قوله تبارك وتعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا كقوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة:194]، وكقوله: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل:126]، فشرع العدل: وهو القصاص، وندب إلى الفضل: وهو العفو، كقوله جل وعلا: وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة:45]، ولهذا قال هاهنا: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أي: لا يضيع ذلك عند الله كما صح ذلك في الحديث وما زاد الله تعالى عبدًا بعفو إلا عزا، وقوله تعالى: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أي: المعتدين، وهو المبتدئ بالسيئة.
الشيخ: وهذا للمجانسة وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا لأن الثانية ما هي سيئة في المعنى قصاص، وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل:126] من باب القصاص.
قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبدالله بن بزيع، حدثنا معاذ بن معاذ، حدثنا ابن عون قال: كنت أسأل عن الانتصار في قوله تعالى: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ، فحدثني علي بن زيد بن جدعان، عن أم محمد -امرأة أبيه- قال ابن عون: زعموا أنها كانت تدخل على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: قالت أم المؤمنين رضي الله عنها: دخل علينا رسول الله ﷺ وعندنا زينب بنت جحش رضي الله عنها، فجعل النبي ﷺ يصنع بيده شيئا، فلم يفطن لها، فقلت بيده حتى فطنته لها فأمسك.
الشيخ: كأنه يمد يده إلى عائشة وما درى عن زينب.
الشيخ: يعني انتصري.
الشيخ: ولهذا حكم عليه أهل العلم بالضعف؛ لأن رواياته غير معتبرة لضعفه، إلا الترمذي كان يحسن رواياته، والجمهور على تضعيفه، وهذا من منكراته، فإن عائشة رضي الله عنها لا تقع فيهم، ولا تقول فيهم إلا خيرًا، ولكن الغيرة بين الضرات معروفة، الغيرة بين زينب وبين عائشة وبين بقية النساء معروفة، الضرات لهن غيرة معروفة، فالنبي ﷺ قد عرف ذلك أيضًا، وقد هجرهن شهرًا عليه الصلاة والسلام، فالمقصود أن الغيرة معروفة، فالواجب على المؤمن حسن الظن بهن، والترضي عنهن، والكف عما ينقل من المساوئ التي يزاد فيها وينقص، ويغلط فيها الناس.
وَقَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ دَعَا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ فَقَدِ انْتَصَرَ، ورَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، واسْمُهُ مَيْمُونٌ، ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ، وقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ.
سؤال: حديث: من دعا على من ظلمه فقد انتصر؟
الشيخ: الدعاء نوع من الانتصار، لكن ما هو الانتصار الكافي.
السؤال: الحديث ضعيف؟
الشيخ: ما أدري عن سنده، أعد سنده.
الطالب: وقَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ دَعَا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ فَقَدِ انْتَصَرَ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ -واسْمُهُ مَيْمُونٌ-، ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ، وقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ.
الشيخ: يكون ضعيفًا لأجل ضعف أبي حمزة، لكن معناه صحيح، انتصر يعني أخذ بعض النصر، ما هو كل النصر.
س: إذا كان العفو يزيد المعتدي عدوانًا؟
الشيخ: لا، إذا كان العفو يزيل الشر ويحصل به الخير فهو أقرب، وأما إذا كان العفو يزيد الشر فلا يعفو، بل يطلب القصاص، العفو في محله إذا كان ينفع.
أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَيْ: شَدِيدٌ مُوجِعٌ.
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ أَخُو حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ الشَّحَّامُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ واسِعٍ قَالَ: قَدِمْتُ مَكَّةَ فَإِذَا عَلَى الخندق قنطرة، فأخذت فَانْطُلِقَ بِي إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، وهُوَ أمير على البصرة فقال: مَا حَاجَتُكَ يَا أَبَا عَبْدِاللَّهِ؟ قُلْتُ: حَاجَتِي إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ كَمَا قَالَ أَخُو بَنِي عَدِيٍّ، قَالَ: ومَنْ أَخُو بَنِي عَدِيٍّ؟ قَالَ الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ: اسْتَعْمَلَ صَدِيقًا لَهُ مَرَّةً عَلَى عَمَلٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَمَّا بعد، فإن استطعت أن لا تَبِيتَ إِلَّا وظَهْرُكَ خَفِيفٌ، وبَطْنُكَ خَمِيصٌ، وكَفُّكَ نَقِيَّةٌ مِنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وأَمْوَالِهِمْ، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ سَبِيلٌ، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، فقال مروان: صَدَقَ واللَّهِ، ونَصَحَ، ثُمَّ قَالَ: مَا حَاجَتُكَ يا أبا عبدالله، قلت: حاجتي إن تُلْحِقَنِي بِأَهْلِي، قَالَ: نَعَمْ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حاتم.
ثم إن الله تَعَالَى لَمَّا ذَمَّ الظُّلْمَ وأَهْلَهُ، وشَرَّعَ الْقَصَاصَ، قَالَ نَادِبًا إِلَى الْعَفْوِ، والصَّفْحِ: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ أَيْ: صَبَرَ عَلَى الْأَذَى، وسَتَرَ السَّيِّئَةَ، إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَعْنِي لَمِنْ حَقِّ الْأُمُورِ الَّتِي أمر الله بها، أي لمن الأمور الْمَشْكُورَةِ.
س: إذا أخطأ إنسان على آخر فمات فصلى عليه فهل يعتبر هذا إباحة له، صلاة الجنازة؟
الشيخ: لا ما هو بلازم، هذا إحسان إليه، وما هو لازمه الإباحة، حقه يأخذه يوم القيامة إلا أن يعفو.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى الطَّرْسُوسِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُالصَّمَدِ بْنُ يَزِيدَ خَادِمُ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ يَقُولُ: إِذَا أَتَاكَ رَجُلٌ يَشْكُو إِلَيْكَ رَجُلًا، فَقُلْ: يَا أَخِي اعْفُ عَنْهُ فَإِنَّ الْعَفْوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، فَإِنْ قَالَ: لَا يَحْتَمِلُ قَلْبِي الْعَفْوَ، ولَكِنْ أَنْتَصِرُ كَمَا أَمَرَنِي اللَّهُ ، فَقُلْ لَهُ: إِنْ كُنْت تُحْسِنُ أَنْ تَنْتَصِرَ، وإِلَّا فَارْجِعْ إِلَى بَابِ الْعَفْوِ، فَإِنَّهُ بَابٌ واسِعٌ، فَإِنَّهُ مَنْ عَفَا وأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وصَاحِبُ الْعَفْوِ يَنَامُ عَلَى فِرَاشِهِ بِاللَّيْلِ، وصَاحِبُ الِانْتِصَارِ يُقَلِّبُ الْأُمُورَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى يَعْنِي ابْنَ سَعِيدٍ الْقَطَّانَ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إن رجلا شتم أبا بكر ، والنَّبِيُّ ﷺ جَالِسٌ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْجَبُ، ويَتَبَسَّمُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، فَغَضِبَ النبي، وقام، فلحقه أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ كَانَ يَشْتُمُنِي، وأَنْتَ جَالِسٌ، فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ غَضِبْتَ، وقُمْتَ، قَالَ: إِنَّهُ كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَنْكَ، فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ حَضَرَ الشَّيْطَانُ، فَلَمْ أَكُنْ لِأَقْعُدَ مَعَ الشَّيْطَانِ- ثُمَّ قَالَ- يَا أَبَا بَكْرٍ: ثَلَاثٌ كُلُّهُنَّ حَقٌّ: مَا مِنْ عَبْدٍ ظُلِمَ بِمَظْلَمَةٍ فَيُغْضِي عنها لله، إلا أعزه الله تعالى بها ونصره، ومَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ عَطِيَّةٍ يُرِيدُ بِهَا صِلَةً إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ بِهَا كَثْرَةً، ومَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ يُرِيدُ بِهَا كَثْرَةً، إلا زاده الله بِهَا قِلَّةً.
س: يا شيخ أحسن الله إليك، قوله الرسول ﷺ: إنه كان معك ملك يرد عنك، خاص بأبي بكر، ولا عام؟
الشيخ: الظاهر -والله أعلم- العموم في المعنى، وأن المظلوم إذا سكت رد الله عنه بالملائكة، إذا سكت عفوًا وتسامحًا وإغفالاً لهذا الشيء وعدم مبالاة به فالله يرد عنه.
س: ما معنى قوله ﷺ: ما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله كثرة؟
الشيخ: يعني جود وكرم، يتصدق، ويحسن، فتح باب العطاء، والجود زاده الله بها كثرة، مثل في الحديث: من أحب أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39].
س: قوله: فإذا على الخندق؟
الشيخ: الخندق في الطريق إلى مكة.
س: أحسن الله إليك، رد شيء من كلام الرجل يعد حضورًا للشيطان؟
الشيخ: لأجل يفتن بينهم، حضوره لأجل يفتن بينهم، وإلا المنتصر ما عليه شيء، لكن الشيطان حضر حتى يفتن.
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبَرًا عَنْ نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ ما يشاء كَانَ، ولَا رَادَّ لَهُ، ومَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ فَلَا مُوجِدَ لَهُ، وأَنَّهُ مَنْ هداه فَلَا مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هادي له، كما قال : وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف:17].
ثم قال مُخْبِرًا عَنِ الظَّالِمِينَ، وهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ: لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ أي: يوم القيامة تمنوا الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ كما قال جل وعلا: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27].
وَقَوْلُهُ : وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا أَيْ: عَلَى النَّارِ خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ أَيِ: الَّذِي قَدِ اعْتَرَاهُمْ بِمَا أسلفوا من عصيان الله تعالى يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ، قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي ذليل، أَيْ: يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا مُسَارِقَةً خَوْفًا مِنْهَا، والَّذِي يَحْذَرُونَ مِنْهُ واقِعٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ، ومَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا فِي نُفُوسِهِمْ، أَجَارَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ: يَقُولُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ الْخَاسِرِينَ أَيِ: الْخَسَارُ الْأَكْبَرُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْ: ذَهَبَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ فَعُدِمُوا لَذَّتَهُمْ فِي دَارِ الْأَبَدِ، وخَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، وفُرِّقَ بَيْنَهُمْ، وبَيْنَ أحبابهم، وأصحابهم، وأَهَالِيهِمْ، وقَرَابَاتِهِمْ فَخَسِرُوهُمْ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ أَيْ: دَائِمٍ سَرْمَدِيٍّ أَبَدِيٍّ لَا خُرُوجَ لَهُمْ مِنْهَا، ولَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهَا.
وقوله تعالى: وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ: يُنْقِذُونَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ والنَّكَالِ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ أَيْ: لَيْسَ لَهُ خَلَاصٌ.
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ [الشورى:47، 48].
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا يَكُونُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنَ الْأَهْوَالِ والْأُمُورِ الْعِظَامِ الْهَائِلَةِ، حَذَّرَ مِنْهُ، وأَمَرَ بِالِاسْتِعْدَادِ لَهُ، فَقَالَ: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ أَيْ: إِذَا أَمَرَ بِكَوْنِهِ فَإِنَّهُ كَلَمْحِ الْبَصَرِ يَكُونُ، ولَيْسَ لَهُ دَافِعٌ، ولَا مانع.
وقوله : مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ أَيْ: لَيْسَ لَكُمْ حِصْنٌ تَتَحَصَّنُونَ فِيهِ، ولَا مَكَانٌ يَسْتُرُكُمْ وتَتَنَكَّرُونَ فِيهِ فَتَغِيبُونَ عَنْ بَصَرِهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى، بَلْ هُوَ مُحِيطٌ بِكُمْ، بِعِلْمِهِ، وبَصَرِهِ، وقُدْرَتِهِ، فَلَا مَلْجَأَ مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ، يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلَّا لَا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [الْقِيَامَةِ:10-12].
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى:49، 50].
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ خَالِقُ السَّمَوَاتِ والْأَرْضِ ومَالِكُهُمَا، والْمُتَصَرِّفُ فِيهِمَا، وأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ، ومَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وأَنَّهُ يعطي من يشأ، ويَمْنَعُ مَنْ يَشَاءُ، ولَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى، ولَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ، وأَنَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا أَيْ: يَرْزُقُهُ الْبَنَاتِ فقط، قال البغوي: ومنهم لوط عليه الصلاة والسلام، وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَيْ: يَرْزُقُهُ الْبَنِينَ فقط، قال البغوي: كإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، لَمْ يُولَدْ لَهُ أُنْثَى، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا أي: ويعطي لمن يَشَاءُ مِنَ النَّاسِ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والْأُنْثَى، أَيْ مِنْ هَذَا وهَذَا، قَالَ الْبَغَوِيُّ: كَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسَّلَامُ، وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا أَيْ: لَا يُولَدُ لَهُ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: كَيَحْيَى، وعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. فَجَعَلَ النَّاسَ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: مِنْهُمْ مَنْ يُعْطِيهِ الْبَنَاتِ، ومِنْهُمْ مَنْ يُعْطِيهِ الْبَنِينَ، ومِنْهُمْ مَنْ يُعْطِيهِ مِنَ النَّوْعَيْنِ ذُكُورًا وإِنَاثًا، ومِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُهُ هَذَا وهَذَا، فَيَجَعَلُهُ عَقِيمًا لَا نَسْلَ لَهُ، ولَا يُولَدُ لَهُ. إِنَّهُ عَلِيمٌ أَيْ: بِمَنْ يَسْتَحِقُّ كُلَّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، قَدِيرٌ أَيْ: عَلَى ما يَشَاءُ مِنْ تَفَاوُتِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ، وهَذَا الْمَقَامُ شبيه بقوله تبارك وتعالى عن عيسى عليه الصلاة والسلام، وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ [مَرْيَمَ:21] أَيْ: دَلَالَةً لَهُمْ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى وتَقَدَّسَ، حَيْثُ خَلَقَ الْخَلْقَ على أربعة أقسام، فآدم عليه الصلاة والسلام مَخْلُوقٌ مِنْ تُرَابٍ لَا مِنْ ذَكَرٍ ولَا أُنْثَى، وحَوَّاءُ عَلَيْهَا السَّلَامُ مَخْلُوقَةٌ مِنْ ذَكَرٍ بِلَا أُنْثَى، وسَائِرُ الْخَلْقِ سِوَى عِيسَى مِنْ ذكر وأنثى، وعيسى من أُنْثَى بِلَا ذَكَرٍ، فَتَمَّتِ الدَّلَالَةُ بخلق عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام.
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى:51-53].
هذه مقامات الوحي بالنسبة إلى جنات الله ، وهو أنه تبارك وتعالى تَارَةً يَقْذِفُ فِي رُوعِ النَّبِيِّ ﷺ شَيْئًا لَا يَتَمَارَى فِيهِ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ .
وقوله تعالى: أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى عليه الصلاة والسلام، فَإِنَّهُ سَأَلَ الرُّؤْيَةَ بَعْدَ التَّكْلِيمِ فَحُجِبَ عَنْهَا.
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ رضي الله عنهما: مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا إِلَّا مِنْ ورَاءِ حِجَابٍ، وإِنَّهُ كَلَّمَ أَبَاكَ كفاحًا كذا جاء في الحديث، وكان قَدْ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، ولَكِنَّ هَذَا فِي عَالَمِ الْبَرْزَخِ، والْآيَةُ إِنَّمَا هِيَ فِي الدَّارِ الدنيا.
أما الرؤية فلم يره أحد، لا موسى، ولا محمد، ولهذا لما سئل ﷺ: أرأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه؟!، وفي لفظ: رأيت نورًا، فلم ير أحد ربه في هذه الدنيا، وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: واعلموا أنه لن يرى أحد ربه حتى يموت، فهذه الدار ما هي دار رؤية، الرؤية أعلى نعيم أهل الجنة، فلا يرى إلا في الآخرة ، يراه المؤمنون يوم القيامة، ويراه المؤمنون في الجنة.
س: هل رآه النبي ﷺ في المنام؟
الشيخ: رؤيا المنام غير، رؤيا المنام لا بأس بها قد تقع، رآه النبي ﷺ في النوم.
س: يرى الله على صورته؟
الشيخ: يرى شيئًا مما يدل على أنه الله، إما نور شبهه؛ لأن الله لا يشبهه شيء .
س: عندما أسرى بالرسول عليه الصلاة والسلام، عقيدة أهل السنة هل الله سبحانه ... وإلا فرضت عليه الصلاة دون أن يسمع كلام الجلالة؟
الشيخ: فرض الله عليه الصلاة، وسمع كلام ربه ليلة المعراج.
س: قول الله تعالى لإبراهيم : إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ [البقرة:131]، ألا يقتضي أن الله كلمه؟
الشيخ: محتمل أنه من وراء حجاب، ومحتمل أنه بواسطة جبرائيل، ما هو صريح.
وقوله : وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا يَعْنِي الْقُرْآنَ، مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ أَيْ: عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي شُرِعَ لَكَ فِي الْقُرْآنِ، وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ أَيِ: الْقُرْآنَ، نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت:44] الآية.