04 من قوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا..)

وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ۝ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ۝ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ [الشورى:29-31].
يقول تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ الدالة على عظمته وقدرته العظيمة وسلطانه القاهر خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا أي ذرأ فيهما أي: في السموات والأرض مِنْ دَابَّةٍ وهذا يشمل الملائكة والإنس والجن.
الشيخ: هذه من آياته العظيمة، الآية: العلامة، الدليل، أي من دلائل قدرته العظيمة وأنه رب العالمين، وأنه الخلاق العليم، وأنه المستحق لأن يعبد ويعظم، هذه المخلوقات الكثيرة في السماء والأرض هي من الدلائل على عظمته واستحقاقه العبادة جل وعلا، وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ [النور:45] يعم الخلائق، كل دابة كل ما يدب على الأرض أو في السماء.
وهذا يشمل الملائكة والإنس والجن وسائر الحيوانات على اختلاف أشكالهم، وألوانهم، ولغاتهم، وطباعهم، وأجناسهم، وأنواعهم، وقد فرقهم في أرجاء أقطار السموات والأرض، وهو مع هذا كله عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ أي: يوم القيامة يجمع الأولين والآخرين وسائر الخلائق في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، فيحكم فيهم بحكمه العدل الحق.
وقوله : وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ أي: مهما أصابكم أيها الناس من المصائب فإنما هي عن سيئات تقدمت لكم، وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ أي: من السيئات فلا يجازيكم عليها، بل يعفو عنها وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [فاطر:45]، وفي الحديث الصحيح: والذي نفسي بيده ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن إلا كفر الله عنه بها من خطاياه حتى الشوكة يشاكها.
وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، حدثنا أيوب قال: قرأت في كتاب أبي قلابة قال نزلت: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [الزلزلة:7] وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:8]، وأبو بكر يأكل فأمسك، وقال: يا رسول الله، إني أرى ما عملت من خير وشر، فقال: أرأيت ما رأيت مما تكره، فهو من مثاقيل ذر الشر وتدخر مثاقيل الخير حتى تعطاه يوم القيامة وقال: قال أبو إدريس: فإني أرى مصداقها في كتاب الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ثم رواه من وجه آخر عن أبي قلابة عن أنس قال: والأول أصح.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع، حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، حدثنا الأزهر بن راشد الكاهلي، عن الخضر بن القواس البجلي، عن أبي سخيلة، عن علي قال: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله ، وحدثنا به رسول الله ﷺ، قال: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ، وسأفسرها لك يا علي: ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم، والله تعالى أحلم من أن يثني عليه العقوبة في الآخرة، وما عفا الله عنه في الدنيا فالله تعالى أكرم من أن يعود بعد عفوه وكذا رواه الإمام أحمد عن مروان بن معاوية وعبدة عن أبي سخيلة قال: قال علي فذكر نحوه مرفوعًا.
س: ........
الشيخ: الحديث في صحته نظر، المعنى صحيح، لعله وهم؛ لأن أفضل آية في القرآن آية الكرسي بالنص أعظم آية في كتاب الله آية الكرسي.
شف الأزهر بن راشد في التقريب والخضر بن القواس وأبا سخيلة.
.........
الشيخ: الملائكة خلقوا من النور يستثنوا، خلقت الملائكة من النور نعم.
ثم روى ابن أبي حاتم من وجه آخر موقوفًا فقال: حدثنا أبي، حدثنا منصور بن أبي مزاحم، حدثنا أبو سعيد بن أبي الوضاح، عن أبي الحسن، عن أبي جحيفة، قال دخلت على علي بن أبي طالب فقال: ألا أحدثكم بحديث ينبغي لكل مؤمن أن يعيه؟ قال: فسألناه فتلا هذه الآية وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، قال ما عاقب الله تعالى به في الدنيا فالله أحلم من أن يثني عليه العقوبة يوم القيامة، وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يعود عفوه يوم القيامة.
الشيخ: وهذا المعنى ثبت في الصحيحين في بيعة الصحابة للنبي ﷺ أنه قال لهم: من أدركه الله في الدنيا كان كفارة له، من عوقب في الدنيا لم يعد عليه العقوبة كانت كفارة له، فإذا أقيم عليه الحد حد الزنا حد السرقة وغير ذلك كان كفارة له إذا لم يعد.
.........
الشيخ: والخضر بن القواس وأبو سخيلة؟
.........
الشيخ: يسقط حق الورثة وحق الله، ويبقى حق القتيل يرضيه الله يوم القيامة، يرضيه الله إذا كانت التوبة صادقة؛ لأن الله جل وعلا قال: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31] من تاب أفلح، وفي الحديث الصحيح: التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
........
الشيخ: إذا أقيم القصاص سقط حق الله قصاص أو الحد يقول ﷺ: ما أدركه الله في الدنيا كان كفارة له من حديث عبادة.
س:........
الشيخ: نعم يبقى حق القتيل، ويرضيه الله إذا كان قتيلًا.
س: .........
الشيخ: وأبو سخيلة؟ هذا حط عليه إسناده ضعيف، وفي متنه نكارة؛ لأن أفضل آية في كتاب الله هي آية الكرسي.
.........
الطالب: أبو سخيلة بالمعجمة مصغر مجهول من الثالثة، روى له النسائي في مسند علي.
الشيخ: مجهولان وضعيف، فيه مجهولان وضعيف.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يعلى بن عبيد، حدثنا طلحة يعني ابن يحيى، عن أبي بردة، عن معاوية هو ابن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ما من شيء يصيب المؤمن في جسده يؤذيه إلا كفر الله تعالى عنه به من سيئاته، وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا حسن، عن زائدة، عن ليث، عن مجاهد، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفرها ابتلاه الله تعالى بالحزن ليكفرها.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن عبدالله الأودي، حدثنا أبو أسامة، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن هو البصري.
 قال في قوله تبارك وتعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ   قال لما نزلت قال رسول الله ﷺ: والذي نفس محمد بيده ما من خدش عود ولا اختلاج عرق ولا عثرة قدم إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر.
وقال أيضا: حدثنا أبي، حدثنا عمر بن علي، حدثنا هشيم، عن منصور، عن الحسن، عن عمران بن حصين قال: دخل عليه بعض أصحابه وقد كان ابتلي في جسده، فقال له بعضهم إنا لنبأس لك.
الشيخ: نحزن نعني.
الطالب: ........
الشيخ: أي سند؟
الطالب:.... والذي نفس محمد بيده ما من ... عثرة قدم إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر.
الشيخ: هذا مرسل، الحسن تابعي مرسل، السند؟ حدثنا؟
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن عبدالله الأودي، حدثنا أبو أسامة، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن هو البصري.
الشيخ: هذا مرسل، وإسماعيل بن مسلم مكي وهو ضعيف، وإن كان الكوفي فهو لا بأس به، وبكل حال هو مرسل، ومراسيل الحسن لا قيمة لها.
س:.......
الشيخ: تعمه الآية، عموم الآية ظاهر.
لما نرى فيك، قال فلا تبتئس بما ترى، فإن ما ترى بذنب وما يعفو الله عنه أكثر، ثم تلا هذه الآية: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ.
الشيخ: وفي الآية الأخرى: وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79].
س: إسناد حديث عائشة الذي قبله في المسند؟
الشيخ: أيش هو؟
الطالب: وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا حسين عن زائدة، عن ليث، عن مجاهد، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفرها ابتلاه الله تعالى بالحزن ليكفرها.
الشيخ: ضعيف؛ لأن ليث بن أبي سليم ضعيف، لكن على كل حال الحزن من المصائب، حزنه على أخيه أو أبيه أو مولود يموت له مثل ما قال ﷺ في إبراهيم ابنه: العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، فالأحزان مصائب.
وحدثنا أبي، حدثنا يحيى بن عبدالحميد الحماني، حدثنا جرير، عن أبي البلاد قال: قلت للعلاء بن بدر وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وقد ذهب بصري وأنا غلام؟ قال فبذنوب والديك.
الشيخ: هذا غلط لو صح وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164] لله الحكمة فيما أصابه، قد يكون كسب يده شيئًا وإن لم يكن ذنبا، قد يكون فعل أشياء سببت العمى، أو يكون بهموم، وهذا خاص يرد فيه العموم الأغلب، والعموم بما كسبت يد الناس، قد يكون الكسب ليس بذنب، قد مثلًا يلطم نفسه بشيء أو يفعل شيئًا ليس بذنب يكون سببًا يترتب عليه ما يضره من أكلة أو ضمرة أو من صعود أو نزول، والعجب من المؤلف، كيف يسكت على هذا رحمه الله، والله المستعان.
وحدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطنافسي، حدثنا وكيع عن عبدالعزيز بن أبي رواد، عن الضحاك قال: ما نعلم أحدًا حفظ القرآن ثم نسيه إلا بذنب، ثم قرأ الضحاك: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ.
الشيخ: لأن المصائب قد تكون ذنوب، وقد تكون غير ذنوب، قد تكون المصائب من غير الذنوب، وقد تكون الذنوب.
ثم يقول الضحاك: وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن.
وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ۝ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ۝ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ ۝ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ  [الشورى:32-35].
يقول تعالى ومن آياته الدالة على قدرته الباهرة وسلطانه تسخيره البحر لتجري فيه الفلك بأمره، وهي الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ أي كالجبال، قاله مجاهد والحسن والسدي والضحاك: أي: هذه في البحر كالجبال في البر، إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ أي التي تسير في البحر بالسفن لو شاء لسكنها حتى لا تتحرك السفن، بل تبقى راكدة لا تجيء ولا تذهب، بل واقفة، عَلَى ظَهْرِهِ أي: على وجه الماء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ.
الشيخ: هذا من لطفه جل وعلا تسخيره السفن المحملة بالمتاع والأشياء الكثيرة تسير على ظهر الماء، بما يسر الله من الرياح رحمة من الله لعباده وتيسيرًا عليهم، ولو ألقيت حجرًا أو صندوقًا يسيرًا لسقط، وهذه السفن تجري على ظهره، ثم جاءت هذه البواخر العظيمة التي لا تحتاج إلى الرياح، لما فيها من الآلات والمكائن والأشياء التي تسيرها بما يسر الله لأهلها من ذلك، وهكذا سفينة نوح أجراها في البحار، سفينة بدائية سخرها الله لعباده حتى أنجى الله عليها نوحًا ومن معه، سفينة عظيمة جرت على ظهر الماء وأنقذ الله بها المؤمنين من الغرق، كله من فضله سبحانه، ومن آياته العظيمة، ومن آياته دلائل قدرته ودلائل أنه رب العالمين، ودلائل أنه مستحق للعبادة هذه الجواري في البحر كالجبال في البحر ما بين سفينة وباخرة ومنشآت وأنواع كثيرة، الآن جددت كلها تطفح على هذا البحر بما يسر الله لأهلها من العلوم والخبرة، حتى سارت في البحار بتعليم الله وتسخيره وتيسيره، حتى يستفيد من وراء البحار من البلدان الأخرى، تنقل هذه البضائع من إقليم إلى إقليم، ومن بلاد إلى بلاد، ومن قوم إلى قوم، رحمة من الله، حتى تمشي هذه الدار وتنتهي إلى ما كتب الله لها حتى ينقضي أمده.
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ أي: في الشدائد شَكُورٍ أي: إن في تسخيره البحر وإجرائه الهوى بقدر ما يحتاجون إليه لسيرهم لدلالات على نعمه تعالى على خلقه لِكُلِّ صَبَّارٍ أي: في الشدائد شَكُورٍ في الرخاء.
الشيخ: وقوله: لِكُلِّ صَبَّارٍ إشارة -والله أعلم- إلى ما قد يصيبكم من الشدائد في البحار والأخطار، ولكنهم يصبرون ويشكرون أهل الإيمان، يصيبهم شدائد في البحار، يشكرون، تأتيهم رياح عاصفة وأمواج عظيمة يرون فيها الخطر والموت القريب، ولكن الله ينجيهم ويخلصهم ويصبرون ويشكرون الله على نعمه والخلاص والعافية.
وقوله : أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا أي: ولو شاء لأهلك السفن وغرَّقها بذنوب أهلها الذين هم راكبون عليها، وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ أي: من ذنوبهم، ولو أخذهم بجميع ذنوبهم لأهلك كل من ركب البحر.
وقال بعض علماء التفسير معنى قوله تعالى: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا  أي: لو شاء لأرسل الريح قوية عاتية، فأخذت السفن وأحالتها عن سيرها المستقيم، فصرفتها ذات اليمين أو ذات الشمال آبقة لا تسير على طريق ولا إلى جهة مقصد، وهذا القول يتضمن هلاكها.
الشيخ: والآية عامة، يوبقها بما شاء سبحانه، إذا أراد الله ذلك أهلكها، رحمة منه بأن سلم ويسر .
وهذا القول يتضمن هلاكها، وهو مناسب للأول، وهو أنه تعالى لو شاء لسكن الريح فوقفت، أو لقواه فشردت وأبقت وهلكت، ولكن من لطفه ورحمته أنه يرسله بحسب الحاجة، كما يرسل المطر بقدر الكفاية، ولو أنزله كثيرًا جدًا لهدم البنيان، أو قليلًا لما أنبت الزرع والثمار، حتى إنه يرسل إلى مثل بلاد مصر سيحا من أرض أخرى غيرها؛ لأنهم لا يحتاجون إلى مطر، ولو أنزل عليهم لهدم بنيانهم، وأسقط جدرانهم، وقوله تعالى: وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ أي: لا محيد لهم عن بأسنا ونقمتنا، فإنهم مقهورون بقدرتنا.
الشيخ: ليس لهم محيص! أي من عقل؟ أكثر الناس لا يعقلون، ولهذا في ضلالهم يعمهون، وفي طغيانهم يسيرون، قال تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:44] مع الآيات الواضحات والنعم الكثيرات أكثر الناس لا يعقلون كالبهيمة بل شر من البهيمة.
س: .........
الشيخ: يحملها على الذنوب، حتى يتواضع ويجاهد نفسه، يحملها مثل ما قال الله: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، يحملها على الذنوب مهما أمكن؛ حتى يخضع لله ويتواضع، ويتوب ويقلع، وينيب إلى الله، ويتهم نفسه بالتقصير، ولهذا قال: وَيَعْفُو عَنْ كَثِير دل على أنها من الذنوب.
س: غلاء الأسعار من ذنوب العباد؟
الشيخ: كل ما يقع فهو من ذنوب العباد وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ.
فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ۝ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ۝ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ۝ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ [الشورى:36-39].
يقول تعالى محقرًا لشأن الحياة الدنيا وزينتها وما فيها من الزهرة والنعيم الفاني بقوله تعالى: فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أي: مهما حصلتم وجمعتم فلا تغتروا به فإنما هو متاع الحياة الدنيا، وهي دار دنيئة فانية زائلة لا محالة وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أي: وثواب الله تعالى خير من الدنيا، وهو باق سرمدي، فلا تقدموا الفاني على الباقي، ولهذا قال تعالى: لِلَّذِينَ آمَنُوا أي للذين صبروا على ترك الملاذ في الدنيا.
الشيخ: ولهذا إذا غمس أهل النار في النار غمسة قيل لهم: هل مر بك نعيم؟ يؤتى بأنعم أهل الدنيا، فإذا أدخل النار قيل: هل مر بك نعيم؟ فيقول: ما مر بي نعيم قط؟ نسي كل العمر الطويل من النعم، نسيه كله، قال: ما مر بي نعيم قط، وإذا أدخل المؤمن الجنة، الفقير المحتاج اللي أصابته البأساء والشدة قيل له: هل مر بك شر؟ هل مر بك بأس؟ يقول: لا ما مر بي  شر، نسي الشدة التي أصابتها كله؛ لما رأى من النعيم العظيم.
وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي: ليعينهم على الصبر في أداء الواجبات وترك المحرمات.
الشيخ: يقول جل وعلا: أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38]، وقال تعالى: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النساء:77]، ولو عمرت فيها مائة عام أو مائتي عام أو ألف عام كنوح لا قيمة لها، يذهب كأنه ما مر كأنه ما صار.
ثم قال تعالى: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وقد قدمنا الكلام على الإثم والفواحش في سورة الأعراف. وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ أي: سجيتهم تقتضي الصفح والعفو عن الناس، ليس سجيتهم الانتقام من الناس. وقد ثبت في الصحيح «أن رسول الله ﷺ ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمات الله»، وفي حديث آخر: كان يقول لأحدنا عند المعتبة: ما له تربت يمينه.
الشيخ: وهذا فيه الحث على الصفح والعفو، وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ في حقوق أنفسهم كما قال جل وعلا: وأن تعفوا أقرب للتقوى، فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وقال ﷺ: ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا مع زوجته، مع أولاده، مع جيرانه، في الحقوق التي تتعلق بنفسه، من طبيعته السماح والعفو والصفح، أما في حق الله ينتقم لله ويغضب لله، كان ﷺ لا يغضب لنفسه، ولكن إذا انتهكت محارمه الله غضب الله، وانتقم لله عليه الصلاة والسلام.
س: .......
الشيخ: ينظر المصلحة في العفو، إن رأى العفو أفضل عفا، وإن رأى العفو خطر وشر انتقم.
س: العفو عن حقه في الدنيا والآخرة؟
الشيخ: إذا عفا في الثنتين، إن عفا وأصلح فأجره على الله ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا العفو كله في الدنيا والآخرة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن زائدة، عن منصور، عن إبراهيم قال: كان المؤمنون يكرهون أن يستذلوا وكانوا إذا قدروا عفوا.
وقوله : وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ أي: اتبعوا رسله، وأطاعوا أمره، واجتنبوا زجره، وأقاموا الصلاة، وهي أعظم العبادات لله .
الشيخ: عطف الصلاة على استجابوا عطف الخاص على العام؛ لأن أعظم الاستجابة بعد التوحيد إقامة الصلاة وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ من عطف الخاص على العام.
وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ أي: لا يبرمون أمرًا حتى يتشاوروا فيه ليتساعدوا بآرائهم في مثل الحروب وما جرى مجراها كما قال تبارك وتعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159].
الشيخ: يعني في الأمور التي تحتاج إلى شورى للاشتباه يتشاورون، أما الأمر الواضح فإنهم لا يحتاجون إلى مشاورة، يبادرون به، ويأخذون به، لكن إذا جاءت أمور تحتاج إلى نظر تشاوروا.
ولهذا كان يشاورهم في الحروب ونحوها ليطيب بذلك قلوبهم، وهكذا لما حضرت عمر بن الخطاب الوفاة حين طعن جعل الأمر بعده شورى في ستة نفر، وهم: عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبدالرحمن بن عوف، أجمعين، فاجتمع رأي الصحابة كلهم على تقديم عثمان عليهم، .
ومما رزقناهم ينفقون وذلك بالإحسان إلى خلق الله الأقرب إليهم منهم فالأقرب.
وقوله : وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ أي: فيهم قوة الانتصار ممن ظلمهم واعتدى عليهم ليسوا بالعاجزين ولا الأذلين، بل يقدرون على الانتقام ممن بغى عليهم، وإن كانوا مع هذا إذا قدروا عفوا، كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام لإخوته: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ [يوسف:92] مع قدرته على مؤاخذتهم ومقابلتهم على صنيعهم إليه، وكما عفا رسول الله ﷺ عن أولئك النفر الثمانين الذين قصدوه عام الحديبية، ونزلوا من جبل التنعيم، فلما قدر عليهم منَّ عليهم مع قدرته على الانتقام، وكذلك عفوه ﷺ عن غورث بن الحارث الذي أراد الفتك به حين اخترط سيفه وهو نائم، فاستيقظ وهو في يده مصلتا، فانتهره فوضعه من يده، وأخذ رسول الله ﷺ السيف في يده ودعا أصحابه، ثم أعلمهم بما كان من أمره وأمر هذا الرجل وعفا عنه.
وكذلك عفا ﷺ عن لبيد بن الأعصم الذي سحره ، ومع هذا لم يعرض له ولا عاتبه مع قدرته عليه، وكذلك عفوه ﷺ عن المرأة اليهودية -وهي زينب أخت مرحب اليهودي الخيبري الذي قتله محمود بن سلمة-.
الشيخ: صوابه محمد.
التي سمت الذراع يوم خيبر -فأخبره الذراع بذلك فدعاها فاعترفت- فقال ﷺ: ما حملك على ذلك؟ قالت: أردت إن كنت نبيا لم يضرك، وإن لم تكن نبيا استرحنا منك، فأطلقها عليه الصلاة والسلام، ولكن لما مات منه بشر بن البراء قتلها به، والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدًا، والله أعلم.
س: ........
الشيخ: إذا اقتضت المصلحة ذلك، أما إذا اقتضت المصلحة عدم العفو لحماية المسلمين أو لأسباب أخرى فلا بأس، فالعفو أفضل إذا لم يكن هناك موجب لعدم العفو.
س: ........
الشيخ: .. ما في بيده شيء عفا وإلا ما عفا، ولكن إذا عفا له أجر، ما هو مثل ذاك، ذاك أجره أعظم، الذي إذا قدر أجره أعظم.