق الشجر، وأخبرهم أن الدنيا آذنت بصرم وولت حذاء، يعني الدنيا أدبرت ما بقي إلا منها قليل، مضى أكثرها، مضت الأمم ومضت الرسل، ومحمد رسول الله خاتم الأنبياء وأمته آخر الأمم، ما بقي إلا القليل من هذه الدنيا، فالواجب الصبر كما صبر الأخيار، كما صبر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.

وذكر ما جاء في الحديث أن الحجر يرمى به من شفير جهنم فيمكث سبعين خريفا ما وصل قعرها، والعبد إذا انتهى من هذه الدنيا على خير وطاعة انتقل إلى نعيم إلى الجنة، التي بين المصراعين مسيرة أربعين عاما، ويأتي عليه يوم وهو كظيظ من الزحام مما يدخل الجنة من الأخيار والمؤمنين، فالمؤمن يتصبر ويحمد ربه على ما يسر الله من العيش والرزق، ولا يحمله جوع أو مباهاة أو فخر أو خيلاء على استحلال ما حرم الله، بل يصبر كما صبر غيره، ويقنع بالقليل من الطعام واللباس حتى يتيسر غيره من طريق الحلال، فله قدوة وله أسوة في الأخيار الذين صبروا واحتسبوا حتى فرج الله الأمور، ومنهم أصحاب النبي ﷺ ومن بعدهم من الأخيار صبروا على شدة العيش وعلى الجوع والحاجة ثم فرج الله الأمور، وفتح الله عليهم فتوح، وملكوا الدنيا، وصار الواحد منهم له الملك العظيم من الرقيق والمتاع والمال بعد الشدة، والله يقول: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ۝ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]، ويقول سبحانه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4]، ويقول سبحانه: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ۝ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:5-6]، ويقول جل وعلا: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [الطلاق:7] فأهل الإيمان عليهم الصبر، ويأتي الفرج، فلا ينبغي لعاقل أن يحمله الجزع أو الفقر أو الحاجة أو الدين أو غير ذلك على ما حرم الله، أو على الجزع والقنوط، لا بل يتحمل ويصبر كما صبر الأخيار، والفرج قريب، وهذه الدنيا كلها متاع، والآخرة هي دار القرار، والمؤمن ينتقل منها إلى دار النعيم ودار السعادة الأبدية، والكافر وإن أعطي ما أعطي من الدنيا ينتقل إلى دار الهوان إلى النار والجحيم والعذاب الأليم الدائم، نسأل الله العافية. وفق الله الجميع.

10/499-وعنْ سَعد بن أَبي وَقَّاصٍ، ، قَالَ: إِنِّي لأَوَّلُ العَربِ رَمَى بِسَهْمِ في سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَقَدْ كُنا نَغْزُو مَعَ رسولِ اللَّهِ ﷺ مَا لَنَا طَعَامٌ إِلاَّ وَرَقُ الحُبْلَةِ، وَهذا السَّمَرُ، حَتى إِنْ كانَ أَحَدُنا لَيَضَعُ كما تَضَعُ الشاةُ مالَهُ خَلْطٌ. متفقٌ عَلَيْهِ.

الحُبْلَةِ بضم الحاءِ المهملة وإِسكانِ الباءِ الموحدةِ: وَهِيَ والسَّمُرُ، نَوْعانِ مَعْروفانِ مِنْ شَجَرِ البَادِيَةِ.

11/500-وعن أبي هُرَيْرَةَ، ، قَالَ: قالَ رسول اللَّه ﷺ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ رزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا متفقٌ عليه.

قَالَ أَهْلُ اللُّغَة والْغَرِيبِ: معْنَى قُوتًا أَيْ مَا يَسدُّ الرَّمَقَ.

12/501-وعن أَبي هُرَيْرَةَ، ، قَالَ: واللَّه الَّذِي لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ، إِنْ كُنْتُ لأعَتمِدُ بِكَبِدِي عَلَى الأَرْضِ مِنَ الجُوعِ، وإِنْ كُنْتُ لأشُدُّ الحجَرَ عَلَى بَطْني منَ الجُوعِ، وَلَقَدْ قَعَدْتُ يوْمًا على طَرِيقهِمُ الذي يَخْرُجُونَ مِنْهُ، فَمَرَّ النَّبِيُّ ﷺ، فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِي، وعَرَفَ مَا فِي وجْهي ومَا فِي نَفْسِي، ثُمَّ قال: أَبا هِرٍّ، قلتُ: لَبَّيْكَ يَا رسولَ اللَّه، قَالَ: الحَقْ ومَضَى، فَاتَّبَعْتُهُ، فدَخَلَ فَاسْتَأْذَنَ، فَأُذِنَ لِي فدَخَلْتُ، فوَجَدَ لَبَنًا في قَدحٍ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ هذَا اللَّبَنُ؟ قَالُوا: أَهْداهُ لَكَ فُلانٌ أَو فُلانة، قَالَ: أَبا هِرٍّ قلتُ: لَبَّيْكَ يَا رسول اللَّه، قَالَ: الْحَقْ إِلى أَهْل الصُّفَّةِ فادْعُهُمْ لِي. قَالَ: وأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضيَافُ الإِسْلام، لاَ يَأْوُون عَلى أَهْلٍ، وَلاَ مَالٍ، وَلاَ عَلَى أَحَدٍ، وكانَ إِذَا أَتَتْهُ صدقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ، ولَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا، وإِذَا أَتَتْهُ هديَّةٌ أَرْسلَ إِلَيْهِمْ وأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا، فسَاءَني ذلكَ فَقُلْتُ: وَمَا هذَا اللَّبَنُ في أَهْلِ الصُّفَّةِ؟ كُنْتَ أَحَقَّ أَن أُصِيب منْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا، فَإِذا جاءُوا أَمَرنِي، فكُنْتُ أَنا أُعْطِيهِمْ، وَمَا عَسَى أَن يبْلُغَني منْ هَذَا اللَّبَنِ، ولمْ يَكُنْ منْ طَاعَةِ اللَّه وطَاعَةِ رسوله ﷺ بدٌّ، فأَتيتُهُم فدَعَوْتُهُمْ، فأَقْبَلُوا واسْتأْذَنوا، فَأَذِنَ لهُمْ وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنَ الْبَيْتِ قَالَ: يَا أَبا هِرّ قلتُ: لَبَّيْكَ يَا رسولَ اللَّه، قَالَ: خذْ فَأَعْطِهِمْ قَالَ: فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ فَجَعَلْت أُعْطِيهِ الرَّجُلَ فيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يردُّ عليَّ الْقَدَحَ، فَأُعطيهِ الآخرَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يروَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَليَّ الْقَدحَ، حتَّى انْتَهَيتُ إِلى النَّبِيِّ ﷺ، وَقَدْ رَوِيَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ، فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ، فَنَظَرَ إِليَّ فَتَبَسَّمَ، فَقَالَ: أَبا هِرّ قلتُ: لَبَّيْكَ يَا رسول اللَّه قَالَ: بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ قلتُ: صَدَقْتَ يَا رسولَ اللَّه، قَالَ: اقْعُدْ فَاشْرَبْ فَقَعَدْتُ فَشَربْتُ: فَقَالَ: اشرَبْ فشَربْت، فَمَا زَالَ يَقُولُ: اشْرَبْ حَتَّى قُلْتُ: لا وَالَّذِي بعثكَ بالحَقِّ ما أَجِدُ لَهُ مسْلَكًا، قَالَ: فَأَرِني فأَعطيْتهُ الْقَدَحَ، فحمِدَ اللَّه تَعَالَى، وَسمَّى وَشَربَ الفَضَلَةَ. رواه البخاري.

الشيخ: هذان الحديثان فيهما الدلالة على ما أصاب الناس في عهد النبي ﷺ من الجوع والحاجة، تقدمت أحديث في هذا الباب المسلمون لما هاجروا من مكة ومن غيرها إلى المدينة مع نبيهم ﷺ أصابتهم شدة وحاجة، وكان الأنصار واسوهم بأموالهم أيضا من الثمار والحبوب وغير ذلك، ولكن المهاجرين كثيرون، فلهذا أصابتهم مجاعة وحاجة، ومن ذلك قول سعد بن أبي وقاص أنهم كانوا يغزون مع النبي ﷺ ما لهم طعام إلا ورق الحبلة، ورق الشجر يعني يمضي عليهم الأيام يرعون من ورق الشجر كما ترعى البهائم من شدة الحاجة، وقل أن يوجد عندهم من التمر ما يكفي، ثم إن أبا هريرة ذات يوم خرج وقد أصابته حاجة شديدة، وربط على بطنه الحجر من شدة الجوع، ومر عليه النبي ﷺ فقال: الحق يا أبا هريرة لما رأى في وجهه من الحاجة وتبسم، وقال: الحق فذهب معه إلى البيت، فأهدي إلى النبي ﷺ قدح من اللبن، وكان يقبل الهدية ويثيب عليها، وأما الصدقة فكان لا يقبلها، ولكن يعطيها الفقراء من أهل الصفة من فقراء المهاجرين، فلما جاء اللبن قال لأبي هريرة: ادع لي أهل الصفة وهم فقراء يعيشون على الله ثم على الصدقات، ما عندهم مال ولا أهل، جاؤوا من شتى الدنيا من مكة، ومن بلدان أخرى مهاجرين، وكان النبي ﷺ يدفع إليهم ويرسل إليهم ما يأتي إليه من الصدقات، ومن الهدايا، ويحسن إليهم، فقال أبو هريرة: أنا الآن محتاج وجائع ماذا يصنع هذا القدح مع أهل الصفة وهم كثير، في رواية: كانوا سبعين: فدعاهم أبو هريرة فجاؤوا، فلما أخذوا مجالسهم قال النبي ﷺ لأبي هريرة: قم فاسقهم، خذ القدح فمر به عليهم وسقاهم، كل واحد يشرب حتى يروى ثم يحيله إلى الآخر حتى كملهم وشربوا من هذا القدح، وأنزل الله فيه البركة حتى سقى الجميع، وهو قدح واحد، وهذه من آيات الله ومن معجزات نبيه ﷺ أن الله جعل في هذا القدح البركة.

هذا يعتبر من المعجزات الدالة على صدقه، وأنه رسول الله حقا عليه الصلاة والسلام مثلما نبع الماء من بين أصابعه وشرب الناس وحملوا في أوعيتهم من هذا الماء الذي نبع من بين أصابعه عليه الصلاة والسلام، وقع هذا في مرات، فهكذا هذا اللبن بارك الله فيه، وفي هذا القدح حتى سقى هؤلاء الجم الغفير، ثم بقي البقية في القدح، فجاء به أبو هريرة إلى النبي ﷺ فقال له النبي ﷺ: يا أبا هريرة بقيت أنا وأنت يعني الناس شربوا كلهم، فقال أبو هريرة: صدقت، وكان يقول: يا أبا هر، يقال: أبا هريرة وأبا هر، يكنى بهريرة كانت عنده، فقال له النبي ﷺ: اشرب اقعد فجلس أبو هريرة وقال له النبي ﷺ: اشرب فشرب، ثم قال له النبي ﷺ: اشرب فشرب، ثم قال له النبي ﷺ: اشرب الثالثة فشرب، ثم قال له: اشرب، فقال: والذي بعثك بالحق لا أجد له مساغا، يعني رويت، ثم أخذ النبي ﷺ القدح وحمد الله وشرب الفضلة عليه الصلاة والسلام، هذه من آيات الله الدالة على أنه رسول الله حقا، وأن له من المعجزات الباهرة ما يدل على صدقه، وأنه رسول الله حقا، وأعظم معجزاته وأهمها وأكبرها القرآن العظيم الذي جعله الله آية ووحيا يتلى ومعجزة مستمرة إلى يوم القيامة.

وفيه من الفوائد وجوب الصبر والتحمل وعدم الجزع كما أصاب المسلمين، كذلك ينبغي للمسلم أن يصبر، ولهذا قال ﷺ: اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا يعني كفافا، فالقوت الكفاف، يعني ما فيه كثرة تبطرهم ولا قلة تشق عليهم، ولهذا قال: اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا يعني كفافا، ومن هذا الحديث الصحيح يقول ﷺ: قد أفلح من أسلم ورزق كفافا، وقنعه الله بما آتاه، وفي اللفظ الآخر: طوبى لمن أسلم ورزق كفافا، وقنعه الله بما آتاه فمن رزقه الله الكفاف والغنية عما في أيدي الناس فهو في نعمة عظيمة، قد أفلح إذا شكر الله على هذه النعمة، فالنبي ﷺ دعا بهذا أن يكون الرزق كفافا ليس فيه ما يبطر الناس، وليس فيه مشقة، بل يكفيهم ويسد حاجتهم، والمقصود من هذا كله الدلالة على أن الأخيار في عهد النبي ﷺ مع نبيهم ﷺ أصابهم شدة، فأنت يا عبد الله إذا أصابك شيء فلك الأسوة، تأسى بأولئك واصبر ولا تجزع من فقر أو حاجة أو مصائب تصيبك، فقد أصيب الأنبياء بالمصائب الكبيرة والأخيار، فلك فيهم أسوة، هكذا يقتدي الصالحون بالأخيار، يقول النبي ﷺ: عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، ويقول ﷺ: أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على قدر دينه فأنت يا عبد الله لك أسوة في الأخيار، واصبر كما صبروا، واشكر كما شكروا، واحذر من الإسراف والتبذير، واحذر من الجزع والقنوط، وفق الله الجميع، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.

13/502-وعن مُحَمَّدِ بنِ سِيرينَ عن أَبي هريرةَ، ، قَالَ: لَقَدْ رأَيْتُني وإِنِيّ لأَخِرُّ فِيما بَيْنَ مِنْبَرِ رسولِ اللَّه ﷺ إِلَى حُجْرَةِ عائِشَةَ رضي اللَّه عنها مَغْشِيًّا عَلَيَّ، فَيجِيءُ الجَائي، فيَضَعُ رِجْلَهُ عَلى عُنُقي، وَيرَى أَنِّي مَجْنونٌ وما بي مِن جُنُونٍ، وما بي إِلاَّ الجُوعُ. رواه البخاري.

14/503-وعن عائشةَ، رضيَ اللَّه عنها، قَالَتْ: تُوُفِّيَ رسولُ اللَّه ﷺ ودِرْعُهُ مرْهُونَةٌ عِند يهودِيٍّ في ثَلاثِينَ صَاعًا منْ شَعِيرٍ. متفقٌ عَلَيْهِ.

15/504-وعن أَنس قَالَ: رَهَنَ النَّبِيُّ ﷺ دِرْعهُ بِشَعِيرٍ، ومشيتُ إِلى النَّبِيِّ ﷺ بِخُبْزِ شَعيرٍ، وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ، وَلَقَدْ سمِعْتُهُ يقُولُ: مَا أَصْبحَ لآلِ مُحَمَّدٍ صاعٌ وَلاَ أَمْسَى وَإِنَّهُم لَتِسْعَةُ أَبْيَاتٍ رواه البخاري.

الإِهَالَةُ بكسر الهمزة: الشَّحْمُ الذَّائِبُ. وَالسَّنِخَةُ" بِالنون والخاءِ المعجمة، وَهِي: المُتَغَيِّرةُ.

الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كالتي قبلها في بيان ما أصاب النبي ﷺ والمسلمين في المدينة في أول الهجرة من الشدة والحاجة حتى فتح الله الفتوح ويسر الأمور بعد ذلك، تقدم قول عائشة رضي الله عنها ما شبع النبي من خبز شعير ثلاثة أيام متتابعة، في راوية: من خبز بر ثلاثة أيام متتابعة، وما جرى لأبي هريرة من شدة الجوع حتى يسقط من شدة الجوع حتى يظن أنه مجنون وما به إلا الجوع، وتقدم ما جرى للنبي ﷺ وأنه ربط على الحجر بطنه، وهكذا الصديق وعمر من شدة الجوع، وهكذا ما ذكره أنس وعائشة من رهنه الدرع عند يهودي في شعير لأهله، فهذا كله يدل على أنه لا ينبغي للمؤمن أن يجزع مما قد يصيبه من الحاجة والفقر، فقد أصاب منه خير منه، ولكن ينبغي له أن يتحرى الأسباب الطيبة، الأسباب النافعة حتى يقيم أوده، يعني يستغني عما في أيدي الناس، ولا مانع من معاملة الكفار في البيع والشراء كما اشترى النبي ﷺ من اليهود ورهنهم درعه، هذا يدل على أنه لا بأس أن يشتري الإنسان من الكفرة، أو يبيع عليهم لا حرج، المحرم محبتهم وموالاتهم، أما كونك تشتري منهم شيئا وتبيع عليهم شيء لا حرج في ذلك.

فقد اشترى النبي ﷺ من اليهود، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في أصواع من شعير، ولا بأس بأكل طعام أهل الكتاب، فقد أكل طعامهم ﷺ، وإنما حرم علينا موالاتهم ومحبتهم كما قال تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22]، وقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [المائدة:51] فالمؤمن يوالي إخوانه المؤمنين ويحبهم في الله ويتولاهم، ويبغض الكافرين ويعاديهم في الله كما قال جل وعلا: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4]، فالعداوة والبغضاء في الدين، هذا أمر معلوم بين المسلمين والكفار، أما الشراء منهم أو البيع عليهم فهذا لا بأس به، ولا يدخل في المحبة والولاية، فله أن يشتري سيارة أو آلات أو أشياء أخرى من الكفرة أو الطعام، وله أن يبيع عليهم كما جرى للمسلمين مع الكفار في المدينة، وكما جرى للنبي ﷺ مع اليهود، وفق الله الجميع.

16/505-وعن أَبي هُرَيْرَةَ ، قَالَ: لَقدْ رَأَيْتُ سبْعينَ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، مَا مِنْهُم رَجلٌ عَلَيهِ رِدَاء، إِمَّا إِزارٌ وإِمَّا كِسَاءٌ، قَدْ ربطُوا في أَعْنَاقِهم فمِنهَا مَا يَبْلُغُ نِصفَ السَّاقيْنِ، وَمِنهَا مَا يَبلُغُ الكَعْبَينِ، فيجمعُهُ بِيَدِهِ كَراهِيَةَ أَن تُرَى عَوْرَتُهُ. رواه البخاري.

17/506-وعن عائشةَ رضي اللَّه عنها قَالَتْ: كَانَ فِرَاشُ رسول اللَّه ﷺ مِن أدَمٍ حشْوُهُ لِيف. رواه البخاري.

18/507-وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رسولِ اللَّه ﷺ إِذْ جاءَ رَجُلٌ مِن الأَنْصارِ، فسلَّم علَيهِ، ثُمَّ أَدبرَ الأَنْصَارِيُّ، فقال رَسُول اللَّه ﷺ: يَا أَخَا الأَنْصَارِ، كَيْفَ أَخِي سعْدُ بنُ عُبادةَ؟ فَقَالَ: صَالحٌ، فَقَالَ رسول اللَّه ﷺ: مَنْ يعُودُهُ مِنْكُمْ؟ فَقام وقُمْنا مَعَهُ، ونَحْنُ بضْعَةَ عشَر مَا علَينَا نِعالٌ وَلا خِفَافٌ، وَلا قَلانِسُ، وَلاَ قُمُصٌ نَمْشِي في تلكَ السِّبَاخِ، حَتَّى جِئْنَاهُ، فاسْتَأْخَرَ قَوْمُهُ مِنْ حَوْله حتَّى دنَا رسولُ اللهِ ﷺ وَأَصْحابُهُ الَّذِين مَعهُ. رواه مسلم.

الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كالتي قبلها في بيان ما أصاب النبي ﷺ والمسلمين في المدينة من الشدة والحاجة والفقر أول ما هاجر عليه الصلاة والسلام، فالمسلمون لهم التأسي برسول الله ﷺ، والاقتداء بالصبر على ما قد يصيب من الحاجة والشدة، فالله جل وعلا يبتلي عباده بالسراء والضراء، والشدة والرخاء كما قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31]، وقال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة:155]، يقول أبو هريرة: أنه رأى سبعين من أهل الصفة من الفقراء كلهم ليس لهم إلا الإزار، ما عندهم شيء يضعونه على أكتافهم من الأردية، ولا قلانس على رؤوسهم من شدة الحاجة ليس عندهم إلا الأزر من شدة الحاجة.

وتقول عائشة رضي الله عنها: «كان فراش النبي ﷺ من أدم من جلد حشوة ليف» ما كان متمتعا بأنواع الطيبات، بل كان يصبر ويحتسب حتى فتح الله الفتوح، ويسر الله الأمور، وأغنى بعد العيلة، وأعز بعد الذلة، ونصر أولياءه كما قال تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49]، وقال تعالى: وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132]، صبروا فأفلحوا، وملكوا الدنيا وأعطاهم الله الخير الكثير والنعم العظيمة بعدما صبروا وجاهدوا، هكذا يجب على أهل الإسلام التحمل لما قد يقع من الشدائد والحاجة، ثم تكون العاقبة الحميدة، وهكذا حديث ابن عمر في خروج النبي ﷺ إلى سعد بن عبادة يعوده، سعد بن عبادة سيد الخزرج رئيس الخزرج، وسعد بن معاذ رئيس الأوس، فالأنصار قسمان: أوس وخزرج، رئيس الأوس سعد بن معاذ الذي قتل يوم الخندق، أصابه جراح ومات بسببها يوم الخندق، وسعد بن عبادة رئيس الخزرج رضي الله عن الجميع، أصابه مرض في عهد النبي ﷺ فقام يعوده عليه الصلاة والسلام ومعه جماعة من الصحابة بضعة عشر من الصحابة، ليس عليهم نعال ولا خفاف في تلك السباخ يعودونه في محله البعيد عن مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، فدخلوا عليه وهو مريض، فتنحى عنه أصحابه ودنا منه النبي ﷺ وسأله عن حاله.

فهذا يدل على شرعية عيادة المريض، وأن السنة لأهل الإسلام أن يعود بعضهم بعضا عند المرض، يقول النبي ﷺ: عودوا المريض، وأطعموا الجائع، وفكوا العاني، ويقول ﷺ: حق المسلم على المسلم أن يعوده إذا مرض، وأن يتبع جنازته إذا مات، ويشمته إذا عطس وحمد الله، وينصح له، ويقول ﷺ: إذا لقيت أخاك فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصحه، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه، وإذا عطس وحمد الله فشمته كل هذا من حق المسلم على أخيه، والشاهد أنهم ذهبوا إلى هناك إلى المحل البعيد، والذين معه ﷺ ليس لديهم خفاف ولا نعال، وهذا من شدة الحاجة.

والمقصود من ذكر الأحاديث هذه الدلالة على ما أصاب المسلمين من المهاجرين والأنصار في المدينة بعد الهجرة من الشدة والحاجة، ثم فرج الله الأمور، صبروا ففرج الله لهم وجاءتهم الدنيا وهي راغمة، وفتح الله عليهم الفتوح، وصاروا بعد ذلك رءوس الناس وملوك الناس بصبرهم على دين الله وجهادهم في سبيل الله، رزق الله الجميع التوفيق والهداية، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه.

19/508-وعن عِمْرانَ بنِ الحُصَينِ رضي اللَّه عنهما، عن النَّبي ﷺ أَنه قَالَ: خَيْرُكُمْ قَرنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يلوُنَهم، ثُمَّ الَّذِينَ يلُونَهُم قَالَ عِمرَانُ: فَمَا أَدري قَالَ النبي ﷺ مَرَّتَيْن أَو ثَلاثًا ثُمَّ يَكُونُ بَعدَهُمْ قَوْمٌ يشهدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلا يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهمْ السِّمَنُ متفقٌ عَلَيْهِ.

20/509-وعن أَبي أُمامة قَالَ: قالَ رسولُ اللَّه ﷺ: يَا ابْنَ آدمَ: إِنَّكَ إِنْ تَبْذُل الفَضلَ خَيْرٌ لَكَ، وَأَن تُمْسِكهُ شرٌّ لَكَ، ولاَ تُلامُ عَلى كَفَافٍ، وَابدأ بِمنْ تَعُولُ. رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

21/510-وعن عُبَيداللَّه بِن مِحْصَنٍ الأَنْصارِيِّ الخَطْمِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ: منْ أَصبح مِنكُمْ آمِنًا في سِرْبِهِ، مُعَافَىً في جَسدِه، عِندهُ قُوتُ يَومِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحذافِيرِها. رواه الترمذي، وقال: حديثٌ حسنٌ.

سِرْبِهِ بكسر السين المهملة، أَي: نَفْسِهِ، وقِيلَ: قَومِه.

الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كالتي قبلها في الحث على الاستقامة والثبات على الحق، والصبر والصدقة والمواساة، فالمؤمن صبور عند الشدة، بذول جواد عند الرخاء، هكذا المؤمن، ينبغي للمؤمن أن يتأسى بالأخيار من الصحابة ومن بعدهم من التابعين لهم بإحسان في الصبر على المصائب، وبذل الجود والكرم والمواساة، والحرص على كف الأذى وجلب الخير، يقول ﷺ: خير أمتي قرني يعني الصحابة ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثا، والثابت أنه ذكر بعد قرنه مرتان، ذكر مرتين بعد قرنه كما في حديث ابن مسعود: خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم فأفضل الناس قرنه وهم الصحابة ، هم أفضل الناس بعد الأنبياء، ثم الذين يلونهم وهم التابعون، ثم أتباع التابعين، ثم تكون فتنا بعد ذلك يأتي قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن يعني يأتي بعد ذلك أمم عندهم قلة خوف من الله، وعندهم شيء من المعاصي، ولهذا قال: يخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون يشهدون بالزور وينذرون ولا يوفون لضعف إيمانهم، ويظهر فيهم السمن، يعني تعظم أجسامهم بسبب كثرة الأكل والإعراض عن الآخرة ولقلة المبالاة بالآخرة، نسأل الله العافية.

فيجب على المؤمن أن يحذر هذه الصفات الذميمة، وألا يشهد إلا بحق، وإذا نذر طاعة أوفى بها، ولا يخون الأمانة بل يؤدي الأمانة، هذا هو الواجب على المؤمن كما قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، ويقول سبحانه وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون:8]، ويقول النبي ﷺ في الحديث الصحيح: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت، فشهادة الزور من أقبح القبائح ومن أكبر الكبائر، ويقول ﷺ: يقول الله جل وعلا: يا ابن آدم إنك أن تبذل الفضل خير لك يعني إن بذلك الخير والفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك الإنسان إذا كان عنده فضل وسعة من المال، كونه يبذل الخير ويتصدق ويواسي الفقير ويصل الرحم هذا خير له، والله يخلف عليه كما قال تعالى: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]، وقال تعالى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:280]، وقال جل وعلا: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4]

فالصدقة فيها خير عظيم وفضل كبير، ولهذا يقول الله جل وعلا: يا ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك يعني إن بذلك المعروف والصدقة خير لك، وإمساكك شر لك، ولا يلام على كفاف المسلم، لا يلام على كفاف، ولهذا يقول ﷺ: اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا يعني كفافا، فأنت يا عبد الله لاحظ أحوالك وأحوال غيرك، وتصدق وأحسن يحسن الله إليك، ولا تبخل ولا تقنط بل اطلب الرزق واجتهد فيما أحل الله، وجد من الفضل الذي عندك، إذا كان عندك فضل فجد وأحسن إلى المحاويج من عباد الله، واطلب الرزق من الله، فمن جاد جاد الله عليه، ومن أحسن أحسن الله إليه، الجزاء من جنس العمل.

كذلك يقول ﷺ: من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، وفي اللفظ الآخر: يومه وليلته، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها يعني فهو من أغنى الناس يعني من رزق هذا، كونه معافى في بدنه، آمنا في بيته ونفسه ليس بخائف، عنده قوت يومه وليلته، العشاء والغداء، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، يعني فهو في خير عظيم، والرزق عند الله، اليوم الثاني يأتي رزقه وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ۝ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]، فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ [العنكبوت:17] فهذا فيه الحث على الاستغناء بما يسر الله لك، والجود والكرم والإحسان إلى من احتاج إليك، والحذر من البخل والشح، أو الحرص الذي يضرك، قال ﷺ: قد أفلح من أسلم ورزق كفافا، وقنعه الله بما آتاه فالواجب على المؤمن أن يكون قنوعا راضيا بما يسر الله له، صبورا محتسبا، يجود ويحسن مما أعطاه الله، ويحذر البخل، فالقناعة فيها خير عظيم، ولهذا يقول ﷺ: قد أفلح من أسلم ورزق كفافا، وقنعه الله بما آتاه، بعض الناس كالذي يأكل ولا يشبع، مهما جاءته الدنيا فهو يلهث، ما عنده تحمل، فينبغي للمؤمن أن يكون عنده تحمل، يطلب الرزق بالهدوء، والسير الحسن، وعدم الجشع، وعدم الحرص الذي يؤديه إلى ما حرم الله، أو إلى تضييع ما أوجب الله، ثم إذا جاد الله عليه أحسن وجاد، وأنفق وواسى الفقير والمسكين، هكذا المؤمن جوادا كريما صبورا، وفق الله الجميع.

22/511-وعن عبداللَّه بن عمرو بنِ العاصِ رضي اللَّه عنهما، أَن رَسُولَ اللَّه ﷺ قَالَ: قَدْ أَفَلَحَ مَن أَسلَمَ، وكَانَ رِزقُهُ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّه بِمَا آتَاهُ رواه مسلم.

23/512-وعن أَبي مُحَمَّد فَضَالَةَ بنِ عُبَيْد الأَنْصَارِيِّ ، أَنَّهُ سَمِعَ رسولُ اللَّه ﷺ يَقُولُ: طُوبَى لِمَنْ هُدِيَ إِلى الإِسلام، وَكَانَ عَيْشهُ كَفَافًا، وَقَنِعَ. رواه الترمذي، وقال: حديثٌ حسن صحيح.

24/513-وعن ابن عباسٍ رضي اللَّه عنهما قَالَ: كَانَ رسولُ اللَّه ﷺ يَبِيتُ اللَّيَالِيَ المُتَتَابِعَةَ طَاوِيًا، وَأَهْلُهُ لاَ يَجِدُونَ عَشاءَ، وَكَانَ أَكْثَرُ خُبْزِهِمْ خُبْز الشَّعِيرِ. رواه الترمذي، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيح.

الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كالتي قبلها في بيان ما أصاب المسلمين في عهد النبي ﷺ أول ما هاجروا من الشدة في المدينة والحاجة، حتى كان الرسول ﷺ يربط الحجارة على بطنه، وهكذا كثير من الصحابة، وقد سبق جملة من الأحاديث في ذلك، وأن السنة للمؤمن التحمل والصبر عند الشدائد تأسيا بمن سلف من الأخيار، وطلبا للرزق منه ، ولهذا يقول ﷺ: قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنعه الله بما آتاه، وفي اللفظ الآخر: طوبى لمن أسلم، ورزق كفافا، وقنع هذا من فضل الله على بعض عباده أن يوفق ويهدى للإسلام، وأن يرزق الكفاف، وأن يمن الله عليه بالقناعة وعدم الجشع.

فأنت يا عبد الله مشروع لك الصبر والاحتساب فيما قد يصيبك من حاجة ومسكنة وجوع وغير ذلك، كما صبر نبيك ﷺ والصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم حتى فرج الله، حتى فتح الله عليهم الفتوح وملكوا الدنيا وصارت لهم الخيرات العظيمة جاءتهم الدنيا وهي راغمة، فمن صبر يسر الله أمره قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ۝ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]، وقال سبحانه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4]، يعني يفتح الله له الأبواب حتى يوسع رزقه، وحتى يكفى المؤونة، ولكن عليك الصبر وعدم العجلة في الأمور، والأخذ بالأسباب المباحة الطيبة في طلب الرزق، الله يقول: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ [العنكبوت:17]، ويقول ﷺ: لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة من الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه، خير له من سؤال الناس أعطوه أو منعوه، وسئل النبي ﷺ أي الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور عمله بيده نجار، حداد، خراز، بناء، صانع سيارات، صانع غير ذلك، كان نبي الله داود يصنع الدروع ويأكل من كسبه عليه الصلاة والسلام، فالمؤمن هكذا يعمل، يكدح، ويحسن الظن بربه، ويعمل بما أوجب الله عليه ولا يجزع، ولكن يكون قنوعا قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنعه الله بما آتاه فالجشع والحرص على المال هو الذي يسبب الوقوع فيما حرم الله من الربا، والغش، والخيانة، والكذب، وغير ذلك من شدة الحرص على المال، ولكن مع الصبر والصدق يوفق الله العبد، ويسهل أموره.

يقول النبي ﷺ: البيعان بالخيار مالم يتفرقا، فإن بينا وصدقا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما فالصدق في طلب الرزق من أسباب البركة وحصول ما يغني العبد، والكذب والخيانة وسوء الظن بالله من أسباب بقاء المسكنة والكفر وعدم النجاح في المهمات، رزق الله الجميع التوفيق والهداية.

514- وعن فضَالَةَ بنِ عُبَيْدٍ ، أَن رسولَ اللَّه ﷺ كَانَ إِذَا صَلَّى بِالنَّاسِ يَخِرُّ رِجَالٌ مِنْ قَامَتِهِمْ في الصَّلاةِ مِنَ الخَصَاصةِ، وَهُمْ أَصْحابُ الصُّفَّةِ حَتَّى يَقُولَ الأَعْرَابُ: هُؤُلاءِ مَجَانِينُ، فَإِذَا صلَّى رسول اللَّه ﷺ انْصَرفِ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: لَوْ تَعْلَمُونَ مَا لَكُمْ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى، لأَحْبَبْتُمْ أَنْ تَزْدادُوا فَاقَةً وَحَاجَةً رواه الترمذي، وقال حديثٌ صحيحٌ.

الخَصاصَةُ: الْفَاقَةُ والجُوعُ الشَّديدُ.

26/515-وعن أَبي كَريمَةَ المِقْدامِ بن معْدِ يكَرِب قالَ: سمِعتُ رَسُولَ اللَّه ﷺ يقَولُ: مَا ملأَ آدمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطنِه، بِحسْبِ ابنِ آدمَ أُكُلاتٌ يُقِمْنَ صُلْبُهُ، فإِنْ كَانَ لا مَحالَةَ، فَثلُثٌ لطَعَامِهِ، وثُلُثٌ لِشرابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ. رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.

أُكُلاتٌ أَيْ: لُقمٌ.

27/516-وعن أَبي أُمَامَةَ إِيَاسِ بنِ ثَعْلَبَةَ الأَنْصَارِيِّ الحارثيِّ قَالَ: ذَكَرَ أَصْحابُ رَسولَ اللَّه ﷺ يوْمًا عِنْدَهُ الدُّنْيَا، فَقَالَ رسول اللَّه ﷺ: أَلا تَسْمَعُونَ؟ أَلا تَسْمَعُونَ؟ إِنَّ الْبَذَاذَة مِن الإِيمَان، إِنَّ الْبَذَاذَةَ مِنَ الإِيمَانِ يعْني: التَّقَحُّلَ. رواهُ أَبو داود.

الْبَذَاذَةُ: بِالْبَاءِ المُوَحَّدةِ وَالذَّالَينِ المُعْجمَتَيْنِ، وَهِيَ رَثاثَةُ الهَيْئَةِ، وَتَرْكُ فَاخِرِ اللِّبَاسِ وأَمَّا التَّقَحُّلُّ فَبِالْقَافِ والحاء، قَالَ أَهْلُ اللُّغَة: المُتَقَحِّل: هُوَ الرَّجُلُ الْيَابِسُ الجِلدِ مِنْ خُشُونَةَ الْعَيْشِ، وَتَرْكِ التَّرَفَّهِ.

الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كالتي قبلها في الحث على الصبر وعدم التكلف في الملابس والمآكل، وأن الصحابة أصابهم لما هاجروا إلى المدينة مشقة كبيرة وحاجة شديدة من المهاجرين، فصبروا وعلى رأسهم نبيهم عليه الصلاة والسلام، وهكذا أهل الصفة وهم فقراء المسلمين أصابهم جهد كبير بسبب الخصاصة والجوع، فالواجب على المؤمن أن يتأسى بالأخيار، وألا يجزع من الحاجة والشدة، بل يتصبر ويتحمل، ويأخذ بالأسباب، يأخذ بأسباب الرزق، بأسباب سد الحاجة من التجارة من العمل حتى يسد حاجته مثل ما قال ﷺ: لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة من الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه، خير له من سؤال الناس أعطوه أو منعوه فالشدة أصابت الأخيار من الأنبياء والصلحاء، فلك بهم أسوة.

ويقول ﷺ: ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه يعني ما هناك وعاء ملأه شر أشد من ملء البطن خطره، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه يعني ينبغي للإنسان ألا يشبع كثيرا، بل يجعل لنفسه نصيب، ولشرابه نصيب، ولأكله نصيب، فيكون ثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس حتى لا يتكلف، حتى لا يتعرض لأخطار الشبع، ولا بأس بالشبع ولا حرج، لكن كونه يخفف ولا يشبع يكون أسلم وأقل للخطر وأحسن عاقبة، فملء البطون فيه خطر كبير، والتخفيف فيه مصالح كثيرة.

ويقول ﷺ: ألا تسمعون، البذاذة من الإيمان البذاذة عدم التكلف في الملابس والمراكب، الإنسان يتوسط لا يتكلف، الله جميل يحب الجمال لا بأس أن يتجمل، يلبس من أحسن الثياب، لكن بعض الأحيان لا يتكلف حتى يكسر نفسه، حتى لا يقع في الكبر والخيلاء، يكسرها في بعض الأحيان بالملابس التي ليس بها تكلف، وهي ثياب مثله التي فيها تكلف دون الوسط في بعض الأحيان، وأما غالب الأحيان مثل ما قال ﷺ: إن الله جميل يحب الجمال لما قال له رجل: يا رسول الله، المرء يحب أن يكون نعله حسنة وثوبه حسنا، أفذلك من الكبر؟ قال ﷺ: لا، إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس يعني احتقار الناس، فلبس الحسن من الثياب وغيرها هذا لا بأس به، والتوسط في الأمور أمر مطلوب، إن الله إذا أنعم على عبد نعمة يحب أن يرى أثر نعمته عليه، ولكن إذا كسر نفسه بعض الأحيان بالبذاذة وعدم التكلف يكون أقرب إلى الخضوع، وأبعد عن الكبر؛ لأن النفس متى اعتادت الترفه والجميل من الثياب في كل وقت قد تقع في الكبر والخيلاء، فإذا كسرها بعض الأحيان بالبذاذة وعدم التكلف يكون ذلك أصلح لها، وفق الله الجميع.