05 من قوله: (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ )

وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ۝ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ۝ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۝ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى:40-43].
قوله تبارك وتعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا كقوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة:194]، وكقوله: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل:126]، فشرع العدل: وهو القصاص، وندب إلى الفضل: وهو العفو، كقوله جل وعلا: وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة:45]، ولهذا قال هاهنا: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أي: لا يضيع ذلك عند الله كما صح ذلك في الحديث وما زاد الله تعالى عبدًا بعفو إلا عزا، وقوله تعالى: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أي: المعتدين، وهو المبتدئ بالسيئة.

الشيخ: وهذا للمجانسة وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا لأن الثانية ما هي سيئة في المعنى قصاص، وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل:126] من باب القصاص.

ثم قال جل وعلا: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ أي: ليس عليهم جناح في الانتصار ممن ظلمهم.
قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبدالله بن بزيع، حدثنا معاذ بن معاذ، حدثنا ابن عون قال: كنت أسأل عن الانتصار في قوله تعالى: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ،  فحدثني علي بن زيد بن جدعان، عن أم محمد -امرأة أبيه- قال ابن عون: زعموا أنها كانت تدخل على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: قالت أم المؤمنين رضي الله عنها: دخل علينا رسول الله ﷺ وعندنا زينب بنت جحش رضي الله عنها، فجعل النبي ﷺ يصنع بيده شيئا، فلم يفطن لها، فقلت بيده حتى فطنته لها فأمسك.

الشيخ: كأنه يمد يده إلى عائشة وما درى عن زينب.

وأقبلت زينب رضي الله عنها تفحم لعائشة رضي الله عنها فنهاها، فأبت أن تنتهي، فقال لعائشة رضي الله عنها: سبيها فسبتها فغلبتها.

الشيخ: يعني انتصري.

وانطلقت زينب رضي الله عنها فأتت عليًا فقالت: إن عائشة تقع بكم وتفعل بكم، فجاءت فاطمة رضي الله عنها فقال ﷺ لها: إنها حبة أبيك ورب الكعبة فانصرفت، وقالت لعلي : إني قلت له ﷺ كذا وكذا، فقال: لي كذا وكذا، قال: وجاء علي إلى النبي ﷺ وكلمه في ذلك، هكذا أورد هذا السياق، وعلي بن زيد بن جدعان، يأتي في رواياته بالمنكرات غالبا، وهذا فيه نكارة.

الشيخ: ولهذا حكم عليه أهل العلم بالضعف؛ لأن رواياته غير معتبرة لضعفه، إلا الترمذي كان يحسن رواياته، والجمهور على تضعيفه، وهذا من منكراته، فإن عائشة رضي الله عنها لا تقع فيهم، ولا تقول فيهم إلا خيرًا، ولكن الغيرة بين الضرات معروفة، الغيرة بين زينب وبين عائشة وبين بقية النساء معروفة، الضرات لهن غيرة معروفة، فالنبي ﷺ قد عرف ذلك أيضًا، وقد هجرهن شهرًا عليه الصلاة والسلام، فالمقصود أن الغيرة معروفة، فالواجب على المؤمن حسن الظن بهن، والترضي عنهن، والكف عما ينقل من المساوئ التي يزاد فيها وينقص، ويغلط فيها الناس.

والصحيح خِلَافُ هَذَا السِّيَاقِ، كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ خالد بن سلمة الْفَأْفَاءِ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ الْبَهِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، مَا عَلِمْتُ حَتَّى دَخَلَتْ عَلَيَّ زَيْنَبُ بِغَيْرِ إِذَنٍ، وهِيَ غَضْبَى، ثُمَّ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: حَسْبُكَ إِذَا قَلَبَتْ لَكَ ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ ذرعها، ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيَّ فَأَعْرَضْتُ عَنْهَا، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: دُونَكِ فَانْتَصِرِي، فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهَا حَتَّى رَأَيْتُهَا رِيقُهَا قَدْ يَبِسَ فِي فَمِهَا مَا تَرُدُّ عَلَيَّ شَيْئًا، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَتَهَلَّلُ وجْهُهُ، وهَذَا لَفْظُ النَّسَائِيِّ.
وَقَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ دَعَا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ فَقَدِ انْتَصَرَ، ورَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، واسْمُهُ مَيْمُونٌ، ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ، وقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ.
الشيخ: والخلاصة أن الانتصار لا بأس به، من عفا فله أجر، ومن انتصر وطلب القصاص إذا سبه سبه، دعا عليه دعا عليه، قطع يده يطلب قطع يده، قطع إصبعه يطلب قطع إصبعه، وهكذا القصاص، وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ، وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة:179] لكن من عفا وأصلح، وترك القصاص فله أجر فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة:237]، ولهذا لما سبت زينب عائشة كن يغرن منها من حب الرسول عليه الصلاة والسلام لها، كن يغرن منها، ويتكلمن فيها في بعض الشيء، فقال لها النبي: انتصري، يعني ردي عليها بما يكبح جماحها من تعديها عليكِ، فردت عليها.
سؤال: حديث: من دعا على من ظلمه فقد انتصر؟
الشيخ: الدعاء نوع من الانتصار، لكن ما هو الانتصار الكافي.
السؤال: الحديث ضعيف؟
الشيخ: ما أدري عن سنده، أعد سنده.
الطالب: وقَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ دَعَا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ فَقَدِ انْتَصَرَ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ -واسْمُهُ مَيْمُونٌ-، ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ، وقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ.
الشيخ: يكون ضعيفًا لأجل ضعف أبي حمزة، لكن معناه صحيح، انتصر يعني أخذ بعض النصر، ما هو كل النصر.
س: إذا كان العفو يزيد المعتدي عدوانًا؟
الشيخ: لا، إذا كان العفو يزيل الشر ويحصل به الخير فهو أقرب، وأما إذا كان العفو يزيد الشر فلا يعفو، بل يطلب القصاص، العفو في محله إذا كان ينفع.
وقوله : إِنَّمَا السَّبِيلُ أَيْ: إِنَّمَا الْحَرَجُ والْعَنَتُ، عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أَيْ: يَبْدَؤُونَ النَّاسَ بِالظُّلْمِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: الْمُسْتَبَّانُ مَا قَالَا فَعَلَى الْبَادِئِ مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ
أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَيْ: شَدِيدٌ مُوجِعٌ.
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ أَخُو حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ الشَّحَّامُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ واسِعٍ قَالَ: قَدِمْتُ مَكَّةَ فَإِذَا عَلَى الخندق قنطرة، فأخذت فَانْطُلِقَ بِي إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، وهُوَ أمير على البصرة فقال: مَا حَاجَتُكَ يَا أَبَا عَبْدِاللَّهِ؟ قُلْتُ: حَاجَتِي إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ كَمَا قَالَ أَخُو بَنِي عَدِيٍّ، قَالَ: ومَنْ أَخُو بَنِي عَدِيٍّ؟ قَالَ الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ: اسْتَعْمَلَ صَدِيقًا لَهُ مَرَّةً عَلَى عَمَلٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَمَّا بعد، فإن استطعت أن لا تَبِيتَ إِلَّا وظَهْرُكَ خَفِيفٌ، وبَطْنُكَ خَمِيصٌ، وكَفُّكَ نَقِيَّةٌ مِنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وأَمْوَالِهِمْ، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ سَبِيلٌ، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، فقال مروان: صَدَقَ واللَّهِ، ونَصَحَ، ثُمَّ قَالَ: مَا حَاجَتُكَ يا أبا عبدالله، قلت: حاجتي إن تُلْحِقَنِي بِأَهْلِي، قَالَ: نَعَمْ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حاتم.
ثم إن الله تَعَالَى لَمَّا ذَمَّ الظُّلْمَ وأَهْلَهُ، وشَرَّعَ الْقَصَاصَ، قَالَ نَادِبًا إِلَى الْعَفْوِ، والصَّفْحِ: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ أَيْ: صَبَرَ عَلَى الْأَذَى، وسَتَرَ السَّيِّئَةَ، إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَعْنِي لَمِنْ حَقِّ الْأُمُورِ الَّتِي أمر الله بها، أي لمن الأمور الْمَشْكُورَةِ.
الشيخ: يعني الطيبة المعزومة التي شرعها الله، وثبتها، مثل ما قال جل وعلا: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران:186] أي من عزم الأمور المشروعة، وفي الآية: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90]، وفي الآية الأخرى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120].
س: إذا أخطأ إنسان على آخر فمات فصلى عليه فهل يعتبر هذا إباحة له، صلاة الجنازة؟
الشيخ: لا ما هو بلازم، هذا إحسان إليه، وما هو لازمه الإباحة، حقه يأخذه يوم القيامة إلا أن يعفو.
أي لمن الأمور الْمَشْكُورَةِ، والْأَفْعَالِ الْحَمِيدَةِ الَّتِي عَلَيْهَا ثَوَابٌ جَزِيلٌ، وثَنَاءٌ جَمِيلٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى الطَّرْسُوسِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُالصَّمَدِ بْنُ يَزِيدَ خَادِمُ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ يَقُولُ: إِذَا أَتَاكَ رَجُلٌ يَشْكُو إِلَيْكَ رَجُلًا، فَقُلْ: يَا أَخِي اعْفُ عَنْهُ فَإِنَّ الْعَفْوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، فَإِنْ قَالَ: لَا يَحْتَمِلُ قَلْبِي الْعَفْوَ، ولَكِنْ أَنْتَصِرُ كَمَا أَمَرَنِي اللَّهُ ، فَقُلْ لَهُ: إِنْ كُنْت تُحْسِنُ أَنْ تَنْتَصِرَ، وإِلَّا فَارْجِعْ إِلَى بَابِ الْعَفْوِ، فَإِنَّهُ بَابٌ واسِعٌ، فَإِنَّهُ مَنْ عَفَا وأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وصَاحِبُ الْعَفْوِ يَنَامُ عَلَى فِرَاشِهِ بِاللَّيْلِ، وصَاحِبُ الِانْتِصَارِ يُقَلِّبُ الْأُمُورَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى يَعْنِي ابْنَ سَعِيدٍ الْقَطَّانَ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إن رجلا شتم أبا بكر ، والنَّبِيُّ ﷺ جَالِسٌ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْجَبُ، ويَتَبَسَّمُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، فَغَضِبَ النبي، وقام، فلحقه أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ كَانَ يَشْتُمُنِي، وأَنْتَ جَالِسٌ، فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ غَضِبْتَ، وقُمْتَ، قَالَ: إِنَّهُ كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَنْكَ، فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ حَضَرَ الشَّيْطَانُ، فَلَمْ أَكُنْ لِأَقْعُدَ مَعَ الشَّيْطَانِ- ثُمَّ قَالَ- يَا أَبَا بَكْرٍ: ثَلَاثٌ كُلُّهُنَّ حَقٌّ: مَا مِنْ عَبْدٍ ظُلِمَ بِمَظْلَمَةٍ فَيُغْضِي عنها لله، إلا أعزه الله تعالى بها ونصره، ومَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ عَطِيَّةٍ يُرِيدُ بِهَا صِلَةً إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ بِهَا كَثْرَةً، ومَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ يُرِيدُ بِهَا كَثْرَةً، إلا زاده الله بِهَا قِلَّةً.
الشيخ: وهذا سند جيد.
وكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ عَبْدِالْأَعْلَى بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: ورَوَاهُ صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، ورَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ الْمُحَرِّرِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلًا، وهَذَا الْحَدِيثُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ فِي الْمَعْنَى، وهُوَ مناسب للصديق .
الشيخ: سنده جيد.
س: يا شيخ أحسن الله إليك، قوله الرسول ﷺ: إنه كان معك ملك يرد عنك، خاص بأبي بكر، ولا عام؟
الشيخ: الظاهر -والله أعلم- العموم في المعنى، وأن المظلوم إذا سكت رد الله عنه بالملائكة، إذا سكت عفوًا وتسامحًا وإغفالاً لهذا الشيء وعدم مبالاة به فالله يرد عنه.
س: ما معنى قوله ﷺ: ما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله كثرة؟
الشيخ: يعني جود وكرم، يتصدق، ويحسن، فتح باب العطاء، والجود زاده الله بها كثرة، مثل في الحديث: من أحب أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39].
س: قوله: فإذا على الخندق؟
الشيخ: الخندق في الطريق إلى مكة.
س: أحسن الله إليك، رد شيء من كلام الرجل يعد حضورًا للشيطان؟
الشيخ: لأجل يفتن بينهم، حضوره لأجل يفتن بينهم، وإلا المنتصر ما عليه شيء، لكن الشيطان حضر حتى يفتن.
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ۝ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ ۝ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى:44-46].
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبَرًا عَنْ نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ ما يشاء كَانَ، ولَا رَادَّ لَهُ، ومَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ فَلَا مُوجِدَ لَهُ، وأَنَّهُ مَنْ هداه فَلَا مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هادي له، كما قال : وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف:17].
ثم قال مُخْبِرًا عَنِ الظَّالِمِينَ، وهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ: لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ أي: يوم القيامة تمنوا الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ كما قال جل وعلا: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27].
الشيخ: هيهات هيهات، ولا حول ولا قوة إلا بالله! هذه دار الأمنية، هذه الدار الآن يتمناها الكفار يوم القيامة، وليس لهم سبيل، فالعاقل ينتهز الفرصة في هذه الدار، أنت الآن في باب المهلة، دار يتمناها الكفار يوم القيامة لعله يحصل لهم توبة وحسنة، هيهات وأنت تفرط فيها الآن تضيع أيامك ولياليك، ولا حول ولا قوة إلا بالله!.
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ۝ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الْأَنْعَامِ:27، 28].
وَقَوْلُهُ : وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا أَيْ: عَلَى النَّارِ خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ أَيِ: الَّذِي قَدِ اعْتَرَاهُمْ بِمَا أسلفوا من عصيان الله تعالى يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ، قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي ذليل، أَيْ: يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا مُسَارِقَةً خَوْفًا مِنْهَا، والَّذِي يَحْذَرُونَ مِنْهُ واقِعٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ، ومَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا فِي نُفُوسِهِمْ، أَجَارَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ.
 وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ: يَقُولُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ الْخَاسِرِينَ أَيِ: الْخَسَارُ الْأَكْبَرُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْ: ذَهَبَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ فَعُدِمُوا لَذَّتَهُمْ فِي دَارِ الْأَبَدِ، وخَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، وفُرِّقَ بَيْنَهُمْ، وبَيْنَ أحبابهم، وأصحابهم، وأَهَالِيهِمْ، وقَرَابَاتِهِمْ فَخَسِرُوهُمْ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ أَيْ: دَائِمٍ سَرْمَدِيٍّ أَبَدِيٍّ لَا خُرُوجَ لَهُمْ مِنْهَا، ولَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهَا.
وقوله تعالى: وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ: يُنْقِذُونَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ والنَّكَالِ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ أَيْ: لَيْسَ لَهُ خَلَاصٌ.
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ ۝ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ [الشورى:47، 48].
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا يَكُونُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنَ الْأَهْوَالِ والْأُمُورِ الْعِظَامِ الْهَائِلَةِ، حَذَّرَ مِنْهُ، وأَمَرَ بِالِاسْتِعْدَادِ لَهُ، فَقَالَ: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ أَيْ: إِذَا أَمَرَ بِكَوْنِهِ فَإِنَّهُ كَلَمْحِ الْبَصَرِ يَكُونُ، ولَيْسَ لَهُ دَافِعٌ، ولَا مانع.
وقوله : مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ أَيْ: لَيْسَ لَكُمْ حِصْنٌ تَتَحَصَّنُونَ فِيهِ، ولَا مَكَانٌ يَسْتُرُكُمْ وتَتَنَكَّرُونَ فِيهِ فَتَغِيبُونَ عَنْ بَصَرِهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى، بَلْ هُوَ مُحِيطٌ بِكُمْ، بِعِلْمِهِ، وبَصَرِهِ، وقُدْرَتِهِ، فَلَا مَلْجَأَ مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ، يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ۝ كَلَّا لَا وَزَرَ ۝ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [الْقِيَامَةِ:10-12].
الشيخ: وهذا هو الواجب على المكلفين أن يستجيبوا لله الذي خلقهم من العدم، وغذاهم بالنعم، وأرسل لهم الرسل، وأنزل الكتب، وبين لهم المآل، وأن لهم دارين، دار النعيم لمن أطاع واستقام، ودار الهوان والعذاب لمن أعرض عن الهدى، وتابع الهوى، الواجب أن يستقيموا، أن يستجيبوا لله، ولهذا قال: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ يعني: أطيعوه، واستقيموا على أمره، واحذروا معصيته، فالمستجيب هو الذي يطيع الأوامر، وينتهي عن النواهي، هذا هو المستجيب، فالله جل وعلا يأمرهم أن يستجيبوا بفعل الأوامر، وترك النواهي، وعلى رأسها توحيد الله، والإخلاص له، وترك الإشراك به، قبل أن يأتيهم يوم القيامة، يعني قبل الموت، من مات فقد قامت قيامته، فالحاصل أن الإنسان يجب عليه أن ينتبه، وأن يحذر، وأن يعد العدة، قبل أن يهجم عليه الأجل هذا لا بدّ منه لا بدّ من الموت، ولا بدّ من يوم القيامة، لا ملجأ ولا نكير فالقيامة حق، والموت حق، وإذا مت انتهت الحيل، فالواجب أن تعد العدة قبل أن يهجم عليك الأجل، ولهذا قال جل وعلا: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، وقال : وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا [المنافقون:11]، فالواجب الحذر قبل هجوم هذا الأجل الذي لا حيلة فيه.
وَقَوْلُهُ تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا أي: لست عليهم بمسيطر، وقال : لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [الْبَقَرَةِ:272]، وقَالَ تَعَالَى: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [الرَّعْدِ:40]، وقَالَ جل وعلا هَاهُنَا: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ [الشورى:48] أَيْ: إِنَّمَا كَلَّفْنَاكَ أَنْ تُبْلِغَهُمْ رِسَالَةَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ.
الشيخ: وهكذا الدعاة خلفاء الرسل ليس عليهم إلا هذا، ليس عليهم إلا البلاغ، والصدق، والنصح، والهداية بيد الله لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272]، فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ [الشورى:48]، فلا ينبغي للداعي أن يحزن، ويضيق صدره، وينكل عن الدعوة لا، يصبر، وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل:127]، عليه أن يبلغ، ويصبر، ويسأل ربه لهم الهداية، وأما أن يحزن حزنًا يمنعه من الإنذار، أو يقعده عن البلاغ، أو يشوش عليه فكره لا.
ثُمَّ قال تبارك وتعالى: وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا أَيْ: إِذَا أَصَابَهُ رَخَاءٌ ونِعْمَةٌ فَرِحَ بِذَلِكَ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ يَعْنِي النَّاسَ، سَيِّئَةٌ أَيْ جدب، ونقمة، وبَلَاءٌ، وشِدَّةٌ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ أَيْ: يَجْحَدُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ النعم، ولَا يَعْرِفُ إِلَّا السَّاعَةَ الرَّاهِنَةَ، فَإِنْ أَصَابَتْهُ نِعْمَةٌ أَشِرَ، وبَطِرَ.
الشيخ: هذا غالب الناس، هذا وصف أغلبي، الشكور هو القليل، وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13]، لكن الغالب على الناس أنهم متى جاءت النعم بطروا، وأشروا، وظلموا، ومتى جاءت المصائب يئسوا، وقنطوا، ولا حول ولا قوة إلا بالله!.
فَإِنْ أَصَابَتْهُ نِعْمَةٌ أَشِرَ وبَطِرَ، وإِنْ أَصَابَتْهُ مِحْنَةٌ يَئِسَ وقَنِطَ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِلنِّسَاءِ: يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: ولِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ ﷺ: لِأَنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ الشِّكَايَةَ، وتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ تَرَكْتَ يَوْمًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ، وهَذَا حَالُ أكثر الناس، إلا من هداه الله تعالى، وأَلْهَمَهُ رُشْدَهُ، وكَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا، وعَمِلُوا الصالحات.
الشيخ: وهكذا الحديث، حديث صهيب في شأن المؤمن عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن لكنهم الأقلين، هم الأقلون، وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103].
فالمؤمن كما قال ﷺ: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، ولَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا للمؤمن.
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ۝ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى:49، 50].
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ خَالِقُ السَّمَوَاتِ والْأَرْضِ ومَالِكُهُمَا، والْمُتَصَرِّفُ فِيهِمَا، وأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ، ومَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وأَنَّهُ يعطي من يشأ، ويَمْنَعُ مَنْ يَشَاءُ، ولَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى، ولَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ، وأَنَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا أَيْ: يَرْزُقُهُ الْبَنَاتِ فقط، قال البغوي: ومنهم لوط عليه الصلاة والسلام، وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَيْ: يَرْزُقُهُ الْبَنِينَ فقط، قال البغوي: كإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، لَمْ يُولَدْ لَهُ أُنْثَى، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا أي: ويعطي لمن يَشَاءُ مِنَ النَّاسِ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والْأُنْثَى، أَيْ مِنْ هَذَا وهَذَا، قَالَ الْبَغَوِيُّ: كَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسَّلَامُ، وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا أَيْ: لَا يُولَدُ لَهُ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: كَيَحْيَى، وعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. فَجَعَلَ النَّاسَ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: مِنْهُمْ مَنْ يُعْطِيهِ الْبَنَاتِ، ومِنْهُمْ مَنْ يُعْطِيهِ الْبَنِينَ، ومِنْهُمْ مَنْ يُعْطِيهِ مِنَ النَّوْعَيْنِ ذُكُورًا وإِنَاثًا، ومِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُهُ هَذَا وهَذَا، فَيَجَعَلُهُ عَقِيمًا لَا نَسْلَ لَهُ، ولَا يُولَدُ لَهُ. إِنَّهُ عَلِيمٌ أَيْ: بِمَنْ يَسْتَحِقُّ كُلَّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، قَدِيرٌ أَيْ: عَلَى ما يَشَاءُ مِنْ تَفَاوُتِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ، وهَذَا الْمَقَامُ شبيه بقوله تبارك وتعالى عن عيسى عليه الصلاة والسلام، وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ [مَرْيَمَ:21] أَيْ: دَلَالَةً لَهُمْ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى وتَقَدَّسَ، حَيْثُ خَلَقَ الْخَلْقَ على أربعة أقسام، فآدم عليه الصلاة والسلام مَخْلُوقٌ مِنْ تُرَابٍ لَا مِنْ ذَكَرٍ ولَا أُنْثَى، وحَوَّاءُ عَلَيْهَا السَّلَامُ مَخْلُوقَةٌ مِنْ ذَكَرٍ بِلَا أُنْثَى، وسَائِرُ الْخَلْقِ سِوَى عِيسَى مِنْ ذكر وأنثى، وعيسى من أُنْثَى بِلَا ذَكَرٍ، فَتَمَّتِ الدَّلَالَةُ بخلق عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام.
الشيخ: يعني تمت القسمة الرباعية بخلق عيسى، فآدم من تراب لا من ذكر، ولا من أنثى، وزوجته حواء منه خلقها الله، خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء:1]، وعيسى من أنثى بلا ذكر، من مريم ليس له أب، والبقية من ذكر وأنثى، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى [الحجرات:13].
ولهذا قال تعالى: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ [مريم:21]، فَهَذَا الْمَقَامُ فِي الْآبَاءِ، والْمَقَامُ الْأَوَّلُ فِي الْأَبْنَاءِ، وكُلٌّ مِنْهُمَا أَرْبَعَةُ أقسام، فسبحان العليم القدير.
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ۝ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ۝ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى:51-53].
هذه مقامات الوحي بالنسبة إلى جنات الله ، وهو أنه تبارك وتعالى تَارَةً يَقْذِفُ فِي رُوعِ النَّبِيِّ ﷺ شَيْئًا لَا يَتَمَارَى فِيهِ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ .
الشيخ: يعني لا يشك.
كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي إِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا، وأَجَلَهَا، فَاتَّقَوُا اللَّهَ، وأَجْمِلُوا فِي الطلب.
وقوله تعالى: أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى عليه الصلاة والسلام، فَإِنَّهُ سَأَلَ الرُّؤْيَةَ بَعْدَ التَّكْلِيمِ فَحُجِبَ عَنْهَا.
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ رضي الله عنهما: مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا إِلَّا مِنْ ورَاءِ حِجَابٍ، وإِنَّهُ كَلَّمَ أَبَاكَ كفاحًا كذا جاء في الحديث، وكان قَدْ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، ولَكِنَّ هَذَا فِي عَالَمِ الْبَرْزَخِ، والْآيَةُ إِنَّمَا هِيَ فِي الدَّارِ الدنيا.
الشيخ: وهكذا نبينا ﷺ كلمه الله من وراء حجاب، لم يره، لما عرج به إلى السماء، وفرض الله عليه الصلوات الخمس، كلمه سبحانه، وفرضها عليه خمسين، ثم لم يزل يتردد إلى ربه حتى جعلها خمسًا، ونادى مناد من السماء: إني قد أمضيت فرضيتي، وخففت عن عبادي، هذا أيضًا من الكلام..، من وراء حجاب.
أما الرؤية فلم يره أحد، لا موسى، ولا محمد، ولهذا لما سئل ﷺ: أرأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه؟!، وفي لفظ: رأيت نورًا، فلم ير أحد ربه في هذه الدنيا، وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: واعلموا أنه لن يرى أحد ربه حتى يموت، فهذه الدار ما هي دار رؤية، الرؤية أعلى نعيم أهل الجنة، فلا يرى إلا في الآخرة ، يراه المؤمنون يوم القيامة، ويراه المؤمنون في الجنة.
س: هل رآه النبي ﷺ في المنام؟
الشيخ: رؤيا المنام غير، رؤيا المنام لا بأس بها قد تقع، رآه النبي ﷺ في النوم.
س: يرى الله على صورته؟
الشيخ: يرى شيئًا مما يدل على أنه الله، إما نور شبهه؛ لأن الله لا يشبهه شيء .
س: عندما أسرى بالرسول عليه الصلاة والسلام، عقيدة أهل السنة هل الله سبحانه ... وإلا فرضت عليه الصلاة دون أن يسمع كلام الجلالة؟
الشيخ: فرض الله عليه الصلاة، وسمع كلام ربه ليلة المعراج.
س: قول الله تعالى لإبراهيم : إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ [البقرة:131]، ألا يقتضي أن الله كلمه؟
الشيخ: محتمل أنه من وراء حجاب، ومحتمل أنه بواسطة جبرائيل، ما هو صريح.
وقوله : أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ كما ينزل جبريل عليه الصلاة والسلام وغيره من الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ فَهُوَ عَلِيٌّ عَلِيمٌ خَبِيرٌ حكيم.
وقوله : وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا يَعْنِي الْقُرْآنَ، مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ أَيْ: عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي شُرِعَ لَكَ فِي الْقُرْآنِ، وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ أَيِ: الْقُرْآنَ، نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت:44] الآية.
الشيخ: ولكن جَعَلْنَاهُ نُورًا يعني الوحي، جعله الله روحًا يحصل به الحياة الطيبة، وجعله الله نورًا يحصل به البصيرة والهدى، وهو هذا القرآن، وما جاءت به السنة، فيها الروح، وفيها النور، القرآن والسنة الروح والنور، فهما روح تحصل بهما الحياة الطيبة السعيدة، وهما نور يحصل بهما البصيرة.
وقوله تعالى: وَإِنَّكَ أَيْ: يَا مُحَمَّدُ، لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وهُوَ الْخُلُقُ الْقَوِيمُ، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ تعالى: صِرَاطِ اللَّهِ أي: وشرعه الَّذِي أَمَرَ بِهِ اللَّهِ، الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَيْ: رَبُّهُمَا، ومَالِكُهُمَا، والْمُتَصَرِّفُ فيهما، والحاكم الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ.
الشيخ: وهو المراد بقوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، وفي قوله: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153]، هذا الصراط الذي يدعو إليه النبي ﷺ ويهدي إليه شرع الله ودينه.
 أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ أَيْ: تَرْجِعُ الْأُمُورُ فَيَفْصِلُهَا، ويَحْكُمُ فيها عما يقول الظالمون والجاحدون علوًا كبيرًا.