24 من حديث (سئل رسول الله ﷺ عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟..)

7/626- وعن أبي هُريرة قَالَ: سُئِلَ رسولُ اللَّه ﷺ عَنْ أَكثرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الجَنَّةَ، قَالَ: تَقْوى اللَّهِ وَحُسْنُ الخُلُق، وَسُئِلَ عَنْ أَكثرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ فَقَالَ: الفَمُ وَالفَرْجُ.

رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

8/627- وعنه قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: أَكْمَلُ المُؤمِنِينَ إِيمَانًا أَحسَنُهُم خُلُقًا، وخيارُكُم خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهمْ.

رواه الترمذي وَقالَ: حديث حسن صحيح.

9/628- وعن عائشةَ رضيَ اللَّه عنها قالت: سَمِعتُ رسولَ اللَّه ﷺ يقول: إِنَّ المُؤْمِنَ لَيُدْركُ بِحُسنِ خُلُقِه درَجةَ الصائمِ القَائمِ رواه أَبُو داود.

الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كالتي قبلها في الحثِّ على إحسان الخلق والتواضع وعدم الغلظة والتَّكلف وسُوء المعاشرة، تقدم قوله ﷺ: البرُّ: حُسن الخلق، ويقول ﷺ هنا: أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم، فمن كمال الإيمان إحسان الخلق مع الأهل، ومع الإخوان، ومع الأستاذ، ومع الجيران، ومع الجلساء، لا يكون فظًّا غليظًا، ولا معبسًا، بل يكون حسن الخلق مع أهل بيته وجلسائه وإخوانه وزملائه وغيرهم.

يقول ﷺ: أكثر ما يُدخل الناس الجنة: تقوى الله وحُسن الخلق، لما سُئل عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة قال: تقوى الله وحُسن الخلق، حسن الخلق من تقوى الله، وأكثر ما يُدخل النار الأجوفان: الفرج والفم، أكثر ما يُسبب دخول النار الفرج واللسان: الفرج والفم.

وفي هذا الحثّ على إحسان الخلق مع النساء: خياركم خياركم لنسائهم؛ ولهذا في الحديث الآخر يقول ﷺ: استوصوا بالنساء خيرًا، بعض الناس يكون على امرأته كالنمر والأسد، شديد عليها، مُكفهر، مغلظ، لا ينبغي هذا، بل ينبغي أن يكون لين الحديث مع أهله، حسن الخلق، طيب المحادثة مع أهله، وهكذا الزوجة يجب أن تكون كذلك: طيبة الخلق، حسنة الخلق، طيبة المحادثة، كلٌّ منهما يتحرى الخير؛ ولهذا يقول ﷺ: استوصوا بالنساء خيرًا، وحق الزوجة يجب أن يُراعى، وإن كان حقّ الزوج أكبر؛ فحقّ الزوج عظيم، وحقّه أكبر، لكن يجب عليه ألا يظلم، بل يجب أن يكون متواضعًا، حسن الخلق، يأخذ حقَّه، ويُعطي حقَّها: استوصوا بالنساء خيرًا.

وفي الحديث الآخر يقول ﷺ: إنَّ العبد ليبلغ بحُسن الخلق درجة الصائم القائم، وما ذاك إلا لما يترتب على حُسن الخلق من الفوائد الكثيرة، وقضاء الحاجات، وحلّ المشاكل، وإيناس الصديق والرفيق، وغير هذا من المصالح؛ لأنه إذا كان حسن الخلق احتيج إليه، وصار من أسباب حلِّ المشاكل، والتسوية بين الناس، ورأب الصدع، ولم الشعث، يكون مباركًا بحُسن خلقه. وفَّق الله الجميع.

10/629- وعن أَبي أُمَامَة الباهِليِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ: أَنا زَعِيمٌ ببَيتٍ في ربَضِ الجنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ المِراءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَببيتٍ في وَسَطِ الجنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الكَذِبَ وإِن كَانَ مازِحًا، وَببيتٍ في أعلَى الجَنَّةِ لِمَن حَسُنَ خُلُقُهُ حديث صحيح؛ رواه أَبُو داود بإِسنادٍ صحيحٍ.

"الزَّعِيمُ": الضَّامِنُ.

11/630- وعن جابرٍ : أَن رَسُول اللَّه ﷺ قَالَ: إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُم إِليَّ، وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجلسًا يَومَ القِيَامَةِ: أَحَاسِنَكُم أَخلاقًا، وإِنَّ أَبْغَضَكُم إِليَّ وَأَبْعَدَكُم مِنِّي يومَ الْقِيامةِ: الثَّرْثَارُونَ والمُتَشَدِّقُونَ وَالمُتَفَيْهِقُونَ، قالوا: يَا رسول اللَّه، قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ، فَمَا المُتَفيْهِقُونَ؟ قَالَ: المُتَكَبِّرونَ رواه الترمذي وقال: حديث حسن.

"الثَّرثَارُ": هُوَ كَثِيرُ الكَلامِ تَكلُّفًا.

"وَالمُتَشَدِّقُ": المُتَطاوِلُ عَلى النَّاسِ بِكَلامِهِ، وَيتَكَلَّمُ بِملءِ فِيهِ تَفَاصُحًا وَتَعْظِيمًا لكلامِهِ.

"وَالمُتَفَيْهِقُ": أَصلُهُ مِنَ الفَهْقِ، وهُو الامْتِلاءُ، وَهُوَ الَّذِي يَمْلأ فَمَهُ بِالكَلامِ، وَيَتَوَسَّعُ فِيهِ، وَيُغْرِب بِهِ تَكَبُّرًا وَارتِفَاعًا، وإِظْهَارًا للفَضِيلَةِ عَلى غيرِهِ.

وروى الترمذي عن عبداللَّه بن المباركِ رحِمه اللَّه في تَفْسير حُسْنِ الخُلُقِ قَالَ: "هُوَ طَلاقَةُ الوجه، وبذلُ المَعرُوف، وكَفُّ الأَذَى".

الشيخ: هذه الأحاديث كالتي قبلها في الحثِّ على حُسن الخلق والترغيب فيه، وأنه ينبغي للمؤمن أن يُحسن خلقه، ويُجاهد نفسه؛ ولهذا يقول ﷺ: أنا زعيم ببيتٍ في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان مُحقًّا، وأنا زعيم ببيتٍ في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وأنا زعيم ببيتٍ في أعلى الجنة لمن حسُن خلقه، فتحسين الخلق من أهم القربات.

وكذلك قوله ﷺ: إنَّ أحبَّكم إليَّ وأقربَكم مني منزلةً يوم القيامة: أحاسنكم أخلاقًا، هذا فيه الحثّ على إحسان الخلق والترغيب فيه، والتحذير من التَّشدق والتَّعظم بما لا يُفيد والتفيهق، فالثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون هم أهل الكبر والتَّكلف.

فالمؤمن ينبغي له أن يُحسن خلقه، يقول ﷺ: البرُّ حُسن الخلق، فالتواضع وإحسان الخلق من أهم القربات؛ ولهذا قال بعضُ السلف في حُسن الخلق: "بذل المعروف، وكفُّ الأذى، وبذل النَّدى"، فحُسن الخلق يتضمن كفَّ الأذى عن الناس، وبذل الندى، وبذل المعروف الذي ينبغي بذله، وكل إنسانٍ يستطيع أن يُجاهد نفسه في تحسين خلقه وتواضعه، والبُعد عن التَّكبر والتَّفيهق. نسأل الله للجميع التوفيق والهداية.

74- باب الحلم والأناة والرِّفق

قَالَ الله تَعَالَى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134].

وقال تَعَالَى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199].

وَقالَ تَعَالَى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ۝ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:34-35].

وقال تَعَالَى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى:43].

1/631- وعن ابنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ لأَشَجِّ عبْدِ الْقَيْس: إِنَّ فيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ: الحِلْمُ وَالأَنَاة رَواهُ مُسلم.

2/632- وعن عائِشةَ رضيَ اللَّه عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ: إِنَّ اللَّه رفيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّه متفقٌ عَلَيْهِ.

3/633- وعنها: أَن النبيَّ ﷺ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفقَ، وَيُعْطِي على الرِّفق ما لا يُعطي عَلى العُنفِ، وَما لا يُعْطِي عَلى مَا سِوَاهُ رواه مسلم.

4/634- وعنها: أَن النبيَّ ﷺ قَالَ: إِنَّ الرِّفقَ لا يَكُونُ في شيءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلا يُنْزَعُ مِنْ شَيءٍ إِلَّا شَانَهُ رواه مسلم.

الشيخ: هذه الآيات الكريمات والأحاديث المذكورة كلها تدل على فضل الحلم والأناة والرِّفق في الأمور، وعدم الطيش والعجلة، السنة للمؤمن في أموره أن يكون رفيقًا حليمًا ذا أناةٍ وتُؤدةٍ وتفكيرٍ وعدم عجلةٍ، يقول الله جلَّ وعلا: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ۝ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:133- 134]، فكظم الغيظ والعفو والصفح فيه خيرٌ عظيمٌ، قال تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]، وقال جلَّ وعلا: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى:43]، وقال تعالى: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى:40].

فأنت يا عبدالله في حاجةٍ إلى الرفق؛ لأنَّ الرفق يُوصلك إلى غايات محمودة، والعجلة تعقب الندامة، وربما سببت مشاكل كبيرة؛ ولهذا يقول ﷺ: إنَّ الله يُحب الرفقَ في الأمر كله، وفي اللفظ الآخر: ويُعطي على الرِّفق ما لا يُعطي على العنف، وما لا يُعطي على ما سواه.

فينبغي للمؤمن أن يكون رفيقًا فيما يأتي وفيما يذر، ولا يحرص على العجلة في الأمور، بل يرفق ويتأنَّى.

ويقول النبي ﷺ لأشج عبد القيس: إنَّ فيك خصلتين يُحبهما الله: الحلم والأناة، فالحلم والصبر والتَّحمل والأناة في الأمور فيها خير كثير، وعواقب حميدة، ومن صفات الأخيار: الحلم والأناة والرفق في الأمور وعدم العجلة في الأمور. رزق الله الجميع التوفيق والهداية.

5/635- وعن أبي هريرةَ قَالَ: بَال أَعْرَابيٌّ في المسجِد، فَقَامَ النَّاسُ إِلَيْه لِيَقَعُوا فِيهِ، فَقَالَ النبيُّ ﷺ: دَعُوهُ، وَأَرِيقُوا عَلى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ، أَوْ ذَنُوبًا مِن مَاءٍ، فَإِنَّما بُعِثتُم مُيَسِّرِينَ، ولَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ رواه البخاري.

"السَّجْلُ" بفتح السين المهملة وإسكان الجيم: وَهِيَ الدّلوُ المُمْتَلِئَةُ ماء، كَذلِكَ الذَّنُوبُ.

6/636- وعن أَنسٍ ، عن النبيِّ ﷺ قَالَ: يَسِّرُوا وَلا تُعَسِّروا، وَبَشِّرُوا وَلا تُنَفِّرُوا متفقٌ عَلَيْهِ.

7/637- وعن جرير بن عبداللَّه قالَ: سمعتُ رَسُولَ اللَّه ﷺ يقُولُ: مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرمِ الخيْرَ كُلَّهُ رواه مسلم.

الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كالتي قبلها في الحثِّ على الرفق والحلم وعدم العجلة في الأمور، فالرفق لا يكون في شيءٍ إلا زانه، ولا يُنزع من شيءٍ إلا شانه، فالواجب على الداعية إلى الله والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر والأخ مع إخوانه: الرفق في الأمور وعدم الغلظة وعدم الشدة؛ لأنَّ هذا أقرب إلى النفع، أقرب إلى النجاح؛ ولهذا في هذا الحديث لما بال أعرابي في المسجد همَّ به الصحابة؛ لعظم ما فعل من البول، فقال ﷺ: لا تزرموه يدعوه، فلما فرغ أعلمه النبيُّ ﷺ ووجَّهه، قال: إنَّ هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من البول والقذر، وإنما هي لذكر الله وقراءة القرآن والصلاة، وأمرهم أن يصبُّوا على بوله سجلًا من ماءٍ، فهذا فيه الحثُّ على الرفق، لا سيما مع الأعراب الجُهَّال، فيُعلمون بالرفق، ويُوجهون بالرفق.

وفي الحديث الثاني يقول ﷺ: يسروا ولا تُعسروا، وبشِّروا ولا تُنفروا، مثلما قال في الحديث الأول: إنما بُعثتم ميسرين، ولم تُبعثوا مُعسرين، فالمؤمن هكذا: يُبشر ولا يُنفر، ويُيسر ولا يُعسر، مهما أمكن في الدعوة إلى الله، وتعليم الناس وتوجيههم إلى الخير، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، كل ذلك للتيسير والتَّسهيل والتبشير وعدم التنفير؛ لأنَّ هذا أقرب إلى النجاح، وأقرب إلى الفائدة، فالمبَشَّر والمنذر والمعلم يفرح ويستجيب مع الرِّفق ومع اللِّين ومع الكلام الطيب.

وهكذا الحديث الآخر: إنَّ الله يُعطي على الرِّفق ما لا يُعطي على العنف وعلى ما سواه، وفي الحديث الآخر: مَن يُحرم الرفق يُحرم الخير كله، فالواجب على الدعاة إلى الله والآمرين بالمعروف والنَّاهين عن المنكر وعلى جميع المسلمين تحري الرفق والصبر وعدم الغلظة في الأمور؛ لأنَّ هذا أقرب إلى النجاح، وأقرب إلى النفع. نسأل الله للجميع التوفيق.

.......... على كل شيءٍ، تقول عائشة رضي الله عنها: "ما خُير النبيُّ بين أمرين إلا اختار أيسرهما" يعني: أسهلهما على مَن يتعلق به الأمر، "وما انتقم لنفسه" يعني: يسمح ويعفو عليه الصلاة والسلام، "إلا أن تُنتهك حُرمات الله فإنه يغضب لله "، وأما عن نفسه فيسمح، وقد جاءه أعرابيٌّ في بعض أسفاره فجرَّه بردائه حتى أثَّر في عاتقه وقال: أعطني مما أعطاك الله، فإنَّك لا تُعطيني من مالك ولا من مال أبيك! فضحك النبيُّ ﷺ ولم يُعاقبه، وأمر له بعطاءٍ.

المقصود أنَّ الحلم والصبر والرفق هو المطلوب في جميع الأمور، لا ينبغي للعبد أن يكون شديدًا عنيفًا، بل يكون رفيقًا حليمًا صبورًا في أموره كلها.

كذلك يُخبر النبي ﷺ أنه يحرم على النار كل هينٍ لينٍ قريبٍ سهلٍ، يعني: أهل التواضع والصَّفح والعفو من أسباب دخول الجنة، والسلامة من النار، فهذا فيه الحثّ على السهولة والليونة والصَّفح والعفو وعدم التَّشدد، فالمؤمن يكون هينًا لينًا قريبًا، لا عنيفًا ولا شديدًا مع أخيه. وفَّق الله الجميع.

8/638- وعن أَبي هريرة : أَنَّ رَجُلًا قَالَ للنَّبِيِّ ﷺ: أَوْصِني، قَالَ: لا تَغْضَبْ، فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: لا تَغْضَبْ رواه البخاري.

9/639- وعن أَبي يعلَى شدَّاد بن أَوسٍ ، عن رَسُول اللَّه ﷺ قَالَ: إِنَّ اللَّه كَتَبَ الإِحسَان عَلَى كُلِّ شَيءٍ، فإِذا قَتلتُم فَأَحسِنُوا القِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُم فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَة، وليُحِدَّ أَحَدُكُم شَفْرتَه، وَليُرِحْ ذَبيحَتَهُ رواه مسلم.

10/640- وعن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: "مَا خُيِّر رسولُ اللَّه ﷺ بَينَ أَمْرينِ قَطُّ إِلَّا أَخذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَم يَكُن إِثمًا، فإنْ كانَ إِثمًا كَانَ أَبعد النَّاسِ مِنْهُ، ومَا انتَقَمَ رسولُ اللَّه ﷺ لِنَفْسِهِ في شَيءٍ قَطُّ، إِلَّا أَن تُنتَهكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَينتَقِم للَّهِ تَعَالَى" متفقٌ عَلَيْهِ.

11/641- وعن ابن مسعودٍ قال: قال رَسُول اللَّه ﷺ: أَلا أُخْبرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلى النَّارِ، أَوْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ؟ تَحْرُمُ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ ليِّنٍ سَهْلٍ رواه الترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ.

الشيخ: هذه الأحاديث الأربعة كلها تتعلق بالرِّفق والتواضع وعدم العجلة وعدم الشدة وعدم الإيذاء لأحدٍ، السنة للمؤمن أن يكون سمحًا لينًا هينًا قريبًا متواضعًا، هذا هو الذي ينبغي للمؤمن؛ أن يحذر الغضب، ويحذر الانتقام لنفسه وظلم الناس والعدوان عليهم.

يقول ﷺ لما سأله رجلٌ قال: أوصني، قال: لا تغضب، فردد مرارًا، قال: لا تغضب؛ لأنه إذا غضب قد يضرّ، قد يقتل، قد يضرب، قد يسبّ، فينبغي للمؤمن أن يتباعد عن أسباب الغضب مهما أمكن، يحرص على الحلم والرفق حتى يبتعد عن أسباب الغضب؛ لما يترتب على الغضب من الخطر.

وهكذا قوله ﷺ: إنَّ الله كتب الإحسانَ على كل شيءٍ، فإذا قتلتُم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتُم فأحسنوا الذبحة، وليُحدّ أحدُكم شفرته، وليُرح ذبيحته، فيه الحثّ على الإحسان مع الفقراء والمساكين وغيرهم، حتى في الذبح يتحرى الإنسان الإحسان، يتحرى الرفق في مخاطبته للناس، في حديثه مع الناس؛ حتى لا تقع مشاكل، وإذا أراد أن يذبح يُحدّ الشفرة، ويُرح الذبيحة، لا يكون عجلًا، مع التُّؤدة والثبات؛ حتى لا يُؤذي الحيوان، حتى لا يضرّ الحيوان.

تقول عائشة رضي الله عنها: أن النبي ﷺ ما خُير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا. هذا يدل على خلقه العظيم، وأن الأفضل للمؤمن أن يختار الأيسر وعدم الشدة، فإذا كانا مباحين فليختر أيسرهما وأسهلهما كما فعل النبيُّ ﷺ إلا أن يكون إثمًا فليبتعد عن الإثم.

كذلك كان لا ينتقم لنفسه، قد يُؤذى ويُتكلم عليه وهو يسمح ويعفو، هذا من فضائل الأعمال، ومن مكارم الأخلاق: العفو والصفح، كما قال جلَّ وعلا: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة:237]، وقال سبحانه: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى:40]، وقال ﷺ: ما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا، فالعفو في محلِّه فيه فضل عظيم، أما إذا كان العفو يترتب عليه شرٌّ لا يعفُ، إذا كان العفو تترتب عليه مضرة فلا، لكن إذا كان يترتب عليه خيرٌ ومصلحة فليعف.

كذلك الحديث الرابع: أهل الجنة كل قريبٍ هينٍ لينٍ سهلٍ، هذا يدل على أنه ينبغي للمؤمن أن يكون قريبًا لينًا، ليس بغليظٍ ولا جافٍ ولا مُشدد، بل يكون متواضعًا، لين الكلام، طيب الكلام مع إخوانه المسلمين، هذا هو الأفضل للمؤمن؛ أن يتحرى طيب الكلام، ويتحرى تواضعه، ويتحرى الإحسان في كل شيءٍ، لا مع أهله، ولا مع جلسائه، ولا مع غيرهم، هذا هو الطريق السوي، وهو الأسلم للمؤمن. نسأل الله للجميع التوفيق والهداية.

75- باب العفو والإِعراض عن الجاهلين

قَالَ الله تَعَالَى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199].

وقال تَعَالَى: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [الحجر:85].

وقال تَعَالَى: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُم [النور:22].

وقال تَعَالَى: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134].

وقال تَعَالَى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى:43].

والآيات في الباب كثيرةٌ معلومةٌ.

1/642- وعن عائشة رضي اللَّه عنها: أَنَّها قالت للنبيِّ ﷺ: هَلْ أَتى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ: لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَومِكِ، وكَان أَشدّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يوْم العقَبَةِ، إِذْ عرَضْتُ نَفسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ ابنِ عبْدِ كُلال، فلَمْ يُجبنِي إِلى مَا أَردْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنا بقرنِ الثَّعالِبِ، فَرفَعْتُ رأْسِي، فَإِذا أَنَا بِسحابَةٍ قَد أَظلَّتني، فنَظَرتُ فَإِذا فِيها جِبريلُ ، فنَاداني فَقَالَ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى قَد سَمِع قَولَ قومِك لَكَ، وَما رَدُّوا عَلَيكَ، وَقد بعثَ إِلَيك ملَكَ الجبالِ لِتَأْمُرهُ بمَا شِئْتَ فِيهم، فَنَادَانِي ملَكُ الجِبَالِ، فَسلَّمَ عَليَّ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّه قَد سمعَ قَولَ قَومِكَ لَكَ، وأَنَا مَلَكُ الجِبالِ، وقَدْ بَعَثَني رَبِّي إِلَيْكَ لِتَأْمُرَني بِأَمْرِكَ، فَمَا شئتَ؟ إِنْ شئْتَ أَطْبَقْتُ عَلَيهمُ الأَخْشَبَيْن، فقال النبيُّ ﷺ: بلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلابِهِم مَنْ يعْبُدُ اللَّه وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا متفقٌ عَلَيْهِ.

"الأَخْشبان": الجَبَلان المُحِيطَان بمكَّة. والأَخْشَبُ: هُوَ الجبل الغليظ.

2/643- وعنها قالت: "مَا ضرَبَ رسولُ اللَّه ﷺ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلا امْرأَةً، وَلا خادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيل اللَّهِ، وَمَا نِيل منْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنتَقِم مِنْ صاحِبِهِ إِلَّا أَنْ يُنتَهَكَ شَيء مِن مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَنْتَقِمَ للَّهِ تَعَالَى" رواه مسلم.

3/644- وعن أَنسٍ قَالَ: "كُنتُ أَمْشِي مَعَ رسول اللَّه ﷺ وَعَلَيْهِ بُردٌ نَجْرَانيٌّ غلِيظُ الحَاشِيةِ، فأَدْركَهُ أَعْرَابيٌّ، فَجبذهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَديدَةً، فَنظرتُ إِلَى صَفْحَةِ عاتِقِ النَّبيِّ ﷺ وقَد أَثَّرَت بِها حَاشِيةُ الرِّداءِ مِنْ شِدَّةِ جَبذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ لِي مِن مالِ اللَّهِ الَّذِي عِندَكَ، فالتَفَتَ إِلَيْه، فضحِكَ، ثُمَّ أَمر لَهُ بعَطَاءٍ" متفقٌ عليه.

الشيخ: هذه الآيات الكريمات والأحاديث النبوية كلها تتعلق بالعفو والصَّفح وعدم الانتقام مهما أمكن، يرجو ما عند الله من الثواب، فالمؤمن من صفته أنه عفو، أنه صفوح، فينبغي له التَّخلق بأخلاق نبيه ﷺ، وبأخلاق المؤمنين، قال تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]، وقال تعالى في وصف المتقين: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134]، وقال تعالى: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [الحجر:85]، وقال تعالى: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:22].

وذكر المؤلف رحمه الله قصة أهل مكة: فإنه اشتدَّ أذاهم للنبي ﷺ وهو يدعوهم إلى الله، ويدعوهم إلى توحيد الله، ويُحذرهم من نقمة الله، فلما اشتدَّ أذاهم له ذهب على وجهه إلى ..... مكة، فناداه جبرائيل وقال: إنَّ الله قد سمع كلام قومك لك، وإنَّ الله قد أرسل إليك ملك الجبال لتأمره بما ترى في شأنهم يعني: من التَّعذيب، فكلَّمه ملك الجبال وسلَّم عليه وقال: إنَّ الله أمرني أن أمتثل أمرك، إن شئتَ أطبقتُ عليهم الأخشبين أي: جبال مكة، فقال: بل أستأني بهم يعني: بل أعفو وأصفح لعلَّ الله يُخرج من أصلابهم مَن يعبد الله لا يُشرك به شيئًا، مع شدة أذاهم له صفح يرجو أن الله يُخرج من أصلابهم مَن يعبد الله، وقد حصل ذلك والحمد لله.

وتقول رضي الله عنها: "ما كان ينتقم لنفسه"، ما ضرب خادمًا ولا خادمةً ولا زوجةً، بل كان يحل المشاكل بالكلام الطيب، والأسلوب الحسن، والرفق، والحكمة عليه الصلاة والسلام.

وجاءه أعرابي ذات يومٍ وعليه رداء له حاشية، فجبذه الأعرابي بحاشية الرداء وقال: مُر لي بشيءٍ من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه النبيُّ ﷺ وضحك وأمر له بعطاءٍ، ولم يُعاقبه، قالت رضي الله عنها: "كان لا ينتقم لنفسه"، ويعفو ويصفح، إلا أن يُقاتل في سبيل الله عليه الصلاة والسلام.

فهذا فيه الدلالة على أنَّ الأفضل للمؤمن في حقِّ نفسه إذا أساء إليه المعاملة أخوه أو جاره أو قريبه أو صديقه أو غيرهم أن يصفح ويعفو حيث أمكن ذلك؛ تأسيًا بالنبي ﷺ وبالمؤمنين، أما حدود الله وحقّ الله لا، لا بد أن يُؤدى حقّ الله، فحدود الله لا يصفح عنها، بل تُقام، لكن حقّ المخلوق وما يتعلق بحقِّه فلا بأس إذا صفح عن حقِّه أو بعض حقه. وفَّق الله الجميع.

4/645- وعن ابن مسعودٍ قَالَ: كأَنِّي أَنظُرُ إِلَى رسولِ اللَّه ﷺ يَحْكِي نَبِيًّا مِن الأَنبياءِ صلوَاتُ اللَّهِ وَسلامُه عَلَيهم، ضَرَبَهُ قَومُهُ فَأَدموهُ، وَهُوَ يَمسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجهِهِ ويقول: اللَّهُمَّ اغفِر لِقَومي فَإِنَّهُم لا يَعْلَمُونَ متفقٌ عليه.

5/646- وعن أبي هريرة : أَن رَسُولَ اللَّه ﷺ قَالَ: لَيس الشَّديدُ بِالصُّرعَةِ، إِنَّما الشديدُ الَّذِي يَملِكُ نفسهُ عِند الغضبِ متفقٌ عليه.

76- باب احتمال الأذى

قال الله تَعَالَى: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134].

وقال تَعَالَى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى:43].

وفي الباب الأحاديث السابقة في الباب قبله.

1/647- وعن أبي هريرةَ : أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُول اللَّه، إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهم وَيَقْطَعوني، وَأُحسِنُ إِليهِم ويُسِيئُونَ إليَّ، وأَحلُمُ عَنهم ويجهلُونَ عَلَيَّ! فَقَالَ: لَئِن كُنتَ كَمَا قُلتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفّهم المَلَّ، وَلا يزَالُ معكَ مِنَ اللَّه تَعَالَى ظَهيرٌ عَلَيهم مَا دُمْتَ عَلى ذَلِكَ رواه مسلم. وقد سَبَقَ شَرْحُه في باب "صلة الأرحام".

الشيخ: هذه الآيات والأحاديث فيها الحثّ على الصفح والحلم والعفو وكظم الغيظ وتحمل الأذى، المسلم مع إخوانه يتحمل الأذى، ومع الجاهل أيضًا، يقول الله جلَّ وعلا: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ۝ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:133- 134]، ويقول ل: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى:43].

وذكر النبيُّ ﷺ نبيًّا من الأنبياء ضربه قومُه فأدموه، وجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، وقد أُوذي النبيُّ ﷺ في مكة أذًى كثيرًا وتحمل، فينبغي للمؤمن أن يتحمل، وأن يصبر على الأذى كما صبر الأنبياء، وكما صبر الأخيار، فالله جلَّ وعلا يقول: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:22].

كذلك حديث صلة الرحم: صلة الرحم من أهم القربات، يقول النبيُّ ﷺ: لا يدخل الجنةَ قاطعُ رحمٍ، ويقول ﷺ: مَن أحبَّ أن يُبسط له في رزقه، وأن يُنسأ له في أجله فليصل رحمه، ويقول رجلٌ: يا رسول الله، إنَّ لي قرابةً أصلهم ويقطعونني، وأُحسن إليهم ويُسيئون إليَّ، وأحلم عنهم ويجهلون عليَّ، فقال: لئن كنتَ كما قلتَ كأنما تُسفّهم المل، ولا يزال معك من الله ظهيرٌ عليهم ما دمتَ على ذلك، فهذا فيه الحثّ على تحمل جفاء الأقارب وسُوء معاملتهم، وأن يُعاملهم بالأفضل، وأن يكون خيرًا منهم؛ حتى يكون له الفضل، ويقول ﷺ: ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل ......

77- باب الغضب إِذَا انتُهكت حُرمات الشَّرع والانتصار لدين الله تعالى

قَالَ الله تَعَالَى: وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج:30].

وقال تَعَالَى: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].

وفي الباب حديث عائشة السابق في باب العفو.

1/648- وعن أَبي مسعودٍ عقبة بن عمرو البدريِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النبيِّ ﷺ فَقَالَ: إنِّي لأتَأَخَّر عَن صَلاةِ الصُّبْحِ مِن أجْلِ فلانٍ مِما يُطِيل بِنَا، فمَا رَأيْتُ النَّبيَّ ﷺ غَضِبَ في موعِظَةٍ قَطُّ أَشدَّ ممَّا غَضِبَ يَومئذٍ، فَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاس، إنَّ مِنكم مُنَفِّرين، فأَيُّكُمْ أَمَّ النَّاسَ فَليُوجِز؛ فإنَّ مِنْ ورائِهِ الكَبيرَ والصَّغيرَ وَذَا الحَاجَةِ متفقٌ عَلَيهِ.

2/649- وعن عائشة رضي اللَّه عنها قَالَتْ: قدِمَ رَسُولُ اللَّه ﷺ مِنْ سفَرٍ، وقَد سَتَرْتُ سَهْوةً لِي بقِرامٍ فَيهِ تَمَاثيلُ، فَلمَّا رآهُ رسولُ اللَّه ﷺ هتكَهُ وتَلَوَّنَ وجهُهُ وقال: يَا عائِشَةُ، أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا عِند اللَّهِ يَوْمَ القيامةِ الَّذينَ يُضاهُونَ بِخَلقِ اللَّهِ متفقٌ عَلَيْهِ.

"السَّهْوَةُ": كالصُّفَّة، تكُونُ بَيْنَ يدي البيت.

وَ"القِرام" بكسر القاف: سِتر رقيق، وَ"هتكه": أفسد الصورة التي فيه.

3/650- وعنها: أَنَّ قرَيشًا أَهَمَّهُم شَأْنُ المرأةِ المَخزُومِية الَّتي سَرقَت، فقالوا: مَنْ يُكلِّمُ فِيهَا رسولَ اللَّه ﷺ؟ فقالوا: مَن يجتَرِئُ عليهِ إِلَّا أُسامةُ بنُ زيدٍ حِبُّ رسول اللَّه ﷺ؟ فَكَلَّمهُ أُسامةُ، فقال رَسُول اللَّه ﷺ: أَتَشفعُ في حدٍّ مِن حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى؟! ثُمَّ قامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قَالَ: إنَّمَا أهْلَكَ مَنْ قبلكُم أنَّهُم كانُوا إذَا سرقَ فِيهِم الشَّريفُ تَركُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهم الضَّعِيفُ أَقامُوا عليهِ الحدَّ، وايْمُ اللَّه، لَوْ أنَّ فاطمَة بِنْتَ محمدٍ سرقَتْ لقَطَعْتُ يَدهَا متفقٌ عَلَيْهِ.

الشيخ: هذه الأحاديث والآيتان فيها الحثّ على الغضب إذا انتُهكت محارم الله، والتَّغليظ على مَن خالف الشرع حتى ينتبه ويعود إلى رشده، كما قال جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، وقال تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج:30].

وكان ﷺ إذا انتُهكت محارم الله غضب لله، وكان لا ينتقم لنفسه، لكن متى انتُهكت محارم الله غضب لله، ومن ذلك ما فعل لما بلغه أن بعض الناس يُطول في الصلاة، قال الرجلُ: يا رسول الله، إني لأتأخَّر عن الصلاة من أجل فلانٍ مما يُطيل بنا، قالت عائشةُ رضي الله عنها: فما رأيتُه غضب في موعظةٍ كما غضب يومئذٍ، فقال: أيها الناس، إنَّ منكم مُنفرين يعني: مُنفرين عن صلاة الجماعة فأيّكم أمَّ الناس فليُوجز؛ فإنَّ فيهم الصغير والكبير والضعيف وذا الحاجة يعني: يتحرى صلاة النبي ﷺ.

ولما طوَّل معاذ على أصحابه في العشاء قال له ﷺ -أنكر عليه وقال: اقرأ بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى، واقرأ باسم ربك، المقصود أنه يتحرى عدم التطويل على الناس؛ حتى لا يُنفرهم من صلاة الجماعة.

ولما رأى على سهوةٍ لعائشة قرامًا فيه تصاوير هتكه وغضب وقال: يا عائشة، إنَّ أصحاب هذه الصور يُعذَّبون يوم القيامة، وقال في اللفظ الآخر: أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يُضاهئون بخلق الله.

فالواجب الحذر مما نهى الله عنه، والواجب على المؤمن أن يتحرى في موعظته وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر حدود الله.

ولما سرقت امرأةٌ من مخزوم من قريشٍ أهمَّ قريشًا أمرها، وأحبوا ألا تُقطع يدها، وكان هذا يوم الفتح، فقالوا: مَن يشفع فيها إلى رسول الله ﷺ؟ قالوا: ومَن يستطيع ذلك إلا أسامة حِبُّ رسول الله؟ فتقدم أسامةُ فيها، فغضب النبي ﷺ وقال: أتشفع في حدٍّ من حدود الله، إنما أهلك مَن كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريفُ تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيفُ أقاموا عليه الحدَّ، وايم الله، لو أنَّ فاطمة بنت محمدٍ سرقت لقطعتُ يدها، فهذا فيه الحذر من الشفاعة في الحدود، وأن الواجب تنفيذها، وأنه لا تجوز الشفاعة فيها: لا حدَّ الزنا، ولا حدَّ السرقة، ولا غيره من الحدود: كحد الخمر ونحو ذلك. وفَّق الله الجميع.

س: ما حكم التصوير؟

ج: مثلما سمعت، التصوير لا يجوز.

س: طيب، النظر إليها؟

ج: أما النظر فإذا جاءت المصلحة، إذا كان محاضرات وفوائد.

4/651- وعن أنسٍ ﷺ: أَنَّ النَّبيَّ ﷺ رَأَى نُخامَةً في القِبلةِ، فشقَّ ذلكَ عَلَيهِ حتَّى رُؤِي في وجهِهِ، فَقَامَ فَحَكَّهُ بيَدِهِ، فَقَالَ: إنَّ أحَدكم إِذَا قَام فِي صَلاتِه فَإنَّهُ يُنَاجِي ربَّه، وإنَّ ربَّهُ بَينَهُ وبَينَ القِبْلَةِ، فَلا يَبْزُقَنَّ أَحدُكُم قِبلَ القِبْلَةِ، ولكِن عَنْ يَسَارِهِ أوْ تحْتَ قدَمِهِ، ثُمَّ أخَذَ طرفَ رِدائِهِ فَبصقَ فِيهِ، ثُمَّ ردَّ بَعْضَهُ عَلَى بعْضٍ، فَقَالَ: أَو يَفْعَلُ هكذا متفقٌ عَلَيْهِ.

والأمرُ بالبُصاقِ عنْ يسَارِهِ أَوْ تحتَ قَدمِهِ هُوَ فِيما إِذَا كانَ في غَيْرِ المَسجِدِ، فَأَمَّا في المسجِدِ فَلا يَبصُقْ إلَّا في ثوبِهِ.

78- باب أمر وُلاة الأمور بالرفق برعاياهم ونصيحتهم والشفقة عليهم والنهي عن غشِّهم والتشديد عليهم وإهمال مصالحهم والغفلة عنهم وعن حوائجهم

قَالَ الله تَعَالَى: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:215].

وقال تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].

1/652- وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قَالَ: سمِعتُ رسولَ اللَّه ﷺ يقول: كُلُّكُم راعٍ، وكُلُّكُمْ مسؤولٌ عنْ رعِيتِهِ: الإمامُ راعٍ ومَسْؤُولٌ عَنْ رعِيَّتِهِ، والرَّجُلُ رَاعٍ في أهلِهِ وَمسؤولٌ عنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرأَةُ راعيةٌ في بيتِ زَوجها وَمسؤولة عَنْ رعِيَّتِها، والخَادِمُ رَاعٍ في مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسؤُولٌ عَنْ رَعِيتِهِ، وكُلُّكُم رَاعٍ ومسؤُولٌ عَنْ رعِيَّتِهِ متفقٌ عَلَيْهِ.

2/653- وعن أَبي يَعْلى مَعْقِل بن يَسَارٍ قَالَ: سمعتُ رسول اللَّه ﷺ يقول: مَا مِن عبدٍ يسترعِيهِ اللَّه رعيَّةً، يَمُوتُ يومَ يَموتُ وهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إلَّا حَرَّمَ اللَّه علَيهِ الجَنَّةَ متفقٌ عليه.

وفي روايةٍ: فَلَم يَحُطْهَا بِنُصْحهِ لَمْ يجِد رَائحَةَ الجَنَّة.

وفي روايةٍ لمسلم: مَا مِن أَمِيرٍ يَلِي أُمورَ المُسلِمينَ، ثُمَّ لا يَجهَدُ لَهُم، ويَنْصَحُ لهُم، إلَّا لَم يَدخُل مَعَهُمُ الجَنَّةَ.

الشيخ: الحديث الأول يدل على أنَّ الواجب على المؤمن في الصلاة الخشوع فيها والطمأنينة، وألا يقذر المسجد بشيءٍ، فإذا عرض له عارضٌ فلا يبصقنَّ أمامه في المسجد، ولا في الصلاة، فإنه إذا قام يُصلي فإنه يُناجي ربَّه، فلا يبزقنَّ أمامه، ولا عن يمينه، ولكن عن شماله أو تحت قدمه، أو يقول هكذا ويبصق في طرف ثوبه، فالمساجد مأمور بتنظيفها وتطييبها، أمر الرسول ببناء المساجد بالدور، وأن تُنظف وتُطيب، فإذا دعت الحاجةُ للبصاق فليكن في ثوبه، وإذا كان خارج المسجد تحت قدمه اليُسرى عن يساره عند الحاجة، أو في طرف ردائه لا بأس.

وفي الآيتين الكريمتين والأحاديث الأخرى الدلالة على وجوب العناية بالرعية، وعلى وجوب العناية بنصحهم وتوجيههم إلى الخير، ودفع الشرِّ عنهم، قال تعالى: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:215]، وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ [النحل:90]، وقال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا [التغابن:16].

ويقول ﷺ: ما من عبدٍ يسترعيه الله رعيةً، يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيته إلَّا لم يدخل معهم الجنة، وفي لفظٍ: لم يحطهم بنصحه، فالواجب على الأمير والسلطان أن يعتني بالرعية، وأن يجتهد في أسباب السعادة لهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وتحكيم شرع الله فيهم؛ ولهذا يقول ﷺ: كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهل بيته ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والعبد راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيته، ألا فكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته.

فالواجب على الأمير وشيخ القبيلة والسلطان والملك وكل مَن له ولاية -الواجب عليه- أن يجتهد في النصح، وأن يعتني برعيته، وأن يحوطها بالنصح، وأن يبتعد عن غشِّها، يرجو ثواب الله، ويخشى عقاب الله. وفَّق الله الجميع.

3/654- وعن عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يقُولُ في بيتي هَذَا: اللَّهُمَّ مَنْ وَلي مِنْ أمْرِ أُمتي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارفُقْ بِهِ رواه مسلم.

4/655- وعن أَبي هريرةَ قَالَ: قالَ رَسُول اللَّه ﷺ: كَانَت بَنُو إسرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبياءُ، كُلَّما هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبيٌّ، وَإنَّهُ لا نَبِيَّ بَعدي، وسَيَكُونُ بَعدي خُلَفَاءُ فَيَكثُرُونَ، قالوا: يَا رسول اللَّه، فَما تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: أَوفُوا بِبَيعَةِ الأَوَّلِ فالأَوَّلِ، ثُمَّ أَعطُوهُم حَقَّهُم، وَاسأَلوا اللَّه الَّذِي لَكُم، فَإنَّ اللَّه سائِلُهم عمَّا استَرعاهُم متفقٌ عليه.

5/656- وعن عائِذ بن عمرو : أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُبيدِاللَّهِ بنِ زِيادٍ فَقَالَ لَهُ: أَيْ بُنَيَّ، إنِّي سَمِعتُ رسول اللَّه ﷺ يقول: إنَّ شَرَّ الرِّعاءِ الحُطَمَةُ، فإيَّاكَ أن تَكُونَ مِنْهُم. متفقٌ عليه.

6/657- وعن أَبي مريمَ الأَزدِيِّ : أَنه قَالَ لمعَاوِيةَ : سَمِعتُ رسول اللَّه ﷺ يقُولُ: مَنْ ولَّاهُ اللَّه شَيئًا مِن أُمورِ المُسلِمينَ فَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجتهِم وخَلَّتِهم وفَقْرِهم؛ احتَجَب اللَّهُ دُونَ حَاجَتِه وخَلَّتِهِ وفَقْرِهِ يومَ القِيامةِ، فَجعَل مُعَاوِيةُ رجُلًا عَلَى حَوَائجِ الناسِ. رواه أَبُو داودَ، والترمذي.

الشيخ: هذه الأحاديث الأربعة وما جاء في معناها كلها تدل على وجوب العناية بالرعية، وأن مَن له ولاية على جهةٍ من الجهات أو قبيلةٍ من القبائل أو شأنٍ من شؤون المسلمين؛ أن عليه أن يرعى ذلك حقَّ الرعاية، وأن ينصح في ذلك، سواء كان ملكًا أو أميرًا لقريةٍ أو مقاطعةٍ أو شيخ قبيلةٍ أو غير ذلك، الواجب عليه أن يتَّقي الله، وأن يُراقب الله فيمَن تحت يده، وأن يرفق بهم، وينظر في حوائجهم، ويرحم فقيرهم، ويُنصف مظلومهم، إلى غير ذلك.

تقول عائشةُ رضي الله عنها: يقول النبي ﷺ: اللهم مَن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به، اللهم مَن ولي من أمر أمتي شيئًا فشقَّ عليهم فاشقق عليه، هذا وعيد عظيم، فالواجب على كل مسؤولٍ سواء: مدير مصلحةٍ أو مدير شركةٍ أو أمير مقاطعةٍ أو أمير بلدٍ أو شيخ قبيلةٍ أو السلطان وما أشبه ذلك؛ كل واحدٍ عليه أن يتَّقي الله فيما ولي، وأن ينصح لله ولعباده، وأن يرفق بالرعية، وألا يشقَّ عليهم، هذا هو الواجب على الجميع؛ رجاء ما عند الله، وحذر عقوبته.

وتقدم قوله ﷺ: اللهم مَن ولي من أمر أمتي شيئًا فلم يحطهم بنصحه لم يدخل معهم الجنة، وفي اللفظ الآخر: ما من عبدٍ يسترعيه الله رعيةً يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيته إلَّا لم يدخل معهم الجنة، فالواجب الحذر من ظلم الرعية والتَّساهل في حقِّها.

وفي الحديث الآخر يقول ﷺ: إن شرَّ الرعاء الحطمة يعني: الذي يحطم الرعية ولا يُبالي، وفي اللفظ الآخر يقول عليه الصلاة والسلام: مَن ولي من أمر أمتي شيئًا فاحتجب عن حاجتهم وفقرهم احتجب الله عن حاجته وفقره يوم القيامة.

فينبغي للمؤمن الحذر، وأن يعتني بالرعية، ويعتني بمَن تحت يده بكل ما يستطيع من الرفق وقضاء الحوائج وإنصاف المظلوم وردّ الظالم، وغير هذا من وجوه الخير.

رزق الله الجميع التوفيق والهداية.

والنصيحة لولاة الأمور: بالدعوة لهم، كونه يدعو لهم في السرِّ والغيب، يدعو لهم بالهداية والتوفيق، وإذا كانت له وجاهة بالمكاتبة والنَّصيحة.

80- باب وجوب طاعة ولاة الأمور في غير معصيةٍ وتحريم طاعتهم في المعصية

قَالَ الله تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59].

1/662- وعن ابن عمر رضي اللَّهُ عنهما، عَن النَّبيِّ ﷺ قَالَ: عَلى المَرْءِ المُسْلِم السَّمْعُ والطَّاعَةُ فِيما أَحَبَّ وكَرِهَ، إِلَّا أنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَإذا أُمِر بِمَعْصِيَةٍ فَلا سَمْعَ وَلا طاعَةَ متفقٌ عَلَيْهِ.

2/663- وعنه قَالَ: كُنَّا إِذَا بايَعْنَا رسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلى السَّمْعِ والطَّاعةِ يقُولُ لَنَا: فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ متفقٌ عَلَيْهِ.

3/664- وعنهُ قالَ: سَمِعْتُ رسُولَ اللَّهِ ﷺ يقول: مَنْ خلَعَ يَدًا منْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّه يَوْم القيامَةِ ولا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ ماتَ وَلَيْس في عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتةً جَاهِليَّةً رواه مسلم.

وفي روايةٍ لَهُ: ومَنْ ماتَ وَهُوَ مُفَارِقٌ للْجَماعةِ، فَإنَّهُ يمُوت مِيتَةً جَاهِليَّةً.

"المِيتَةُ" بكسر الميم.

الشيخ: هذه الآية الكريمة مع الأحاديث كلها تدل على وجوب السمع والطاعة لولاة الأمور في المعروف؛ لأنَّ بذلك تستقيم الرعية، ويستقيم أمر الناس، ويُنصف المظلوم من الظالم، وتُؤدى الحقوق، أما مع الاختلاف مع ولاة الأمور فإنها تفسد الأحوال، ويختل المجتمع، وتسوده الفوضى؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، فأمر بطاعة أولي الأمر، وهم الأمراء والملوك، وهكذا مَن كان له أمر: كشيخ القبيلة في قبيلته، ومدير المدرسة، مدير الشركة، كلٌّ في جهته في المعروف.

جاءت السنةُ عن النبي ﷺ بتقييد هذا الأمر بالمعروف، الآية مطلقة، وجاءت السنة مقيدة: إنما الطاعة بالمعروف، لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق كما في حديث ابن عمر، يقول ﷺ: على المرء السمع والطاعة فيما أحبَّ وكره ما لم يُؤمر بمعصية الله، فإذا أُمر بمعصية الله فلا سمعَ ولا طاعةَ، ويقول ﷺ: مَن مات وليس في عنقه بيعة لقي الله ولا حجة له، ومَن مات ولم يتم له بيعة مات ميتةً جاهليةً يعني: ليس في عنقه بيعة مات ميتةً جاهليةً.

فالواجب على الرعية السمع والطاعة في المعروف، والحذر من الإخلال بالأمن؛ لأنَّ ذلك يُسبب شرًّا عظيمًا على المجتمع، وكذلك لا بدَّ من مراعاة الاستطاعة؛ كانوا إذا بايعوا النبيَّ يقول: فيما استطعتم، كما قال الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، فعليهم أن يُطيعوا ولاة الأمور فيما استطاعوا وفي طاعة الله، لا في المعصية، شرطان: الشرط الأول: أن يكون ذلك في المعروف، والشرط الثاني: أن يكون ذلك حسب الطاقة: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ. وفَّق الله الجميع.

س: الذين يسبّون الولاة؟

ج: ما ينبغي، لا، ينبغي الدعاء لهم بالتوفيق والهداية.

4/665- وعَن أنَسٍ قال: قال رسُولُ اللَّهِ ﷺ: اسْمَعُوا وأطِيعُوا، وإنِ اسْتُعْمِلَ علَيْكُمْ عبْدٌ حبشيٌّ كَأَنَّ رَأْسهُ زَبِيبَةٌ رواه البخاري.

5/666- وعن أَبي هريرة قَالَ: قالَ رسُولُ اللَّهِ ﷺ: عليْكَ السَّمْعُ وَالطَّاعةُ في عُسْرِكَ ويُسْرِكَ، وَمنْشَطِكَ ومَكْرهِكَ، وأَثَرَةٍ عَلَيْك رواهُ مسلم.

6/667- وعن عبدِاللَّهِ بن عَمرٍو رضي اللَّه عنهما قَالَ: كُنَّا مَع رسول اللَّهِ ﷺ في سَفَرٍ، فَنَزَلْنا منْزِلًا، فَمِنَّا مَنْ يُصلحُ خِباءَهُ، ومِنَّا مَنْ ينْتَضِلُ، وَمِنَّا مَنْ هُوَ في جَشَرِهِ، إذْ نادَى مُنَادي رسولِ اللَّهِ ﷺ: "الصَّلاة جامِعةٌ"، فاجْتَمعْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: إنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبيٌّ قَبْلي إلَّا كَانَ حَقًّا علَيْهِ أنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلى خَيرِ مَا يعْلَمُهُ لهُمْ، ويُنذِرَهُم شَرَّ مَا يعلَمُهُ لهُم، وإنَّ أُمَّتَكُمْ هذِهِ جُعِلَ عَافيتُها في أَوَّلِها، وسَيُصِيبُ آخِرَهَا بلاءٌ وأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وتجيءُ فِتَنٌ يُرقِّقُ بَعضُها بَعْضًا، وَتَجِيءُ الفِتْنَةُ فَيقُولُ المؤمِنُ: هذِهِ مُهْلِكَتي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ، وتجيءُ الفِتنَةُ فَيَقُولُ المُؤْمِنُ: هذِهِ هذِهِ، فَمَنْ أَحَبَّ أنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ ويُدْخَلَ الجنَّةَ فَلْتَأْتِهِ منيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، ولْيَأْتِ إِلَى الناسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤتَى إلَيْهِ، ومَنْ بَايع إمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يدِهِ وثمَرةَ قَلْبهِ فَليُطِعْهُ إنِ اسْتَطَاعَ، فَإنْ جَاءَ آخَرُ يُنازعُهُ فاضْربُوا عُنُقَ الآخَرِ رواهُ مسلم.

قَوْله: "ينْتَضِلُ" أيْ: يُسابِقُ بالرَّمْي بالنَّبْل والنُّشَّاب.

"والجَشَرُ" بفتح الجيم والشين المعجمة وبالراءِ: وهي الدَّوابُّ الَّتي تَرْعَى وتَبيتُ مَكانَها.

وَقَوْلُه: "يُرقِّقُ بعْضُهَا بَعضًا" أيْ: يُصيِّرُ بعضَها بَعْضًا رقِيقًا، أيْ: خَفِيفًا؛ لِعِظَمِ ما بعْدَهُ، فالثَّاني يُرقِّقُ الأَوَّلَ. وقيلَ: معناهُ: يسوق بَعْضُهَا إِلَى بعْضٍ بتَحْسينها وتَسْويلها. وقيلَ: يُشْبهُ بعضُها بَعْضًا.

الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة وما جاء في معناها قبلها وبعدها كلها تدل على وجوب السمع والطاعة، والله يقول جلَّ وعلا: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا [التغابن:16]، ويقول النبي ﷺ: اسمعوا وأطيعوا وإن تأمَّر عليكم عبدٌ حبشيٌّ كأن رأسه زبيبة، ويقول: على المرء السمع والطاعة فيما أحبَّ وكره، وفي عُسره ويُسره، وخطبهم عليه الصلاة والسلام ذات يومٍ فقال: ما بعث الله من نبيٍّ إلا كان حقًّا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، ويُنذرهم شرَّ ما يعلمه لهم، وإنَّ أمتكم هذه جُعلت عافيتها في أولها، وسيُصيب آخرها بلاءٌ وأمور تُنكرونها، فمَن أحبَّ أن يُزحزح عن النار ويُدخل الجنة فلتُدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأتِ إلى الناس الذي يُحب أن يُؤتى إليه يعني: يُعامل الناس كما يُحب أن يُعامَل، ينصح ويرفق ويتكلم بالكلام الطيب، ويتباعد عن الغلظة والشدة وسُوء الكلام.

ثم ذكر ما يجب للسلطان؛ وأنَّ مَن أعطى السلطان صفقةَ يمينه فليُطعه ما استطاع، هذا الواجب على الرعية: السمع والطاعة لولاة الأمور ما لم يُؤمروا بمعصية الله كما في الرواية الأخرى، أما إذا أُمروا بمعصية الله فلا سمعَ ولا طاعةَ، السمع والطاعة في المعروف، وبالسمع والطاعة يجمع الله الكلمة، ويسود الأمن، ويُنصف المظلوم، ويُردع الظالم، وتسير الأمور على خير وجهٍ، أما مع العصيان والمخالفة والاختلاف فإن الأمن يختل، والفتن تكثر، ويكثر الظلم والطغيان، ويقل الأمن، ولا يُنصف المظلوم، ولا يُردع الظالم.

فالواجب على جميع المسلمين التعاون على البرِّ والتقوى، والتواصي بالحقِّ والسمع والطاعة لولاة الأمر في المعروف، مع النصيحة والدعاء لهم بظهر الغيب. وفَّق الله الجميع.

س: .............؟

ج: إذا كان ما بينك وبينه شرط، أما إذا كنت سمحت له بالدش فعليك إثمه.

7/668- وعن أَبي هُنَيْدةَ وائِلِ بن حُجْرٍ قالَ: سأَلَ سَلَمةُ بنُ يزيدَ الجُعْفيُّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فقالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أرَأَيْتَ إنْ قَامَتْ علَيْنَا أُمراءُ يَسأَلُونَا حقَّهُمْ، ويَمْنَعُونَا حقَّنا، فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَأَعْرضَ عنه، ثُمَّ سألَهُ، فَقَال رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اسْمَعُوا وأطِيعُوا، فَإنَّما علَيْهِمْ ما حُمِّلُوا، وعلَيْكُم مَا حُمِّلْتُمْ رواهُ مسلم.

8/669- وَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بنِ مسْعُودٍ قَالَ: قالَ رسُولُ اللَّه ﷺ: إنَّهَا ستَكُونُ بعْدِي أَثَرَةٌ وأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، قَالُوا: يَا رسُولَ اللَّهِ، كَيفَ تَأْمُرُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَّا ذلكَ؟ قَالَ: تُؤَدُّونَ الحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ، وتَسْأَلُونَ اللَّه الذي لَكُمْ متفقٌ عليه.

9/670- وعن أبي هريرة قَالَ: قَالَ رسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ أَطَاعَني فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه، وَمَنْ عَصَاني فَقَدْ عَصَى اللَّه، وَمَنْ يُطِعِ الأمِيرَ فَقَدْ أطَاعَني، ومَنْ يَعْصِ الأمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي متفقٌ عَلَيْهِ.

الشيخ: هذه الأحاديث كالتي قبلها في وجوب السمع والطاعة لولاة الأمور، وأن الواجب على الرعية السمع والطاعة وإن ظُلموا، وأن تُعدي عليهم، عليهم السمع والطاعة في المعروف مثلما قال ﷺ: اسمعوا وأطيعوا وإن تأمَّر عليكم عبدٌ.

فالواجب على ولاة الأمور أن يعدلوا، وأن يتَّقوا الله، وأن يُنصفوا الرعية، وأن يحرصوا على مصالحهم.

وعلى الرعية أن يسمعوا ويُطيعوا، وألا يُنازعوا الأمر أهله؛ لأنَّ في المنازعة والفتن اختلال الأمن، وعدم نصر المظلوم، وإعانة الظالم على ظلمه، فالواجب السمع والطاعة لولاة الأمور في المعروف، والحذر من نزع اليد من الطاعة: فإنما عليكم ما حُمِّلتُم، وعليهم ما حُمِّلوا. نسأل الله للجميع الهداية.