21 من حديث (جابر بن عبد الله قال: بعثنا رسول الله ﷺ وأمر علينا أبا عبيدة نتلقي عيرا لقريش..)

28/517- وعن أبي عبدِاللَّه جابر بن عبدِاللَّه رضي اللَّه عنهما قَالَ: بَعَثَنَا رسولُ اللَّه ﷺ وَأَمَّرَ عَلَينَا أَبَا عُبَيْدَةَ ، نتَلَقَّى عِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَزَوَّدَنَا جِرَابًا مِنْ تَمْرٍ لَمْ يجِدْ لَنَا غَيْرَهُ، فَكَانَ أَبُو عُبَيْدةَ يُعْطِينَا تَمْرةً تَمْرَةً، فَقِيل: كَيْف كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ بِهَا؟ قَالَ: نَمَصُّهَا كَمَا يَمَصُّ الصَّبِيُّ، ثُمَّ نَشْرَبُ عَلَيهَا مِنَ المَاءِ، فَتَكْفِينَا يَوْمَنَا إِلى اللَّيْلِ، وكُنَّا نَضْرِبُ بِعِصيِّنا الخَبَطَ، ثُمَّ نَبُلُّهُ بِالمَاءِ فَنَأْكُلُهُ.

قَالَ: وانْطَلَقْنَا عَلَى ساحِلِ البَحْرِ، فرُفِعَ لنَا عَلَى ساحِلِ البَحْرِ كهَيْئَةِ الكَثِيبِ الضَّخْمِ، فَأَتيْنَاهُ، فَإِذا هِي دَابَّةٌ تُدْعَى: العَنْبَرَ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَيْتَةٌ، ثُمَّ قَالَ: لا، بلْ نحْنُ رسُلُ رسُولِ اللَّه ﷺ، وفي سبيلِ اللَّه، وقَدِ اضْطُرِرتمْ فَكُلُوا، فَأَقَمْنَا علَيْهِ شَهْرًا، وَنَحْنُ ثَلاثُمئَة، حتَّى سَمِنَّا، ولقَدْ رَأَيتُنَا نَغْتَرِفُ مِن وَقْبِ عَيْنِهِ بالْقِلالِ الدُّهْنَ، ونَقْطَعُ منْهُ الْفِدَرَ كَالثَّوْرِ، أَو كقَدْرِ الثَّوْرِ، ولَقَدْ أَخَذَ مِنَّا أَبُو عُبيْدَةَ ثَلاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا فأَقْعَدَهُم في وقْبِ عَيْنِهِ، وَأَخَذَ ضِلَعًا منْ أَضْلاعِهِ فأَقَامَهَا، ثُمَّ رَحَلَ أَعْظَمَ بَعِيرٍ مَعَنَا، فَمَرَّ منْ تَحْتِهَا، وَتَزَوَّدْنَا مِنْ لحْمِهِ وَشَائِقَ، فَلمَّا قدِمنَا المدينَةَ أَتَيْنَا رسول اللَّه ﷺ فَذكرنَا ذلكَ لَهُ، فَقَالَ: هُوَ رِزْقٌ أَخْرَجَهُ اللَّه لَكُمْ، فَهَلْ معَكمْ مِنْ لحْمِهِ شَيءٌ فَتُطْعِمُونَا؟ فَأَرْسلْنَا إِلَى رسول اللَّه ﷺ مِنْهُ فَأَكَلَهُ. رواه مسلم.

الجِرَابُ: وِعاء مِنْ جِلْدٍ مَعْرُوف، وَهُو بكَسر الجيم وفتحِها، والكسرُ أَفْصحُ.

قَوْلُهُ: نَمَصُّهَا بفتح الميم.

والخَبطَ: وَرَقُ شَجَرٍ مَعْرُوف تَأْكُلُهُ الإِبلُ.

و الكَثِيبُ: التَّلُّ مِنَ الرَّمْلِ.

و الوَقْبُ بفتحِ الواوِ، وإِسكان القافِ، وبعدهَا بَاءٌ موحدةٌ، وَهُو نقرة العَيْن.

و القِلالُ: الجِرَارُ.

والفِدَرُ بكسرِ الفاءِ، وفتح الدال: القِطعُ.

رَحَلَ البَعِيرَ بتخفيفِ الحاءِ، أيْ: جعلَ عليه الرَّحْلَ.

والْوَشَائق بالشينِ المعجمةِ والقافِ: اللَّحْمُ الَّذي اقْتُطِعَ ليُقَدَّدَ مِنْه، واللَّه أعلم.

29/518- وعن أَسْمَاءَ بنْتِ يَزِيدَ رضي اللَّه عنها قالت: "كانَ كُمُّ قمِيصِ رسول اللَّه ﷺ إِلى الرُّصْغِ". رواه أَبو داود، والترمذي وقال: حديث حسن.

"الرُّصْغُ" بالصادِ، و"الرُّسْغُ" بالسينِ أَيضًا: هوَ المفْصلُ بين الكَفِّ والسَّاعِدِ.

30/519- وعن جابرٍ قَالَ: إِنَّا كُنَّا يَوْم الخَنْدَقِ نَحْفِرُ، فَعَرضَتْ كُدْيَةٌ شَديدَةٌ، فجاءُوا إِلى النبيِّ ﷺ فقالوا: هَذِهِ كُدْيَةٌ عَرَضتْ في الخَنْدَقِ، فَقَالَ: أَنَا نَازِلٌ، ثُمَّ قَامَ وبَطْنُهُ معْصوبٌ بِحَجرٍ، وَلَبِثْنَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ لا نَذُوقُ ذَوَاقًا، فَأَخَذَ النَّبِيُّ ﷺ المِعْوَل، فَضرَب فَعَادَ كَثيبًا أَهْيَلَ، أَوْ أَهْيَمَ.

فقلت: يَا رسولَ اللَّه، ائْذَن لي إِلى البيتِ، فقلتُ لامْرَأَتي: رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ ﷺ شَيْئًا ما في ذلكَ صبْرٌ، فعِنْدَكِ شَيءٌ؟ فقالت: عِندِي شَعِيرٌ وَعَنَاقٌ، فَذَبَحْتُ العَنَاقَ، وطَحَنْتُ الشَّعِيرَ، حَتَّى جَعَلْنَا اللحمَ في البُرْمَة، ثُمَّ جِئْتُ النبيَّ ﷺ وَالعجِينُ قَدِ انْكَسَرَ، والبُرْمَةُ بيْنَ الأَثَافِيِّ قَد كَادَت تَنْضجُ، فقلتُ: طُعَيِّمٌ لي فَقُمْ أَنْت يَا رسولَ اللَّه وَرَجُلٌ أَوْ رَجُلانِ، قَالَ: كَمْ هُوَ؟ فَذَكَرتُ لَهُ، فَقَالَ: كثِير طَيِّبٌ، قُل لَهَا: لا تَنْزِع البُرْمَةَ ولا الخُبْزَ مِنَ التَّنُّورِ حَتَّى آتيَ، فَقَالَ: قُومُوا، فقام المُهَاجِرُون وَالأَنْصَارُ، فَدَخَلْتُ عليها فقلتُ: وَيْحَكِ! جَاءَ النبيُّ ﷺ وَالمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصارُ وَمَن مَعَهم، قالت: هَلْ سأَلَكَ؟ قلتُ: نَعَمْ، قَالَ: ادْخُلوا وَلا تَضَاغَطُوا، فَجَعَلَ يَكْسِرُ الخُبْزَ، وَيجْعَلُ عليهِ اللحمَ، ويُخَمِّرُ البُرْمَةَ والتَّنُّورَ إِذا أَخَذَ مِنْهُ، وَيُقَرِّبُ إِلى أَصْحَابِهِ، ثُمَّ يَنْزِعُ، فَلَمْ يَزَلْ يَكْسِرُ وَيَغْرفُ حَتَّى شَبِعُوا، وَبَقِيَ مِنه، فَقَالَ: كُلِي هذَا وَأَهدي، فَإِنَّ النَّاسَ أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ متفقٌ عَلَيْهِ.

وفي روايةٍ: قَالَ جابرٌ: لمَّا حُفِرَ الخَنْدَقُ رَأَيتُ بِالنبيِّ ﷺ خَمَصًا، فَانْكَفَأْتُ إِلى امْرَأَتي فقلتُ: هَلْ عِنْدَكِ شَيْء، فَإِنِّي رَأَيْتُ بِرسول اللَّه ﷺ خَمَصًا شَدِيدًا؟ فَأَخْرَجَتْ إِليَّ جِرابًا فِيهِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، وَلَنَا بُهَيْمَةٌ داجِنٌ فَذَبحْتُهَا، وَطَحنتِ الشَّعِير، فَفَرَغَتْ إِلَى فَرَاغِي، وَقَطَّعْتُهَا في بُرْمتِهَا، ثُمَّ وَلَّيْتُ إِلَى رسول اللَّه ﷺ، فَقَالَتْ: لا تفضَحْني برسول اللَّه ﷺ وَمَنْ معَهُ، فجئْتُه فَسَارَرْتُهُ فقلتُ: يَا رسول اللَّه، ذَبَحْنا بُهَيمَةً لَنَا، وَطَحَنْتُ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، فَتَعالَ أَنْتَ وَنَفَرٌ مَعَكَ، فَصَاحَ رسول اللَّه ﷺ فَقَالَ: يَا أَهْلَ الخَنْدَق، إِنَّ جَابِرًا قدْ صنَع سُؤْرًا فَحَيَّهَلا بكُمْ، فَقَالَ النبيُّ ﷺ: لا تُنْزِلُنَّ بُرْمَتَكُمْ وَلا تَخْبِزُنَّ عجِينَكُمْ حَتَّى أَجيءَ، فَجِئْتُ، وَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ يقْدُمُ النَّاسَ، حَتَّى جِئْتُ امْرَأَتي فقالتْ: بِك وَبِكَ، فقلتُ: قَدْ فَعَلْتُ الَّذِي قُلْتِ، فَأَخْرَجَتْ عَجِينًا فَبسَقَ فِيهِ وبارَكَ، ثُمَّ عَمَدَ إِلى بُرْمَتِنا فَبَصَقَ وَبَارَكَ، ثُمَّ قال: ادْعُ خَابزَةً فلْتَخْبِزْ مَعكِ، وَاقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُم وَلا تُنْزلُوها، وَهُمْ أَلْفٌ، فَأُقْسِمُ بِاللَّه لأَكَلُوا حَتَّى تَركُوهُ وَانحرَفُوا، وإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ، وَأَنَّ عَجِينَنَا لَيخْبَز كَمَا هُوَ.

قَوْلُه: "عَرَضَت كُدْيَةٌ" بضم الكاف، وإِسكان الدال، وبالياءِ المُثناة تَحْت، وَهِيَ قِطْعَةٌ غَلِيظَةٌ صُلْبَةٌ مِنَ الأَرْضِ لا يَعْمَلُ فيها الْفَأْسُ.

و"الْكَثِيبُ" أَصْلُه: تَلُّ الرَّمْلِ، والمُرَادُ هُنَا: صَارتْ تُرابًا ناعِمًا، وَهُوَ مَعْنَى "أَهْيَلَ".

وَ"الأَثَافي": الأَحْجَارُ الَّتي يَكُونُ عَلَيْهَا القِدرُ.

وَ"تَضَاغَطُوا": تَزَاحَمُوا.

وَ"المَجاعَةُ": الجُوعُ، وَهُوَ بفتحِ الميم.

وَ"الخَمصُ" بفتحِ الخاءِ المعجمة والميم: الجُوعُ.

وَ"انْكَفَأْتُ": انْقَلَبْتُ وَرَجَعْتُ.

و"الْبُهَيمَةُ" بضم الباءِ: تَصغير بَهْمَة، وَهِيَ الْعنَاقُ -بفتح العين.

وَ"الدَّاجِنُ": هِيَ الَّتي أَلِفَتِ الْبَيْتَ.

وَ"السُّؤْر": الطَّعَام الَّذِي يُدْعَى النَّاسُ إلَيْه، وَهُوَ بالْفارِسيَّةِ.

وَ"حَيَّهَلا" أيْ: تَعَالوا.

وَقَوْلها "بكَ وَبكَ" أَي: خَاصَمَتْهُ وَسَبَّتْهُ؛ لأَنَّهَا اعْتَقَدَت أَنَّ الَّذي عندهَا لا يَكفيهم، فَاسْتَحْيَتْ وَخَفِيَ علَيْهَا مَا أَكْرَم اللَّه بِهِ نَبِيَّهُ ﷺ مِنْ هذِهِ المُعْجِزَةِ الظَّاهِرةِ والآيَةِ الْبَاهِرَةِ.

"بَسقَ" أَي: بصَقَ، وَيُقَالُ أَيضًا: بَزَقَ، ثَلاثُ لُغَاتٍ.

وَ"عَمَد" بفتح الميم: قصَد.

وَ"اقْدَحي" أَي: اغرِفي، والمِقْدَحةُ: المِغْرفَةُ.

وَ"تَغطُّ" أَي: لِغَلَيَانِهَا صَوْتٌ. واللَّه أعلم.

الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كلها تدل على معجزات عظيمة للنبي ﷺ، وتدل على ما أصاب الناس من الحاجة والجوع والمشقة في أول الهجرة حين هاجر النبيُّ ﷺ، وفي أثناء الهجرة أصابتهم شدة حتى فتح الله عليهم الفتوح بعد ذلك ونصرهم على أعدائهم وجاءتهم الدنيا وهي راغمة، وفي هذا دلالة ظاهرة على أنه ينبغي لأهل الإسلام أن يتصبَّروا وأن يتحمَّلوا ما قد يُصيبهم من الحاجات والشدائد حتى يفرج الله الأمور، كما قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ۝ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2- 3] وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4]، لا بدَّ من الصبر، لا بد من التقوى عند الشدائد، وفي كل وقت.

في هذا أن الرسول بعث سريةً إلى جهة الساحل، جهة رابغ وما حولها، جهة الساحل، تتلقى عيرًا لقريشٍ، وهذا قبل الفتح، قبل غزوة الفتح، وقبل توسع الخير على المسلمين، فأعطاهم جرابًا من تمرٍ، وأمَّر عليهم أبا عبيدة بن الجراح، وكانوا ثلاثمئة مقاتل، يتلقّون عيرًا لقريش ليُغيروا عليها ويأخذوها، تأتي من الشام، كانت قريش تبعث عيرًا إلى الشام تأتي بتجارات لأهل مكة من التجار، فبعث النبي ﷺ هذه السرية -سرية أبي عبيدة- حتى يعترضوا ما يجيء من الشام من أموال قريش فيأخذوها؛ لأنه يجوز للمسلمين أن يُغيروا على أموال العدو، وعلى ما يكون له من متاعٍ في السفر وفي الحضر حسب القدرة.

فذهب بهم أبو عبيدة إلى جهة الساحل، هم ثلاثمئة، وليس معهم إلا جراب من تمرٍ، ووكلهم إلى الله ، فكان أبو عبيدة يُعطيهم تمرةً تمرةً، يعني: ما معهم شيء من التمر، فكان يقسم عليهم تمرةً تمرةً، كل يوم ثلاثمئة تمرة، لكل واحدٍ تمرة، يمصونها ثم يشربون عليها الماء، فأصابهم جهد شديد وحاجة وجوع، فأخرج الله عليهم سمكةً عظيمةً من البحر تُسمى: العنبر، كالجبل، فقال أبو عبيدة: ميتة، ثم قال: أنتم رسل رسول الله، وأنتم في حاجةٍ، وأنتم مضطرون فكلوا، وغاب عن أبي عبيدة ذاك الوقت أن جميع ما في البحر حلٌّ لنا، كما قال الله جلَّ وعلا: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ [المائدة:96]، فسمك البحر كله حلال لنا وإن كان كبيرًا، وإن كان كالجبال، كله حلٌّ لنا، فأكلوا من هذه السمكة العظيمة وشبعوا، وأقاموا عليها شهرًا حتى سمنوا وعادت إليهم أجسامهم من لحمها وشحمها.

قال جابر : أن أبا عبيدة أخذ ثلاثة عشر شخصًا وضعهم في قحف العين من كبر عينها، ثلاثة عشر كلهم دخلوا في ثقب العين من كبر الدابة، فعينها -شقّ عينها- دخل فيها ثلاثة عشر شخصًا من كبرها وعظمها، ونصب ضلعًا من أضلاعها فمرَّ تحته جملٌ عليه راكبه ما مسَّه من عظمها وكبرها كالجبل، والبحر فيه آيات بينات، وفيه عبر: سمك كبير وصغير، وأسماك كبيرة كالجبال في أثناء البحر.

وتزوَّدوا منها وشائق رجعوا بها إلى المدينة، فسألهم النبي عن ذلك، فأعطوه منها وأكلوا من تلك الوشائق، وقال: هذا رزقٌ ساقه الله إليكم.

فهذا فيه أنَّ الله جلَّ وعلا يُفرج الكروب لأوليائه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4].

ولما حاصرت قريش المدينة يوم الخندق في غزوهم للمدينة: أمر النبي ﷺ الصحابة أن يحفروا الخندق على المدينة؛ حتى لا يدخلها جيش المشركين، من باب التَّحصن والأسباب واتّخاذ ما يستطيعه المسلمون من القوة، وجعلوا يحفرون الخندق حتى يُحيلوا بين المشركين وبين دخول المدينة، فعرضت لهم كُدية، عرضت لهم في الخندق صفا شديدة، فجاءوا إلى النبي ﷺ وأخبروه بأنَّ هذه الكدية شديدة، فجاء ﷺ وقد عصب بطنه من الجوع، فأخذ العتلة وضرب بها هذه الكدية حتى تفتتت بأمر الله ، عجزوا عنها وضربها النبي بيده، فلما ضربها انهالت كلها وتفتتت وكفاهم الله شرَّها في الخندق، وهذه أيضًا من المعجزات، من معجزاته ﷺ، من الدلائل على أنه رسول الله حقًّا عليه الصلاة والسلام.

قال جابر: "ورأيتُ بالنبي يوم الخندق خمصًا" جوع، فذهب إلى زوجته وقال: هل عندكِ شيء؟ قالت: نعم، عندي سخلة -بهيمة عندهم في البيت- وعندي صاع من شعيرٍ، قال: اطحني الشعير، وأعطني السخلة، فذبح السخلة وقال: اطبخي هذا، واخبزي هذا، وأنا أروح للرسول حتى يأتي؛ لأنه أصابه جوع شديد، وهم يحفرون الخندق سنة خمس من الهجرة، فجاء جابر وأخبر النبي ﷺ بأن عندهم سخلة، وعندهم صاع من الشعير، وأنه أمر زوجه أن تجهز هذا كله، وإذا رأيتَ أن تأتي أنت ومعك بعض الجماعة لهذا الطعام، فصاح النبي في أهل الخندق، وكانوا كثيرين، قال: يُقدرون بألف، جاء فصاح بهم: هلم إلى الطعام، إلى طعام جابر. فذهبوا جميعًا إلى جابر.

وأمر النبي ﷺ بأنَّ البُرمة تبقى، والعجين بصق فيه، تفل في العجين، ودعا فيه بالبركة، وتفل في البرمة فيها اللحم، ودعا فيها بالبركة، فبارك الله في العجين، وبارك الله في اللحم، وجعلت زوجة جابر تخبز وتُعطيهم، والنبي ﷺ يقطع من السخلة ويجعل في الأواني مع الخبز لحمًا ويقول: كلوا. فأكلوا وشبعوا، وبقيت بقية في القدر من السخلة، وبقية من الخبز، الشيء الكثير بعدما أكل هذا الجم الغفير.

هذه بركة من الله جعلها الله في هذا الصاع من الشعير، وفي هذه السخلة حتى أكل هذا الجم الغفير من هذا الطعام القليل، وهذا الإدام القليل، وهذه من آيات الله أيضًا، ومن معجزات نبيه عليه الصلاة والسلام أن جعل الله البركةَ في هذا الصاع من الشعير، وفي هذه السخلة حتى كفت هذه الأمة: أكلوا وشبعوا وهم يقربون من ألف يحفرون في الخندق، مثلما نبع الماء من بين أصابعه: لما أصابتهم الشدة ولم يجدوا ماءً أتى بماءٍ قليلٍ في إناء قليل، ووضع يده في الإناء، فجعل ينبع الماء من بين أصابعه حتى شربوا وحملوا في أوعيتهم وأسقيتهم من هذا الماء.

آيات الله كثيرة، وآيات الله عظيمة، الدالة على صدق رسوله ﷺ، وأنه رسول الله حقًّا عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ[فصلت:53]، الله أظهر لهم الآيات والعبر والمعجزات لنبيه الكريم عليه الصلاة والسلام، وأعظمها وأهمها وأكبرها هذا القرآن العظيم المعجز، الذي بيَّن الله فيه الحلال والحرام، وأخبار الأنبياء، وأخبار الأمم، وجعله رحمةً للعباد، جعل هذا الكتاب رحمةً وهدى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت:44].

نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهله، وأن يمنَّ علينا وعليكم بتدبره والعمل بما فيه، وأن يوفق المسلمين جميعًا للعمل بما فيه، والاستقامة على ما دلَّ عليه.

31/520- وعن أَنسٍ قَالَ: قَالَ أَبو طَلْحَةَ لأُمِّ سُلَيْم: قَد سَمعتُ صَوتَ رسول اللَّه ﷺ ضَعِيفًا أَعرِفُ فِيهِ الجُوعَ، فَهَل عِندَكِ مِن شيءٍ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِن شَعيرٍ، ثُمَّ أَخَذَت خِمَارًا لَهَا فَلَفَّتِ الخُبزَ بِبَعضِه، ثُمَّ دسَّتْهُ تَحْتَ ثَوبي وَرَدَّتْني بِبَعضِه، ثُمَّ أَرْسلَتْنِي إِلى رسولِ اللَّه ﷺ، فَذَهَبتُ بِهِ، فَوَجَدتُ رسولَ اللَّه ﷺ جالِسًا في المَسْجِدِ، ومَعَهُ النَّاسُ، فَقُمْتُ عَلَيهِمْ، فقالَ لي رسولُ اللَّه ﷺ: أَرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ؟ فقلت: نَعم، فَقَالَ: أَلِطَعَام؟ فقلت: نَعَم، فَقَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: قُومُوا، فَانْطَلَقُوا وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيديهِم حَتَّى جِئتُ أَبَا طَلْحَةَ فَأَخبَرتُهُ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا أُمَّ سُلَيمٍ، قَد جَاءَ رسولُ اللَّه ﷺ بالنَّاسِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نُطْعِمُهُمْ؟! فقالتْ: اللَّهُ وَرسُولُهُ أَعْلَمُ.

فَانطَلَقَ أَبُو طَلْحةَ حتَّى لَقِيَ رسولَ اللَّه ﷺ، فأَقبَلَ رسولُ اللَّه ﷺ مَعَه حَتَّى دَخَلا، فَقَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: هَلُمِّي مَا عِندَكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، فَأَتَتْ بِذلكَ الخُبْزِ، فَأَمَرَ بِهِ رسولُ اللَّه ففُتَّ، وعَصَرَت عَلَيه أُمُّ سُلَيمٍ عُكَّةً فَآدَمَتْهُ، ثُمَّ قَالَ فِيهِ رسولُ اللَّه ﷺ مَا شَاءَ اللَّه أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ قَالَ: ائذَن لِعَشَرَةٍ، فَأَذِنَ لَهُم، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: ائذَن لِعَشَرَةٍ، فَأَذنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حتى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجوا، ثُمَّ قَالَ: ائذَنْ لِعَشَرَةٍ، فَأَذِنَ لهُم، حَتَّى أَكل القَوْمُ كُلُّهُم وَشَبِعُوا، وَالْقَوْمُ سَبْعونَ رَجُلًا أَوْ ثَمَانُونَ. متفقٌ عَلَيْهِ.

وفي روايةٍ: فَمَا زَالَ يَدخُلُ عشَرَةٌ وَيَخْرُجُ عَشَرَةٌ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنهم أَحَدٌ إِلا دَخَلَ فَأَكَلَ حَتَّى شَبِعَ، ثُمَّ هَيَّأَهَا، فَإِذَا هِي مِثلُهَا حِينَ أَكَلُوا مِنها.

وفي روايةٍ: فَأَكَلُوا عَشَرَةً عَشَرةً، حَتَّى فَعَلَ ذلكَ بثَمانِينَ رَجُلًا، ثُمَّ أَكَلَ النَّبِيُّ ﷺ بَعْدَ ذلكَ وَأَهْلُ البَيت، وَتَركُوا سُؤرًا.

وفي روايةٍ: ثمَّ أفضَلُوا مَا بَلَغُوا جيرانَهُم.

وفي روايةٍ عن أَنسٍ قَالَ: جِئتُ رسولَ اللَّه ﷺ يوْمًا فَوَجَدتُهُ جَالِسًا مَعَ أَصحابِهِ، وَقد عَصَبَ بَطْنَهُ بِعِصابَةٍ، فقلتُ لِبَعضِ أَصحَابِهِ: لِمَ عَصَبَ رسولُ اللَّه ﷺ بطْنَهُ؟ فقالوا: مِنَ الجُوعِ، فَذَهَبْتُ إِلى أَبي طَلحَةَ -وَهُوَ زَوْجُ أُمِّ سُليمٍ بنتِ مِلحَانَ- فقلتُ: يَا أَبتَاه، قَدْ رَأَيْتُ رسولَ اللَّه ﷺ عَصبَ بطنَهُ بِعِصَابَةٍ، فَسَأَلتُ بَعضَ أَصحَابِهِ فقالوا: مِنَ الجُوعِ، فَدَخل أَبُو طَلحَةَ عَلَى أُمِّي فَقَالَ: هَل مِن شَيءٍ؟ قالت: نَعَمْ، عِندِي كِسَرٌ مِنْ خُبزٍ وَتمرَاتٌ، فإِنْ جَاءَنَا رسولُ اللَّه ﷺ وَحْدهُ أَشْبَعنَاه، وإِن جَاءَ آخَرُ مَعَهُ قَلَّ عَنْهمْ .. وذَكَرَ تَمَامَ الحَديث.

57- باب القناعة والعَفاف والاقتصاد في المعيشة والإنفاق وذمّ السؤال من غير ضرورةٍ

قَالَ الله تَعَالَى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6].

وقال الله تَعَالَى: لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [البقرة:273].

وقال تَعَالَى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67].

وقال تَعَالَى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ۝ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات:56- 57].

وَأَمَّا الأحاديث: فتقدم معظمها في البابينِ السابقينِ, ومما لَمْ يتقدم:

1/521- عن أَبي هُرَيْرَةَ ، عن النَّبيِّ ﷺ قَالَ: لَيس الغِنَى عَن كثْرَةِ العَرضِ، وَلكِنَّ الغِنَى غِنَى النَّفسِ متفقٌ عَلَيْهِ.

العَرَضُ بفتح العين والراءِ: هُوَ المَالُ.

2/522- وعن عبداللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما: أَن رَسُولَ اللَّه ﷺ قَالَ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّه بِمَا آتَاهُ رواه مسلم.

الشيخ: في هذه الأحاديث مع الآيات الحثّ على الاقتصاد، والصبر على ما قد يُصيب الإنسان من الحاجة والمسكنة، فقد أصاب الأخيار قبلنا، وقد أصاب النبيَّ ﷺ والمسلمين في المدينة -كما تقدم في الأحاديث- أصابتهم شدة وحاجة، حتى فتح الله عليهم بعد ذلك، ويسَّر الله لهم بعدما شرع الله الجهاد لهم وجاهدوا في سبيل الله، وفتح الله عليهم الدنيا.

فالجدير بالمؤمن أن يكون صبورًا عند الشدة، جوادًا كريمًا عند الرخاء، هذا هو المشروع، صبور عند البلاء، شكور عند الرخاء.

وفي حديث أبي طلحة دلالة على نبوته ﷺ وصدقه، وأنه رسول الله حقًّا، وما أجرى الله على يديه من المعجزة العظيمة؛ وهو أن طعامًا قليلًا من خبز الشعير أنزل الله فيه البركة حتى كفى ثمانين من الناس، يأكلون منه عشرة عشرة، وبقيت بقية كأنه لم يُؤكل منه شيء، وذلك أن أنسًا رأى ما بالنبي من الحاجة وهو في أصحابه، فذهب إلى أبي طلحة زوج أمه وأخبره بما شاهد من الحاجة: قد عصب بطنه من الجوع، فقال لأم سليم: هل عندك شيء؟ قالت: نعم، عندها بعض الشعير وبعض التمرات، إذا جاء النبي ﷺ وحده ومعه واحد أو اثنان كفيناه، وذهب أنسٌ ودعا النبيَّ ﷺ فقال للذين عنده: قوموا إلى أبي طلحة، وكانوا ثمانين، فجاءوا إلى أبي طلحة، وقدَّم إليهم ما عنده من الخبز المأدوم، وهو قليل، فقدَّمه أولًا إلى النبي ﷺ، فدعا فيه بالبركة، ثم قال: ادخلوا عشرة عشرة، فصاروا يدخلون عشرة عشرة يأكلون ويخرجون، فانتهوا وهو على حاله كأنه لم يُؤكل منه شيء مما أنزل الله فيه من البركة.

هذه من الآيات والدلائل على صدقه، وأنه رسول الله حقًّا، ومن المعجزات، كما جرى على يديه مرات كثيرة نبوع الماء من بين أصابعه حتى شرب الناس وسقوا وحملوا بأسقيتهم مما أجراه الله بين يديه عليه الصلاة والسلام.

وفي الأحاديث الأخرى الحثّ على القصد في الأمور وعدم الإسراف وعدم التبذير، يقول الله جلَّ وعلا: لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ [البقرة:273]، ويقول سبحانه: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء:29]، ويقول سبحانه: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67].

ويقول النبي ﷺ: ليس الغنى عن كثرة العرض يعني كثرة المال، ولكن الغنى غنى النفس مَن أغنى الله نفسه وقنَّعه فهو الغني، فقد يكون الإنسان عنده الأموال الكثيرة ونفسه فقيرة ما تشبع؛ فلهذا قال ﷺ: ليس الغنى عن كثرة العرض -كثرة المال- ولكن الغنى غنى النفس.

وقال ﷺ: قد أفلح مَن أسلم، ورُزق كفافًا، وقنَّعه الله بما آتاه، فالقناعة كنز عظيم، إذا رُزق العبدُ القناعة بما آتاه الله فهو غني، المصيبة أن يُعطى الأموال وقلبه فقير: ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس.

فالمؤمن إذا رزقه الله ما يسر الله له من الرزق يكون غني النفس، يشكر الله، ويسأله العون من فضله، ويقتصد في أموره؛ لا يبخل، ولا يُسرف، ويُحسن كما أحسن الله إليه، وبذلك تحصل البركة والزيادة من الله ، والعبد يُجزى على ما فعل: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]، فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن:16]، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:274]. وفَّق الله الجميع.

3/523- وعن حَكيم بن حِزَام قَالَ: سَأَلْتُ رسول اللَّه ﷺ فَأَعطَاني، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعطَاني، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعطَاني، ثُمَّ قَالَ: يَا حَكيمُ، إِنَّ هَذَا المَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ، فَمَن أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفسٍ بُورِكَ لَهُ فِيه، وَمَن أَخَذَهُ بِإِشرَافِ نَفْسٍ لَم يُبَارَكْ لهُ فيهِ، وكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ، واليدُ العُلَيا خَيرٌ مِنَ اليَدِ السُّفلَى، قَالَ حَكيمٌ: فقلتُ: يَا رسول اللَّه، وَالَّذِي بَعثَكَ بالحَقِّ لا أَرْزَأُ أَحدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنيَا، فَكَانَ أَبُو بكرٍ يَدْعُو حَكيمًا لِيُعطيَهُ العَطَاءَ، فَيَأْبَى أنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ إِنَّ عُمر دَعَاهُ لِيُعطيهُ، فَأَبَى أَن يَقْبلَهُ، فقالَ: يَا مَعشَرَ المُسْلمينَ، أُشْهِدُكُم عَلى حَكيمٍ أَنِّي أَعْرِضُ عَلَيه حَقَّهُ الَّذِي قَسَمَهُ اللَّه لَهُ في هَذَا الْفَيءِ فيَأْبَى أَن يَأْخُذَهُ. فَلَمْ يَرْزَأْ حَكيم أَحدًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ حَتَّى تُوُفي. متفقٌ عَلَيْهِ.

"يرْزَأُ" براءٍ ثُمَّ زايٍ ثُمَّ همزةٍ، أيْ: لَمْ يأْخُذْ مِن أَحدٍ شَيْئًا، وأَصلُ الرُّزْءِ: النُّقصَانُ، أَي: لَم ينْقُصْ أَحَدًا شَيئًا بالأَخْذِ مِنْهُ.

وَ"إِشْرَافُ النَّفسِ": تَطَلُّعُها وطَمعُهَا بالشَّيءِ.

وَ"سَخَاوَةُ النَّفْسِ": هيَ عدمُ الإِشْرَاف إِلى الشَّيءِ، والطَّمَع فِيهِ، والمُبالاةِ بِهِ والشَّرهِ.

4/524- وعن أَبي بُردَةَ، عن أَبي موسى الأشعَريِّ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّهِ ﷺ في غَزاةٍ، ونحْن سِتَّةُ نَفَرٍ بيْنَنَا بَعِير نَعْتَقِبهُ، فَنَقِبتْ أَقدامُنا، وَنَقِبَتْ قَدَمِي، وَسَقَطَتْ أَظْفاري، فَكُنَّا نَلُفُّ عَلى أَرْجُلِنا الخِرَقَ، فَسُميت: غَزوَةَ ذَاتِ الرِّقاعِ؛ لِما كُنَّا نَعْصِبُ عَلى أَرْجُلِنَا مِنَ الخِرَقِ، قالَ أَبو بُردَةَ: فَحَدَّثَ أَبو مُوسَى بِهَذا الحَدِيثِ، ثُمَّ كَرِهَ ذلكَ وقالَ: مَا كنْتُ أَصْنَعُ بِأَنْ أَذْكُرهُ، قالَ: كَأَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا مِنْ عَمَلِهِ أَفْشَاهُ. متفقٌ عَلَيْهِ.

5/525- وعن عمرو بن تَغْلِب -بفتح التاءِ المُثناةِ فوقَ وإِسكان الغين المعجمة وكسر اللَّام- : أَنَّ رَسُولَ اللَّه ﷺ أُتِيَ بمالٍ أَوْ سَبْيٍ فَقَسَّمهُ، فَأَعْطَى رِجَالًا، وتَرَكَ رِجالًا، فَبَلَغَهُ أَنَّ الَّذِينَ تَرَكَ عَتبُوا، فَحَمِدَ اللَّه، ثُمَّ أَثْنَى عَلَيهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعدُ، فَوَاللَّه إِنِّي لأُعْطِي الرَّجُلَ وَأَدَعُ الرَّجُلَ، والَّذِي أَدَعُ أَحَبُّ إليَّ مِنَ الَّذِي أُعْطِي، وَلكِنِّي إِنَّمَا أُعْطِي أَقوَامًا لِما أَرى في قُلُوبِهِمْ مِن الجَزعِ والهَلَعِ، وَأَكِلُ أَقْوامًا إِلى مَا جعَلَ اللَّه في قُلُوبِهِمْ مِنَ الغِنَى والخَيْرِ، مِنْهُمْ عَمْرو بنُ تَغْلِبَ، قَالَ عمرُو بنُ تَغْلِبَ: فَواللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِكلِمةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حُمْرَ النَّعَمِ. رواه البخاري.

"الهلَعُ": هُو أَشَدُّ الجَزَعِ، وقِيل: الضَّجرُ.

الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة تدل على أنه ينبغي للمؤمن التَّحمل والصبر في ذات الله، والحرص على عدم سؤال الناس والحاجة إليهم، وكان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم قد صبروا في أول الأمر على ما أصابهم من الشدة، وكانوا في جهادهم ربما يعتقب الخمسةُ والستةُ والثلاثة البعير الواحد، ويمشون بقية الطريق، ويصبرون على ذلك كما قال أبو موسى، وربما تعبوا ونُقبت أقدامهم، كل ذلك صبرًا في سبيل الله .

فالسنة للمؤمن أن يتصبر ويتحمّل ولا يجزع مما قد يُصيبه من الحاجة، لا سيما وهو في سبيل الله، وفي طلب مرضاته، لكن إذا تيسرت له الأسباب الشرعية فليفعل، إذا تيسرت الأسباب الشرعية من تجارةٍ أو أعمالٍ تنفعهم فليعمل، كما قال النبيُّ ﷺ: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزنَّ، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلتُ لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فالإنسان يعمل ويكدح ويقول ﷺ لما سُئل: أي العمل أفضل؟ قال: كسب الرجل بيده والبيع المبرور. فالإنسان إذا كسب بيده مثل: احتشاش، احتطاب، أو بيع مبرور، لما سُئل: أي الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور، فالإنسان يتأمل الأكساب الحسنة الطيبة، ويعمل ويطلب الرزق، يطلب الحلال.

جاء حكيم بن حزام إلى النبي ﷺ فطلبه فأعطاه، ثم طلبه فأعطاه، ثم طلبه فأعطاه، فقال النبي ﷺ لحكيم: يا حكيم، إنَّ هذا المال حلو خضر، فمَن أخذه بسخاوة نفسٍ بُورك له فيه، ومَن أخذه بإشراف نفسٍ لم يُبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، قال حكيم للنبي: والذي بعثك بالحقِّ لا أرزأ أحدًا بعدك. يعني: لا أسأل أحدًا بعدك شيئًا، لما علَّمه بهذه النصيحة، فصار حكيم بعد ذلك لا يسأل الناس شيئًا: لا الملوك ولا غيرهم، وعرض عليه الصديقُ نصيبَه من بيت المال، وعمر نصيبه من بيت المال فأبى وقال: لا حاجةَ لي فيه.

وكان الخلفاء أُمراء العدل يُرتِّبون للمسلمين في بيت المال أشياء معينة تُعينهم، على حسب قدرة بيت المال كل سنة، على حسب حاجاتهم، وعلى حسب قدرة بيت المال، فلما عرض الصديقُ على حكيمٍ أبى، وعرض عليه عمر فأبى وقال: لا حاجة لي في ذلك. بعدما قال للنبي ﷺ: والذي بعثك بالحقِّ لا أرزأ أحدًا بعدك.

ففيه الحثّ على سخاوة النفس وعدم السؤال، كما قال ﷺ: اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى، وابدأ بمَن تعول، وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنًى، ومَن يستعفف يُعفه الله، ومَن يستغن يُغنه الله، هكذا ينبغي للمؤمن التَّعفف والاستعفاف مهما أمكن، والاستغناء عمَّا في أيدي الناس، لكن إذا دعت الحاجة إلى بيت المال فلا بأس، بيت المال مشترك، لا بأس أن يطلب حقَّه من بيت المال، أو اشتدت المسألةُ، يقول النبي ﷺ: إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثةٍ: رجل تحمل حمالةً فحلَّت له المسألة حتى يُصيبها ثم يُمسك يعني: حملها لإصلاح ذات البين، أو لدينٍ أصابه، لحاجةٍ أصابته، حتى يُصيب حاجته، ورجل أصابته فاقةٌ حتى يُصيب قوامًا من عيشٍ، ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من رجال قومه يقولون: أصابت فلانًا فاقة، فحلَّت له المسألة، وما سواهن سحت، يأكله صاحبه سحتًا، فدلَّ على أنه ينبغي للمؤمن التورع عن المسألة مهما أمكن.

ويقول ﷺ: لأن يأخذ أحدُكم حبله فيأتي بحزمةٍ من الحطب على ظهره فيبيعها فيكفّ بها وجهه خيرٌ له من سؤال الناس، أعطوه أو منعوه، ويقول ﷺ: مَن سأل الناس أموالهم تكثرًا فإنما يسأل جمرًا، فليستقلّ أو ليستكثر، وفي الحديث الآخر: المسألة كدّ يكدّ بها الرجل وجهه، إلا أن يسأل الرجلُ سلطانًا، أو في أمرٍ لا بدَّ منه.

فالمؤمن مهما أمكن التَّعفف فلا بأس، وإن دعت الحاجةُ إلى بيت المال فليصلح حاجته من بيت المال، وإن اضطرَّ إلى المسألة جازت المسألة للضَّرورة: للحمالة يُصيبها، أو الدَّين الذي يُصيبه ليس عنده وفاء؛ فلا بأس أن يطلب بقدر الحاجة.

فالمقصود أنه مهما أمكن التَّعفف فهو خيرٌ للمؤمن: ومَن يستعفف يُعفَّه الله، ومَن يستغنِ يُغنه الله، لكن إذا دعت الضَّرورة للمسألة: للحمالة أو لشدة الحاجة فلا بأس، لا سيما من بيت المال. وفَّق الله الجميع.

6/526- وعن حَكيمِ بن حِزامٍ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: اليدُ العُليا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلى، وابْدَأ بمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عنْ ظَهْرِ غِنًى، ومَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفّهُ اللَّه، ومَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّه متفقٌ عَلَيْهِ. وهذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم أَخصر.

7/527- وعن أبي سفيانَ صَخْرِ بنِ حَرْبٍ قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: لا تُلْحِفُوا في المسأَلَةِ، فوَاللَّه لا يَسْأَلُني أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا فَتُخرِجَ لَهُ مَسْأَلَتُهُ مِنِّي شَيْئًا وَأَنا لَهُ كارِهٌ، فَيُبَارَكَ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتُهُ رواه مسلم.

8/528- وعن أَبي عبدِالرحمنِ عَوف بن مالِك الأَشْجَعِيِّ قالَ: كُنَّا عِنْدَ رسُولِ اللَّه ﷺ تِسعةً أَوْ ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً، فَقَال: أَلا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّه؟ ﷺ، وكُنَّا حَدِيثي عَهْدٍ بِبَيْعَةٍ، فَقُلْنا: قَدْ بايَعْناكَ يَا رسُولَ اللَّهِ! ثمَّ قالَ: ألا تُبَايِعُونَ رسولَ اللهِ؟ فَبَسَطْنا أيْدِينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فَعَلام نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: عَلَى أَنْ تَعْبُدُوا اللَّه وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، والصَّلَوَاتِ الخَمْس، وَتُطيعُوا، وَأَسرَّ كلمَةً خَفِيةً: وَلا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا، فَلَقَدْ رَأَيتُ بَعْضَ أُولئكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أَحدِهِمْ فَما يَسْأَلُ أَحَدًا يُنَاوِلُهُ إِيَّاهُ. رواه مسلم.

الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كلها تتعلق بالحثِّ على العفة والاستغناء، والحذر من سؤال الناس والحاجة إليهم.

يقول ﷺ في حديث حكيم بن حزام: اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى، وابدأ بمَن تعول، وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنًى، ومَن يستعفف يُعفه الله، ومَن يستغنِ يُغنه الله، فاليد العليا هي المنفقة، واليد السفلى هي السائلة، يعني: احرص أن تكون يدك عليا منفقة محسنة، واحرص ألا تكون سائلةً، فهذا فيه الحثّ على العفّة والاستغناء من النفس، والحذر من سؤال الناس مهما أمكن.

وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنًى يعني: لا يتكلف الصدقة، أهل بيته وأولاده أولى بالصدقة، فإذا حصل فضلٌ يتصدق، لا يتصدق بما يشقّ على أولاده وأهله، وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنًى، وابدأ بمن تعول من زوجته وأولاده، مَن يعولهم يبدأ بهم، هم أولى بالصدقة من الصدقة على الأجانب، إنما الصدقة تكون عن ظهر غنًى بعدما تقوم بحال مَن تجب عليك نفقته.

ومَن يستعفف عن المسألة وعمَّا حرَّمه الله يعفّه الله، والجزاء من جنس العمل، ومَن يستغنِ يُغنه الله، ففيه الحث على الاستغناء والاستعفاف عن سؤال الناس والحاجة إليهم إلا عند الضَّرورة.

وفي حديث قبيصة بن مخارق قال: يا قبيصة، إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمَّل حمالةً فحلَّت له المسألة حتى يُصيبها ثم يُمسك، ورجل أصابته فاقةٌ فحلَّت له المسألة حتى يُصيب قوامًا من عيشٍ -أو قال: سدادًا من عيشٍ- ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقة، وما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت، يأكله صاحبه سحتًا.

ويقول ﷺ: لأن يأخذ أحدُكم حبلَه فيأتي بحزمةٍ من الحطب على ظهره فيبيعها فيكفّ بها وجهه خيرٌ له من سؤال الناس، أعطوه أو منعوه.

ويقول لأبي سفيان: يا أبا سفيان، لا تُلحفوا في المسألة تلحفوا يعني: تُلحُّوا في المسألة، فوالله إنه لا يسألني أحدٌ منكم شيئًا فأُعطيه وأنا كاره له فيُبارك له فيه، هذا فيه الحثّ على عدم الإلحاح: لا مسألة السلطان، ولا غير السلطان، مهما أمكن يستغني بكسبه وما أعطاه الله، فهو الأولى له: ومَن يستغنِ يُغنه الله، ومَن يستعفف يُعفّه الله؛ ولهذا حذَّرهم من السؤال والإلحاف في المسألة، وأخبر أنها إذا صدرت عن غير رضا لم يُبارك فيها.

والمقصود من هذا الحثّ على الصبر والاستغناء عمَّا في أيدي الناس: ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس، الغني غني القلب، كم من إنسانٍ عنده الأموال الكثيرة وهو فقير القلب!

ويقول عوف بن مالك الأشجعي : إن النبي ﷺ بايع جماعةً من الصحابة، بايعهم على ألا يسألوا الناس شيئًا، يعني: بايعهم على العفَّة وترك سؤال الناس، فكان أحدهم يسقط سوطه لا يطلب أحدًا يُناوله إياه، ينزل ويأخذ سوطه من كراهتهم للسؤال.

فالمؤمن مشروع له العفَّة والاستغناء عمَّا في أيدي الناس والقناعة، قال النبي ﷺ: قد أفلح مَن أسلم، ورُزق كفافًا، وقنَّعه الله بما آتاه. وفَّق الله الجميع.

9/529- وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما: أَنَّ النبيَّ ﷺ قَالَ: لا تَزَالُ المَسأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى اللَّه تَعَالَى ولَيْسَ في وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ متفقٌ عَلَيْهِ.

"المُزْعَةُ" بضم الميمِ، وإِسكانِ الزاي، وبالعينِ المهملة: القِطْعَة.

10/530- وعنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ وَهُوَ عَلَى المِنبرِ -وَذَكَرَ الصَّدقَةَ والتَّعَفُّفَ عَنِ المسأَلَةِ: اليَد العُلْيا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلى، وَاليَد العُليا هِيَ المُنْفِقة، والسُّفْلَى هِيَ السَّائِلَة. متفقٌ عَلَيْهِ.

11/531- وعن أَبي هُريرة قال: قال رسُولُ اللَّه ﷺ: مَنْ سَأَلَ النَّاس تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا، فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ رواه مسلم.

الشيخ: هذه الأحاديث كالتي قبلها فيها الحثّ على الاستعفاف، وأنه ينبغي للمؤمن أن يحذر السؤال، وأن يكتفي بالتَّعفف وطلب الرزق من الأسباب المباحة.

الحديث الأول: يقول ﷺ: لا يزال الرجلُ يسأل الناسَ حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحمٍ يعني: وجهه بادي العظام؛ عقوبةً له على مسألته الناس، فينبغي للمؤمن التَّعفف عن السؤال.

ويقول ﷺ: اليد العليا خيرٌ من اليد السُّفلى، واليد العليا هي المنفقة المعطية، والسفلى هي السائلة.

فالمشروع للمؤمن أن يحذر السؤال، وأن يستغني عن سؤال الناس بالأسباب المباحة وطلب الرزق: ومَن يستغنِ يُغنه الله، ومَن يستعفف يُعفّه الله.

وفي الحديث يقول ﷺ: مَن سأل الناس أموالهم تكثرًا فإنما يسأل جمرًا، فليستقل أو ليستكثر، فالمؤمن يجتهد في طلب الرزق بالأسباب المباحة، ويبتعد عن السؤال الذي هو ذلّ ونقص على المؤمن، ويقول ﷺ: لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمةٍ من الحطب على ظهره فيكفّ بها وجهه خيرٌ له من سؤال الناس، أعطوه أو منعوه، ولما سُئل ﷺ: أي الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور، كون الإنسان يعمل بيده: خراز، حداد، نجار، كاتب، يعمل بيده المباح، أو بيَّاع يبيع ويشتري، يتسبب، يطلب الرزق، هكذا ينبغي للمؤمن ألا يكون معطلًا، بل يعمل ويكتسب ويطلب الرزق حتى يستغني عمَّا في أيدي الناس؛ حتى يستغني عن السؤال. وفَّق الله الجميع.

12/532- وعن سمُرَةَ بنِ جُنْدبٍ قَالَ: قَالَ رسُولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسَلَّم: إِنَّ المَسأَلَةَ كَدٌّ يكُدُّ بِهَا الرَّجُلُ وجْهَهُ، إِلَّا أَنْ يَسأَلَ الرَّجُلُ سُلْطانًا أَوْ في أَمْرٍ لا بُدَّ مِنْهُ رواهُ الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

"الكَدُّ": الخَدشُ وَنحوُهُ.

13/533- وعن ابن مسعودٍ قَالَ: قَالَ رسُولُ اللَّه ﷺ: مَنْ أَصابَتْهُ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ لَمْ تُسَدَّ فاقَتُهُ، وَمَنْ أَنْزَلها باللَّه فَيُوشِكُ اللَّه لَهُ بِرِزقٍ عاجِلٍ أَوْ آجِلٍ رواهُ أَبو داود، والترمذي وَقالَ: حديث حسن.

"يُوشِكُ" بكسر الشين، أَي: يُسْرِعُ.

14/534- وعَنْ ثَوْبانَ قَالَ: قَالَ رسُولُ اللَّه ﷺ: مَنْ تَكَفَّلَ لِي أَن لا يسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا، وَأَتَكَفَّلُ لَهُ بالجَنَّة؟ فقلتُ: أَنا، فَكَانَ لا يسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا. رواه أَبُو داود بإِسنادٍ صحيحٍ.

الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كلها تدل على شرعية الاستغناء بالله، والحرص على عدم الحاجة إلى الناس، تقدمت الأحاديث الكثيرة في هذا: قوله ﷺ: قد أفلح مَن أسلم، ورُزق كفافًا، وقنَّعه الله بما أتاه، تقدم قوله ﷺ: اليد العليا خيرٌ من اليد السُّفلى اليد العليا: المعطية المنفقة، والسفلى: الآخذة السائلة، وابدأ بمَن تعول، وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنًى، ومَن يستعفف يعفّه الله، ومَن يستغنِ يُغنه الله، وقوله ﷺ: لأن يأخذ أحدُكم حبله فيأتي بحزمةٍ من الحطب على ظهره فيبيعها فيكفّ بها وجهه خيرٌ له من سؤال الناس، أعطوه أو منعوه.

وفي حديث سمرة يقول ﷺ: المسألة كدٌّ يكد بها الرجلُ وجهه، إلا أن يسأل الرجلُ سلطانًا، أو في أمرٍ لا بدَّ منه إذا كان السؤال في أمرٍ لا بدَّ منه كما تقدم: تحمَّل حمالةً، أصابته فاقة؛ يسأل قدر حاجته، أو كان السؤال للسلطان من بيت المال لحاجةٍ به، بيت المال للمسلمين، فإذا كان محتاجًا وسأل من السلطان المساعدة من بيت المال فلا بأس للحاجة، لا للتكثر.

وكذلك الحديث الآخر: مَن أصابته فاقة فأنزلها بالله يُوشك أن تسدّ فاقته، ومَن أنزلها بالناس لم يغنوا عنه من الله شيئًا.

المقصود أنَّ مَن أصابته حاجة فأنزلها بالناس لم تسدّ حاجته، أما مَن أنزلها بالله وسأل الله وتضرع إليه يُوشك أنَّ الله جلَّ وعلا يُعجل له الرزق ويُغنيه ويسدّ حاجته قريبًا، فالمشروع إنزال الحاجات بالله، والضراعة إلى الله، وسؤاله من فضله، والأخذ بالأسباب، الإنسان يأخذ بالأسباب، لا يجلس، يبيع ويشتري، يزرع، يعمل كاتبًا، نجارًا، حدادًا، خرازًا، إلى غير ذلك، مثلما تقدم في قوله ﷺ لما سُئل: أي الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور، وقال ﷺ: ما أكل أحدٌ طعامًا خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وكان نبي الله داود يأكل من عمل يده أخرجه البخاري في الصحيح.

هكذا يقول هنا: مَن أنزل حاجته بالناس مَن أصابته حاجةٌ أو فاقةٌ فأنزلها بالناس لم تسدّ حاجته، أما مَن أنزلها بالله فيُوشك أن يُعجل الله له برزقٍ عاجلٍ أو آجلٍ، وأن يسدّ حاجته.

وهكذا حديث ثوبان: بايع النبي ألا يسأل الناس شيئًا، وبايع النبي جماعة من الصحابة ألا يسألوا الناس شيئًا، حتى كان أحدهم يسقط سوطه فلا يقول لأحدٍ: ناولنيه، ينزل من فرسه أو من دابته ويأخذ سوطه.

والمقصود من هذه الأحاديث وما جاء في معناها: الحثّ على القناعة والكسب، والاستغناء عن سؤال الناس والحاجة إليهم، الحاجة إليهم ذلّ ومهانة وضعف، فالاستغناء عنهم عزة وكرامة وفضل، إلا للضَّرورة؛ جاء في حديث قبيصة بن مخارق الهلالي: أن النبي قال له: يا قبيصة، إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمَّل حمالةً يعني: إصلاحًا بين الناس، دين لإصلاح بين الناس، فحلَّت له المسألة حتى يُصيبها ثم يُمسك، أو أصابه دينٌ ويعجز عن تسديده، الثاني: رجل أصابته فاقة فقر: تلفت أمواله ونحو ذلك، أصابته حاجة شديدة، فحلَّت له المسألة حتى يُصيب قوامًا من عيشٍ -أو قال: سدادًا من عيشٍ ما يسدّ فاقته وحاجته، الرجل الثالث: رجل كانت له ثروة وسعة، ثم أصابته نكسة فهلكت أمواله، وقام ثلاثة شهود يشهدون بأنَّ له حاجة، فإنها تحلّ له المسألة حتى يُصيب قوامًا من عيشٍ، قال ﷺ: وما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت، يأكله صاحبه سحتًا أخرجه مسلم في الصحيح.

فينبغي للمؤمن أن يتحرى، وألا يسأل إلا عند الضَّرورة. وفَّق الله الجميع.

15/535- وعن أَبي بِشْرٍ قَبِيصَةَ بنِ المُخَارِقِ قَالَ: تَحمَّلْتُ حمَالَةً، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّه ﷺ أَسْأَلُهُ فِيهَا، فَقَالَ: أَقِمْ حَتَّى تَأْتِينَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرَ لكَ بِها، ثُمَّ قَالَ: يا قَبِيصَةُ، إِنَّ المَسأَلَةَ لا تَحِلُّ إِلَّا لأَحَدِ ثَلاثَةٍ: رَجُلٌ تَحَمَّلَ حمالَةً، فَحَلَّتْ لَهُ المَسْأَلَةُ حَتَّى يُصيبَها، ثُمَّ يُمْسِكُ، ورجُلٌ أَصابَتْهُ جائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مالَهُ، فَحَلَّتْ لهُ المَسأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عيْشٍ -أَوْ قَالَ: سِدادًا مِنْ عَيْشٍ- ورَجُلٌ أَصابَتْهُ فاقَة، حَتى يقُولَ ثلاثَةٌ مِنْ ذَوي الحِجَى مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلانًا فَاقَةٌ، فحلَّتْ لَهُ المسْأَلةُ حتَّى يُصِيبَ قِوامًا مِنْ عَيْشٍ -أَوْ قالَ: سِدادًا مِنْ عَيْشٍ- فَمَا سِواهُنَّ مِنَ المَسأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتٌ، يأَكُلُها صاحِبُها سُحْتًا رواهُ مسلم.

"الحمالَةُ" بفتح الحاءِ: أَنْ يَقَعَ قِتَالٌ وَنحوُهُ بَين فَرِيقَينِ، فَيُصلِحُ إِنْسَانٌ بيْنَهمْ عَلى مالٍ يَتَحَمَّلُهُ ويلْتَزِمُهُ عَلى نَفْسِهِ.

وَ"الجائِحَةُ": الآفَةُ تُصِيبُ مالَ الإِنْسانِ.

وَ"القوامُ" بكسر القاف وفتحهَا: هوَ مَا يقومُ بِهِ أَمْرُ الإِنْسانِ مِنْ مَالٍ ونحوِهِ.

وَ"السِّدادُ" بكسر السين: مَا يَسدُّ حاجةَ المُعْوِزِ ويَكْفِيهِ.

وَ"الفَاقَةُ": الفَقْرُ.

وَ"الحِجَى": العقلُ.

16/536- وعن أبي هريرة : أَنَّ رسُولَ اللَّه ﷺ قَالَ: لَيْسَ المِسْكِينُ الَّذِي يطُوفُ عَلى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ واللُّقْمَتانِ، وَالتَّمْرَةُ والتَّمْرتَانِ، وَلَكِنَّ المِسْكِينَ الَّذِي لا يجِدُ غِنًى يُغنِيهِ، وَلا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصدَّقَ عَلَيْهِ، وَلا يَقُومُ فَيسْأَلَ النَّاسَ متفقٌ عليه.

58- باب جواز الأخذ من غير مسألةٍ وَلا تطلع إليه

1/537- عَنْ سالمِ بنِ عبدِاللَّهِ بنِ عُمَرَ، عَنْ أَبيهِ عبدِاللَّه بنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ  قَالَ: كَانَ رسولُ اللَّه ﷺ يُعْطِيني العطَاءَ، فَأَقُولُ: أَعطهِ مَن هُوَ أَفقَرُ إِلَيهِ مِنِّي، فَقَالَ: خُذْهُ، إِذَا جاءَكَ مِن هَذَا المَالِ شَيءٌ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلا سَائِلٍ فَخُذْهُ، فتَموَّلْهُ، فَإِن شِئتَ كُلْهُ، وإِن شِئْتَ تَصَدَّق بِهِ، وَمَا لا فَلا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ.

قَالَ سالمٌ: فَكَانَ عَبدُاللَّه لا يسأَلُ أَحدًا شَيْئًا، وَلا يَرُدُّ شَيئًا أُعْطِيه. متفقٌ عَلَيْهِ.

"مشرفٌ" بالشين المعجمة: أَيْ: متَطَلِّعٌ إِلَيْه.

الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كلها تدل على أنه ينبغي للمؤمن التورع عن المسألة، والحذر من المسألة، وأن يكون مُنفقًا مُعطيًا، لا آخذًا سائلًا، وألا يتعاطى المسألة إلا عند الضَّرورة في حدود ما شرع الله وأباح، يدل على هذا حديث قبيصة ابن مخارق: أنه جاء يسأل النبيَّ ﷺ فقال: اجلس عندنا حتى نأمر لك بالصدقة صدقة بني زُريق، ثم قال: يا قبيصة، إن المسألة لا تحلّ إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمَّل حمالةً يعني: لإصلاح ذات البين، أو لدين لحاجته فحلَّت له المسألة حتى يُصيب تلك الحمالة ثم يُمسك، الثاني: رجل أصابته جائحةٌ اجتاحت ماله: من حريقٍ أو غيره، فحلَّت له المسألة حتى يُصيب قوامًا من عيشٍ -أو قال: سدادًا من عيشٍ يعني: ما يسدّ حاجته، والثالث: رجل أصابته فاقة كان عنده مال وعنده سعة فتدهورت أموره، وتلفت تجارته، وشهد له ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقةٌ، فحلَّت له المسألة حتى يُصيب قوامًا من عيشٍ، قال: وما سواهن يا قبيصة فهو سحت، يأكله صاحبه سحتًا.

هذا فيه الحذر من السؤال إلا في هذه المسائل الثلاث، والمؤمن ينبغي له أن يتعفف مهما أمكن، وأن يحرص على ما يسدّ حاجته حتى لا يحتاج إلى السؤال: بالكسب، بالعمل، تقدم في الحديث قوله ﷺ لما سُئل: أي الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور، وقال ﷺ: ما أكل أحد طعامًا خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه الصلاة والسلام كان يأكل من عمل يده، وقال ﷺ: لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمةٍ من الحطب على ظهره فيبيعها فيكفّ بها وجهه خيرٌ له من سؤال الناس، أعطوه أو منعوه.

ويقول ﷺ: ليس المسكين بهذا الطَّوَّاف الذي ترده اللقمةُ واللقمتان، والتمرة والتمرتان، وإنما المسكين الذي لا يجد غنًى يُغنيه، ولا يُفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس هذا المسكين المتعفف الذي ليس عنده ما يُغنيه، ولا يُعرف حتى يتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس، هذا أولى باسم المسكنة.

قال عمر : كان النبي ﷺ يُعطينا العطاء فأقول: أعطه أفقر مني، فيقول: يا عمر، ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرفٍ ولا سائلٍ فخذه، وما لا فلا تُتبعه نفسك، بيَّن ﷺ أنَّ ما جاء الإنسان من غير سؤالٍ ولا تشوفٍ من بيت المال أو غيره يأخذه، أما السؤال فلا، لا يسأل؛ ولهذا قال لعمر : ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرفٍ -متطلع له- ولا سائلٍ فخذه، وما لا فلا تُتبعه نفسك، فدلَّ على أنه ينبغي للمؤمن القناعة والصبر والحذر من سؤال الناس إلا عند الضَّرورة.

59- باب الحثِّ عَلَى الأكل من عمل يده والتَّعفف به من السؤال والتَّعرُّض للإعطاء

قَالَ الله تَعَالَى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة:10].

1/538- وعنْ أَبي عبدِاللَّه الزُّبَيْرِ بنِ العوَّامِ قالَ: قالَ رسولُ اللَّه ﷺ: لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُم أَحبُلَهُ ثُمَّ يَأْتِيَ الجَبَلَ، فَيَأْتِي بحُزْمَةٍ مِن حَطَبٍ عَلى ظَهْرِهِ فَيَبيعَهَا، فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَن يَسْأَلَ النَّاسَ، أَعطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ رواه البخاري.

2/539- وعن أبي هُريرة قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: لأَنْ يحتَطِبَ أَحَدُكُم حُزمَةً عَلَى ظَهرِه خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسأَل أَحَدًا، فَيُعْطيَه أَو يمنَعَهُ متفقٌ عَلَيْهِ.

3/540- وعنه، عنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: كَانَ دَاوُدُ لا يَأْكُل إِلا مِن عَملِ يَدِهِ رواه البخاري.

4/541- وعنه: أَن رَسُولَ اللَّه ﷺ قَالَ: كَانَ زَكَرِيَّا نجَّارًا رواه مسلم.

5/542- وعن المِقدَامِ بنِ مَعْدِي كَربَ ، عن النَّبيِّ ﷺ قال: مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا خَيْرًا مِن أَن يَأْكُلَ مِن عمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبيَّ اللَّه داود كَانَ يَأْكلُ مِن عَمَلِ يَدِهِ رواه البخاري.

الشيخ: هذه الأحاديث الكثيرة وما جاء في معناها من الأحاديث مع الآية الكريمة كل ذلك يدل على أنه ينبغي للمؤمن أن يجتهد في أن يأكل من عمل يده، وأن يكتسب ويتحرى الكسب الحلال، وأن يصرف قلبه ووجهه عن الحاجة إلى الناس، يقول جلَّ وعلا: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة:10]، اطلبوا الرزق، ويقول جلَّ وعلا: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الملك:15].

فالإنسان يبحث عن أسباب الرزق ليستغنِ عن الحاجة إلى الناس: بالزراعة، بالغراس، بالبيع والشراء، بأنواع العمل، بالاحتطاب، بالاحتشاش، يطلب الرزق من طريق العمل، لا من طريق سؤال الناس.

يقول النبي ﷺ للزبير: لأن يأخذ أحدُكم أحبله فيأتي بحزمةٍ من حطبٍ على ظهره فيبيعها فيكفَّ الله بها وجهه خيرٌ له من سؤال الناس، أعطوه أو منعوه، وهكذا حديث أبي هريرة، كلها تدل على أن الإنسان يأخذ أحبله، يعني: الحبال، يذهب إلى البرية ويأتي بحزمة حشيشٍ أو حطبٍ فيبيع على الناس، خيرٌ له من سؤال الناس، أعطوه أو منعوه.

ويقول ﷺ: ما أكل أحدٌ طعامًا خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وكان نبي الله داود يأكل من عمل يده، وهكذا كان زكريا نجارًا، وهو نبي الله، يأكل من عمل يده من النجارة.

ويقول ﷺ في الحديث الصحيح: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزنَّ، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلتُ لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن "لو" تفتح عمل الشيطان، فأمره أن يحرص على ما ينفعه: احرص، أول الحديث: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خيرٍ المؤمن القوي الذي يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويكتسب الحلال، ويأكل من عمل يده؛ خيرٌ من الضعيف، وفي كلٍّ خير، ثم يقول ﷺ: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله هذا عام في الحرص على ما ينفعه من أمر الدين والدنيا، كثير من الناس قد يلجأ إلى المسألة، وهذا نقصٌ في الإيمان، ونقص في المروءة، ولكن الإيمان القوي والمروءة وكمال الأخلاق كل ذلك يدعو إلى الاستغناء عن سؤال الناس، والبحث عن الأعمال التي تُغني عن ذلك حتى لا يحتاج إلى الناس. وفَّق الله الجميع.

60- باب الكرم والجود والإنفاق في وجوه الخير ثقةً بالله تعالى

قَالَ الله تَعَالَى: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ [سبأ:39].

وقال تَعَالَى: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ [البقرة:272].

وقال تَعَالَى: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة:273].

1/543- وعَنِ ابنِ مسعودٍ ، عن النَّبيِّ ﷺ قَالَ: لا حَسَدَ إِلَّا في اثنتينِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّه مَالًا، فَسَلَّطَه عَلَى هَلَكَتِهِ في الحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاه اللَّه حِكْمَةً، فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُها متفقٌ عليه.

معناه: يَنْبغِي أَن لا يُغْبَطَ أَحَدٌ إِلَّا عَلَى إحدَى هَاتَينِ الخَصْلَتَيْنِ.

2/544- وعنه قالَ: قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِليه مِن مَالهِ؟ قالُوا: يَا رَسولَ اللَّه، مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِليه، قَالَ: فَإِنَّ مَالَه مَا قَدَّمَ، وَمَالَ وَارِثهِ ما أَخَّرَ رواه البخاري.

3/545- وعَن عَدِيِّ بنِ حَاتِمٍ : أَن رسولَ اللَّه ﷺ قَالَ: اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ متفقٌ عليه.

الشيخ: هذه الآيات والأحاديث الكريمة كلها تدل على فضل الجود والكرم والإنفاق في سبيل الله، وأنه يُشرع للمؤمن الجود والإنفاق في سبيل الله، ومواساة الفقير، وإقامة المشاريع الخيرية، يرجو ثواب الله، ويخشى عقابه ؛ لأنَّ هذا المال إن لم تُنفقه في الخير أنفقته في سواه، فجديرٌ بك أن تُنفق منه في الخير، وأن تجتهد في تحصيل ما علق الله على إنفاق الخير من الدرجات والحسنات ورفيع الدرجات والخلف الجزيل، والبخل شرّه عظيم، وعاقبته وخيمة، والله يقول جلَّ وعلا: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:274]، ويقول جلَّ وعلا: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]، ويقول جلَّ وعلا: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن:16]، ويقول جلَّ وعلا: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ [البقرة:272].

فالمؤمن يجود يرجو ما عند الله جلَّ وعلا، يبتغي فضله ، فإن فضله وجوده لا ينحصر، بل هو سبحانه الجواد الكريم الذي يُعطي ولا يخشى الفقر جلَّ وعلا: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، ثم يُبين أنه لأنفسكم: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ يعني: هذا الإنفاق وهذا الجود وهذا الكرم ليس للناس، ولكن لنفسك أنت، المصلحة لنفسك؛ درجات وأجور عظيمة وخُلْفٌ من الله ، هكذا المؤمن يُؤجر على ما قدَّم لنفسه، ويُخْلَف عليه ما أنفق؛ فضلًا من الله .

فجدير بالمؤمن أن يجود، وأن يحسن، وأن يحرص على بذل الخير يرجو ما عند الله من المثوبة، يريد ما عند الله من المثوبة والفضل، ومع ذلك مواساة إخوانه الفقراء، والإحسان إليهم، يقول ﷺ: أيكم مال وارثه أحبّ إليه من ماله؟ قالوا: يا رسول الله، كلنا ماله أحبّ إليه من مال وارثه، قال: إنَّ مال أحدكم ما قدَّم، ومال وارثه ما أخَّر.

فأنت يا عبدالله ما قدَّمته هو مالك، هو الذي ينفعك، فجُد وسارع تجد عند الله الخير العظيم.

ويقول عليه الصلاة والسلام: لا حسد إلا في اثنتين: رجل أتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحقِّ، ورجل أتاه الله الحكمةَ فهو يقضي بها ويُعلمها يعني: لا غبطةَ، الحسد هنا حسد الغبطة، يعني: ليس هناك شيء يُغبط عليه الإنسان كما ينبغي إلا مَن رزقه الله المال، فأعانه على إنفاقه في الحقِّ، والثاني: أعطاه الله الحكمة -العلم- فهو يقضي بها ويُعلمها، فالحكمة هي الفقه في الدين.

فهاتان الخصلتان محل الغبطة، ومحل المنافسة، فإن الحسد حسدان: حسد معناه محبة زوال النعمة عن أخيك، هذا هو المذموم، والحسد الثاني معناه: حسد الغبطة، وهو المسارعة في الخيرات، والمنافسة في الطاعات، وهذا الحسد مطلوب: لا حسدَ إلا في اثنتين يعني: لا غبطةَ ولا شيء ينبغي أن يُحسد صاحبه وأن يُغبط بهذا الخير من كونه يُنفق آناء الليل والنهار، ومن كونه يحكم بالشرع، ويُنفذ الشرع، ويُعلم الناس أمور الدين.

ويقول ﷺ في حديث عدي بن حاتم: ما منكم من أحدٍ إلا سيُكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر عن شماله فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار، فاتَّقوا النار ولو بشقِّ تمرةٍ، فمَن لم يجد فبكلمةٍ طيبةٍ.

قوله: اتَّقوا النار ولو بشقِّ تمرةٍ حثٌّ على النفقة والإحسان ولو بالقليل: درهم، درهمين، ثلاثة، تمرة، تمرتين، كله خير، بعض الفقراء يحتاج للتمرة الواحدة، والدرهم الواحد، ما عنده شيء، تنفعه التمرة، وينفعه الدرهم.

في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت امرأةٌ تسأل ومعها ابنتان، فلم أجد في البيت إلا ثلاث تمرات، فأعطيتُها إياها، فأعطت كلَّ واحدةٍ من بنتيها تمرةً، ثم رفعت الثالثة لتأكلها، فاستطعمتها ابنتاها التمرة الثالثة؛ فشقَّتها بينهما نصفين ولم تأكل شيئًا، قالت عائشة: فأعجبني شأنها، فلما جاء النبي ﷺ أخبرته فقال: إنَّ الله أوجب لها بها الجنة يعني: بهذه الرحمة؛ شقَّت التمرة الثالثة بين بنتيها ولم تأكل شيئًا.

يقول ﷺ: ما من مؤمنٍ -أو قال: ما من عبدٍ- يتصدق بعدل تمرةٍ من كسبٍ طيبٍ، ولا يقبل الله إلا الطيب، إلا تقبَّلها الله بيمينه، فيُربيها لصاحبه كما يُربي أحدُكم فلوه -أو فصيله- حتى تكون مثل الجبل.

فأنت يا عبدالله أنفق ولو بالقليل، لا تحقر النفقة ولو بالقليل: اتَّقوا النار ولو بشقِّ تمرةٍ، هذا ريالان، وهذا ثلاثة، وهذا خمسة، وهذا شوية تمر، وهذا طعام آخر، الذي تيسر، تُعطيه ما تيسر، لا تتكلف، ولا تقل: هذا قليل، ما كان لله وأخرجته لله ينفع الفقير وينفعك أيضًا عند الله. وفَّق الله الجميع.

4/546- وعن جابرٍ قَالَ: مَا سُئِل رسولُ اللَّه ﷺ شَيئًا قَطُّ فقالَ: لا. متفقٌ عَلَيْهِ.

5/547- وعن أبي هُريرة قَالَ: قالَ رَسُول اللَّه ﷺ: مَا مِنْ يَوْمٍ يُصبِحُ العِبادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمسكًا تَلَفًا متفقٌ عَلَيْهِ.

6/548- وعنه: أَن رسولَ اللَّه ﷺ قَالَ: قَالَ اللَّه تَعَالَى: أنفِق يَا ابْنَ آدمَ يُنْفَقْ عَلَيْكَ متفقٌ عَلَيْهِ.

الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة وما جاء في معناها كلها تدل على شرعية الإنفاق في وجوه الخير، والجود والكرم وعدم البخل، يقول الله سبحانه: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]، ويقول : فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن:16]، ويقول : الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:274] يعني: يُنفقون في وجوه الخير، في وجوه البرِّ، في الفقراء والمساكين وعمارة المشاريع الخيرية: كالمساجد وغيرها، ليسوا بخلاء، بل يُنفقونها في وجوه البرِّ وأعمال الخير.

وفي حديث جابرٍ يقول: أن النبي ﷺ ما سُئل شيئًا قط فقال: لا، ليس من طبيعته أن يقول: لا، عليه الصلاة والسلام، ما سئل عن شيءٍ فقال: لا، يعني من طبيعته الجود والكرم، إما أن يُعطي السائل، وإما أن يعده وقتًا آخر إن لم يكن عنده شيء، وكان يضع المال في محلِّه، والجود في محله عليه الصلاة والسلام، ويُعطي عطاء مَن لا يخشى الفقر.

وفي الحديث عن النبي أنه قال: ما من يومٍ يُصبح فيه الناس إلا وينزل فيه ملكان، أحدهما يقول: اللهم أعط منفقًا خلفًا، والثاني يقول: اللهم أعطِ ممسكًا تلفًا، فهذا فيه الحثّ على الإنفاق، وأن الله يُخلف على المنفقين في وجوه الخير وأعمال البرِّ، والبخل شرُّه عظيم: وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ [محمد:38].

فالمشروع لك يا عبدالله الجود والإحسان، ترجو ما عند الله، صلة الرحم، مواساة الفقير، إقامة المشاريع الخيرية، إكرام الضيف، إلى غير هذا من وجوه الخير.

والحديث الثالث: قول الرب جلَّ وعلا: يا ابن آدم، أنفق نُنفق عليك، وفي اللفظ الآخر: ينفق عليك يعني: أنت موعود بالخلف، والله يقول لك: يا ابن آدم، أنفق نُنفق عليك يعني: أحسن يُحسن الله إليك، وجُدْ يجود الله عليك: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56]، فالمؤمن إذا أحسن إلى إخوانه المسلمين الفقراء وغيرهم أحسن الله إليه: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرحمن:60]، نسأل الله للجميع التوفيق والهداية.

7/549- وعن عبداللَّهِ بن عَمْرو بن العَاصِ رضي اللَّه عنهُما: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رسول اللَّه ﷺ: أَيُّ الإِسلامِ خَيْرٌ؟ قَالَ: تُطْعِم الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلامَ عَلى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ متفقٌ عَلَيْهِ.

8/550- وعنه قَالَ: قالَ رسُولُ اللَّه ﷺ: أَرْبَعونَ خَصلَةً أَعلاهَا مَنِيحَةُ العَنْز، مَا مِن عَاملٍ يَعْملُ بخَصلَةٍ مِنْهَا رَجَاءَ ثَوَابِهَا وَتَصْدِيقَ مَوْعُودِهَا إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّه تَعَالَى بِهَا الجَنَّةَ رواه البخاري.

وقد سبقَ بيان هَذَا الحديث في باب بَيَان كَثرَةِ طُرق الخَيْرِ.

9/551- عن أَبي أُمَامَةَ صُدَيِّ بنِ عَجْلانَ قَالَ: قَالَ رسُولُ اللَّه ﷺ: يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ إِن تَبْذُل الفَضْلَ خَيرٌ لَكَ، وإِن تُمْسِكَهُ شَرٌّ لَكَ، وَلا تُلامُ عَلى كَفَافٍ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، واليَدُ العُليَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى رواه مسلم.

الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كالتي قبلها في الحثِّ على الجود والكرم والإحسان والصدقة، وأنه ينبغي للمؤمن أن يكون جوادًا كريمًا مُنفقًا محسنًا، هذه الدار دار العمل، دار الإحسان، دار المجاهدة، فينبغي للمؤمن أن يُقدم لنفسه من أعمال الخير ما ينفعه عند الله جلَّ وعلا: من مساعدة الفقير، والشفاعة في الخير، ومواساة الفقراء والمحاويج، والعناية بسدِّ حاجة الفقير، وقضاء دين المدين، وغير هذا من وجوه الخير.

سئل عليه الصلاة والسلام قيل: يا رسول الله، أي الإسلام أفضل؟ قال: تُطعم الطعام، وتقرأ السلام على مَن عرفتَ ومَن لم تعرف هذه أفضل خصال الإسلام: تجود وتُحسن، يعني بعد أداء الفرائض تجود على عباد الله، ولا سيما الطعام، والبداءة بالسلام، تُطعم الطعام، وتقرأ السلام على مَن عرفتَ ومَن لم تعرف، والله يقول جلَّ وعلا: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ [البقرة:271]، ويقول سبحانه: وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:280]، ويقول : وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]، ويقول جلَّ وعلا: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن:16]، ويقول سبحانه: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [الحديد:7].

هذه الآيات وما جاء في معناها فيها الحثّ على الصدقة والإحسان.

ويقول ﷺ: يا ابن آدم، إنك إن تبذل الفضلَ خيرٌ لك، ولا تُلام على كفافٍ، واليد العُليا خيرٌ من اليد السفلى، فالمؤمن يجود ويُحسن ويُنفق يرجو ثواب الله جلَّ وعلا، ويرجو إحسانه ، ويقول ﷺ: ما نقص مالٌ من صدقةٍ.

كذلك يقول ﷺ: أربعون خصلة أعلاها منيحة العنز، مَن لقي الله بخصلةٍ منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها أدخله الله بها الجنة هذا فيه الحثّ على التماس الخير، أربعون خصلة بيَّن لك منها واحدةً: أعلاها منيحة العنز، فكيف بمنيحة البقرة ومنيحة الناقة؟ وكيف بتسليم المال الكثير، الصدقة بالمال، بالكسوة، بأجرة المنزل، بغير هذا من وجوه الصدقات؟ إذا كانت هذه أربعين خصلة، أعلاها منيحة العنز، فدونها أشياء كثيرة: من منيحة الثوب، منيحة السراويل، منيحة الإناء للحاجة، منيحة القدح للحاجة، منيحة الطعام، منيحة السفرة، إلى غير هذا مما يحتاجه الناس، إذا فعله الإنسان رجاء ثوابها وتصديق موعودها، يعني: يفعلها لله، ما هو مُراءاة ولا سمعة ولا عن غفلةٍ، بل يتصدق عن نيةٍ صالحةٍ، عن رجاء الثواب وتصديق الموعود، ما هو عن رياءٍ أو سمعةٍ أو قلة مبالاةٍ، لا، بل عن نيةٍ صالحةٍ: عن رجاء الثواب وتصديق الموعود، يرغب في الثواب، ويرجو ما وعد الله به المتصدقين، وتصديقًا لله ولرسوله.

فالمشروع للمؤمن أن يتحرى أنواع المساعدة، وأنواع الصدقة، وأنواع تفريج الكروب، وأنواع المواساة حسب طاقته: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]. وفَّق الله الجميع.

10/552- وعن أَنسٍ قَالَ: مَا سُئِلَ رسُولُ اللَّه ﷺ عَلَى الإِسْلامِ شَيئًا إِلا أَعْطاه، وَلَقَد جَاءَه رَجُلٌ فَأَعْطَاه غَنَمًا بَينَ جَبَلَينِ، فَرَجَعَ إِلى قَومِهِ فَقَالَ: يَا قَوْمِ، أَسْلِمُوا، فَإِنَّ مُحَمدًا يُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لا يَخْشَى الفَقْرَ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُسْلِمُ مَا يُرِيدُ إِلَّا الدُّنْيَا، فَمَا يَلْبَثُ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى يَكُونَ الإِسْلامُ أَحَبَّ إِلَيه منَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا. رواه مسلم.

11/553- وعن عُمَرَ قَالَ: قَسَمَ رسولُ اللَّه ﷺ قَسْمًا، فَقُلتُ: يَا رسولَ اللَّه، لَغَيْرُ هَؤُلاءِ كَانُوا أَحَقَّ بهِ مِنْهُم! قال: إِنَّهُمْ خَيَّرُوني أَن يَسأَلُوني بالْفُحْشِ, أَوْ يُبَخِّلُوني، فَلَسْتُ بِبَاخِلٍ رواه مسلم.

12/554- وعن جُبَيْرِ بنِ مُطعِم أَنه قَالَ: بَيْنَمَا هُوَ يسِيرُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ مَقْفَلَهُ مِن حُنَيْنٍ، فَعَلِقَهُ الأَعْرَابُ يسأَلُونَهُ، حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلى سَمُرَةٍ فَخَطَفَتْ رِدَاءَهُ، فَوَقَفَ النَّبِيُّ ﷺ فقال: أَعْطُوني رِدَائِي، فَلَوْ كَانَ لِي عَدَدُ هذِهِ العِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لا تَجِدُوني بَخِيلًا وَلا كَذَّابًا وَلا جَبَانًا رواه البخاري.

"مَقْفَلَهُ" أَيْ: حَال رُجُوعِهِ.

وَ"السَّمُرَةُ": شَجَرَةٌ.

وَ"العِضَاهُ": شَجَرٌ لَهُ شَوْكٌ.

الشيخ: في هذه الأحاديث وما قبلها الدلالة على جوده ﷺ وكرمه، وكونه يُؤلف الناس على الإسلام، ويدعو إلى الإسلام؛ لأنَّ الله أمره بهذا؛ قال جلَّ وعلا: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]، وجعل في الزكاة وفي الفيء حقًّا للمُؤلفة قلوبهم.

فالسنة للمؤمن أن يُنفق ويُحسن حتى يجود على عباد الله، وحتى يُحسن إلى عباد الله، ويتألف قلوبهم، تأسيًا بالنبي عليه الصلاة والسلام: كان لا يُسأل على الإسلام شيئًا إلا أعطاه، ما سأله الأعرابُ وغيرهم شيئًا إلا أعطاهم؛ تأليفًا لقلوبهم، ويقول: يأبون إلا يُبَخِّلوني، ويأبى الله لي البخل، ويقول: لو كان لي عددُ هذه العضاة يعني: عدد هذه الأشجار نَعَمًا يعني: إبلًا «لقسمتُه بينكم، وجاءه أعرابي يسأله فأعطاه غنمًا بين جبلين، فذهب إلى قومه وقال: يا قوم، أسلموا، فإنَّ محمدًا يُعطي عطاء مَن لا يخشى الفقر.

فالسنة للمؤمن الجود والكرم تأسيًا بالنبي ﷺ، والإحسان إلى العباد، وتأليف القلوب، ولا سيما الجهال، وحُدثاء العهد بالإسلام؛ يُؤلَّفون، ويُعطون من المال ما يُؤلف قلوبهم ويُقوي إيمانهم، هذا عمله ﷺ، وهذه سيرته عليه الصلاة والسلام، فالسنة التأسي به في ذلك، والحرص على بذل المعروف في الناس؛ دعوةً إلى الخير، وترغيبًا في الخير. وفَّق الله الجميع.