02 من قوله: ( فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ..)

وقوله جلت عظمته: وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ يعني الجيل المتأخر بعد القرن الأول المكذب للحق لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ أي: ليسوا على يقين من أمرهم وإيمانهم، وإنما هم مقلدون لآبائهم وأسلافهم بلا دليل ولا برهان، وهم في حيرة من أمرهم، وشك مريب، وشقاق بعيد.
فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [الشورى:15].
اشتملت هذه الآية الكريمة على عشر كلمات مستقلات، كل منها منفصلة عن التي قبلها، حكم برأسه، قالوا: ولا نظير لها سوى آية الكرسي، فإنها أيضًا عشرة فصول كهذه.
 وقوله: فَلِذَلِكَ فَادْعُ أي: فللذي أوحينا إليك من الدين الذي وصينا به جميع المرسلين قبلك، أصحاب الشرائع الكبار المتبعة كأولي العزم وغيرهم فادع الناس إليه.
وقوله : وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ أي: واستقم أنت ومن اتبعك على عبادة الله تعالى كما أمركم الله .
الشيخ: يعني دعوة مع استقامة حتى يكون داعية إلى الله بالفعل والقول، فالداعي إلى الله يدعو إلى الله بالآيات والأحاديث ويدعو إلى الله أيضاً بفعله باستقامته هو على الحق حتى يرى الناس عمله يطابق قوله، فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ، وفي الآية الأخرى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا [هود:112].
 وقوله تعالى: وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ يعني المشركين فيما اختلفوا فيه وكذبوه وافتروه من عبادة الأوثان.
وقوله جل وعلا: وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ أي: صدقت بجميع الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء، لا نفرق بين أحد منهم. وقوله: وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ أي: في الحكم كما أمرني الله، وقوله جلت عظمته: اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ أي: هو المعبود لا إله غيره، فنحن نقر بذلك اختيارًا، وأنتم وإن لم تفعلوه اختيارا فله يسجد من في العالمين طوعا واجبارًا.

الشيخ: يعني العلوي والسفلي، وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا [الرعد:15] .
وقوله تبارك وتعالى: لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ أي: نحن برآء منكم، كما قال : وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس:41].
الشيخ: لأن المشرك أنت بريء منه، وهو بريء منك، فالله رب الجميع، وخالقهم، وموجدهم، لكن هو إله المؤمنين، ومعبودهم الحق، والكفار خالفوا في ذلك، فلهذا قال: لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ  لنا أعمالنا المخلصة لله، ولكم أعمالكم الباطلة.
وقوله تعالى: لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ قال مجاهد: أي لا خصومة. قال السدي: وذلك قبل نزول آية السيف، وهذا متجه، لأن هذه الآية مكية، وآية السيف بعد الهجرة.
الشيخ: وآية السيف قوله جل وعلا: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:5] في أول الإسلام لا نبدأهم بالقتال إلا إذا بدؤونا ندافع، وهذا معنى قوله جل وعلا: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256]، ثم نسخ هذا لما قوي المسلمون أمروا بالقتال، فكان ناسخًا لما كان في أول الإسلام من الكف عنهم إلا إذا قاتلوا، وهذا معنى لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ يعني لا خصومة بيننا وبينكم، إنما ندعوكم إلى الله، ما بيننا خصومة، بيننا الدعوة إلى الله، ندعوكم إلى الحق وترك الباطل فقط، لكن ما بيننا خصومة، ندعوكم إلى شيء ينفعكم،  ولهذا قال جل وعلا: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الشورى:16]، خصومتهم داحضة، لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ندعوكم إلى الشيء الذي فيه سعادتكم ونجاتكم، وهو توحيد الله والإخلاص له، ما في خصومات، ندعوكم إلى شيء واحد أن تخصوا الله بالعبادة، وأن تفردوه بالعبادة دون كل ما سواه، وهذا فيه نجاتكم وسعادتكم، وليس لنا في ذلك خصومة ولا حظ، إلا طاعة الله ورسوله.
وقوله : اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا أي: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ [سبأ:26]، وقوله جل وعلا: وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي: المرجع والمآب يوم الحساب.
الشيخ: والمعنى استعدوا لهذا اليوم الذي فيه الجمع وإليه المصير، فهو يوم عظيم لا ينجو فيه إلا الموحدون المخلصون الصادقون، هذا اليوم لا بدّ منه، لا بدّ أن يجمع بيننا وبينكم يوم القيامة فاحذروا مغبة هذا التفريق حين تجمعون يوم القيامة، ثم يؤمر بكم إلى النار، فالمصير إلى الله والمجتمع بين يديه يوم القيامة، والمحاسب الله ، والقاضي هو الله ، فليحذر العاقل هذا اليوم، فإنه يوم فصل، هذا اليوم يوم الفصل، يفصل الله به بين العباد، فهؤلاء إلى الجنة بما سبق من أعمالهم الطيبة، وهؤلاء إلى النار بما سبق من أعمالهم الخبيثة، فالعاقل لا يغفل هذا اليوم، يجعله على باله ويعمل أسباب النجاة لذلك اليوم، ويحذر أسباب الهلاك.
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ۝ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ۝ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ [الشورى:16-18].
يقول تعالى متوعدًا الذين يصدون عن سبيل الله من آمن به: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ أي: يجادلون المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله ليصدوهم عما سلكوه من طريق الهدى حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي: باطلة عند الله، وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ أي: منه، وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ أي: يوم القيامة، قال ابن عباس ومجاهد: جادلوا المؤمنين بعد ما استجابوا لله ولرسوله ليصدوهم عن الهدى، وطمعوا أن تعود الجاهلية، وقال قتادة: هم اليهود والنصارى قالوا لهم: ديننا خير من دينكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن خير منكم، وأولى بالله منكم، وقد كذبوا في ذلك.
الشيخ: والآية عامة، تعم اليهود والنصارى وغيرهم، كل من يحاجج في الله في الباطل فهو داخل في الآية، حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ يهوديًا، أو نصرانيًا، أو شيوعيًا، أو علمانيًا، أو وثنيًا، أو غير ذلك، كل من خاصم في الباطل فحجته داحضة؛ لأنه يخاصم في الباطل، وينصر الباطل، والله جل وعلا أنزل كتابه بالحق، ولنصر الحق، ودمغ الباطل، فالمحاج في الله ضد الحق هو المبطل والمخصوم، والمحاج في الله لإقامة الحق ونصر الحق هو المنصور وهو المصيب.
ثم قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ يعني الكتب المنزلة من عنده على أنبيائه، وَالْمِيزَانَ وهو العدل والإنصاف، قاله مجاهد وقتادة، وهذه كقوله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد:25]، وقوله: وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ۝ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ۝ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ  [الرحمن:7-9].
الشيخ: يعني أوضح لهم الحق الذي به وزن الأمور، فلا يجوز أن يخالف الحق الذي أنزله، هذا هو بخس الميزان، بل يجب البقاء على الحق والقيام بالقسط والحذر من الظلم، هذا هو الميزان الوقوف مع الحق والدعوة إليه والحذر من الباطل.
وقوله تبارك وتعالى: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ فيه ترغيب فيها، وترهيب منها، وتزهيد في الدنيا، وقوله : يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا أي: يقولون: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [سبأ:29]، وإنما يقولون ذلك تكذيبًا، واستبعادًا، وكفرًا، وعنادًا، وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا أي: خائفون وجلون من وقوعها، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أي: كائنة لا محالة، فهم مستعدون لها، عاملون من أجلها.
وقد روي من طرق تبلغ درجة التواتر في الصحاح والحسان والسنن والمسانيد، وفي بعض ألفاظه أن رجلًا سأل رسول الله ﷺ بصوت جهوري وهو في بعض أسفاره، فناداه فقال: يا محمد، فقال له رسول الله ﷺ نحوًا من صوته: هاؤم، فقال له: متى الساعة؟ فقال رسول الله ﷺ: ويحك، إنها كائنة، فما أعددت لها؟ فقال: حب الله ورسوله، فقال ﷺ: أنت مع من أحببت، فقوله في الحديث: المرء مع من أحب هذا متواتر لا محالة، والغرض أنه لم يجبه عن وقت الساعة، بل أمره بالاستعداد لها.
الشيخ: قال أنس: فما استبشر المسلمون بشيء مثل هذا، أن الإنسان مع من أحب، قال أنس: "وأنا أحب الله ورسوله وأحب أبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم"، فالمقصود أن المؤمن يعد العدة لهذا اليوم، ليس الأهم وجودها، فهي كائنة، لكن أهل الباطل يستعجلون بها؛ لأنهم ما أعدوا لها، مكذبون، لكن أهل الإيمان مصدقون خائفون منها، مشفقون منها، ما يدرون ماذا يكون يوم القيامة، يخشون على أنفسهم منها، فلهذا يستعدون ويجتهدون في طاعة الله والقيام بحقه والوقوف عند حدوه، يخشون هذا اليوم العظيم، يخشون أن يهلكوا في هذا اليوم، وأن يكونوا مع الهالكين مع أصحاب النار، فالواجب الإعداد لها، ولهذا قال: ماذا أعددت لها؟ قال: حب الله ورسوله، يعني أعددت حب الله ورسوله، قال: أنت مع من أحببت! وليس الحب الذي يدعى فقط، لا الحب مع العمل حب صادق، الحب الصادق معه العمل، أما دعوى الحب ما ينفع، لا بدّ من دعوى معها عمل، إذا كان أعد حب الله ورسوله فليعمل.
وقوله تعالى: أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ أي: يجادلون في وجودها ويدفعون وقوعها، لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ أي: في جهل بين؛ لأن الذي خلق السموات والأرض قادر على إحياء الموتى بطريق الأولى والأحرى، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27].
الشيخ: ثم بالنظر في دراسة الأمور بالعقول الصحيحة أمرك بالعمل، ونهاك عن أشياء، ثم يهملك؟ ما في جزاء؟ ما يمكن هذا! العقول الصحيحة تشهد بالقيامة والجزاء، الناس مختلفون، أكثرهم لا يعمل ولا يطيع الرسل، فماذا جزاء من أطاع الرسل؟ كلهم يموتون، لا بدّ من جزاء يوم القيامة، هي دار الجزاء، فالمطيعون لهم جزاؤهم المناسب، وهو الجنة والكرامة، والمعرضون الغافلون المكابرون لهم جزاؤهم المناسب وهو النار، فالعقول الصحيحة تشهد بيوم القيامة، وتشهد بالجنة والنار، وتشهد بالجزاء؛ لأن هذا العالم مختلف، فلا بدّ له من جزاء.
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ۝ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ۝ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۝ تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ  [الشورى:19-22].
يقول تعالى مخبرًا عن لطفه بخلقه في رزقه إياهم عن آخرهم، لا ينسى أحدًا منهم، سواء في رزقه البر والفاجر، كقوله : وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6] ولها نظائر كثيرة، وقوله جل وعلا: يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ أي: يوسع على من يشاء وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ أي: لا يعجزه شيء.
الشيخ: وهذا من رحمته وإحسانه؛ ولهذا قال جل وعلا: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ فهو رحيم بهم، إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة:143] لولا رحمته ولطفه كيف يعيش الكفار في النعم وهم يعبدون غيره، ويسبونه، ومع هذا أنزل المطر وأنبت النبات وأعطاهم الحياة والأرزاق الكثيرة، كل هذا من لطفه ورحمته، ابتلاء وامتحان، قال تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [إبراهيم:42] فلا ينبغي للعاقل أن يغتر بلطف الله ورحمته وإحسانه وإملائه، لا، يجب أن يحذر معصيته، ويجب أن يحذر الجرأة على محارمه والتساهل في حقه، فلا يجوز أن يغتر بلطفه ورحمته وإملائه وإمهاله، وهو جل وعلا يملي ولا يغفل، قال تعالى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ [الأعراف:182]، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:183]، فالعاقل الحازم هو الذي يحذر ولا يغتر بإمهال الله وسعة جوده ورحمته بعباده، لو آخذ الناس ما بقي أحد، لو عاقب كل عاص وكل كافر حالاً ما بقي أحد، قال جل وعلا: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [فاطر:45]، وفي الآية الأخرى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [النحل:61]، فلولا هذا الحلم وهذا اللطف ما عاش الناس في الدنيا، هلكوا عن آخرهم؛ لأن أكثرهم مجرم عاص لربه، فلو آخذهم لهلكوا!.
ثم قال : مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ أي: عمل الآخرة، نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ أي: نقويه ونعينه على ما هو بصدده، ونكثر نماءه، ونجزيه بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما يشاء الله، وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ أي: ومن كان إنما سعيه ليحصل له شيء من الدنيا وليس له إلى الآخرة هم ألبتة بالكلية حرمه الله الآخرة والدنيا، إن شاء أعطاه منها وإن لم يشأ لم يحصل لا هذه ولا هذه، وفاز هذا الساعي بهذه النية بالصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة، والدليل على هذا أن هذه الآية هاهنا مقيدة بالآية التي في (سبحان) وهي قوله تبارك وتعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ۝ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ۝ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ۝ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [الإسراء:18-21].

الشيخ: والمعنى في هذا أن من أراد الدنيا قد يعطى منها، قد يستدرج وقد يمنع، ولهذا قال سورة بني إسرائيل سورة سبحان.

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ مقيد فهذه تقيد الآية الأخرى وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ فهذه مقيدة وهكذا الآية الأخرى، إذا أتاك ما تريد في الدنيا مقيد بمشيئة الله جل وعلا عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ، فالمؤمن على خير عظيم، ولو منع بعض الشيء في الدنيا، فهو على خير عظيم، يجمع الله له بين الدنيا والآخرة، وما حرمه من الدنيا لا يفوته أجره مع الصبر والاحتساب، ومن كان يريد الآخرة فله الأجر العظيم والفوز العظيم، ولهذا قال: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا إذا أرادها وسعى لها سعيها، عمل عملها أعطاه الله الخير العظيم، فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ فالمؤمن يحاسب نفسه ويجتهد في طلب الآخرة، ويأخذ من الدنيا ما يسر الله له، ما يعينه على طاعة الله، ولا يصده عن الآخرة، ولكن إنما يعطى ما يرضاه الله مع الجزاء العظيم في الجنة، إذا أراد الآخرة وسعى لها سعيها عن إيمان وعن صدق لهذا قال: وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء:19]، فطلب الآخرة ليس بالأماني والكلام، لا، لا بدّ من عمل، الصادق الذي يريد الآخرة يعمل، يعمل لها عملها عن إيمان وعن صدق.

وقال الثوري عن معمر عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله ﷺ: بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصر والتمكين في الأرض فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب.
..........
الشيخ: يجاهد نفسه، كما قال سفيان وغيره: طلبنا العلم للدنيا فأبى الله إلا أن يكون للآخرة، فيجاهد نفسه إذا طلب العلم لأجل الوظيفة، يجاهد نفسه حتى يصلح الله نيته، ويبشر بالخير إن شاء الله مع المجاهدة.
........
الشيخ: على كل حال يراجع مسند أبي في المسند.
 وقوله جل وعلا: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ أي: هم لا يتبعون ما شرع الله لك من الدين القويم، بل يتبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس من تحريم ما حرموا عليهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وتحليل أكل الميتة والدم والقمار إلى نحو ذلك من الضلالات والجهالة الباطلة التي كانوا قد اخترعوها في جاهليتهم من التحليل والتحريم والعبادات الباطلة والأموال الفاسدة.
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: رأيت عمرو بن لحي بن قمعة يجر قصبه في النار.
الشيخ: قصبه يعني أمعاءه.
لأنه أول من سيب السوائب، وكان هذا الرجل أحد ملوك خزاعة، وهو أول من فعل هذه الأشياء، وهو الذي حمل قريشًا على عبادة الأصنام لعنه الله وقبحه.
الشيخ: لما تولى مكة حملهم على عبادة الأصنام، وبحث عنها حتى أتى بها، ود وسواع ويغوث ويعوق، نسأل الله السلامة.
ولهذا قال تعالى: وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي: لعوجلوا بالعقوبة لولا ما تقدم من الإنظار إلى يوم المعاد، وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أي: شديد موجع في جهنم وبئس المصير.
ثم قال تعالى: تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا أي: في عرصات القيامة، وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ  أي الذي يخافون منه واقع بهم لا محالة، هذا حالهم يوم معادهم، وهم في هذا الخوف والوجل، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ فأين هذا من هذا؟ أين من هو في العرصات في الذل والهوان والخوف المحقق عليه بظلمه، ممن هو في روضات الجنات، فيما يشاء من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومناظر ومناكح وملاذ، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
الشيخ: الفرق عظيم، الفرق عظيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الناجين ومن السعداء، يا له من فرق عظيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، هذا في غمرات النار، وهذا في روضات الجنات، فرق عظيم، نسأل الله العافية.
.........
الشيخ: فيهم التفصيل؛ لأن منهم الكافر، ومنهم غير الكافر.
قال الحسن بن عرفة: حدثنا عمرو بن عبدالرحمن الأبار، حدثنا محمد بن سعد الأنصاري عن أبي طيبة، قال: إن الشرب من أهل الجنة.
الشيخ: الشرب المجتمعين يشربون مثل الركب جمع راكب
إن الشرب من أهل الجنة لتظلهم السحابة فتقول: ما أمطركم؟ قال: فما يدعو داع من القوم بشيء إلا أمطرتهم، حتى إن القائل منهم ليقول: أمطرينا كواعب أترابا. ورواه ابن جرير عن الحسن بن عرفة به، ولهذا قال تعالى: ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ أي: الفوز العظيم، والنعمة التامة السابغة الشاملة العامة.
الشيخ: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ، يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ [الدخان: 55] وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ [يس:57]، وما يطلبون موافق للحديث، المقصود أن أهل الجنة لهم ما يطلبون، إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ۝ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ۝ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ [يس:55-57]، وفي الآية الأخرى: أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ۝ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ  [فصلت:30-31] يعني تطلبون، نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:32] من طلب الحور، من طلب الشراب، من طلب الفاكهة، أي شيء يطلبون يعطون، الله أكبر.
س: النساء يحتجبن عن الأجانب في الجنة؟
الشيخ: ما بلغنا شيء في هذا، ما في الجنة منافسات يخشى منها الزنا، ما فيها معاص، كلها طاعات، كل قانع بأهله، كل راض بأهله، ولا يحتاج إلى النظر بغيرهم.
س: ذكر ابن القيم في حادي الأرواح أن العلماء يتنعمون بالعلم الشرعي في الجنة يتذاكرون؟
الشيخ: ما هو ببعيد.
ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ۝ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [الشورى:23، 24].
يقول تعالى لما ذكر روضات الجنات، لعباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أي هذا حاصل لهم كائن لا محالة ببشارة الله تعالى لهم به.
 وقوله : قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من كفار قريش لا أسألكم على هذا البلاغ والنصح لكم ما لا تعطونيه، وإنما أطلب منكم أن تكفوا شركم عني وتذروني أبلغ رسالات ربي، إن لم تنصروني فلا تؤذوني بما بيني وبينكم من القرابة.
قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن عبدالملك بن ميسرة قال: سمعت طاوسًا يحدث عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن قوله تعالى: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى سعيد بن جبير: قربى آل محمد، فقال ابن عباس: عجلت.
الطالب: في توضيح يقول: في البغوي يقول: عجبت.
الشيخ: أيش بعده؟
الطالب: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى فقال سعيد بن جبير: قربى آل محمد فقال ابن عباس: عجلت.
الشيخ: يقول يعني لسعيد عجلت أو عجلت كله واحد، يعني عجلت في التفسير.
الطالب: في البغوي يقول: عجبت.
الشيخ: لا عجلت أو عجلت باللام.
إن النبي ﷺ لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة، انفرد به البخاري،
الشيخ: يعني ما أطلب منكم أجرًا تعطوني فلوس وإلا شيء، إنما تراعوا القرابة التي بيني وبينكم، تراعوا هذه القرابة ودعوني أبلغ رسالات ربي إذا لم يكن منكم قبول، فلا أقل من أن تراقبوا قرابتي ورحمي فيكم حتى تذروني أبلغ رسالات ربي.
ورواه الإمام أحمد عن يحيى القطان عن شعبة به، وهكذا روى عامر الشعبي والضحاك وعلي بن أبي طلحة والعوفي ويوسف بن مهران وغير واحد عن ابن عباس رضي الله عنهما مثله، وبه قال مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وأبو مالك وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا هاشم بن القاسم بن يزيد الطبراني وجعفر القلانسي قالا: حدثنا آدم بن أبي إياس، حدثنا شريك، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لهم رسول الله ﷺ: لا أسألكم عليه أجرًا إلا أن تودوني في نفسي لقرابتي منكم، وتحفظوا القرابة بيني وبينكم.
 وروى الإمام أحمد عن حسن بن موسى، حدثنا قزعة، يعني: ابن سويد وبن أبي حاتم، عن أبيه، عن مسلم بن إبراهيم، عن قزعة بن سويد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: لا أسألكم على ما آتيتكم من البينات والهدى أجرًا إلا أن توادوا الله وأن تقربوا إليه بطاعته وهكذا روى قتادة عن الحسن البصري مثله وهذا كأنه تفسير بقول ثان، كأنه يقول: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى أي: إلا أن تعملوا بالطاعة التي تقربكم عند الله زلفى.
وقول ثالث: وهو ما حكاه البخاري وغيره رواية عن سعيد بن جبير ما معناه أنه قال: معنى ذلك أن تودوني في قرابتي؛ أي تحسنوا إليهم وتبروهم.
وقال السدي عن أبي الديلم قال: لما جيء بعلي بن الحسين أسيرًا فأقيم على درج دمشق، قام رجل من أهل الشام فقال: الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرني الفتنة، فقال له علي بن الحسين : أقرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: أقرأت آل حم؟ قال: قرأت القرآن ولم أقرأ آل حم، قال: ما قرأت قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى   قال: وإنكم لأنتم هم؟ قال: نعم.
وقال أبو إسحاق السبيعي: سألت عمرو بن شعيب عن قوله تبارك وتعالى: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى  فقال: قربى النبي ﷺ. رواهما ابن جرير.
ثم قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا عبدالسلام، حدثني يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قالت الأنصار: فعلنا وفعلنا وكأنهم فخروا، فقال ابن عباس أو العباس رضي الله عنهما- شك عبدالسلام- لنا الفضل عليكم، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فأتاهم في مجالسهم فقال: يا معشر الأنصار ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله بي؟، قالوا: بلى يا رسول الله، قال ﷺ: ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بي؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: أفلا تجيبوني؟ قالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: ألا تقولون ألم يخرجك قومك فآويناك، أولم يكذبوك فصدقناك، أولم يخذلوك فنصرناك قال: فما زال ﷺ يقول حتى جثوا على الركب، وقالوا: أموالنا في أيدينا لله ولرسوله، قال: فنزلت قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى، وهكذا رواه ابن أبي حاتم، عن علي بن الحسين، عن عبدالمؤمن بن علي، عن عبدالسلام، عن يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف بإسناده مثله أو قريبًا منه.
وفي الصحيحين في قسم غنائم حنين قريب من هذا السياق، ولكن ليس فيه ذكر نزول هذه الآية، وذكر نزولها في المدينة فيه نظر؛ لأن السورة مكية وليس يظهر بين هذه الآية وهذه السياق مناسبة، والله أعلم.
الشيخ: والأصح في هذا مثل ما تقدم إلا أن تودوني في القربى، يعني أن تراعوا قرابتي وصلة رحمي حتى أبلغ رسالات ربي؛ لأنها مكية، يعني إن لم يكن منكم قبول للحق فلا أقل من أن تصلوا الرحم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا رجل سماه، حدثنا حسين الأشقر، عن قيس، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس ، قال: لما نزلت هذه الآية قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى قالوا: يا رسول الله، من هؤلاء الذين أمر الله بمودتهم؟ قال: فاطمة وولدها رضي الله عنهما وهذا إسناد ضعيف فيه مبهم لا يعرف عن شيخ شيعي مخترق، وهو حسين الأشقر، ولا يقبل خبره في هذا المحل. 
الشيخ: وأيضًا مكية، وفاطمة وأولادها كلهم كانوا في المدينة.
........
الشيخ: بذاته مما يقويه بذاته، إذا كان غير غال، أما الغالي ما تقبل روايته مطلقًا، نسأل الله العافية.
وذكر نزول الآية في المدينة بعيد، فإنها مكية، ولم يكن إذ ذاك لفاطمة رضي الله عنها أولاد بالكلية، فإنها لم تتزوج بعلي إلا بعد بدر من السنة الثانية من الهجرة، والحق تفسير هذه الآية بما فسرها به حبر الأمة وترجمان القرآن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما كما رواه عنه البخاري، ولا تنكر الوصاة بأهل البيت والأمر بالإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم، فإنهم من ذرية طاهرة من أشرف بيت وجد على وجه الأرض فخرًا وحسبًا ونسبًا، ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية، كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه، وعلي وأهل بيته وذريته أجمعين.
الشيخ: وأهل البيت لهم حق إكرامهم والإحسان إليهم ما استقاموا على الحق، لكن الآية ما هي فيهم، الآية في القربى من حيث العموم، قرابة ما بين النبي وما بين قريش وغيرهم.
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ قال في خطبته بغدير خُم: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي، وإنهما لم يفترقا حتى يردا على الحوض.
الشيخ: المقصود أهل بيته المستقيمين المتابعين للكتاب والسنة، ولهذا قال: أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، الذين تابعوه واستقاموا على دينه، أما من حاد عن ذلك من الرافضة وأتباعهم فهؤلاء ليسوا من أهل بيته في الحقيقة، بل ضلوا عن السبيل، مثل أبي لهب وأبي طالب وغيرهم ممن ضل عن السبيل.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبدالله بن الحارث، عن العباس بن عبدالمطلب قال: قلت: يا رسول الله إن قريشًا إذا لقي بعضهم بعضًا لقوهم ببشر حسن، وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها، قال: فغضب النبي ﷺ غضبًا شديدًا وقال: والذي نفسي بيده لا يدخل قلب الرجل الإيمان حتى يحبكم لله ورسوله.
ثم قال أحمد: حدثنا جرير، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبدالله بن الحارث، عن عبدالمطلب بن ربيعة، قال: دخل العباس على رسول الله ﷺ فقال: إنا لنخرج فنرى قريشًا تحدث، فإذا رأونا سكتوا، فغضب رسول الله ﷺ ودر عرق بين عينيه ثم قال ﷺ: والله لا يدخل قلب امرئ مسلم إيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي.
الشيخ: محبتهم لله حق من كمال الإيمان، ويزيد بن أبي زياد هذا شيعي ضعيف.
وقال البخاري: حدثنا عبدالله بن عبدالوهاب، حدثنا خالد، حدثنا شعبة عن واقد قال: سمعت أبي يحدث عن ابن عمر رضي الله عنهما عن أبي بكر الصديق قال: ارقبوا محمدا ﷺ في أهل بيته.
وفي الصحيح أن الصديق قال لعلي : والله لقرابة رسول الله ﷺ أحب إلي أن أصل من قرابتي، وقال عمر بن الخطاب للعباس رضي الله عنهما: والله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم؛ لأن إسلامك كان أحب إلى رسول الله ﷺ من إسلام الخطاب. فحال الشيخين رضي الله عنهما هو الواجب على كل أحد أن يكون كذلك، ولهذا كانا أفضل المؤمنين بعد النبيين والمرسلين رضي الله عنهما وعن سائر الصحابة أجمعين.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أبي حيان التيمي، حدثني يزيد بن حيان قال: انطلقت أنا وحصين بن ميسرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم ، فلما جلسنا إليه قال حصين: لقد لقيت يا زيد خيرًا كثيرًا، رأيت رسول الله ﷺ وسمعت حديثه، وغزوت معه، وصليت معه، لقد رأيت يا زيد خيرًا كثيرًا، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله ﷺ، فقال: يا ابن أخي والله لقد كبر سني وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله ﷺ فما حدثتكم فاقبلوه وما لا فلا تكلفونيه، ثم قال : قام رسول الله ﷺ يومًا خطيبًا فينا بماء يدعى خمًا بين مكة والمدينة، فحمد الله تعالى وأثنى عليه وذكر ووعظ، ثم قال ﷺ: أما بعد، ألا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين: أولهما كتاب الله تعالى فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه وقال ﷺ: وأهل بيتي أذكركم في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: إن نساءه لسن من أهل بيته.
الشيخ: المعروف أن نساءه من أهل بيته، يعني من أهل بيته في الإكرام والاحترام والعناية بهن، ولكن لسن من أهل بيته في الصدقة .. صلح مثل ما عندهم: إن نساءه من أهل بيته هذا المعروف في الرواية.
قال: إن نساءه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم عليه الصدقة بعده، قال: ومن هم؟
قال: هم آل علي وآل عقيل.
الشيخ: يعني ولكن أهل بيته عند الإطلاق يعني.
الطالب: السياق يقتضي أنهن لسن من أهل بيته؟
الشيخ: لا، لكن أهل بيته على الحقيقة من جهة الصدقة، نساؤه من أهل بيته من جهة الاحترام، ولسن من أهل بيته من جهة الصدقة. حط عليه إشارة.
قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل العباس .
الشيخ: يعني وهؤلاء منهم وأهل بيته هم بنو هاشم.
قال: أكل هؤلاء حرم عليه الصدقة؟ قال: نعم، وهكذا رواه مسلم والنسائي من طرق عن يزيد بن حيان به.
وقال أبو عيسى الترمذي: حدثنا علي بن المنذر الكوفي، حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد والأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن زيد بن أرقم ، قال: قال رسول الله ﷺ: إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي؛ أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، والآخر عترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما تفرد بروايته ثم قال: هذا حديث حسن غريب.
الشيخ: والمراد من هذا أهل بيته المستقيمون على طريق الحق، وهم علي   والحسن والحسين ومن سار على نهجهم، فهؤلاء يجب احترامهم، ومعرفة فضلهم، والإحسان إليهم، والرفق بهم، وإعطاءهم حقوقهم أكمل مما يراعى غيرهم، لكن ليس على طريقة الرافضة من الغلو؛ لأن هذا منكر لا يجوز، وإنما المقصود إعطاؤهم حقوقهم من بيت المال، ومن الرفق والحكمة والإحسان والترضي عنهم ؛ لأنهم استقاموا على دينه، بخلاف أبي لهب وأبي طالب وغيرهما ممن خالف دينه فليس لهم احترام، بل لهم النار، نعوذ بالله يوم القيامة.
وقال الترمذي أيضا: حدثنا نصر بن عبدالرحمن الكوفي، حدثنا زيد بن الحسن عن جعفر بن محمد بن الحسن عن أبيه عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله ﷺ في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: يا أيها الناس إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا؛ كتاب الله، وعترتي أهل بيتي تفرد به الترمذي أيضا، وقال: حسن غريب، وفي الباب عن أبي ذر وأبي سعيد وزيد بن أرقم وحذيفة بن أسيد .
ثم قال الترمذي أيضًا: حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث، حدثنا يحيى بن معين، حدثنا هشام بن يوسف، عن عبدالله بن سليمان النوفلي، عن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس، عن أبيه، عن جده عبدالله بن عباس ، قال: قال رسول الله ﷺ: أحبوا الله تعالى لما يغذوكم من نعمه، وأحبوني بحب الله، وأحبوا أهل بيتي بحبي ثم قال: حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه، وقد أوردنا أحاديث أخر عند قوله تعالى: إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33] بما أغنى عن إعادتها هاهنا، ولله الحمد والمنة.
الشيخ: والمقصود من هذا كله محبتهم في الله إذا استقاموا، وإعطاؤهم حقوقهم من بيت المال وغير هذا، لا كالرافضة -قبحهم الله- من الغلو في أهل البيت، وبدعائهم من دون الله، واعتقاد أنهم يعلمون الغيب، وما أشبه ذلك مما فعله الرافضة، فهذا من أعظم الباطل والكفر والضلال، ولكن يحبون في الله، ويعطون حقوقهم التي لهم في شرع الله إذا استقاموا على دين الله.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا مفضل بن عبدالله، عن أبي إسحاق عن حنش، قال: سمعت أبا ذر وهو آخذ بحلقة الباب يقول: يا أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن أنكرني فأنا أبو ذر سمعت رسول الله ﷺ يقول: إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح عليه الصلاة والسلام من دخلها نجا، ومن تخلف عنها هلك هذا بهذا الإسناد ضعيف.
الشيخ: بل موضوع، لأن سفينة نوح شريعة الله جل وعلا الكتاب والسنة، من أخذ بهما نجا، ومن تخلف عنهما هلك، أما أهل البيت فليسوا كسفينة نوح، لكن لو صح لكان المقصود من استقام على دين الله، لكنه موضوع من وضع الرافضة.
............
الشيخ: ما هو صحيح، لكن لو وجد شيئًا صحيحًا فيحمل على من استقام كعلي والحسن والحسين فيما وافقوا فيه الشريعة.