8/796- وعن أَبي هريرة قَالَ: بينما رَجُل يُصَلِّي مُسْبِلٌ إِزَارَه، قَالَ لَهُ رسولُ اللَّه ﷺ: اذهَب فَتَوضَّأْ، فَذهَب فَتَوضَّأَ، ثُمَّ جاءَ، فَقَالَ: اذهَبْ فَتَوضَّأْ، فَقَالَ له رجُلٌ: يا رسول اللَّه، ما لكَ أَمَرْتَهُ أَن يَتَوَضَّأَ ثُمَّ سَكَتَّ عَنْهُ؟! قَالَ: إِنه كانَ يُصلِّي وهو مُسْبِلٌ إِزارهُ، إِنَّ اللَّه لا يَقْبَلُ صلاةَ رجُلٍ مُسْبِلٍ رواه أَبُو داود بإِسنادٍ صحيحٍ عَلَى شرط مسلم.
9/797- وعن قَيسِ بن بشرٍ التَّغْلبيِّ قَالَ: أَخْبَرني أَبي -وكان جَلِيسًا لأَبِي الدَّرداءِ- قَالَ: كَانَ بِدِمشقَ رَجُلٌ مِنْ أَصحاب النَّبيِّ ﷺ يُقال لَهُ: سهلُ بنُ الحنظَليَّةِ، وَكَانَ رجُلًا مُتَوحِّدًا قَلَّمَا يُجالسُ النَّاسَ، إِنَّمَا هُوَ صلاةٌ، فَإِذا فرغَ فَإِنَّمَا هُوَ تَسْبِيحٌ وتكبيرٌ حَتَّى يأْتيَ أهْلَهُ، فَمَرَّ بِنَا ونَحنُ عِند أَبي الدَّردَاءِ، فَقَالَ لَهُ أَبو الدَّردَاءِ: كَلِمةً تَنْفَعُنَا وَلا تضُرُّكَ، قَالَ: بَعثَ رسولُ اللَّه ﷺ سريَّةً فَقَدِمَتْ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنهم فَجَلسَ في المَجْلِس الَّذِي يَجلِسُ فِيهِ رسولُ اللَّه ﷺ، فقَالَ لرجُلٍ إِلى جَنْبهِ: لَوْ رَأَيتنَا حِينَ التقَيْنَا نَحنُ والعدُو، فَحمَل فلانٌ فَطَعَنَ، فَقَالَ: خُذْهَا مِنِّي وأَنَا الغُلامُ الغِفَارِيُّ، كَيْفَ تَرى في قَوْلِهِ؟ قَالَ: مَا أَرَاهُ إِلَّا قَدْ بَطَلَ أَجْرُهُ! فسَمِعَ بِذلكَ آخَرُ فَقَالَ: مَا أَرَى بِذَلكَ بأْسًا، فَتَنَازعا حَتَّى سَمِعَ رسولُ اللَّه ﷺ، فقَالَ: سُبْحان اللَّه! لا بَأْس أَن يُؤْجَرَ ويُحْمَد، فَرَأَيْتُ أَبا الدَّرْدَاءِ سُرَّ بِذلكَ، وجعلَ يَرْفَعُ رأْسَه إِلَيهِ وَيَقُولُ: أأَنْتَ سمِعْتَ ذَلكَ مِنْ رَسُول اللَّه ﷺ؟! فيقول: نعَمْ، فما زال يُعِيدُ عَلَيْهِ حَتَّى إِنِّي لأَقولُ: لَيَبرُكَنَّ عَلَى رُكْبَتَيْهِ.
قَالَ: فَمَرَّ بِنَا يَومًا آخَرَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ: كَلِمَةً تَنفَعُنَا وَلا تَضُرُّكَ، قَالَ: قَالَ لَنَا رسولُ اللَّه ﷺ: المُنْفِقُ عَلى الخَيْلِ كالبَاسِطِ يَدَهُ بالصَّدَقة لا يَقْبِضُهَا.
ثُمَّ مرَّ بِنَا يَوْمًا آخَرَ، فَقَالَ لَهُ أَبو الدَّرْدَاءِ: كَلِمَةً تَنْفَعُنَا وَلا تَضرُّكَ، قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: نعْمَ الرَّجُلُ خُرَيْمٌ الأَسَديُّ، لولا طُولُ جُمَّته، وَإِسْبَالُ إِزَارِه، فبَلغَ ذَلِكَ خُرَيمًا، فَعجَّلَ فَأَخَذَ شَفْرَةً فَقَطَعَ بِهَا جُمَّتَهُ إِلى أُذُنيْه، ورفعَ إِزَارَهُ إِلى أَنْصَاف سَاقَيْه.
ثَمَّ مَرَّ بنَا يَوْمًا آخَرَ فَقَالَ لَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ: كَلِمةً تَنْفَعُنَا ولا تَضُرُّكَ، قَالَ: سَمعْتُ رسُولَ اللَّه ﷺ يقُولُ: إِنَّكُمْ قَادمُونَ عَلى إِخْوانِكُمْ، فَأَصْلِحُوا رِحَالَكمْ، وأَصْلحوا لبَاسَكُمْ؛ حَتَّى تَكُونُوا كَأَنَّكُمْ شَامَة في النَّاسِ، فَإِنَّ اللَّه لا يُحبُّ الفُحْشَ وَلا التَّفَحُّش رواهُ أَبو داود بإِسنادٍ حسنٍ، إِلَّا قَيْسَ بن بشر، فاخْتَلَفُوا في توثيقِهِ وتَضْعيفه، وقد روى له مسلم.
الشيخ: اللهم صلِّ وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: فهذه بقية أحاديث تابعة للأحاديث السابقة في التَّحذير من الإسبال، وأنه ينبغي للمؤمن أن يحذره، وأنه إذا كان للتكبر كان ذلك أشد في الإثم، أما إذا كان تساهلًا من غير تكبرٍ فهو أخفّ في الإثم، ولكنه لا يجوز.
وقول المؤلف بكراهته إذا كان لغير تكبرٍ، ليس بجيدٍ، والصواب أنه محرم مطلقًا، لكن مع التكبر يكون الإثم أعظم، والجريمة أكبر؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار، ولم يُقيد ذلك بالتكبر، وقال: ثلاثة لا يُكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يُزكيهم، ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره، والمنان بما أعطى .. الحديث، ولم يُقيده بالتكبر، وقال: إياكم والإسبال؛ فإنه من المخيلة، فجعل الإسبال من المخيلة، وعنوان المخيلة، وعنوان التكبر، وأنَّ الله لا يُحب المخيلة.
وفي حديث سهل بن الحنظلية -وكان من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام- في الحديث السابق: أنَّ رجلًا صلَّى وهو مُسبل إزاره، فقال له: ارجع فتوضأ، ثم قال: ارجع فتوضأ، فسُئل عن ذلك فقال: إنه صلَّى مُسبلًا، وإنَّ الله لا يقبل صلاة مُسبلٍ الحديث هذا ما يصح .....، الحديث ضعيف، وليس بصحيحٍ، ولكن معناه لو صحَّ: التحذير من الإسبال، والنبي ما أمره بالإعادة، وإنما أمره بالوضوء؛ لأن الوضوء مما يُكفِّر الله به الخطايا، ولكن الحديث ضعيف؛ لأنَّ في إسناده مجهولًا، وفي إسناده مدلسًا ومُعنعنًا.
والحاصل أنَّ الإسبال منكر في الصلاة وفي غيرها، وإذا كان للتكبر صار أعظم إثمًا، ولكن لو صلَّى مسبلًا فصلاته صحيحة مع الإثم، فعليه التوبة والاستغفار، كما لو صلَّى وهو آتٍ لمعصية الله، لا تتعلق بالصلاة، فإنه لو صلَّى وفي ثوبه صورة أو في ثوبٍ مغصوب فالصحيح أنَّ الصلاة صحيحة، لكنه يأثم؛ لأن هذا محرم مطلقًا، والصلاة من غيره.
وكذلك حديث سهل بن الحنظلية: أنه مرَّ على أبي الدرداء، وقال أبو الدرداء: كلمة تنفعنا ولا تضرُّك. وكان من أصحاب النبي ﷺ، وأبو الدرداء كذلك من أصحاب النبي ﷺ، وكان سهل معتزلًا للناس، من بيته إلى المسجد، مشغولًا بذكر الله والتَّسبيح والتَّهليل وإظهار العلم لمن سأله عنه، قال: خذها وأنا الغلام الغفاري. واستنكر عليه بعضُ الناس ذلك، فسُئل النبي ﷺ عن ذلك، فأجابه وقال: لا بأس عليه أن يُؤجر ويُحمد، فإذا قال: خذها وأنا الغلام الأنصاري، خذها وأنا الغلام الغفاري أو المهاجري، فلا حرج في هذا، يعلم بنفسه، وكان بعض الشجعان يجعل علامةً على نفسه من غير أن يعلم أنه فلان عند لقاء الصَّفين.
فالتعليم وإظهار نفسه أنه فلان لا حرج في ذلك إذا كان قصده البيان، وليس قصده الرياء.
كذلك ..... قال: إنَّ المنفق على الخيل كالباسط يده في النَّفقة، والخيل التي تعدّ للجهاد في سبيل الله، فالإنفاق عليها من الجهاد، الله قال: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]، فإعداد الخيل وغير الخيل من السلاح للجهاد في سبيل الله صاحبه مأجور؛ لأنه منفق في سبيل الله .
ثم ذكر سؤاله الثالث، قال: نعم الرجل خريم الأسدي، لولا طول جمته، وإسبال إزاره، فلما بلغ خريمًا ذلك جزَّ جمته حتى صارت إلى منكبيه، وكانت طويلةً قبل ذلك، ورفع إزاره إلى نصف الساق.
والحديث في سنده ضعف، لكن الأحاديث السابقة تدل على أنه لا يجوز الإسبال، بل يجب على المؤمن أن يرفع ثيابه إلى الكعب، وإلى نصف الساق أفضل، فالملابس ..... من نصف الساق إلى الكعب، هذه غاية ملابس الرجال، أعلاها نصف الساق، وأسفلها وأرخاها إلى الكعب، فلا يجوز له أن يُطيلها تحت الكعب، أما المرأة فالسنة لها إرخاء الملابس حتى تستر أقدامها، كما جاءت في السنة عن النبي عليه الصلاة والسلام.
أما الجمَّة فلا بأس بها؛ كانت للنبي ﷺ جمة، والصحابة لهم جمم كانت في بعض الأحيان تنزل إلى منكبهم، لكن الأفضل أن تكون إلى المنكب أو فوق المنكب، إذا كان القصد منها غير الفساد: كعادة العرب؛ يُربون الرؤوس من غير قصدٍ سيئ، أما إذا كان قصده بتربيتها التَّعرض للنساء ..... فلا يجوز، بل يمنع من ذلك؛ حتى لا يُعان على الفساد. وفَّق الله الجميع.
10/798- وعن أَبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رسُولُ اللَّهِ ﷺ: إزرَةُ المُسلِمِ إِلى نِصْفِ السَّاقِ، وَلا حَرَجَ –أَوْ: لا جُنَاحَ- فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الكَعْبَيْنِ، فَمَا كانَ أَسْفَلَ منَ الكعْبَينِ فَهو في النَّارِ، ومَنْ جَرَّ إِزارهُ بَطَرًا لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ رواهُ أَبُو داود بإِسنادٍ صحيحٍ.
11/799- وعن ابنِ عمر رضيَ اللَّه عنهما قَالَ: مَرَرْتُ عَلى رسُولِ اللَّهِ ﷺ وَفي إِزاري اسْتِرْخَاءٌ، فَقَالَ: يَا عَبْدَاللَّهِ، ارْفَعْ إِزارَكَ، فَرفعتُهُ، ثُمَّ قَالَ: زِدْ، فَزِدْتُ، فَمَا زِلْتُ أَتَحرَّاها بَعْدُ، فَقَالَ بَعْضُ القُوْمِ: إِلى أَيْنَ؟ فَقَالَ: إِلى أَنْصاف السَّاقَيْنِ. رواهُ مسلم.
12/800- وعنه قَالَ: قالَ رسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ جَرَّ ثَوبَه خُيلاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّه إِلَيْهِ يَوْمَ القيامةِ، فقالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَكَيْفَ تَصْنَعُ النِّسَاءُ بِذُيُولِهنَّ؟ قالَ: يُرْخِينَ شِبْرًا، قَالَتْ: إِذن تَنْكَشفُ أَقْدَامُهنَّ، قَالَ: فيُرْخِينَهُ ذِراعًا، لا يَزِدْنَ رواهُ أَبو داود، والترمذي وَقالَ: حديث حسن صحيح.
الشيخ: هذه الأحاديث كالأحاديث السابقة فيما يتعلق بإسبال الملابس، والتحذير من ذلك، وأن السنة رفع الملابس للرجل إلى نصف الساق، ولا حرج فيما بينها وبين الكعب؛ لأنه لا يجوز له إرخاء ذلك تحت الكعب، تقدمت في ذلك أحاديث مثل: قوله ﷺ: ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار، وقوله هنا: إزرَةُ المُسلِمِ إِلى نصْفِ السَّاقِ، وَلا حَرَجَ –أَوْ: لا جُنَاحَ- فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الكَعْبَيْنِ، هكذا حديث أبي سعيدٍ، هكذا حديث جابر المتقدم، كلها تدل على شرعية أن يكون الإزار ونحوه من نصف الساق إلى الكعب، وأن الأفضل التَّشمير إلى نصف الساق، ولا حرج فيما بين نصف الساق والكعبين، وهكذا حديث ابن عمر: لما رأى النبيُّ ﷺ في إزاره استرخاءً قال له: ارفعه، فلم يزل يقول له: ارفع إلى نصف الساق.
والحاصل أنَّ السنة في حقِّ الرجال الحذر من الإسبال، وأنه لا يجوز فعله، وإذا كان عن تكبرٍ وخيلاء صار الإثم أكبر وأقبح.
أما النساء فهن عورة، ولا بأس أن يُرخين؛ ولهذا لما سألته أمُّ سلمة عن ذلك قال: يُرخين شبرًا، قالت: تبدو أقدامهن، قال: يُرخين ذراعًا، ولا يزدن على ذلك، فالمرأة عورة، وإرخاؤها الملابس فيه ستر لأقدامها، ويكون ذلك شبرًا إلى ذراعٍ، فلا تجوز الزيادة على ذلك؛ لعدم الحاجة إلى ذلك.
والواجب في هذا التَّواصي بين المسلمين والتناصح؛ لأنَّ هذا شيء بُلي به كثير من الناس، وتساهل به كثير من الناس، وينبغي التواصي بهذه السنة، والحذر مما حرَّم الله عليهم، والمسلمون كيان واحد، وجسد واحد، ينصح بعضُهم بعضًا، ويُوصي بعضُهم بعضًا، كما قال : وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر]، وقال سبحانه: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، كثير من الناس يُفتي نفسه ولا يُبالي، ويقول: ما قصدتُ الكبر. والأمر عظيم ولو ما قصد الكبر، هذه أمور بيد الله، وهو الذي يطلع على القلوب، والمعول على الظاهر؛ ما ظهر من المنكر وجب إنكاره، وإذا كان قصد التَّكبر فقد جاء في الحديث: مَن جرَّ ثوبه بطرًا لم ينظر الله إليه يوم القيامة، وتقدم أنَّ هذا فيه إسراف وتعريض للملابس إلى النَّجاسات والأوساخ، وهو مع كونه منكر يُفضي إلى ما لا ينبغي.
وفَّق الله الجميع، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.
120- باب استحباب ترك التَّرفع في اللباس تواضعًا قَدْ سَبَقَ في بَابِ فَضْل الجُوعِ وَخشُونَةِ العيش جُمَلٌ تتعلق بهذا الباب.
1/801- وعن معاذِ بنِ أَنسٍ : أَنَّ رسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: مَنْ تَرَكَ اللِّباس تَواضُعًا للَّه وَهُوَ يَقْدِرُ علَيْهِ، دعاهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيامَةِ عَلى رُؤُوسِ الخَلائِقِ حَتَّى يُخيِّره منْ أَيِّ حُلَلِ الإِيمان شَاءَ يلبَسُها رواهُ الترمذي وقال: حديث حسن.
121- باب استحباب التَّوسط في اللباس وَلا يقتصر عَلَى مَا يزري بِهِ لغير حاجةٍ وَلا مقصود شرعي
1/802- عن عمرو بن شُعْيبٍ، عن أَبيه، عَنْ جدِّهِ قَالَ: قالَ رسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّ اللَّه يُحِبُّ أَنْ يُرى أَثَرُ نِعْمَتِهِ عَلى عَبْده رواهُ الترمذي وقال: حديثٌ حسن.
122- باب تحريم لباس الحرير عَلَى الرجال وتحريم جلوسهم عَلَيْهِ واستنادهم إِلَيْهِ وجواز لبسه للنِّساء
1/803- عن عمر بن الخطَّاب قَالَ: قالَ رسُولُ اللَّهِ ﷺ: لا تَلْبَسُوا الحَرِيرَ، فَإنَّ مَنْ لَبِسَهُ في الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ في الآخرةِ متفقٌ عليه.
2/804- وعنه قَالَ: سمِعتُ رسُولَ اللَّهِ ﷺ يقولُ: إنَّما يلبَسُ الحريرَ مَنْ لا خَلاق لَهُ متفقٌ عَلَيْهِ.
وفي روايةٍ للبُخاري: مَنْ لا خَلاقَ لَهُ في الآخِرة.
الشيخ: هذه الأحاديث الأربعة تتعلق بالاقتصاد في اللباس، والتواضع فيه، والحذر من لبس الحرير.
الحديث الأول: يُروى عنه أنه قال: مَن ترك اللباس تواضعًا نُودي يوم القيامة حتى يُخير من أي حُلل الإيمان فيختار ما يشاء، المقصود من هذا كله الحثّ على التواضع وعدم قصد الشهرة والخيلاء والترفع على الناس، ينبغي للمؤمن أن يلبس الملابس اللائقة به، والتي تُناسب أهل زمانه، وأهل بلده، حيث لا يُشار إليه بالأصابع، ولا تلفت الأنظار.
والله جلَّ وعلا يُحب إذا أنعم على عبده نعمةً أن يرى أثر نعمته عليه، يُحب للمؤمن أن يُظهر أثر النعمة في لباسه ومأكله ومشربه، ما دام أن الله جلَّ وعلا أنعم عليه ووسَّع عليه فلا يتعاطى صفات الفقراء، ويلبس ملابس الفقراء، ويأكل أكل الفقراء؛ لأنَّ هذا نوع جحدٍ لنعم الله، ونوع كتمانٍ لها، فإنه يُحب سبحانه أن يرى أثر النعمة عليه في ملبسه ومأكله ..... لما أنعم الله عليه.
وفي الحديث الصحيح: إنَّ الله جميل يُحب الجمال، الكبر: بطر الحق، وغمط الناس، فكونه يتجمل، ويلبس اللباس الحسن الذي يلبسه أمثاله، ولا يتغطرس، ولا يلفت الأنظار إليه بكونه خلاف المعتاد، أو خلاف ما يلبسه أهلُ بلده، فهذا ينبغي له تركه، ولكن يلبس لباسًا جميلًا وحسنًا، ويظهر أثر النعمة عليه، وإن ترك ذلك بعض الأحيان ولبس لباسًا متواضعًا؛ لكسر النفس وإظهار ذلها وفاقتها إلى الله ، وكسرها عن التكبر في بعض الأحيان، فهذا لا بأس به.
والمؤمن من شأنه أن يتحرى ما شرع الله له، كان ﷺ يلبس ما تيسر له من الملابس، ولا يتكلف، وهكذا الصحابة، وربما لبس البياض، وربما لبس الأسود، وربما لبس الأحمر والأخضر، لا يتكلف، فيلبس الجديد والغسيل، هكذا المؤمن لا يتكلف، لكن يُظهر أثر النعمة عليه، لا يتظاهر بمظهر الفقراء وقد أغناه الله، فإنَّ هذا نوع من جحد النعم؛ ولهذا في الحديث يقول ﷺ: إنَّ الله يُحب إذا أنعم على عبدٍ نعمةً أن يرى أثر نعمته عليه، وقال رجلٌ: يا رسول الله، الرجل يُحب أن يكون نعله حسنة وثوبه حسنًا، أفذلك من الكبر؟ فقال النبي ﷺ: إنَّ الله جميل يُحب الجمال، الكبر: بطر الحق، وغمط الناس أي: ردّ الحق وعدم قبوله إذا خالف هواه، وغمط الناس يعني: احتقارهم، أما اللباس الحسن والتَّجمل فليس من الكبر.
وفي الحديثين الأخيرين الدلالة على تحريم لبس الحرير، النبي قال: لا تلبسوا الحرير؛ فإنَّ مَن يلبسه في الدنيا لا يلبسه في الآخرة، هذا وعيد شديد، ويقول ﷺ: إنما يلبسه ..... مَن لا خلاقَ له أي: مَن لا حظَّ له، وهذا من باب الوعيد.
ويقول ﷺ: لا تأكلوا في صحاف الذهب والفضة، ولا تشربوا فيها، ولا تلبسوا الحرير والديباج؛ فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة، وفي اللفظ الآخر: أنه نهى عن لبس الحرير، وعن الجلوس عليه، يعني: للرجال.
والمؤمن يتحرى ما أباح الله له، ويترك ما حرَّم الله عليه، في غيرها الغنية: القطن والكتان والوبر والشعر وغير ذلك مما أباح الله له من الملابس، أما الحرير فهو للنساء. وفَّق الله الجميع.
3/805- وعن أنسٍ قَالَ: قالَ رسُولُ اللَّه ﷺ: مَنْ لَبِسَ الحَرِيرَ في الدُّنْيا لَمْ يَلْبَسْهُ في الآخرَةِ متفقٌ عَلَيْهِ.
4/806- وعن عليٍّ قَالَ: رأَيْتُ رَسُولَ اللَّه ﷺ أَخَذَ حَرِيرًا فَجَعلَهُ في يَمينه، وَذَهَبًا فَجَعَلَهُ في شِمالِهِ، ثُمَّ قَالَ: إنَّ هذَيْنِ حرَامٌ عَلى ذُكُورِ أُمَّتي رواهُ أَبُو داود بإسنادٍ حسنٍ.
5/807- وعن أَبي مُوسى الأَشْعريِّ : أنَّ رسُولَ اللَّه ﷺ قَالَ: حُرِّم لِبَاسُ الحَرِيرِ وَالذَّهَب عَلَى ذُكُورِ أُمَّتي، وَأُحِلَّ لإنَاثِهِم رواهُ الترمذي وقال: حديثٌ حسن صحيح.
6/808- وعن حُذَيْفَة قَالَ: نَهَانَا النَّبيُّ ﷺ أنْ نَشْربَ في آنِيةِ الذَّهب وَالفِضَّةِ، وَأنْ نَأْكُل فِيهَا، وعَنْ لُبْسِ الحَرِيرِ وَالدِّيبَاج، وأنْ نَجْلِس عَلَيْهِ. رواه البخاري.
الشيخ: هذه الأحاديث الأربعة كالتي قبلها في الحثِّ على ما أباح الله من اللباس والأواني وغير ذلك، والحذر مما حرَّم الله.
تقدم أن الله جلَّ وعلا أحب للمسلمين جميع أنواع اللباس: أبيض وأسود وأخضر وغير ذلك، ما عدا الحرير، فهو محرم على الذكور، حلال للإناث؛ لما فيه من النعومة والجمال اللائق بالنساء، ولا يليق بالرجال، فمن رحمة الله أن جعله حلًّا للإناث، حرامًا على الذكور، وقال عليه الصلاة والسلام: لا تلبسوا الحرير، فإنَّ مَن يلبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وهذا وعيد شديد، وتحذير من هذا النوع من اللباس في حقِّ الرجال.
وفي حديث ابن عمر قال: نهى رسولُ الله عن لبس الحرير إلا موضع أصبعين أو ثلاث أو أربع، هذا يدل على أنه يُباح من الحرير للرجل الشيء القليل، مثل: الزرار، مثل: رقعة صغيرة موضع أصبعين أو ثلاث أو أربع، وما زاد على ذلك مما يحرم على الرجال.
وفي حديث حذيفة الدلالة على تحريم الذهب والحرير، وهكذا حديث علي، وهكذا حديث أبي موسى، كلها تدل على أنه يحرم على الذكور لبس الذهب والحرير، ويحلّ للإناث.
في حديث عليٍّ: أن النبي ﷺ أخذ قطعةً من الحرير بيمينه، وقطعةً من الذهب في يساره وقال: هذان حلٌّ لإناث أمتي، حرام على ذكورهم.
وفي حديث أبي موسى كذلك أنه ﷺ قال: أُحلّ الذهب والحرير لإناث أمتي، وحُرِّم على ذكورهم.
وفي حديث حذيفة قال: نهى رسولُ الله عن لبس الحرير، والجلوس عليه، وعن الشرب في آنية الذهب والفضة، وقال: إنها لهم في الدنيا يعني: للكفرة ولكم في الآخرة، فهذه الملابس لأهل الجنة في الآخرة من الرجال والنساء، ولكنها في الدنيا تحرم على الذكور وتحل للإناث، وفي الجنة تُباح للجميع، الحرير والذهب وغير ذلك مُشترك.
فينبغي للمؤمن أن يتأدَّب بالآداب الشرعية، وأن يحذر ما نهى الله عنه، وألا يلبس الحرير، ولا الذهب، إلا ما أباح الله من ذلك: كموضع أصبعين أو ثلاث أو أربع في حقِّ الرجل من الحرير.
وما يُباح له الذهب للضَّرورة: كالسن والأنف المقطوع ونحو ذلك مما أوضحه أهلُ العلم.
وبيَّن ﷺ أنَّ الكفار يستعملون هذا كله ولا يُبالون؛ لأنهم غير ملتزمين بالشريعة، فهي لهم في الدنيا، لا حلّ لهم، ولكن بسبب عدم مبالاتهم وعدم اهتمامهم بالأمور الشرعية، أما المسلمون فهم معنيون بهذا الأمر، فواجب عليهم أن يتحروا ما أباح الله وما حرَّم الله، فعليهم أن يجتنبوا ما حرَّم الله، ويلتزموا بما أحلَّ الله في اللباس وفي غيره. وفَّق الله الجميع.
123- باب جواز لبس الحرير لمَن بِهِ حِكَّة
1/809- عن أنسٍ قَالَ: رَخَّصَ رسُولُ اللَّهِ ﷺ لِلزُّبَيْرِ وعبْدِالرَّحْمنِ بنِ عوْفٍ رضي اللَّه عنهما في لبْسِ الحَرِيرِ لحِكَّةٍ بهما. متفقٌ عليه.
124- باب النَّهي عن افتراش جلود النُّمور والركوب عَلَيْهَا
1/810- عنْ مُعاويةَ قالَ: قالَ رسُولُ اللَّهِ ﷺ: لا تَرْكَبوا الخَزَّ وَلا النِّمارَ حديث حسن، رواهُ أَبو داود وغيره بإسنادٍ حسنٍ.
2/811- وعن أَبي المليح، عن أَبيهِ : أنَّ رسُول اللَّهِ ﷺ نَهَى عنْ جُلُودِ السِّباعِ. رواهُ أَبُو دَاود، والترمذيُّ، والنسائيُّ بأَسَانِيد صِحَاحٍ.
وفي روايةِ الترمذي: نهَى عنْ جُلُودِ السِّباعِ أنْ تُفْتَرَشَ.
الشيخ: هذه الأحاديث فيها الدلالة على مسائل: منها جواز لبس الحرير للرجل إذا كان للتَّداوي؛ لحكةٍ في جسده، وقرر الأطباء أنَّ ذلك من العلاج فلا بأس؛ لأنه ثبت عنه ﷺ أنه رخَّص للزبير بن العوام وعبدالرحمن بن عوف .....
وفي الحديث الثاني والثالث النَّهي عن افتراش جلود السباع وركوبها، في حديث معاوية: نهى رسولُ الله عن الخزِّ وجلود السباع. والخزّ: الحرير، يعني: للرجال، وجلود السباع: كالنمر والأسد والذئب والكلب ونحو ذلك، لا يجوز اتِّخاذ جلودها، لا فرشًا، ولا ..... وركوب.
ولعلَّ الحكمة في ذلك: أنها وسيلة إلى التَّخلق بأخلاق السباع؛ لأنَّ الله حرَّم لحومها، وقال أهلُ العلم: حُرمت لما فيها من الشرِّ، والتَّغذي بها قد يُكسب صاحبها أخلاق السباع وما هي عليه من البطش والأذى، فلعل العلة في تحريم افتراش جلودها والركوب عليها أنها وسيلة إلى التَّخلق بأخلاق السباع، أو لأنها وسيلة إلى ذبحها، وربما أفضى ذلك إلى أكل لحومها من الجهلة والمتساهلين، أو من أجل الجلود؛ فيجهل آخرون ويأكلون اللحوم إذا رأوا أن جلودها مباحة، فسدَّ الباب عليه الصلاة والسلام في النهي عن جلود السباع وافتراشها والركوب عليها، فلا تُفترش، ولا يُركب فوقها؛ حسمًا لمادة التَّعلق بها بالكلية، وحسمًا لمادة ذبح الحيوانات التي هي مُعتبرة من السباع؛ لأنَّ ذبحها قد يكون جريمةً، كما في ذبح الكلاب ونحوها بغير حقٍّ من أجل جلدها، سدَّ النبي ﷺ الباب، وقد يكون وسيلةً إلى أكل لحومها بالنسبة إلى الجاهلين إذا ذُبحت.
فالمقصود أنَّ الله جلَّ وعلا إنما يحرم لحكمةٍ، ويأمر لحكمةٍ، وهو الحكيم العليم جلَّ وعلا فيما يُحرم وفيما يُبيح لعباده : إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83]، وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:17]، فلا ريب ولا شكَّ أنه حرَّمها لما فيها من الشرِّ والفساد؛ ولذلك حرَّمها وحرَّم جلودها، وأباح ما أباح من بهيمة الأنعام وغيرها مما أباح الله؛ لما فيها من الفائدة والتَّغذية والنَّفع من غير مضرةٍ. وفَّق الله الجميع.
125- باب مَا يقول إِذَا لبس ثوبًا جديدًا أَوْ نعلًا أَوْ نحوه
1/812- عن أَبي سعيدٍ الخُدْري قَالَ: كانَ رسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا اسْتَجَدَّ ثَوْبًا سمَّاهُ باسْمِهِ: عِمامَةً، أَوْ قَمِيصًا، أَوْ رِدَاءً، يقُولُ: اللَّهُمَّ لكَ الحَمْدُ أَنْتَ كَسَوْتَنِيهِ، أَسْأَلُكَ خَيْرَهُ وَخَيْرَ مَا صُنِع لَهُ، وأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ رواهُ أَبو داود، والترمذي وَقالَ: حديث حسن.
كتاب آداب النوم
1/813- عن الْبَراءِ بن عازبٍ رضيَ اللَّه عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّه ﷺ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ نَامَ عَلى شِقِّهِ الأَيمنِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إليْكَ، وَوجَّهْتُ وَجْهِي إلَيْكَ، وفَوَّضْتُ أَمْرِي إلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْري إلَيْكَ، رَغْبةً وَرَهْبَةً إلَيْكَ، لا مَلْجأ ولا مَنْجَى مِنْكَ إلَّا إلَيْكَ، آمَنْتُ بِكتَابكَ الَّذِي أَنْزلتَ، وَنَبيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ رواه البخاري بهذا اللفظ في كتاب "الأدب" من صحيحه.
2/814- وعنه قَالَ: قَالَ لي رَسُول اللَّه ﷺ: إذَا أَتَيْتَ مَضْجَعكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلى شِقِّكَ الأَيمَنِ وَقُلْ .. وذَكَرَ نَحْوهُ، وفيه: واجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَقول متفقٌ عَلَيهِ.
3/815- وعن عائشةَ رضيَ اللَّه عنها قالتْ: كَانَ النَّبيُّ ﷺ يُصلِّي مِن اللَّيْلِ إحْدَى عَشرَةَ رَكْعَةً، فَإذا طلَع الْفَجْرُ صَلَّى ركْعَتيْنِ خَفِيفتيْنِ، ثمَّ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأيمن حَتَّى يَجِيءَ المُؤَذِّنُ فيُوذِنَهُ. متفقٌ عَلَيْهِ.
الشيخ: هذه الأحاديث الأربعة فيها بيان سنةٍ من الآداب الشرعية في اللباس وعند النوم وبعد الضَّجعة بعد ركعتي الفجر.
الأول: يقول أبو سعيدٍ : كان النبي ﷺ إذا استجدَّ شيئًا من لباسٍ: عمامة أو قميصًا أو رداء قال: اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه، أسألك خيره وخير ما صُنِعَ له، وأعوذ بك من شرِّه وشرِّ ما صُنِعَ له، فيُستحب للمؤمن عند اللباس الجديد -قميص عمامة سراويل بشت أو غير ذلك- أن يقول: اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه، أسألك خيره وخير ما صُنع له، وأعوذ بك من شرِّه وشرِّ ما صُنِع له، هو المتفضل ، هو صاحب الإنعام، كما قال : وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل:53]، فله الحمد والشكر على جميع نعمه .
هذا من الشكر القولي عند حصول الجديد من اللباس: اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه، أسألك خيره وخير ما صُنع له، وأعوذ بك من شرِّه وشرِّ ما صُنع له.
وفي حديثي البراء بن عازب الدلالة على أنه يُستحب للمؤمن عند النوم إذا أتى فراشه أن ينام على جنبه الأيمن، هكذا فعل النبي ﷺ وأمر؛ كان ينام على شقِّه الأيمن أول ما يضطجع، ويأمر بهذا، وأن يكون على وضوءٍ، يُستحب له أن يتوضأ، إن كان ما هو على وضوءٍ يُستحب أن يتوضأ حتى ينام على وضوءٍ، ويضطجع على شقِّه الأيمن تأسيًا بالنبي ﷺ، وامتثالًا لأمره، ويأتي بالأذكار الشرعية عند النوم: "اللهم باسمك أموت وأحيا"، "اللهم باسمك ربي وضعتُ جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكتَ نفسي فارحمها، وإن أرسلتَها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين"، "اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك" ثلاث مرات، وغير هذا مما جاء، مثل: قراءة آية الكرسي، و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص]، والمعوذتين، كل هذا مما يُشرع عند النوم: آية الكرسي، و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثلاث مرات، والمعوذتان ثلاث مرات، وهذا مستحبٌّ، كان النبي ﷺ ينفث في يديه ويقرأ هذه السور ثلاث مرات، ويمسح بها على ما أقبل من جسده .....
ويقول في آخر شيءٍ عند انتهائه من الأذكار الشرعية يكون في آخرها: اللهم أسلمتُ وجهي إليك، وألجأتُ ظهري إليك، وفوضتُ أمري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنتُ بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلتَ، كان يفعله ويحثّ عليه عليه الصلاة والسلام، على أن تكون آخر ما يقول.
وفي رواية مسلم: من آخر ما يقول هذه الكلمات: اللهم أسلمتُ وجهي إليك، وألجأتُ ظهري إليك، وفوضتُ أمري إليك، رغبةً ورهبةً إليك رغبةً فيما عندك، ورهبةً فيما عندك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنتُ بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلتَ تفويض وإيمان وإسلام وجهه لله ، ويكون هذا في آخر ما يقول في اضطجاعه للنوم في الليل، والرسول ﷺ كان يفعل هذا، وحثَّ أمته على ذلك ﷺ.
ومن ذلك أيضًا: أنه كان إذا صلَّى ركعتي الفجر اضطجع على شقِّه الأيمن، كما قالت عائشةُ رضي الله عنها: كان يُوتر من الليل بإحدى عشرة ركعة، هذا هو الغالب، وربما أوتر بتسعٍ، وربما أوتر بأقلَّ من هذا، وربما أوتر بثلاث عشرة عليه الصلاة والسلام، لكن الأكثر والأغلب إحدى عشرة، وإذا فرغ قبل الأذان اضطجع على شقِّه الأيمن قليلًا، وإذا أذَّن صلَّى ركعتين ثم اضطجع على شقِّه الأيمن حتى يُؤذنه المؤذن بالصلاة.
هذا يدل على استحباب شرعية الوتر والتَّهجد بالليل بإحدى عشرة ركعة، وإن تنفَّل بأكثر أو بأقلّ لا بأس، وشرعية سنة الفجر، الركعتان بعد طلوع الفجر، بعد الأذان، وأن يضطجع بعدها على شقِّه الأيمن إذا تيسر ذلك، هذا هو السنة، قالت عائشة: إن كنتُ مستيقظةً حدَّثني وإلا اضطجع. هي سنة، وليست واجبة، وهي في البيوت، من سنة البيوت، لا في المساجد، يفعلها في البيت، لا في المسجد.
وفَّق الله الجميع، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.
4/816- وعن حُذَيْفَةَ قَالَ: كَانَ النَّبيُّ ﷺ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنَ اللَّيْلِ وَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ خَدِّهِ، ثمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أمُوتُ وَأَحْيَا، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ: الحَمْدُ للَّهِ الَّذي أَحْيَانَا بعْدَمَا أَمَاتَنَا وإِلَيْهِ النُّشُورُ رواه البخاري.
5/817- وعن يعِيشَ بنِ طخْفَةَ الغِفَارِيِّ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ أَبي: بينما أنَا مُضْطَجِعٌ في الْمسجِدِ عَلَى بَطْنِي إذَا رَجُلٌ يُحَرِّكُنِي بِرِجْلهِ، فَقَالَ: إنَّ هذِهِ ضَجْعَةٌ يُبْغِضُهَا اللهُ، قَالَ: فَنَظرْتُ فإذَا رسولُ الله ﷺ. رواه أَبُو داود بإسنادٍ صحيحٍ.
6/818- وعن أَبي هريرة ، عن رَسُول الله ﷺ قَالَ: مَنْ قَعَدَ مَقْعَدًا لَمْ يَذْكُرِ الله تَعَالَى فِيهِ كَانَتْ عَلَيهِ مِنَ اللهِ تَعَالَى تِرةٌ، وَمَنِ اضْطَجَعَ مُضْطَجَعًا لا يَذْكُرُ الله تَعَالَى فِيهِ كَانَتْ عَليه مِن اللهِ تِرةٌ رواه أَبُو داود بإسنادٍ حسنٍ.
الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة تتعلق بشيءٍ من آداب النوم واليقظة، وآداب الاضطجاع، وآداب الجلوس في أي مجلسٍ.
كان عليه الصلاة والسلام إذا أوى إلى فراشه يبدأ فيضطجع على شقِّه الأيمن عليه الصلاة والسلام، ويضع يده تحت خدِّه الأيمن ويقول: اللهم باسمك أموت وأحيا، ويقول: باسمك ربي وضعتُ جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكتَ نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين، ويقول: اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك ثلاث مرات، وحثَّ الأمة على قراءة آية الكرسي، وأنَّ مَن قرأها عند نومه لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطانٌ حتى يُصبح.
وكان إذا أوى إلى فراشه أيضًا ينفث في يديه ويقرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص] والمعوذتين ثلاث مرات وقت النوم، ويُستحب أن يفعل هذا كما فعله النبيُّ ﷺ.
وتقدم قوله ﷺ للبراء: إذا أويتَ إلى فراشك فتوضأ واضطجع على شقِّك الأيمن، وقل: اللهم أسلمتُ نفسي إليك، وفوضتُ أمري إليك، ووجهتُ وجهي إليك، وألجأتُ ظهري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنتُ بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلتَ، قال: واجعلهنَّ آخر ما تقول، وفي اللفظ الآخر: من آخر ما تقول، وكان يفعل هذا ﷺ؛ إذا أوى إلى فراشه يتوضأ ويضطجع على شقِّه الأيمن ويقول في آخر كلامه: اللهم أسلمتُ نفسي إليك، وفوضتُ أمري إليك، ووجهتُ وجهي إليك، وألجأتُ ظهري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنتُ بكتابك الذي أنزلتَ، ونبيك الذي أرسلتَ، كل هذا تقدم، وهو من آداب النوم.
ومما يتعلق بالآداب أن الاضطجاع يكون على جنبه، أو مُستلقيًا، لا مُنبطحًا، ولما رأى يعيش وهو منبطح حرَّكه وقال: إنها ضجعة يُبغضها الله، وجاء لهذا الحديث شواهد تدل على أنه يُكره الاضطجاع على البطن، والسنة أن ينام على جنبه، وإذا احتاج إلى الاستراحة يستريح على ظهره، لا على بطنه، وهذا من الآداب الشرعية.
كذلك حديث أبي هريرة، وجاء في معناه حديث أبي سعيدٍ وغيره: أن من السنة لمن جلس مجلسًا أن يذكر الله، وأنه إذا جلس مجلسًا لم يذكر الله فيه كانت عليه ترة، يعني: حسرة يوم القيامة، وفي اللفظ الآخر: لم يذكر الله، ولم يُصلِّ على النبي ﷺ إلا كان عليه ترة.
فينبغي للمؤمن أن يعمر مجلسه بذكر الله، والصلاة على النبي ﷺ، فإذا جلس مجلسًا في بيته أو في أي مكانٍ لا يخله من ذكر الله، يقول: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، سبحان الله وبحمده، أي كلمةٍ من ذكر الله يقولها تنفع، أو يقرأ ما تيسر من القرآن، أو يُصلي على النبي ﷺ، كل هذا مما يُشرع في المجالس.
وفي بعضها: أنَّ مَن جلس مجلسًا لم يذكر الله فيه: ما من قومٍ يجلسون مجلسًا لم يذكروا الله فيه، ولم يُصلوا على نبيه، إلا تفرَّقوا عن مثل جيفة حمار.
الحاصل أنه يُستحب من القوم والجماعة والواحد إذا جلسوا مجلسًا ألا يُخلوه من ذكر الله، ومن الصلاة على النبي ﷺ، فهذا شيء ينفعه ولا يضرّه، وتُكتب له به حسنات، ويحمد العاقبة يوم القيامة، أما الغفلة فندامة يوم القيامة.
نسأل الله للجميع التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.
128- باب جواز الاستلقاء عَلَى القفا ووضع إحدى الرِّجلين عَلَى الأخرى إِذَا لم يَخف انكشاف العورة وجواز القعود متربعًا ومُحتبيًا
1/819- عن عبدِالله بن يزيد : أنَّه رأى رسولَ الله ﷺ مُستَلْقِيًا في المسجدِ، وَاضعًا إحْدَى رِجْلَيْهِ عَلى الأُخْرى. متفقٌ عَلَيْهِ.
2/820- وعن جابر بن سَمُرَة قَالَ: كَانَ النبيُّ ﷺ إذَا صَلَّى الْفَجْرَ تَرَبَّعَ في مَجْلِسِهِ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمسُ حَسْنَاء. حدِيث صحيح، رواه أَبُو داود وغيره بأسانيد صحيحةٍ.
3/821- وعنِ ابن عمر رضي الله عنهما قَالَ: رَأَيْتُ رسول الله ﷺ بفناءِ الكَعْبةِ مُحْتَبيًا بِيَدَيْهِ هكَذَا. وَوَصَفَ بِيَديه الاحْتِباء، وَهُوَ القُرفُصَاء. رواه البخاري.
4/822- وعن قَيْلَةَ بِنْت مَخْرمَةَ رضي الله عنها قالت: رأيتُ النَّبيَّ ﷺ وَهُوَ قَاعِدٌ القُرفُصَاءَ، فَلَمَّا رأيتُ رسولَ الله ﷺ المُتَخَشِّعَ في الجِلسةِ أُرْعِدْتُ مِنَ الفَرَقِ. رواه أَبُو داود، والترمذي.
5/823- وعنِ الشَّريد بن سُوَيْدٍ قَالَ: مَرَّ بي رسولُ الله ﷺ وَأنا جَالسٌ هكَذَا، وَقَدْ وَضَعْتُ يَدي اليُسْرَى خَلْفَ ظَهْرِي، وَاتَّكَأْتُ عَلَى إليَةِ يَدِي، فَقَالَ: أتَقْعُدُ قعْدةَ المَغضُوبِ عَلَيهمْ؟! رواه أبو داود بإسنادٍ صحيحٍ.
الشيخ: هذه الأحاديث الخمسة كلها تتعلق بصفات الجلوس، الجلوس معلوم أنَّ المسلم يجلس كيف شاء؛ ولهذا في حديث عمران بن حصين : أن النبي ﷺ قال له: صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنبٍ، ولم يُحدد له قعود، فعلى أية قعدة جلس في صلاته إذا كان مريضًا، وهكذا في التشهد الإبراهيمي إذا جلس فهو مُخيَّر: إذا شاء جلس مُتربعًا، وإن شاء جلس على رجله اليسرى وينصب اليمنى، وإن شاء جلس مُحتبيًا، وإن شاء جلس القُرفصاء، كل ذلك جائز.
والمحتبي: هو الذي ينصب رجليه وساقيه ويجلس على الأرض.
والقرفصاء يُسمونه الناس: القرفص؛ الذي يجلس على قدميه وينصب ساقيه ومقعدته مرتفعة عن الأرض قليلًا.
وكيفما جلس الإنسانُ فهو جائز، لكن الأفضل في الصلاة إذا كان قاعدًا من مرضٍ أن يكون مُتربعًا هكذا ..... اليمنى إلى اليسرى، واليسرى إلى اليمنى .....، وكذلك ذكر جابر بن سمرة: أنه رأى النبي ﷺ يجلس بعد الصبح مجلسه وفي مصلاه حتى تطلع الشمس مُتربعًا، وهذا يدل على فضل الجلوس بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس لذكر الله والتَّسبيح والتَّهليل والدعاء وقراءة القرآن، فإذا أراد أن يقوم صلَّى ركعتين كما في الحديث الآخر بعد طلوع الشمس وارتفاعها.
كذلك في حديث عبدالله بن زيد الدلالة على جواز الاستلقاء، وكون الإنسان يستلقي على ظهره وينصب رجليه، أو يجعل إحداهما على الأخرى، كل ذلك لا بأس، يجلس على جنبه، أو على ظهره، المكروه أن ينبطح، أما كونه على ظهره أو على أحد جنبيه فلا بأس بذلك.
والحاصل من هذا أنه كيفما جلس فلا حرج، وكيفما اضطجع فلا حرج، إلا الضّجعة التي على البطن فتُكره؛ لأنها ضجعة أهل النار يُسحبون على وجوههم، نسأل الله العافية، والأفضل في الجلسة التي تكون محلّ القيام للمُتنفل أو للمريض أن يكون متربعًا في محل القيام، وإذا كان مُستلقيًا فلا بد من التَّحفظ على عدم بدو العورة، وما جاء من الأحاديث من النهي أن يضطجع على ظهره ويضع إحدى رجليه على الأخرى حمله العلماءُ على ما إذا كان مكشوف العورة، أو تبدو العورة، أما إذا كانت العورةُ مستورةً بالثياب أو بالسراويل أو بالإزار ..... فلا حرج في ذلك، كما جاء في حديث عبدالله بن زيد، فإن كان مستورًا فلا بأس، وأما إذا وضع إحدى رجليه على الأخرى على وجهٍ يمكن أن تُرى عورته فهذا يُنهى عنه؛ لأنه قد يدخل عليه أحد؛ ولأنه مكروه له أن ينكشف ولو كان خاليًا، فالله أحقّ أن يُستحيا منه، فالأفضل والسنة له أن يتحفظ حتى ولو كان في غرفته، لا تبدو عورته إلا للحاجة: كقضاء الحاجة من بولٍ أو غائطٍ، أو مع زوجته، أما إبداؤها من دون حاجةٍ للتساهل فلا ينبغي هذا. وفَّق الله الجميع.
129- باب في آداب المجلس والجليس
1/824- عن ابنِ عمر رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُول الله ﷺ: لا يُقِيمَنَّ أحَدُكُمْ رَجُلًا مِنْ مَجْلسهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيه، ولكِنْ تَوسَّعُوا وتَفَسَّحوا، وَكَان ابنُ عُمَرَ إِذَا قام َلهُ رَجُلٌ مِنْ مَجْلِسه لَمْ يَجْلِسْ فِيه. مُتَّفَقٌ عليه.
2/825- وعن أبي هريرة : أن رسول الله ﷺ قَالَ: إِذَا قاَم أحَدُكُمْ منْ مَجْلسٍ ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ فَهُوَ أحَقُّ بِه رواه مسلم.
3/826- وعن جابر بنِ سَمُرَةَ رضي اللَّه عنهما قَالَ: كُنَّا إذَا أَتَيْنَا النَّبيَّ ﷺ جَلَسَ أَحَدُنَا حَيْثُ يَنْتَهي. رواه أَبو داود، والترمذي وَقالَ: حديث حسن.
الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة عن النبي عليه الصلاة والسلام كلها تتعلق بآداب المجلس والجليس، والشريعة المحمدية الإسلامية جاءت بالدعوة إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال والآداب في كل شيءٍ يتعامل به المسلمون: آداب المجلس، وآداب النكاح، وآداب الطلاق، وآداب المعاملات، وآداب المجالس، وآداب الزيارة، إلى غير هذا، كما جعلت للصلاة والزكاة وغيرها آداب.
فالمؤمن يتحرى الآداب الشرعية، ويتقيد بها، ويعتني بها، قال الله جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]، فالله سبحانه أمر بالتَّفسح في المجالس، وبالنُّشوز إذا دعت الحاجةُ؛ وهو القيام من مجلسٍ إلى مجلسٍ، أو من مكانٍ إلى مكانٍ، إذا وجَّه إليه المعني بالمجلس: قم يا فلان من هنا ..... تحوّل إلى هنا ..... ممن ينظر في المجلس ويُوجه الداخلين أو الزوار في مجالسهم؛ حتى لا تكون هناك مُضايقات ولا إيذاء لأحدٍ، ولا إهانة لأحدٍ.
وفي حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنه عليه الصلاة والسلام قال: لا يُقيمَنَّ الرجلُ الرجلَ من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن تفسَّحوا وتوسَّعوا متفق على صحته، هذا من الآداب العظيمة؛ أن الإنسان ما يُقيم أخاه من مجلسه، لا في الصفِّ، ولا في الحلقة، ولا في غير هذا من المجالس؛ لأنه أكبر منه، أو لأنه أعلم منه، أو لأسبابٍ، لا، بل ينتهي حيث ينتهي المجلس ..... كما في حديث جابر بن سمرة: أنهم كانوا إذا أتوا النبيَّ ﷺ جلسوا حيث ينتهي المجلس، لا يُزاحمون، ولا يُقيمون أحدًا، فمنتهى الحلقة منتهى الصفِّ من دون إيذاءٍ لأحدٍ، ولكن تفسَّحوا وتوسَّعوا، فإذا تفسحوا وتوسعوا وأدخلوا بعض القادمين بينهم في الفرجة فلا بأس، أما أن يزحمهم ويُؤذيهم فلا، لكن إذا تفسَّحوا له، وأوجدوا له فرجةً ودخل فيهم فلا بأس.
كان ابن عمر لا يقبل ممن يقوم له أن يجلس في مجلسه، كان بعض الناس إذا رأوا ابن عمر قاموا من حلقتهم أو من مكانهم في الصفِّ ليجلس في مكانهم، فيأبى، والسر في ذلك أنه كان يخشى أن يكون ذلك ليس عن طيب نفسٍ، ولكنه حياء، فلا يُحب أن يتعاطى شيئًا ليس عن طيب نفسٍ، سدَّ الباب رضي الله عنه وأرضاه حتى لا يتكلف الناس له، وهكذا أنت إذا خشيتَ أن يكون ذلك الرجلُ قام حياءً أو غير ذلك من المقاصد التي قد يعذر فيها فلا تقبل، أما إن كنتَ تعلم أنه عن محبةٍ وعن إيثارٍ وعن رغبةٍ ويسره أن تقبل منه فلا بأس.
وفي الحديث الثاني: إذا قام الرجلُ من مجلسه ثم عاد إليه فهو أحقُّ به، إذا تقدم إلى الصفِّ الأول أو الثاني أو الثالث، ثم عرض له عارضٌ: ذهب توضأ، أو عرض من العوارض فهو أحقّ بمجلسه إذا عاد إليه؛ لأنه سابقٌ إليه، وهذا القيام لعارضٍ: قام يتوضأ، أو قام لقربةٍ يشرب منها، أو ليأخذ مصحفًا، أو ما أشبه ذلك، فهو أحق بمجلسه وإن لم يكن جعل فيه شيئًا: لا بشتًا ولا غير ذلك، إذا علمتَ أنه مجلسه فهو أحق به؛ لأنه قام لعارضٍ، أما مَن تقدم ويحجز مكانًا في المساجد فلا يجوز، المساجد لمن سبق، ليس لمن يحجز مكانًا له، يمنع منه الناس، فالمكان لمن تقدم، ولمن سبق في الصف، الأول ثم الثاني ثم الثالث، وهكذا.
والسنة لمن دخل على حلقةٍ أو في المسجد أن ينتهي حيث ينتهي الصفُّ أو الحلقة، إلا إذا فسّح له أحدٌ، أو قام له أحدٌ ويعلم أنه عن طيب نفسٍ فلا بأس أن يقبل. وفَّق الله الجميع.