01 من قوله: (حم، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ)

بسم الله الرحمن الرحيم

حم ۝ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ۝ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ۝ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ۝ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ ۝ وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ ۝ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ۝ فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ [الزخرف:1 -8].

يقول تعالى: حم ۝ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ أي: البين الواضح الجلي المعاني والألفاظ؛ لأنه نزل بلغة العرب التي هي أفصح اللغات للتخاطب بين الناس، ولهذا قال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا أي: بلغة العرب فصيحًا، واضحًا، لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي: تفهمونه، وتتدبرونه، كما قال : بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:195].

وقوله تعالى: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ بين شرفه في الملأ الأعلى ليشرفه، ويعظمه، ويطيعه أهل الأرض، فقال تعالى: وَإِنَّهُ أي: القرآن، في أم الكتاب فِي أُمِّ الْكِتَابِ أي: اللوح المحفوظ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد، لَدَيْنَا أي: عندنا، قاله قتادة، وغيره، لَعَلِيٌّ أي: ذو مكانة عظيمة وشرف وفضل، قاله قتادة، حَكِيمٌ أي: محكم بريء من اللبس والزيغ، وهذا كله تنبيه على شرفه، وفضله، كما قال تبارك وتعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ۝ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ۝ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ۝ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الواقعة:77-80]، وقال تعالى: كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ۝ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ۝ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ۝ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ۝ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ۝ كِرَامٍ بَرَرَةٍ [عبس:11-16]، ولهذا استنبط العلماء م من هاتين الآيتين أن المحدث لا يمس المصحف كما ورد به الحديث إن صح؛ لأن الملائكة يعظمون المصاحف المشتملة على القرآن في الملأ الأعلى، فأهل الأرض بذلك أولى وأحرى؛ لأنه نزل عليهم، وخطابه متوجه إليهم، فهم أحق أن يقابلوه بالإكرام، والتعظيم، والانقياد له بالقبول والتسليم، لقوله تعالى: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ.

وقوله : أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ اختلف المفسرون في معناها، فقيل: معناها أتحسبون أن نصفح عنكم فلا نعذبكم، ولا تفعلوا ما أمرتم به، قاله ابن عباس رضي الله عنهما، وأبو صالح، ومجاهد، والسدي، واختاره ابن جرير، وقال قتادة في قوله تعالى: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا، والله لو أن هذا القرآن رفع حين ردته أوائل هذه الأمة لهلكوا، ولكن الله تعالى عاد بعائدته ورحمته فكرره عليهم، ودعاهم إليه عشرين سنة، أو ما شاء الله من ذلك، وقول قتادة لطيف المعنى جدًا، وحاصله أنه يقول في معناه: إنه تعالى من لطفه ورحمته بخلقه لا يترك دعاءهم إلى الخير، وإلى الذكر الحكيم، وهو القرآن، وإن كانوا مسرفين معرضين عنه بل أمر به ليهتدي به من قدر هدايته، وتقوم الحجة على من كتب شقاوته.

ثم قال جل وعلا مسليًا لنبيه ﷺ في تكذيب من كذبه من قومه، وآمرًا له بالصبر عليهم: وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ أي: في شيع الأولين، وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ أي: يكذبونه، ويسخرون به. وقوله تبارك وتعالى: فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى أي: فأهلكنا المكذبين بالرسل، وقد كانوا أشد بطشًا من هؤلاء المكذبين لك يا محمد، كقوله : أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً [غافر:82]، والآيات في ذلك كثيرة جدًا، وقوله جل جلاله: وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ قال مجاهد: سنتهم، وقال قتادة: عقوبتهم، وقال غيرهما: عبرتهم، أي: جعلناهم عبرة لمن بعدهم من المكذبين أن يصيبهم ما أصابهم، كقوله تعالى في آخر هذه السورة: فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ [الزخرف:56]، وكقوله جلت عظمته: سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ [غافر:85]، وقال : وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب:56].

الشيخ: المقصود من هذا التحذير، يعني احذروا أن يصيبكم ما أصابكم، وقد كذب من قبلكم فعوقبوا كقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وغيرهم، فاحذروا أن يصيبكم ما أصابكم، قال: كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً، ومع هذا عوقبوا، ولكنه يملي، ولا يغفل.

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ۝ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ۝ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ۝ وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ۝ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ۝ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ [الزخرف:9-14].

يقول تعالى: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين بالله العابدين معه غيره من خلق السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ أي: ليعترفن بأن الخالق لذلك هو الله، وحده لا شريك له، وهم مع هذا يعبدون معه غيره من الأصنام، والأنداد، ثم قال تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا أي: فراشًا قرارًا ثابتة تسيرون عليها، وتقومون، وتنامون، وتنصرفون، مع أنها مخلوقة على تيار الماء، لكنه أرساها بالجبال لئلا تميد هكذا، ولا هكذا، وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا أي: طرقًا بين الجبال، والأودية، لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي: في سيركم من بلد إلى بلد، وقطر إلى قطر، وإقليم إلى إقليم.

الشيخ: ومعنى لعل تعليلية لتهتدوا، لعلكم تذكرون لتتذكروا، لعلكم تعقلون لتعلقوا، فعل هذه الأشياء لتعقلوها، وتذكروا، وتستفيدوا، وتنتفعوا، لعل للتعليل أي لبيان العلة، والحكمة، لعلكم تعقلون، لعلكم تذكرون، لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ يعني فعلنا هذه الأشياء لتعلقوها، وتذكروا، وتفهموا، وتعلموا، وتعملوا .

وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ أي: بحسب الكفاية لزروعكم، وثماركم، وشربكم لأنفسكم، ولأنعامكم.

وقوله تبارك وتعالى: فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا أي: أرضًا ميتة، فلما جاءها الماء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج:5]، ثم نبه تعالى بإحياء الأرض على إحياء الأجساد يوم المعاد بعد موتها، فقال: كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ.

الشيخ: يعني كما أخرجنا النبات بهذا الماء أنتم كذلك تخرجون يوم القيامة من القبور، ففي إخراج النبات، والزروع، والأشجار، دلالة على أنه سبحانه سوف يخرجهم يوم القيامة من هذه القبور، ويعيدهم كما بدأهم، ويجازيهم بأعمالهم كما قال في سورة ق: وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ۝ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ ۝ رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق:9-11]، يعني كذلك خروجهم من القبور.

ثم قال : وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا أي: مما تنبت الأرض من سائر الأصناف من نبات، وزروع، وثمار، وأزاهير، وغير ذلك من الحيوانات على اختلاف أجناسها، وأصنافها، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ أي: السفن، وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ أي: ذللها لكم، وسخرها، ويسرها لأكلكم لحومها، وشربكم ألبانها، وركوبكم ظهورها، ولهذا قال جل وعلا: لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ أي: لتستووا متمكنين مرتفقين، عَلَى ظُهُورِهِ أي: على ظهور هذا الجنس ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ أي: فيما سخر لكم، إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ أي: مقاومين، ولولا تسخير الله لنا هذا ما قدرنا عليه. قال ابن عباس رضي الله عنهما، وقتادة، والسدي، وابن زيد: مُقْرِنِينَ أي: مطيقين، وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ أي: لصائرون إليه بعد مماتنا، وإليه سيرنا الأكبر، وهذا من باب التنبيه بسير الدنيا على سير الآخرة، كما نبه بالزاد الدنيوي على الزاد الأخروي في قوله تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197]، وباللباس الدنيوي على الأخروي في قوله تعالى: وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26].

الشيخ: هذا من رحمته العظيمة، وفضله الكبير، تنبيه العباد، كما أنبت لهم النباتات، وأعطاهم الأرزاق يخرجهم يوم القيامة ، وكما أعطاهم الزاد في الدنيا من أنواع النعم يذكرهم بزاد التقوى؛ حتى يعدوا العدة للآخرة، كما أعطاهم اللباس في هذه الدار لستر العورات يذكرهم بلباس التقوى الذي به نجاتهم يوم القيامة، وسعادتهم يوم القيامة يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا [الأعراف:26]، ثم قال بعدها: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26] الأعمال الصالحة لباس، والأعمال السيئة لباس، لكن لباس التقوى خير لأهلها، وأصلح لأهلها، ولباس الفساد والكفر والضلال شر لأهله، ووبال على أهله، وعاقبته وخيمة.

ذكر الأحاديث الواردة عند ركوب الدابة:

[حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب] ، قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا شريك بن عبد الله، عن أبي إسحاق، عن علي بن ربيعة قال: رأيت عليًا أتي بدابة، فلما وضع رجله في الركاب قال: باسم الله، فلما استوى عليها قال: الحمد لله سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ۝ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ ، ثم حمد الله تعالى ثلاثًا، وكبر ثلاثًا، ثم قال: سبحانك لا إله إلا أنت قد ظلمت نفسي فاغفر لي، ثم ضحك، فقلت له: مم ضحكت يا أمير المؤمنين؟ فقال : رأيت رسول الله ﷺ فعل مثلما فعلت، ثم ضحك، فقلت: مم ضحكت يا رسول الله؟ فقال ﷺ: يعجب الرب تبارك وتعالى من عبده إذا قال: رب اغفر لي، ويقول: علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري، وهكذا رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي من حديث أبي الأحوص، زاد النسائي ومنصور عن أبي إسحاق السبيعي عن علي بن ربيعة الأسدي الوالبي به. وقال الترمذي: حسن صحيح، وقد قال عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة: قلت لأبي إسحاق السبيعي: ممن سمعت هذا الحديث؟ قال: من يونس بن خباب، فلقيت يونس بن خباب، فقلت: ممن سمعته؟ فقال: من رجل سمعه من علي بن ربيعة، ورواه بعضهم عن يونس بن خباب عن شقيق بن عقبة الأسدي عن علي بن ربيعة الوالبي به.

[حديث عبد الله بن عباس] رضي الله عنهما، قال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا أبو بكر بن عبد الله، عن علي بن أبي طلحة، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: إن رسول الله ﷺ أردفه على دابته، فلما استوى عليها كبر رسول الله ﷺ ثلاثًا، وحمد ثلاثًا، وهلل واحدة، ثم استلقى عليه فضحك، ثم أقبل عليه فقال: ما من امرئ مسلم يركب فيصنع كما صنعت، إلا أقبل الله عليه فضحك إليه كما ضحكت إليك تفرد به أحمد.

الشيخ: سنده ضعيف، أبو بكر بن عبد الله ضعيف، والرواية التي قبله أصح.

[حديث عبد الله بن عمر] رضي الله عنهما.

الشيخ: وهو أصحها.

قال الإمام أحمد: حدثنا أبو كامل، حدثنا حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن علي بن عبد الله البارقي، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: إن النبي ﷺ كان إذا ركب راحلته كبر ثلاثًا ثم قال: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ۝ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ ، ثم يقول: اللهم إني أسألك في سفري هذا البر، والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا السفر، واطو لنا البعد، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا في سفرنا، واخلفنا في أهلنا». وكان ﷺ إذا رجع إلى أهله قال: آيبون تائبون إن شاء الله عابدون لربنا حامدون، وهكذا رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي من حديث ابن جريج، والترمذي من حديث حماد بن سلمة، كلاهما عن أبي الزبير به.

[حديث آخر] قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن عمرو بن الحكم بن ثوبان، عن أبي لاس الخزاعي قال: حملنا رسول الله ﷺ على إبل من إبل الصدقة إلى الحج، فقلنا: يا رسول الله ما نرى أن تحملنا هذه، فقال ﷺ: ما من بعير إلا في ذروته شيطان، فاذكروا اسم الله عليها إذا ركبتموها كما آمركم، ثم امتهنوها لأنفسكم، فإنما يحمل الله  أبو لاس اسمه محمد بن الأسود بن خلف.

 [حديث آخر] في معناه- قال أحمد: حدثنا عتاب، أخبرنا عبد الله، ح، وعلي بن إسحاق، أخبرنا عبد الله يعني ابن المبارك، أخبرنا أسامة بن زيد، أخبرني محمد بن حمزة أنه سمع أباه يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: على ظهر كل بعير شيطان فإذا ركبتموها فسموا الله ، ثم لا تقصروا عن حاجاتكم.

الشيخ: شف محمد بن حمزة هذا.

الطالب: ... عمر بن الحكم بن ثوبان المدني، صدوق من الثالثة، مات سنة سبع عشرة، وله ثمانون سنة، البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه.

الشيخ: ما عندكم عمرو -بالواو-؟

الطالب: لا.

الشيخ: اقرأ عمرو بن أبي الحكم.

الطالب: عمرو بن أبي حكيم الواسطي ابن الكردي، يقال هنا لآل الزبير، مولى الأزد، ثقة من السادسة.

الشيخ: من رواه؟

الطالب: قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن عمرو بن الحكم بن ثوبان عن أبي لاس.

الشيخ: يراجع المسند، قد يكون الخطأ من المسند، وقد يكون من التقريب، يراجع عمر، وعمرو.

الشيخ: انظر محمد بن حمزة.

الطالب: محمد بن حمزة بن عمرو الأسلمي المدني، مقبول من الثالثة، البخاري تعليقًا، ومسلم، وأبو داود.

وآخر: محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام، صدوق من السادسة، ومنهم من زاد بين حمزة ويوسف محمد، ابن ماجه.

س: ما حكم الاستعاذة عند قراءة القرآن؟

الشيخ: سنة، الاستعاذة والبسملة كلها سنة، فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98] الأمر للندب هذا المعروف عند أهل العلم، ينبغي للمؤمن أن لا يدع ذلك، لأن الأصل في الأوامر للوجوب، فينبغي للمؤمن أن يحتاط في مثل هذا، ويحرص أن لا يفرط، فإذا أراد القراءة يتعوذ بالله من الشيطان ثم يسمي إن كان من أول السورة.

س: دعاء السفر، إذا قاله في غير السفر؟

الشيخ: الدعاء طيب ما فيه شيء، لكن بس هنا يقال سنة، أو ما هو بسنة، هذا هو محل البحث، فيسن مطلقًا، أو يسن عند السبب؟ إذا قاله الإنسان في كل وقت كله طيب، تكبير، وتحميد.

س: هل هناك مدة محددة لدعاء السفر؟

الشيخ: على حسب الأحوال إذا عد سفرًا يقوله، السفر ثمانين كيلو تقريبًا.

وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ ۝ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ ۝ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ۝ أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ۝ وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ۝ وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الزخرف:15-20].

يقول تعالى مخبرًا عن المشركين فيما افتروه وكذبوه في جعلهم بعض الأنعام لطواغيتهم وبعضها لله تعالى -كما ذكر الله عنهم في سورة الأنعام في قوله تبارك وتعالى-: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الأنعام:136]، وكذلك جعلوا له من قسمي البنات والبنين أخسهما، وأردأهما، وهو البنات، كما قال تعالى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى ۝ تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [النجم:21-22].

سؤال: تعبير المؤلف هنا بكلمة أخسهما؟

الشيخ: لو قال .......، كان أنسب في العبارة رحمه الله.

وقال جل وعلا هاهنا: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ.

ثم قال جل وعلا: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ، وهذا إنكار عليهم غاية الإنكار، ثم ذكر تمام الإنكار، فقال جلت عظمته: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ أي: إذا بشر أحد هؤلاء بما جعلوه لله من البنات يأنف من ذلك غاية الأنفة، وتعلوه كآبة من سوء ما بشر به، ويتوارى من القوم من خجله من ذلك.

الشيخ: هذا من جهلهم، من جهل الجاهلية كانوا يكرهون أن يبشروا بالبنات فيتغير وجهه بذلك، وهذا من جهلهم، فكم لله من بنت أصلح من رجل، وأنفع من رجل، وإن كان في الجملة الذكر أفضل، وأقوى على العمل، ولكن قد يقع في البنات من هو خير من البنين، فالواجب الرضا بما قسم الله، وعدم الكراهة، وعدم التشبه بأعداء الله، فهم لجهلهم، وضلالهم زعموا أن الملائكة بنات الله، ما قالوا بنون، قالوا بنات، ولهذا ذمهم الله، وعابهم على هذا أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ ۝ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ  [الصافات:153-154]، وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا يعني الملائكة.

سؤال: هل للرجل أن يتمنى الولد؟

الشيخ: لا مانع، لكن لا يكره إذا بشر بالأنثى يحمد الله، ويسأل الله أن يجعلها مباركة، لا يتشبه بأعداء الله وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ۝ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ [الزخرف:58-59]، يعني يئدها، يقتلها، ويزعمون أنه يخشى أنها تزني إذا كبرت، ويخشى العار، وهذا من الجهل الكبير، نسأل الله العافية.

يقول تبارك وتعالى: فكيف تأنفون من ذلك، وتنسبونه إلى الله ، ثم قال : أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ أي: المرأة ناقصة يكمل نقصها بلبس الحلي منذ تكون طفلة، وإذا خاصمت فلا عبارة لها، بل هي عاجزة عيية.

الشيخ: يعني في الأغلب، فلا وجه لاعتراض بعض النساء، يوجد فيهن خطيبات، وجيدات، وفاضلات، وبليغات لكن الأغلب عليهن هو ما قاله الله.

أو من يكون هكذا ينسب إلى جناب الله العظيم، فالأنثى ناقصة الظاهر والباطن في الصورة، والمعنى فيكمل نقص ظاهرها وصورتها بلبس الحلي، وما في معناه، ليجبر ما فيها من نقص كما قال بعض شعراء العرب:

وما الحلي إلا زينة من نقيصة يتمم من حسن إذا الحسن قصرا
وأما إذا كان الجمال موفرا كحسنك لم يحتج إلى أن يزورا

 

وأما نقص معناها فإنها ضعيفة عاجزة عن الانتصار عند الانتصار لا عبارة لها، ولا همة، كما قال بعض العرب، وقد بشر ببنت: ما هي بنعم الولد نصرها بالبكاء، وبرها سرقة، وقوله تبارك وتعالى: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أي: اعتقدوا فيهم ذلك.

الشيخ: كل هذه أوصاف غالبة، وإلا قد يقع منهن خلاف ذلك، لكنهن قاصرات في الجملة، "نصرها بكاء" إذا أصابها شيء أصاب أباها أو أخاها أو أقاربها تبكي، وتحزن ليس عندها قوة النصر بالسلاح، والقوة، والمغالبة، "وبرها سرقة" قد يكون سرقة من مال الزوج، أو من غيرها.

فأنكر عليهم تعالى قولهم ذلك فقال: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ أي: شاهدوه وقد خلقهم الله إناثًا، سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ أي: بذلك، ويسألون عن ذلك يوم القيامة، وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ أي: لو أراد الله لحال بيننا وبين عبادة هذه الأصنام التي هي على صور الملائكة التي هي بنات الله، فإنه عالم بذلك، وهو يقررنا عليه، فجمعوا بين أنواع كثيرة من الخطأ:

[أحدها]: جعلهم لله تعالى ولدًا، تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علوًا كبيرًا.

[الثاني] دعواهم أنه اصطفى البنات على البنين فجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثًا.

[الثالث]: عبادتهم لهم مع ذلك كله بلا دليل ولا برهان، ولا إذن من الله ، بل بمجرد الآراء والأهواء، والتقليد للأسلاف والكبراء والآباء، والخبط في الجاهلية الجهلاء.

[الرابع]: احتجاجهم بتقديرهم على ذلك قدرًا، وقد جهلوا في هذا الاحتجاج جهلًا كبيرًا، فإنه تعالى قد أنكر ذلك عليهم أشد الإنكار فإنه منذ بعث الرسل، وأنزل الكتب يأمر بعبادته وحده لا شريك له، وينهى عن عبادة ما سواه.

الشيخ: والمعنى أنه لا يجوز الاحتجاج بالقدر، الله قدر الأشياء، ومضى بها علمه، وأنت قد أعطاك عقلاً وتمييزًا تستطيع أن تميز هذا من هذا، وتختار هذا من هذا، كما تفعل في حاجاتك، تختار الطعام الفلاني، اللباس الفلاني، الناقة الفلانية، الزوجة الفلانية، السفر الفلاني، تختار ما تشاء، تقدم هذا، وتؤخر هذا، فأنت عندك تصرف، عندك عقل تمييز، وإرادة، فأنت مؤاخذ بتقديمك هواك على طاعة الله ورسوله، واختيارك المعصية والكفر على ما أمرك الله به من التوحيد والطاعة، فالاحتجاج بالقدر أمر باطل، وظلم وعدوان، يحتج به على معاصيه، وهو في مسائله الأخرى يختار ما يشاء.

قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [النحل:36]، وقال : وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف:45]، وقال جل وعلا في هذه الآية بعد أن ذكر حجتهم هذه: مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ أي: بصحة ما قالوه، واحتجوا به، إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أي: يكذبون، ويتقولون. وقال مجاهد في قوله تعالى: مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ يعني ما يعلمون قدرة الله تبارك وتعالى على ذلك.

أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ۝ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ۝ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ۝ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ۝ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [الزخرف:21-25].

يقول تعالى منكرًا على المشركين في عبادتهم غير الله بلا برهان ولا دليل ولا حجة: أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ أي: من قبل شركهم، فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ أي: فيما هم فيه ليس الأمر كذلك، كقوله : أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ [الروم:35] أي: لم يكن ذلك.

ثم قال تعالى: بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ أي: ليس لهم مستند فيما هم فيه من الشرك سوى تقليد الآباء والأجداد بأنهم كانوا على أمة، والمراد بها الدين هاهنا. وفي قوله تبارك وتعالى: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [الأنبياء:92]، وقولهم: وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ أي: وراءهم مُهْتَدُونَ دعوى منهم بلا دليل. ثم بين جل وعلا أن مقالة هؤلاء قد سبقهم إليها أشباههم ونظراؤهم من الأمم السالفة المكذبة للرسل، تشابهت قلوبهم فقالوا مثل مقالتهم، كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ۝ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الذاريات:52-53]، وهكذا قال هاهنا: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ.

الشيخ: مُتْرَفُوهَا يعني أهل الغنى والسعة والرياسة والفقراء تبع لهم يتقدمهم هؤلاء فيتبعهم فقراؤهم، نسأل الله العافية.

ثم قال : قل أي يا محمد لهؤلاء المشركين: أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ أي: ولو علموا وتيقنوا صحة ما جئتهم به لما انقادوا لذلك لسوء قصدهم، ومكابرتهم للحق وأهله، قال الله تعالى: فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ أي: من الأمم المكذبة بأنواع من العذاب كما فصله تبارك وتعالى في قصصهم، فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ أي: كيف بادوا، وهلكوا، وكيف نجى الله المؤمنين.

الشيخ: وفي هذا العظة والذكرى لمن يعقل فالله جل وعلا قص القصص للاعتبار، والذكرى والمبادرة إلى الحق، لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [يوسف:11]، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [يوسف:3]، فالله قص علينا هذا القصص العظيم بل هو أحسن القصص وأكمله عن نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وموسى، وغيرهم لماذا؟ للاتعاظ، والذكرى، والحذر مما وقعوا فيه، ولكن أكثر الخلق لا يعي، ولا يتبصر، وإنما يقلد من سبقه في الباطل، ويتبع هواه، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ [النجم:23] هذه مستنداتهم لا علم، ولا قصد، لا علم حقيقي ولا إرادة طيبة، ظنون وأهواء، هذه حالهم، نسأل الله العافية، وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى [النجم:23]، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ۝ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41]، فأهل الباطل غلب عليهم سوء الظن، وعدم العلم، واتباع الهوى، وأهل الحق هداهم الله للعلم النافع، ومخالفة الهوى، فآثروا الحق، واتبعوا الهدى، وقدموه على أهوائهم طاعة لله، وطلبا لمرضاته، وحذرًا من عقابه جل وعلا، هكذا أهل الحق فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ [القصص:50]، من لم يستجب للحق بعد ظهوره فاعلم أنه إنما يتبع هواه فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ [القصص:50] يعني يا محمد فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ  [القصص:50]، فالحق قصه الله واضح وبين، والباطل بين، قد بين عاقبة هؤلاء، وعاقبة هؤلاء، عاقبة أهل الحق، وعاقبة أهل الباطل بلسان عربي مبين، فإذا حاد عن الصواب وتابع الهوى فقد ترك الحق على بصيرة، وأقدم على الباطل على بصيرة، نسأل الله العافية.