28 من حديث (نهى رسول الله ﷺ عن اختناث الأسقية..)

112- باب كراهة الشرب من فم القربة ونحوها وبيان أنه كراهة تنزيه لا تحريم

1/761- عن أَبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ قَالَ: نَهَى رسولُ اللَّه ﷺ عنِ اخْتِنَاثِ الأسْقِيَةِ. يعني: أَنْ تُكْسَرَ أَفْوَاهُها، وَيُشْرَب مِنْهَا. متفقٌ عَلَيْهِ.

2/762- وعن أَبي هريرة قَالَ: نَهَى رَسُول اللَّه ﷺ أَن يُشْرَبَ مِنْ فِي السِّقاءِ أَو القِرْبةِ. متفقٌ عَلَيْهِ.

3/763- وعن أُمِّ ثابِتٍ كَبْشَةَ بِنْتِ ثَابتٍ -أُخْتِ حَسَّان بْنِ ثابت رضي اللَّه عنه وعنها- قالت: دخَل علَيَّ رسولُ اللَّه ﷺ، فَشَرِبَ مِن فِي قِرْبةٍ مُعَلَّقةٍ قَائمًا، فَقُمْتُ إِلى فِيهَا فَقَطَعْتُهُ. رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.

أما بعد: فهذه الأحاديث الثلاثة فيها الحثّ على عدم الشرب من في السقاء والقربة ونحوهما إلا عند الحاجة؛ لأنَّ ذلك قد يُفضي إلى أن يشرب منها وربما كان في الماء شيء يُؤذيه، فالسنة أن يُفرغ من القربة والسقاء ونحو ذلك في الإناء ويشرب؛ حتى يكون على بصيرةٍ بما يشرب، لكن إذا كانت هناك حاجة: كأن لا يجد إناءً أو نحو ذلك فلا بأس أن يشرب من في السقاء، كما في حديث كبشة أم ثابت الأنصارية رضي الله عنها، وأن النبي ﷺ دخل عليها ذات يومٍ ..... القربة وشرب قائمًا عليه الصلاة والسلام، ولعلَّ ذلك لأسباب عدم وجود الإناء، أو ليعلم الحاضرون وغيرهم أنه يجوز عند الحاجة، لكن تركه أولى، لكن إذا دعت الحاجةُ إليه فلا بأس، وإلا فالسنة صبّه، وأن يصبّ القربة أو السقاء في الإناء ثم يشرب، واختناث الأسقية معناه: كسر أفواهها .....

وفي حديث كبشة أيضًا فائدة، وهي أنه لا بأس بالشرب قائمًا، وإن كان الشرب جالسًا أفضل وأولى، لكن يجوز الشرب قائمًا، ولا سيما إذا دعت الحاجةُ إلى ذلك؛ لعجلةٍ أو لكون الأرض غير مناسبةٍ للجلوس فيها، أو لأسبابٍ أخرى، وقد ثبت أنه ﷺ شرب قائمًا من زمزم، وثبت من حديث عليٍّ أنه شرب قائمًا وقاعدًا، فالنهي عن الشرب قائمًا نهي تنزيه وكراهة، والسنة القعود، إلا عند الحاجة، ولا مانع أن يشرب قائمًا لعجلةٍ، أو كون الأرض غير مناسبةٍ للجلوس فيها، أو لأسبابٍ اقتضت ذلك، وهذا كله يتعلق بالآداب الشرعية في الشرب، وقد تقدمت أحاديث متعددة في الآداب الشرعية في الأكل والشرب جميعًا. وفَّق الله الجميع.

113- باب كراهة النَّفخ في الشَّراب

1/764- عن أَبي سعيدٍ الخدريِّ : أَنَّ النبيَّ ﷺ نَهَى عَنِ النَّفخِ في الشَّرابِ، فَقَالَ رَجُلٌ: القذَاةُ أَراها في الإِناءِ؟ فقال: أَهْرِقْهَا، قال: فإِني لا أُرْوَى مِنْ نَفَسٍ وَاحِدٍ؟ قَالَ: فَأَبِنِ القَدَحَ إِذًا عَنْ فِيكَ رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

2/765- وعن ابن عباسٍ رضي اللَّه عنهما: أن النَّبيَّ ﷺ نَهَى أَن يُتنَفَّسَ في الإِنَاءِ، أَوْ يُنْفَخَ فِيهِ. رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

114- باب بيان جواز الشرب قائِمًا وبيان أنَّ الأكمل والأفضل الشرب قاعدًا فِيهِ حديث كبشة السابق.

1/766- وعن ابن عباسٍ رضي اللَّه عنهما قَالَ: سَقَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ مِنْ زَمْزَمَ، فَشَرِبَ وَهُوَ قَائمٌ. متفقٌ عَلَيْهِ.

2/767- وعن النَّزَّال بنِ سبْرَةَ قَالَ: أَتَى عَلِيٌّ بَابَ الرَّحْبَةِ فَشَرِب قَائمًا، وقالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسولَ اللَّهِ ﷺ فَعَلَ كما رَأَيْتُمُوني فَعَلْتُ. رواه البخاري.

الشيخ: هذه الأحاديث الثابتة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام فيها الدلالة على أحكام: منها شرعية فصل الإناء عن الفم عند التنفس، وكراهة التنفس في الإناء، وأن السنة للمؤمن إذا أراد التنفس أن يفصل القدح عن فيه كما أمر النبي عليه الصلاة والسلام، وكان يتنفس ثلاثًا عليه الصلاة والسلام في الشراب، ويفصل القدح عن فيه، هكذا ينبغي ألا يتنفس في الإناء، وألا يُنفخ فيه، ولكن يفصله عن فمه ويتنفس، والسنة أن يكون ذلك ثلاثًا، وإن شرب بنفسٍ واحدٍ أو نفسين فلا بأس، لكن ترك ذلك أولى؛ لأن ذلك يُشبه شرب البهائم عبًّا.

وفي الحديث الدلالة على أنه ينبغي للمؤمن أن يتحرى ما هو الأفضل في الشرب، فيشرب .....، ويكون قاعدًا، هذا هو الأفضل، وإن شرب قائمًا فلا حرج، وقد نهى النبي عن الشرب قائمًا، وفعل ذلك في زمزم وفي مواضع أخرى؛ ليدل الأمة على أن النهي ليس للتحريم، ولكنه للكراهة، فإذا دعت الحاجةُ إلى الشرب قائمًا فلا حرج، والشرب قاعدًا هو السنة، وهو أهنأ وأمرأ، فشرب قائمًا في زمزم عليه الصلاة والسلام، وأخبر عليٌّ : أن النبي شرب قائمًا، وهكذا كبشة بنت ثابت الأنصارية -تقدم حديثها- أنه دخل عليها ﷺ وشرب من قربتها وهو قائم عليه الصلاة والسلام، فدلَّ ذلك على أن النهي ليس للتحريم، بل للكراهة، وترك الأولى، فالشرب قائمًا جائز، وكونه قاعدًا أهنأ وأمرأ، أفضل وأولى، وكونه عن ثلاثة أنفاسٍ أفضل، مع فصل الإناء عن فمه، هكذا السنة في الشراب، مع كونه يشرب بيمينه، ولا ينفخ في الإناء. وفَّق الله الجميع.

116- باب جواز الشرب من جميع الأواني الطاهرة غير الذهب والفضة، وجواز الكرع؛ وَهُوَ الشرب بالفم من النهر وغيره بغير إناءٍ ولا يد، وتحريم استعمال إناء الذهب والفضة في الشرب والأكل والطَّهارة وسائر وجوه الاستعمال.

1/773- عنْ أَنسٍ قَالَ: حَضَرَتِ الصَّلاةُ فَقَامَ مَنْ كانَ قَريب الدَّارِ إِلى أَهْلِهِ، وبقِي قَوْمٌ، فَأَتَى رسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمِخْضَبٍ مِن حِجَارَةٍ، فَصَغُرَ المِخْضَبُ أَن يبْسُطَ فِيهِ كَفَّهُ، فَتَوَضَّأَ القَوْمُ كُلّهُمْ، قَالُوا: كَم كُنْتُمْ؟ قَالَ: ثَمَانِين وزِيادة. متفقٌ عليه، هذه رواية البخاري.

وفي روايةٍ لَهُ ولمسلم: أَنَّ النبيَّ ﷺ دَعا بِإِناءٍ مِنْ ماءٍ، فأُتِيَ بِقَدحٍ رَحْرَاحٍ فِيهِ شَيءٌ مِنْ مَاءٍ، فَوَضَعَ أَصَابِعَهُ فِيهِ، قَالَ أَنس: فَجعَلْتُ أَنْظُرُ إِلى الماءِ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصابِعِه، فَحزَرْتُ مَنْ تَوَضَّأَ مَا بَيْنَ السَّبْعِينِ إِلى الثَّمَانِينَ.

1/774- وعن عبداللَّه بنِ زيدٍ قَالَ: أَتَانا النَّبِيُّ ﷺ، فَأَخْرَجْنَا لَهُ مَاءً في تَوْرٍ مِنْ صُفرٍ فَتَوَضَّأَ. رواه البخاري.

2/775- وعن جابرٍ : أَنَّ رسُولَ اللَّهِ ﷺ دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصارِ ومَعهُ صاحبٌ لَهُ، فقالَ رسُولُ اللَّه ﷺ: إِنْ كَانَ عِنْدَكَ مَاءٌ بَاتَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ في شَنَّةٍ وَإلَّا كَرعْنا رواه البخاري.

الشيخ: هذه الأحاديث وما يأتي بعدها كلها تتعلق بجواز الشرب والأكل في جميع الأواني: من خشبٍ، من حجارةٍ، من حديدٍ، من نحاسٍ -وهو الصفر- وغير ذلك من الأنواع والأجناس كالجلد الطاهر ونحو ذلك، وتحريم الأكل والشرب وسائر وجوه الاستعمال في أواني الذهب والفضة .....

ومن ذلك حديث أنسٍ : أن الناس حضرهم الوضوء عند النبي ﷺ، فمَن كان أهله قريبًا قام إليهم للوضوء، وبقي أناس، فجيء للنبي ﷺ بقدحٍ من حجارةٍ ضاق عن يده عليه الصلاة والسلام، فجعل أصابعه فيه، وفيه ماء قليل، وجعل ينبع الماء من بين أصابعه عليه الصلاة والسلام حتى توضَّؤوا عن آخرهم، كانوا سبعين أو ثمانين، هذا يدل على معجزةٍ من معجزات النبي ﷺ: نبع الماء من بين أصابعه، وقد وقع له غير مرة في السفر والحضر، وهو من الدلائل والمعجزات الدالة على أنه رسول الله حقًّا عليه الصلاة والسلام، والدالة على أن الله على كل شيء قدير، وأنه فعال لما يريد : إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].

ومن جنسه الحجر الذي كان مع موسى، وكان ينبع منه الماء ثنتي عشرة عينًا لبني إسرائيل .....، آيات الله كثيرة، وهذه المعجزات العظيمة للرسول ﷺ من جملة المعجزات الدالة على صدقه: كانشقاق القمر، ونزول البركة في الطعام والشراب، ونبوع الماء من بين أصابعه، ورجوع الماء في بئر الحديبية، وفي بئرٍ في تبوك، إلى غير ذلك مما وقع له عليه الصلاة والسلام.

وفي الحديث الثاني -حديث عبدالله بن زيد- أنهم توضَّؤوا مع النبي ﷺ، أخرجوا له ماءً في تورٍ من صفر، التور يعني: الإناء من صفرٍ، يعني: أصفر يُشبه الذهب وليس بالذهب، هذا يدل على جواز استعمال الأواني الصفراء، وأواني الحديد والنحاس والحجارة، لا حرج في ذلك.

كذلك حديث جابر: أن النبي ﷺ دخل على بعض الأنصار وقال: إن كان عندكم ماء بات في شنة يعني: فاسقنا وإلا كرعنا، فدل على جواز الكرع من النهار أو من الساقي ونحوه يشرب منه، لا حرج في ذلك، وإذا أخذ بيديه وشرب، أو في إناء وشرب، كل ذلك جائز، وقد تدعو الحاجة إلى الكرع من كون اليدين غير صالحتين للشرب؛ فيها من وسخٍ أو غير ذلك.

فالحاصل أن الشرب في الإناء باليدين أفضل كما هو العادة كما فعل النبي ﷺ، وإذا دعت الحاجةُ إلى الكرع فلا حرج في ذلك، وهو الشرب من النهر، أو من الساقي، أو من ..... ونحو ذلك، تأتي بقية الأحاديث إن شاء الله فيما ذكره المؤلف.

وفَّق الله الجميع، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمدٍ.

3/776- وعن حذيفة قالَ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهَانَا عَن الحَرير والدِّيبَاجِ، والشُّرْبِ في آنِيةِ الذَّهَب والفِضَّةِ، وقال: هِيَ لهُمْ في الدُّنْيا، وهِيَ لَكُمْ في الآخِرَةِ متَّفقٌ عليه.

4/777- وعن أُمِّ سلمة رضي اللَّه عنها: أَنَّ رسُولَ اللَّه ﷺ قَالَ: الَّذِي يَشْرَبُ في آنِيَةِ الفِضَّةِ إِنَّما يُجَرْجِرُ في بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ متفقٌ عَلَيْهِ.

وفي روايةٍ لمسلم: إِنَّ الَّذِي يَأْكُلُ أَوْ يَشْرَبُ في آنِيَةِ الفِضَّةِ والذَّهَبِ.

وفي روايةٍ لَه: مَنْ شَرِبَ في إِناءٍ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فضةٍ فَإِنَّما يُجَرْجِرُ في بَطْنِهِ نَارًا مِنْ جَهَنَّمَ.

الشيخ: هذه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام تدل على تحريم أواني الذهب والفضة، والشرب فيها، والأكل، والطهارة، وسائر وجوه الاستعمال.

يقول عليه الصلاة والسلام: لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها؛ فإنها لهم في الدنيا يعني: للكفرة، ولكم في الآخرة، والله جلَّ وعلا ادَّخرها للمؤمنين في دار الكرامة، في دار النعيم، وحرَّم عليهم استعمالها في هذه الدار؛ دار الابتلاء والامتحان، ودار العمل، ودار الإعداد للآخرة، فهي لا تجوز للمسلمين في هذه الدار، لا رجال، ولا نساء، ليس لأحدٍ أن يستعمل أواني الذهب والفضة، ومن ذلك الملاعق والأكواب التي يصبّ فيها الشاي والقهوة، وكل ما يُستعمل في أكلٍ وشربٍ أو شبه ذلك، لا تتخذ أواني للزينة، أو في المجالس، الأباريق أو غير ذلك، كل ذلك لا يجوز، أو قلال، كل ذلك لا يجوز؛ لعموم النهي.

ومن ذلك حديث أم سلمة رضي الله عنها: يقول عليه الصلاة والسلام: الذي يشرب في إناء الذهب والفضة إنما يُجرجر في بطنه نار جهنم، وفي حديث ابن عمر يقول ﷺ: الذي يشرب في إناء الذهب والفضة -أو في إناء فيه شيء من ذلك- فإنما يُجرجر في بطنه نار جهنم، هذا يُبين لنا تحريم هذه الأشياء للرجال والنساء، بخلاف الحلية من الذهب والفضة فإنه مباح للنساء: كالأسورة والخواتم والقلائد ونحو ذلك، أما الأواني فلا، تحرم على الجميع، وهكذا الحرير مباح للنساء دون الرجال، وأما الأواني من الذهب والفضة فمحرمة على الجميع؛ على الرجال والنساء جميعًا.

وقال عليه الصلاة والسلام: إنها لهم في الدنيا يعني: الكفرة، ولكم في الآخرة، استثنى أهلُ العلم من ذلك الضبّة اليسيرة من الفضة في جبر القدح إذا شعب، قالوا: يُستثنى من ذلك؛ لأنه ثبت عن النبي ﷺ لما انشعب قدحه جبر بسلسلةٍ من فضةٍ كما قال أنس لما انشعب جبره بسلسلةٍ من فضةٍ، هذا يدل على أنَّ مثل هذا لا بأس به، الشيء اليسير من الفضة خاصةً إذا وقع خرق في القدح أو كسر .....؛ لأنَّ الفضة أسهل من الذهب وأيسر، وأما ما يتساهل فيه الناس اليوم من اتّخاذ بعض الملاعق أو الأكواب أو الفناجين أو غير ذلك من الذهب أو الفضة، أو تمويهها بشيءٍ من ذلك، هذا لا يجوز؛ لأنه ..... داخل فيه النهي.

وفَّق الله الجميع، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.

كتَاب اللِّبَاس

117- باب استحباب الثوب الأبيض وجواز الأحمر والأخضر والأصفر والأسود وجوازه من قطنٍ وكتانٍ وشعرٍ وصوفٍ وغيرها إلَّا الحرير

قَالَ الله تَعَالَى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26].

وقال تَعَالَى: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ [النحل:81].

1/778- وعن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ اللَّه عنْهُما: أنَّ رسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ البَيَاضَ، فَإِنَّهَا مِن خَيْرِ ثِيابِكُمْ، وَكَفِّنُوا فِيها مَوْتَاكُمْ رواهُ أَبُو داود، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

2/779- وعن سَمُرَةَ قال: قالَ رسُولُ اللَّهِ ﷺ: الْبَسُوا البَيَاضَ، فَإِنَّها أَطْهَرُ وأَطْيَبُ، وكَفِّنُوا فِيها مَوْتَاكُمْ رواهُ النَّسائي، والحاكم وقال: حديث صحيح.

3/780- وعن البراءِ قَالَ: كانَ رسولُ اللَّهِ ﷺ مَرْبُوعًا، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ في حُلَّةٍ حَمْراءَ مَا رأَيْتُ شَيْئًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ. متَّفقٌ عَلَيْهِ.

الشيخ: هذه الأحاديث فيما يتعلق باللباس، اللباس يجوز من سائر أنواع الألبسة: من القطن والشعر والصوف والوبر والنبات، ومن سائر أنواع ما يتّخذ من اللباس، ما عدا الحرير في حقِّ الرجال، أما المرأة فكل شيء يصلح لها حتى الحرير؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ، السوآت: العورات، وَرِيشًا يعني: لباسًا يكون ريشًا، يكون جمالًا، قُرئ: ريشًا، وقُرئ: رياشًا، يعني: جمالًا، والله خلق أنواع الألبسة، وجعل فيها الشيء الذي يستر العورة وليس فيه جمال، والشيء الذي يستر العورة مع الجمال، والله أباح هذا وهذا: الملابس الجميلة، والملابس غير الجميلة التي تستر العورة.

وفي الحديث الصحيح: إنَّ الله جميل يُحب الجمال، والله يقول سبحانه: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، فالملابس الجميلة مطلوبة ومشروعة، وهي مختلفة متنوعة، فإذا لبس ما يسَّر الله له من دون تكبرٍ ولا إسبالٍ، ولا من اكتسابٍ محرمٍ؛ فذلك مباح له، سواء كان أحمر أو أسود أو أخضر أو أبيض أو غير ذلك، لكن حديثي سمرة وأبي هريرة يدلان على أن الأفضل هو البياض، البياض أفضل، لبس المؤمن، وكفن الموتى، هذا هو الأفضل، وإن لبس غير ذلك: كالأسود والأخضر وغيره فلا بأس، وقد ثبت عنه ﷺ أنه لبس أنواعًا: لبس الأسود، ولبس الأخضر، ولبس الأحمر، كل هذا ثبت عنه عليه الصلاة والسلام، فالأمر في هذا واسع والحمد لله، إلا الحرير فإنه ممنوع في حقِّ الرجال.

كذلك حديث البراء مثلما تقدم: أنه رأى النبي ﷺ في حلَّة حمراء، ما رأى أحدًا أحسن منه عليه الصلاة والسلام، وقد لبس الحلة الحمراء، وقد لبس عند قدومه مكة عام الفتح عمامة سوداء، وطاف في بعض الأطوفة ببرد أخضر عليه الصلاة والسلام، وهذا يدل على أنه ﷺ أجاز للأمة هذه الأنواع، والقرآن أطلق ذلك قال: لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ [الأعراف:26]، ولم يستثنِ شيئًا؛ لا أحمر ولا غيره، كله جائز، بعضه لستر السوأة، وبعضه للتَّجمل كما يُشرع في الأعياد والجمع وغير ذلك، لكن الذي يُواري العورة لا بدَّ أن يكون ساترًا صفيقًا يستر العورة. وفَّق الله الجميع.

4/781- وعن أبي جُحَيْفَةَ وهْبِ بنِ عبدِاللَّهِ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ بمَكَّةَ وَهُوَ بِالأَبْطَحِ في قُبَّةٍ لَهُ حمْراءَ مِنْ أَدَمٍ، فَخَرَجَ بِلالٌ بِوَضوئِهِ، فَمِنْ نَاضِحٍ ونَائِلٍ، فَخَرَجَ النبيُّ ﷺ وعَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلى بَيَاضِ ساقَيْهِ، فَتَوضَّأَ وَأَذَّنَ بِلالٌ، فَجَعَلْتُ أَتَتبَّعُ فَاهُ ههُنَا وههُنَا، يقولُ يَمِينًا وشِمَالًا: حَيَّ عَلى الصَّلاةِ، حيَّ عَلَى الفَلَاحِ، ثُمَّ رُكِزَتْ لَهُ عَنَزَةٌ، فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى، يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ الكَلْبُ وَالحِمَارُ لَا يُمْنَعُ. متَّفقٌ عَلَيْهِ.

5/782- وعن أبي رِمْثة رفاعَةَ التَّميْمِيِّ قَالَ: رأَيتُ رسُولَ اللَّهِ ﷺ وعلَيْه ثوبانِ أَخْضَرانِ. رواهُ أَبو داود والترمذي بإِسْنَادٍ صحيحٍ.

6/783- وعن جابرٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ دَخَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وعَلَيْهِ عِمامةٌ سَوْداءُ. رواهُ مسلم.

7/784- وعن أَبي سعيدٍ عمرو بن حُرَيْثٍ قَالَ: كأَنِّي أَنظر إِلى رسولِ اللَّه ﷺ وعَليْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ قَدْ أَرْخَى طَرَفَيها بَيْنَ كتفيْهِ. رواه مسلم.

وفي روايةٍ لَهُ: أَن رسول اللَّه ﷺ خَطَبَ النَّاسَ وعَلَيْهِ عِمَامَة سَودَاءُ.

الشيخ: هذه الأحاديث ..... بالأبطح عليه الصلاة والسلام وعليه حلة حمراء، وكانوا قد ضربوا له خيمة أدم حمراء، من أدم يعني: من جلدٍ أحمر، وخرج بلال بالوضوء، وجعل الناس يأخذون من وضوئه عليه الصلاة والسلام؛ لما في وضوئه من البركة عليه الصلاة والسلام، ثم أذَّن بلال، قال: فجعلتُ أتتبع فاه هاهنا وهاهنا، يقول يمينًا وشمالًا: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، هذا يدل على أن المؤمن يلتفت عن يمينه وشماله وقت الحيعلة حتى يبلغ الجهات التي عن يمينه والجهات التي عن شماله، عن يمينه: حي على الصلاة، حي على الصلاة، وعن شماله: حي على الفلاح، حي على الفلاح، والآن لما وجدت هذه المكبرات فما بقيت حاجة للالتفات، وإذا تيسر الالتفات من دون أن يُخلَّ بالأذان بالمكبر فحسن، لكن ما دام لا يحتاج إليه وقد يُخلّ بالأذان فإنه يعمد إلى المكبر ويُؤذن ويحصل المقصود؛ لأنَّ الحكمة من الالتفات يمينًا وشمالًا: إسماع الجهات التي عن يمينه وعن شماله، والمكبر يُسمع الجميع.

وفيه من الفوائد: أنه صلَّى إلى علمٍ، وأن الإمام يُصلي إلى سترةٍ في الصحراء، أو إلى جدارٍ، أو إلى عمودٍ، أو إلى كرسيٍّ حسبما يتيسر، قال: ويمرّ من ورائها الكلب والحمار فلا يُمنع، هذا يدل على أنه إذا مرَّ من وراء السترة كلبٌ أو حمارٌ أو امرأة أو غير ذلك لا يضرّ المصلي، إنما يضرّه لو كان بينه وبين السترة؛ فإنه يقطع صلاة المرء المسلم إذا مرَّ بين يديه أو بينه وبين السترة حمار أو امرأة أو كلب أسود، هذه الثلاث تقطع الصلاة وتُبطلها، وأما غير ذلك فيُمنع من المرور: كالبعير والغنم والرجل والصبي، لكن لا يقطع، لو مرَّ وغلب لا يقطع، لكن يُمنع ولا يشوش، النبي أمر بدفع المارّ بين يدي المصلي مطلقًا.

وفي حديث أبي رمثة الدلالة على أنه ﷺ كان يلبس لباسًا أخضر في بعض الأحيان، قال: "وعليه ثوبان أخضران"، ثوبان يعني: إزار ورداء أخضران، وجاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه طاف أيضًا في بعض الأطوفة ببردٍ أخضر؛ ليعلم الناس جوازه، ليعلم الناس أنه لا حرج في ذلك، وأن البياض ليس بلازمٍ، هكذا دخل مكة وعليه عمامة سوداء، يدل على أنه لا بأس بلبس السواد: جبة سوداء، بشت أسود، عمامة سوداء، كل هذا لا بأس به، جميع الألوان كلها جائزة، وأفضلها البياض، لكن الأحمر وشديد الحمرة المفدم -شديد الحمرة- كره بعضُ أهل العلم لبسه للرجل، إلا إذا كان فيه خلط: كخطوط سود أو بيض أو صفر أو ..... ونحو ذلك، هذا إذا كان مفدمًا -شديد الحمرة- ولكن ما ورد عنه ﷺ في الحلة الحمراء يدل على التسامح في ذلك، وأن ما ورد من البيان في المفدم -وهو شديد الحمرة- على سبيل الكراهة وترك الأولى.

وفيه من الفوائد: أنه ﷺ كان مُشمرًا، ما كان يسبل ثيابه: "وكان ينظر إلى بياض ساقيه" يعني: مُشمرًا، كان يُشمر ولا يُرخي ثيابه إلى الكعبين، هذا هو السنة؛ أن تكون الثياب بين الكعبين ونصف الساق .....، هذا هو الذي كان يفعله عليه الصلاة والسلام، قال: "وكأني أنظر إلى بياض ساقيه" عليه الصلاة والسلام، بخلاف ما يفعله كثيرٌ من الناس الآن من إرخاء الثياب، إرخاء الملابس أو سحبها، كل هذا لا يجوز، فالحدّ هو الكعب، فلا يجوز النزول عن ذلك في حقِّ الرجل، أما المرأة فلا بأس أن تُرخي ثيابها؛ لأنها عورة.

وفَّق الله الجميع، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.

8/785- وعن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: كُفِّنَ رسولُ اللَّه ﷺ في ثلاثةِ أَثْوَابٍ بيضٍ سَحُوليَّةٍ مِنْ كُرْسُفٍ، لَيْسَ فيهَا قَمِيصٌ وَلا عِمامَةٌ. متفقٌ عَلَيْهِ.

9/786- وعنها قالت: خَرَجَ رسولُ اللَّه ﷺ ذات غَداةٍ وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ منْ شَعْرٍ أَسود. رواه مسلم.

10/787- وعن المُغِيرةِ بن شُعْبَةَ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رسول اللَّه ﷺ ذاتَ ليلَةٍ في مسيرٍ، فَقَالَ لي: أَمعَكَ مَاء؟ قلتُ: نَعَمْ، فَنَزَلَ عَنْ راحِلتِهِ فَمَشى حَتَّى توَارَى في سَوادِ اللَّيْلِ، ثُمَّ جاءَ فَأَفْرَغْتُ علَيْهِ مِنَ الإِدَاوَةِ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ، وَعَلَيهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُخْرِجَ ذِراعَيْهِ مِنْهَا حَتَّى أَخْرَجَهُمَا مِنْ أَسْفَلِ الجُبَّةِ، فَغَسَلَ ذِرَاعيْهِ، وَمَسَحَ برأْسِه، ثُمَّ أَهْوَيْتُ لأنزعَ خُفَّيْهِ فَقَالَ: دَعْهمَا، فَإِني أَدْخَلْتُهُما طَاهِرَتَينِ وَمَسَحَ عَلَيْهِما. متفقٌ عَلَيْهِ.

وفي روايةٍ: وعَلَيْهِ جُبَّةٌ شامِيَّةٌ ضَيقَةُ الْكُمَّيْنِ.

وفي روايةٍ: أَنَّ هذِه القضيةَ كَانَتْ في غَزْوَةِ تَبُوكَ.

الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كالتي قبلها، فيها الدلالة على أنه لا حرج في أنواع اللباس: من أخضر وأسود وأبيض وغير ذلك، وأفضلها الأبيض كما تقدم؛ لقوله ﷺ: البسوا من ثيابكم البياض؛ فإنها أطيب وأطهر، وفي اللفظ الآخر: فإنها من خير ثيابكم، وكفِّنوا فيها موتاكم، فالأبيض أفضل لبسًا وكفنًا.

حديث عائشة رضي الله عنها: أنه ﷺ كُفِّن في ثلاثة أثوابٍ بيضٍ سحوليةٍ من كرسفٍ، من كرسف يعني: من قطنٍ، ليس فيها قميص ولا عمامة، هذا هو الأفضل؛ تكفين الميت الرجل بثلاث أثوابٍ، أو ثلاث قطعٍ، تُبسط واحدة فوق واحدةٍ، ثم يُوضع عليها، ثم تلف الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة، وتُربط أعلاها وأسفلها وأوسطها، وتُحلّ الربط في القبر، إذا وُضع في لحده حُلَّت، وإن كُفِّن في أسود أو في أخضر أو في أصفر فلا بأس بذلك، لكن البياض أفضل كما تقدم.

وفي حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي ﷺ كان عليه مرط من شعر أسود، والمرط: .....، هذا فيه جواز ارتداء البرد والرداء من الشعر الأسود، ولا بأس أن يكون ملبس الإنسان من شعر أسود، كما يجوز من غير ذلك، تقدم أنه ﷺ دخل عام الفتح وعليه عمامة سوداء، فدلَّ ذلك على أنه لا بأس بلبس الأسود، ولا حرج في ذلك، وهكذا الأخضر كما في الحديث السابق: وكان عليه بردان أخضران عليه الصلاة والسلام، وطاف في بردٍ أخضر، دلَّ على الجواز، وأنه ﷺ يُنوِّع هذه الأمور حتى يعلم الناس جوازها، وأنه لا حرج في هذه الألبسة، وأنه لا حرج في الألوان، إلا أنه لا يجوز الحرير، يجب الحذر من الحرير مطلقًا في حقِّ الرجل، أما ما سوى الحرير من أنواع اللباس من قطنٍ أو من صوفٍ أو من وبرٍ أو من شعرٍ أو من غير ذلك كالكتان ونحوه؛ كل ذلك جائز، وفي حقِّ المرأة الجميع حتى الحرير للمرأة؛ لأنها أوسع، مطلوب منها الزينة لزوجها، حتى الحرير يُباح لها، بخلاف الرجل.

وفي حديث المغيرة بن شعبة الدلالة على أنه ﷺ كان يلبس ما يرد من لباس الكفرة؛ كانت عليه جُبَّة شامية في غزوة تبوك، وكانت تأتيه ألبسة من اليمن حال كونها كافرة، قبل إسلام أهل اليمن تأتي منهم برود مخططة فيها الحمر، وفيها السود، ويلبسها المسلمون، فدلَّ ذلك على أنه لا بأس أن يلبس المسلمون ما يرد من الكفرة من أنواع اللباس: كالجبب والأردية وغير ذلك من أنواع اللباس، الأصل الطهارة؛ ولهذا كانت عليه جبَّة شامية عليه الصلاة والسلام ضيقة الكمّين، فلما أراد أن يغسل ذراعيه ضاقت، فأخرج ذراعيه من أسفل وغسلهما عليه الصلاة والسلام.

وفيه أنه مسح على الخفَّين، كان عليه خفَّان، فلما توضَّأ ومسح رأسه وأراد المغيرةُ أن ينزع الخفَّين قال: دعهما، فإني أدخلتُهما طاهرتين، ومسح عليهما، فدلَّ ذلك على أن المسلم إذا لبس الخفَّين ..... سواء كان من جلدٍ، أو من جوارب، أو من قطنٍ، أو غير ذلك، إذا لبسهما على طهارةٍ فإنه يمسح عليهما يومًا وليلةً في حقِّ المقيم، وثلاثة أيام بلياليها في حقِّ المسافر، إذا كانت ملبوسةً على طهارةٍ، وهي ساترة للقدمين مع الكعبين ..... يمسح المقيم يومًا وليلةً، والمسافر ثلاثة أيام بلياليها، وهذا من تيسير الله جلَّ وعلا، ومن تسهيله لعباده ورحمته جلَّ وعلا؛ لأنَّ الإنسان قد يحتاج للخفين، للبرد، أو لغير ذلك، فله أن يمسح عليهما، بخلاف النَّعلين فإنه لا يمسح عليهما، لا بدَّ أن يغسل الرِّجْلين؛ لأنها مكشوفة، وهكذا الجوربان من القطن، الجوارب يُسميها بعضُ الناس: الشّراب، يمسح عليها إذا كانت ساترةً ولبسها على طهارةٍ كالخفِّ، الخفّ من الجلد، الأخفاف تُتَّخذ من الجلود، أما الجوارب فهي من القطن والصوف ونحو ذلك.

وفَّق الله الجميع، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.

118- باب استحباب القميص

1/788- عن أُمِّ سَلمةَ رضي اللَّه عنها قالت: كَانَ أَحَبَّ الثِّيابِ إِلى رسول اللَّه ﷺ القَميصُ. رواه أَبو داود، والترمذي وَقالَ: حديث حسن.

119- باب صفة طول القميص والكُم والإِزار وطرف العمامة وتحريم إسبال شيء من ذلك على سبيل الخيلاء وكراهته من غير خيلاء

1/789- عن أَسماء بنتِ يزيدَ الأنصارِيَّةِ رَضِيَ اللَّه عنها قالت: كَانَ كُمُّ قمِيصِ رسول اللَّه ﷺ إِلى الرُّسغِ. رواه أَبُو داود، والترمذي وَقالَ: حديث حسن.

2/790- وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما: أَنَّ النَّبيَّ ﷺ قَالَ: مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاءَ لَمْ يَنْظُر اللَّه إِليهِ يَوْم القِيَامَةِ، فَقَالَ أَبو بكرٍ: يا رسول اللَّه، إِنَّ إِزاري يَسْتَرْخي إِلا أَنْ أَتَعَاهَدَهُ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه ﷺ: إِنَّكَ لَسْتَ مِمَّنْ يَفْعَلُهُ خُيَلاءَ رواه البخاري، وروى مسلم بعضه.

3/791- وعن أبي هريرة : أَنَّ رَسُول اللَّه ﷺ قَالَ: لَا ينْظُرُ اللَّهُ يَوْم القِيَامة إِلى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطرًا متفقٌ عَلَيْهِ.

الشيخ: هذه الأحاديث الأربعة فيها الدلالة على أفضلية القميص على غيره من الإزار والرداء؛ لأنه أكمل في الستر، وأكمل في الزينة؛ ولهذا كان القميص أحبَّ اللباس إليه عليه الصلاة والسلام، وكان يجعل كمَّه إلى الرسغ، والقميص هو الذي يُسمَّى الآن: المقطع، ويُسميه بعضهم: المدرعة، ويُسمى القميص، وهو لباس يستر البدن كله، ويكون له يدان، هذا يُسمَّى: القميص، ويسمى: المدرعة، ويسمى: الجبة، ويسمى غير ذلك من الأسماء التي تختلف بعرف البلاد.

وكان أحبّ اللباس إليه القميص؛ لما فيه من الستر الكامل، والزينة الكاملة، وكان يلبس تارةً القميص، وتارة الإزار والرداء عليه الصلاة والسلام، وكان العربُ من لباسهم القميص، ومن لباسهم الإزار والرداء كلبس المحرم، كل ذلك جائز، ولا شيء فيه.

وفيه من الفوائد: أن الكمَّ الأفضل أن يكون إلى الرسغ -مفصل الكفِّ من الذراع- حتى لا يكون محلّ الأكل وتناول الأشياء، يكون عند مفصل الذراع إلى الكفِّ طرف القميص، يعني: طرف الكم.

وفي الحديث الثالث والرابع الدلالة على تحريم الإسبال، وأنَّ مَن جرَّ ثوبه خُيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فهذا وعيد شديد يدل على وجوب الحذر من التَّكبر في اللباس وغيره؛ ولهذا في الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: لا يدخل الجنة مَن كان في قلبه مثقال حبَّة خردل من كبرٍ رواه مسلم من حديث ابن مسعودٍ ، والحديث الآخر الصحيح: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمَن نازعني في واحدٍ منهما عذَّبته، وفي الحديث الآخر يقول عليه الصلاة والسلام: ثلاثة لا يدخلون الجنةَ: أشيمط زانٍ، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته؛ لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه، وذكر أهل النار، وذكر منهم المتكبر، وقال في النار: فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر:72].

فالواجب الحذر من الكبر في مشيه، وفي كلامه، وفي لباسه، وفي كل شيءٍ، وأن يتواضع لله، ويتواضع لعباد الله، ويعرف حقَّهم.

وفي حديث أبي هريرة عند البخاري يقول ﷺ: ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار رواه البخاري في الصحيح، ويقول عليه الصلاة والسلام: ثلاثة لا يُكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يُزكيهم، ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره، والمنان بما أعطى، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب.

ولا شكَّ أن الإسبال فيه مفاسد:

منها: أنه في الغالب ينشأ عن التكبر والتعاظم، فإن لم يكن متكبرًا جرَّه ذلك إلى التكبر، وكان من وسائله.

ومنها: أنَّ فيه إسرافًا وتعريضًا للأوساخ والنَّجاسات، فلا يجوز أن ينزل عن الكعب في حقِّ الرجل.

وإذا كان معه التكبر صار الإثم أكبر، وصار من الكبائر، نسأل الله العافية، أما إذا كان يرتخي من غير قصدٍ فهذا لا يضره إذا تعاهده، كما قال الصديقُ للنبي: إن إزاري يرتخي إلا أني أتعاهده، قال: لست ممن يفعله خيلاء، فإذا كان الإنسان يرتخي إزاره من غير تكبرٍ، إنما يعرض له ذلك من غير اختيارٍ، أو يكون ..... فينتقض عليه في وقتٍ لا يستطيع حمله فيتعاهده ويحفظه حتى يتم .....، وليس معناه: أنَّ مَن جرَّه بغير خيلاء فلا حرج، لا؛ لأنَّ الأحاديث الأخرى أنَّ جرّه منكر مطلقًا.

وأما قول المؤلف: أنه إذا كان بغير خيلاء صار مكروهًا. فليس بجيدٍ، والصواب أنه محرم مطلقًا، الإسبال في حقِّ الرجال محرم مطلقًا، لكن مع التكبر يكون الذنب أعظم، وتكون الكبيرة أشد.

نسأل الله للجميع العافية، ووفَّق الله الجميع.

4/792- وعن أبي هريرة، عن النَّبيِّ ﷺ قَالَ: مَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ مِنَ الإِزار فَفِي النَّار رواه البخاري.

5/793- وعن أَبي ذرٍّ ، عن النَّبيِّ ﷺ قَالَ: ثلاثةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهم، وَلا يُزَكِّيهِمْ، وَلهُمْ عَذَابٌ أَليمٌ، قَالَ: فقَرأَها رسولُ اللَّه ﷺ ثلاثَ مِرَارٍ، قَالَ أَبو ذَرٍّ: خابُوا وخسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا رسول اللَّه؟ قَالَ: المُسْبِلُ، والمنَّانُ، وَالمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالحَلفِ الكاذِبِ رواه مسلم.

وفي روايةٍ لَهُ: المُسْبِلُ إِزَارَهُ.

6/794- وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما، عن النبيِّ ﷺ قَالَ: الإِسْبَالُ في الإِزارِ والقَمِيصِ وَالعِمَامةِ، مَنْ جَرَّ شَيئًا خُيَلاءَ لَم يَنْظُرِ اللَّهُ إليهِ يوْمَ القِيَامةِ رواه أَبُو داود والنَّسائي بإسنادٍ صحيحٍ.

7/795- وعن أَبي جُرَيٍّ جابر بن سُلَيم قَالَ: رَأَيتُ رَجلًا يَصْدُرُ النَّاسُ عَنْ رَأْيهِ، لَا يَقُولُ شَيئًا إلَّا صَدَرُوا عَنْهُ، قلتُ: مَنْ هَذَا؟ قالوا: رسولُ اللَّه ﷺ، قلتُ: عَليكَ السَّلامُ يَا رسولَ اللَّه، مَرَّتَيْنِ، قَالَ: لَا تَقُل: علَيكَ السَّلامُ، علَيكَ السلامُ تحِيَّةُ المَوْتَى، قُلِ: السَّلامُ علَيكَ، قَالَ: قلتُ: أَنتَ رسول اللَّه؟ قَالَ: أَنَا رسول اللَّه الَّذِي إِذا أَصابَكَ ضَرٌّ فَدَعَوْتَهُ كَشَفَهُ عنْكَ، وإِذا أَصَابَكَ عامُ سنَةٍ فَدَعَوْتَهُ أَنبتَهَا لَكَ، وإِذَا كُنتَ بِأَرْضٍ قَفْرٍ أَوْ فلاةٍ، فَضَلَّت راحِلَتُكَ، فَدعوْتَه رَدَّهَا علَيكَ، قَالَ: قُلْتُ: اعْهَدْ إِليَّ، قَالَ: لَا تسُبَّنَّ أَحدًا، قَالَ: فَما سَببْتُ بعْدَهُ حُرًّا وَلَا عَبْدًا، وَلا بَعِيرًا وَلا شَاةً، وَلا تَحْقِرنَّ مِنَ المعروفِ شَيْئًا، وأَنْ تُكَلِّمَ أَخَاك وأَنتَ مُنْبَسِطٌ إِليهِ وجهُكَ، إِنَّ ذَلِكَ مِنَ المعرُوفِ، وارفَعْ إِزاركَ إِلى نِصْفِ السَّاقِ، فَإِن أبيتَ فَإلَى الكَعْبين، وإِياكَ وإِسْبال الإِزارِ؛ فَإِنَّهَا مِن المخِيلةِ، وإِنَّ اللَّه لا يُحبُّ المَخِيلة، وإن امْرؤٌ شَتَمك وَعَيَّركَ بمَا يَعْلَمُ فيكَ فَلَا تُعيِّرهُ بِمَا تَعْلَم فيهِ، فإِنَّمَا وبالُ ذلكَ عليهِ رواه أَبُو داود والترمذي بإِسنادٍ صحيحٍ، وَقالَ الترمذي: حديثٌ حسن صحيح.

الشيخ: هذه الأحاديث كالتي قبلها في التَّحذير من الإسبال والخيلاء في الملابس، وأن ذلك مما يُغضب الله ، ومما توعد عليه بشديد العقاب، ومن ذلك قوله ﷺ: ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار، فهذا يفيد الحذر من الإرخاء في الإزار، وهكذا غيره من الملابس، كما في الحديث الثاني: الإسبال يكون في الإزار، وفي القميص، وفي العمامة، وفي غير ذلك، فمَن جرَّ شيئًا من ذلك خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة، وهذا يُفيد أنه إذا كان معه كبر صار الوعيد أشد، وإذا كان من غير كبرٍ إنما هو التَّساهل فهو محرم ومنكر، ولكنه دون مَن جرَّه خيلاء في الإثم، وهو وسيلة إلى التكبر والخيلاء، مع أنه وسيلة إلى توسيخ الملابس وتعريضها للنجاسات، كما أنه يُعتبر من الإسراف؛ إذ لا حاجةَ إلى نزوله عن الكعب، وكان ﷺ في ملابسه يُشمر ثيابه فوق الكعبين عليه الصلاة والسلام، ويبدو أسفل ساقه عليه الصلاة والسلام.

وهكذا حديث أبي ذرٍّ فيما رواه مسلم في الصحيح عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ثلاثة لا يُكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يُزكيهم، ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره، والمنان بما أعطى، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب، هذا وعيد عظيم، وهذا من أصح الأحاديث، وهو موافق للحديث السابق: ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار، موافق له في المعنى، وإنما عظم هذا الأمر لأنَّ فيه خيلاء، وفيه إفساد للقميص، وفيه إسراف، وفيه تعريض للوسخات والنَّجاسات، وهو وسيلة قريبة إلى التكبر والخيلاء، فيجب الحذر من ذلك.

وأما المنة في العطية فلأنَّ فيها أذى، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى [البقرة:264]، إذا أعطى عطيةً فلا يجوز له أن يمنَّ عليه: فعلتُ لك كذا، وأعطيتُك، وأحسنتُ إليك. فإنَّ هذا يُفسدها ويُبطلها ويُؤذي المعطى.

أما الثالثة: تنفيق السلعة بالحلف الكاذب معناه: أنه يجرد سلعه في البيع والشراء بالأيمان الكاذبة: والله إني شريته بكذا، والله إنها تساوي كذا، والله إنها سيمت بكذا. وهو يكذب؛ حتى يجردها، حتى يرغب فيها الناس، وحتى يخدعهم فيشتروها بثمنٍ زائدٍ، وكل هذا من الخداع، ومن أعمال أهل النفاق، فيجب الحذر من ذلك.

وهكذا حديث جابر بن سليم: أنه سأل النبيَّ ﷺ قال: أنت رسول الله؟ قال: نعم، أنا رسول الله الذي إذا سألته أعطاك، وإذا دعوته في أرضٍ فلاةٍ -استغثت به- أغاثك، وإذا ضلَّت راحلتُك فسألته ردَّها إليك يعني: أنا رسول الله الذي ينفعك ويضرّك، النافع والضار، المعطي، المانع، الذي بيده أزمة الأمور ، قال: أوصني، قال: لا تسبنَّ أحدًا، قال: فما سببتُ أحدًا، لا دابة، ولا إنسانًا، ولا غير ذلك، قال: ولا تحقرنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك وأنت منبسط إليه، وفي حديث أبي ذرٍّ: لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طلقٍ.

فكون الإنسان يُعوِّد لسانه الكلام الطيب، والأسلوب الحسن، والحذر من الأسلوب السيئ والسبِّ والشتم؛ هذا أمر متعين على المؤمن، كذلك كونه يلقى أخاه بوجهٍ منبسطٍ منطلقٍ غير معبسٍ مطلوب أيضًا، وهذا مما يُسبب الألفة والتقارب، أما التعبيس في الوجه والاكفهرار وعدم الانبساط فيُسبب النفرة والاختلاف والتباغض، فلا ينبغي للمؤمن.

كذلك أوصاه برفع ثيابه، وألا يُسبل، وأن يكون من نصف الساق إلى الكعب، هذه هي الأزرة، هذا هو اللباس، أعلاه نصف الساق، وأدناه إلى الكعب، التشمير إلى نصف الساق أفضل، وإن نزله إلى الكعب فلا بأس، لكن لا ينزل عن الكعبين، بل يكون الحدّ الكعب في حقِّ الرجال، وأما في حقِّ النساء فلا؛ لأنهن مأمورات بالتستر، وإرخاؤهن الثياب أمر مطلوب، قال: وإياك والإسبال؛ فإنه من المخيلة يعني: من الكبر، فلا شكَّ أنه يُؤدي إلى الكبر وإن كان قد لا يقصده أولًا، لكن إذا اعتاده جرَّه إلى الكبر والتعاظم في نفسه؛ فيكون الإثم أكبر، نسأل الله العافية.

وفَّق الله الجميع، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.