03 من قوله: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ )

وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ۝ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ۝ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ۝ وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ۝ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ۝ وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ۝ وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ۝ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ۝ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [الزخرف:57-65].

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ تَعَنُّتِ قُرَيْشٍ فِي كُفْرِهِمْ وتَعَمُّدِهِمُ الْعِنَادَ والْجَدَلَ: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ قَالَ غَيْرُ واحِدٍ عَنِ ابن عباس رضي الله عنهما، ومجاهد، وعكرمة، والسدي، والضحاك: يَضْحَكُونَ، أَيْ أُعْجِبُوا بِذَلِكَ، وقَالَ قَتَادَةُ: يَجْزَعُونَ، ويَضْحَكُونَ.

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: يُعْرِضُونَ، وكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ حَيْثُ قَالَ: وجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فيما بلغني يَوْمًا مَعَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَاءَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ حَتَّى جَلَسَ مَعَهُمْ، وفِي الْمَجْلِسِ غَيْرُ واحِدٍ مِنْ رِجَالِ قُرَيْشٍ، فَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَعَرَضَ لَهُ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ فَكَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى أَفْحَمَهُ، ثم تلا عليه إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء:98] الآيات.

ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى التَّمِيمِيُّ حَتَّى جَلَسَ، فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ لَهُ: واللَّهِ مَا قَامَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ لِابْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ومَا قَعَدَ، وقَدْ زَعَمَ مُحَمَّدٌ أَنَّا ومَا نَعْبُدُ مِنْ آلِهَتِنَا هَذِهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى: أَمَا واللَّهِ لَوْ وجَدْتُهُ لَخَصَمْتُهُ، سَلُوا مُحَمَّدًا أَكُلُّ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي جَهَنَّمَ مَعَ مَنْ عَبَدَهُ، فَنَحْنُ نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ، والْيَهُودُ تَعْبُدُ عُزَيْرًا، والنَّصَارَى تَعْبُدُ الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَعَجِبَ الْوَلِيدُ، ومَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْمَجْلِسِ مِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزِّبَعْرَى، ورَأَوْا أَنَّهُ قَدْ احْتَجَّ، وخَاصَمَ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: كُلُّ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُعْبَدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَهُوَ مَعَ مَنْ عَبَدَهُ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْبُدُونَ الشَّيْطَانَ، ومَنْ أَمَرَهُمْ بِعِبَادَتِهِ.

الشيخ: يعني من عبد المؤمنين وعبد الملائكة والرسل فمعبوده الشيطان؛ لأنهم لا يرضون بذلك، الملائكة لا ترضى، والرسل لا يرضون، وعيسى لا يرضى، وعزير لا يرضى، المقصود إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ممن يرضى بعبادته كفرعون، والنمرود، وغيرهم، وهكذا الأصنام، والأشجار، والأحجار، أما من لا يرضى فهو بريء منهم، وإنما عبدوا الشيطان الذي دعا إلى ذلك، وزين ذلك هو المعبود، أما الملائكة والرسل وعيسى وعزير وغيرهم من الصالحين ليسوا مع من عبدهم، بل هم براء منهم، ولهذا قال بعدها جل وعلا في الآية الكريمة: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [الأنبياء:101] فعيسى ليس داخلاً في هذا، وإنما يدخل في هذا من عبدوه، وهو راض كفرعون، والنمرود، وغيرهم ممن يعبد وهو راض، وهكذا الأصنام المعبودة، والأشجار، والأحجار.

س: عبد الله بن الزبعرى التميمي، أو التيمي؟

الشيخ: ما أعرف هذا. انظر التقريب.

 فَأَنْزَلَ اللَّهُ : إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [الْأَنْبِيَاءِ:101] أَيْ عِيسَى، وعُزَيْرٌ، ومَنْ عُبِدَ مَعَهُمَا مِنَ الْأَحْبَارِ، والرُّهْبَانِ، الَّذِينَ مَضَوْا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ ، فَاتَّخَذَهُمْ مَنْ بعْدهُمْ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالَةِ أَرْبَابًا من دون الله، ونزل فيما يذكر من أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ، وأَنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ، وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء:26] الآيات.

ونزل فيما يذكر من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام، وأَنَّهُ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وعَجَبِ الْوَلِيدِ، ومن حضر مِنْ حُجَّتِهِ، وخُصُومَتِهِ، وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ أَيْ يَصِدُّونَ عَنْ أَمْرِكَ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ.

ثُمَّ ذَكَرَ عيسى عليه الصلاة والسلام فَقَالَ: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ۝ وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ۝ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ [الزخرف:59- 61].

أَيْ مَا وضَعْتُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وإِبْرَاءِ الْأَسْقَامِ فَكَفَى بِهِ دَلِيلًا عَلَى عِلْمِ السَّاعَةِ، يَقُولُ: فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ.

وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ رِوَايَةِ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قوله: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ قَالَ: يَعْنِي قُرَيْشًا، لَمَّا قِيلَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الْأَنْبِيَاءِ:98] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. فَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ: فَمَا ابْنُ مَرْيَمَ؟

قَالَ ذَاكَ عَبْدُ اللَّهِ، ورَسُولُهُ فَقَالُوا: واللَّهِ مَا يُرِيدُ هَذَا إِلَّا أَنْ نَتَّخِذَهُ رَبًّا كَمَا اتَّخَذَتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مريم ربًّا. فقال الله : مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا شَيْبَانَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ، عَنْ أَبِي يَحْيَى مَوْلَى ابْنِ عُقَيْلٍ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: قَالَ ابن عباس رضي الله عنهما: لَقَدْ عَلِمْتُ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ مَا سَأَلَنِي عَنْهَا رَجُلٌ قَطُّ، فَمَا أَدْرِي أَعَلِمَهَا النَّاسُ فلم يسألوا عنها أو لَمْ يَفْطِنُوا لَهَا فَيَسْأَلُوا عَنْهَا. قَالَ: ثُمَّ طفق يحدثنا، فلما قام تلاومنا أن لا نَكُونَ سَأَلْنَاهُ عَنْهَا، فَقُلْتُ: أَنَا لَهَا إِذَا رَاحَ غَدًا، فَلَمَّا رَاحَ الْغَدُ قُلْتُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ ذَكَرْتَ أَمْسِ أَنَّ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ لَمْ يَسْأَلْكَ عَنْهَا رَجُلٌ قَطُّ، فَلَا تَدْرِي أَعَلِمَهَا النَّاسُ أَمْ لَمْ يَفْطِنُوا لَهَا، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْهَا، وعَنِ اللَّاتِي قَرَأْتَ قَبْلَهَا.
قال : نَعَمْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِقُرَيْشٍ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِيهِ خَيْرٌ، وقَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ النَّصَارَى تَعْبُدُ عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام، وما تقول في محمد ﷺ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ ألست تزعم أن عيسى عليه الصلاة والسلام كَانَ نَبِيًّا، وعَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ صَالِحًا، فإن كنت صادقًا كان آلهتهم كما تقولون. قال: فَأَنْزَلَ اللَّهُ : وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ.

الشيخ: حطها كان آلهتهم كما يقولون، هم النصارى، وقد يكون تقولون يعني من باب التعظيم تقولون كما تقول يا محمد، من باب التعظيم يخاطب الواحد أو كما يقولون هم النصارى يعني، المقصود أن آلهتهم التي يعبدونها مريم، وعيسى، وغيرهم ممن عبده النصارى من الصالحين، والأنبياء هم براء مما فعله المشركون، فليسوا منهم في شيء، بل يبرؤوا إلى الله منهم، فالرسل وكل معبود من دون الله من الأخيار بريء ممن عبد، فالمراد بقوله: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ [الأنبياء:98] يعني الذين يرضون بعبادتهم، أو من الجمادات كالأصنام، ونحوها.

قُلْتُ: مَا يَصِدُّونَ؟ قَالَ: يَضْحَكُونَ، وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ قال: هو خروج عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام قبل يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

الشيخ: قرئ عِلم، وقرئ عَلم قراءتان. وعيسى ابن مريم ينزل في آخر الزمان يقتل الدجال، وذلك من أشراط الساعة.

وقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شَيْبَانَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ عَنْ أَبِي أحمد مولى الأنصار عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِيهِ خَيْرٌ فَقَالُوا لَهُ: أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ عِيسَى كَانَ نَبِيًّا، وعَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ صَالِحًا فَقَدْ كَانَ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ : وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ، وقال مجاهد في قوله تعالى: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ قَالَتْ قُرَيْشٌ إِنَّمَا يُرِيدُ مُحَمَّدٌ أن نعبده كما عبد قوم عيسى عيسى عليه السلام، ونحو هذا قال قتادة.

وقوله: وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ قَالَ قَتَادَةُ: يَقُولُونَ آلِهَتُنَا خَيْرٌ مِنْهُ، وقَالَ قَتَادَةُ: قَرَأَ ابن مسعود : وقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هَذَا، يَعْنُونَ مُحَمَّدًا ﷺ.

وقوله تبارك وتعالى: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا أَيْ مِرَاءً، وهم يعلمون أنه ليس بِوَارِدٍ عَلَى الْآيَةِ، لِأَنَّهَا لِمَا لَا يَعْقِلُ.

الشيخ: هذا في عرف اللغة (ما) لما لا يعقل، و(من) لمن يعقل، الله قال: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ، وعيسى ليس داخلاً في هذا؛ لأنه ممن يعقل، فالمراد به الأصنام، وأشباهها، وهكذا من يرضى بذلك، نسأل الله العافية.

وهي قوله تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاءِ:98]، ثُمَّ هِيَ خُطَّابٌ لِقُرَيْشٍ، وهُمْ إِنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، والْأَنْدَادَ، ولَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَ الْمَسِيحَ حَتَّى يُورِدُوهُ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ مَقَالَتَهُمْ إِنَّمَا كَانَتْ جَدَلًا مِنْهُمْ لَيْسُوا يَعْتَقِدُونَ صِحَّتَهَا.

وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ دِينَارٍ عن أبي غالب عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إلا أورثوا الجدل ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ هَذِهِ الْآيَةَ: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ، وقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وابْنُ مَاجَهْ، وابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ حَجَّاجِ بْنِ دِينَارٍ بِهِ، ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ كَذَا قَالَ، وقَدْ رُوِيَ مِنْ وجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي أمامة بِزِيَادَةٍ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَيَّاشٍ الرَّمْلِيُّ، حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ مَخْزُومٍ عَنِ الْقَاسِمِ أَبِي عَبْدِ الرحمن الشامي عَنْ أَبِي أُمَامَةَ ، قَالَ حَمَّادٌ: لَا أَدْرِي رَفَعَهُ أَمْ لَا؟ قَالَ: مَا ضَلَّتْ أُمَّةٌ بَعْدَ نَبِيِّهَا إِلَّا كَانَ أَوَّلَ ضَلَالِهَا التَّكْذِيبُ بِالْقَدَرِ، ومَا ضَلَّتْ أُمَّةٌ بَعْدَ نَبِيِّهَا إِلَّا أُعْطُوا الْجَدَلَ، ثُمَّ قَرَأَ: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ .

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عن عبادة بْنِ عَبَّادٍ عَنْ جَعْفَرٍ، عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَرَجَ عَلَى النَّاسِ، وهُمْ يَتَنَازَعُونَ فِي الْقُرْآنِ، فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا حَتَّى كَأَنَّمَا صُبَّ عَلَى وجْهِهِ الخل، ثم قال ﷺ: لَا تَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، فَإِنَّهُ مَا ضَلَّ قَوْمٌ قَطُّ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ، ثم تلا ﷺ: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ.

.......

وقوله تَعَالَى: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ يَعْنِي عيسى عليه الصلاة والسلام، مَا هُوَ إِلَّا عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ، والرِّسَالَةِ.

 وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَيْ دَلَالَةً وحُجَّةً وبُرْهَانًا عَلَى قدرتنا على ما نشاء.

وقوله : وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ أَيْ بَدَلَكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ قال السدي: يخلفونكم فيها، وقال ابن عباس رضي الله عنهما، وقتادة: يخلف بعضهم بعضًا كما يَخْلُفُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وهَذَا الْقَوْلُ يَسْتَلْزِمُ الْأَوَّلَ، قال مجاهد: يعمرون الأرض بدلكم.

وقوله : وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ مَا بُعِثَ بِهِ عيسى عليه الصلاة والسلام، مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ، والْأَبْرَصِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْقَامِ، وفِي هَذَا نَظَرٌ، وأَبْعَدُ مِنْهُ مَا حَكَاهُ قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وسعيد بن جبير، أن الضَّمِير فِي وإِنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ، بَلِ الصحيح أنه عائد على عيسى عليه الصلاة والسلام، فَإِنَّ السِّيَاقَ فِي ذِكْرِهِ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِذَلِكَ نُزُولُهُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَبَارَكَ وتَعَالَى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159] أَيْ قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسَّلَامُ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [النساء:159]، ويُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى الْقِرَاءَةَ الْأُخْرَى: وإِنَّهُ لَعَلَمٌ لِلسَّاعَةِ [الزخرف:61] أَيْ: أَمَارَةٌ ودَلِيلٌ عَلَى وقُوعِ السَّاعَةِ. قَالَ مُجَاهِدٌ، وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ أَيْ: آيَةٌ للساعة خروج عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ يَوْمِ القيامة، وهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وابْنِ عَبَّاسٍ، وأَبِي الْعَالِيَةِ، وأَبِي مَالِكٍ، وعِكْرِمَةَ، والْحَسَنِ، وقَتَادَةَ، والضَّحَّاكِ، وغَيْرِهِمْ، وقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنه أخبر بنزول عيسى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِمَامًا عَادِلًا، وحكمًا مقسطًا.

وقوله تعالى: فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا أَيْ: لَا تَشُكُّوا فِيهَا إِنَّهَا واقِعَةٌ وكَائِنَةٌ لَا مَحَالَةَ، وَاتَّبِعُونِ أَيْ فِيمَا أُخْبِرُكُمْ بِهِ، هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ۝ وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ أَيْ: عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ۝  وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ أَيْ: بِالنُّبُوَّةِ، وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي مِنَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ لَا الدُّنْيَوِيَّةِ، وهَذَا الَّذِي قَالَهُ حَسَنٌ جَيِّدٌ، ثُمَّ رَدَّ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ بَعْضَ هَاهُنَا بِمَعْنَى كل، واستشهد بقول لبيد الشاعر حيث قال:

تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إِذَا لَمْ أَرْضَهَا أَوْ يَعْتَلِق بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا

وَأَوَّلُوهُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ جميع النفوس. قال ابن جرير: إنما أَرَادَ نَفْسَهُ فَقَطْ، وعَبَّرَ بِالْبَعْضِ عَنْهَا، وهَذَا الذي قاله محتمل.

وقوله : فَاتَّقُوا اللَّهَ أَيْ: فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ، وَأَطِيعُونِ فِيمَا جِئْتُكُمْ بِهِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ أَيْ: أَنَا وأنتم عبيد له فقراء، مُشْتَرِكُونَ فِي عِبَادَتِهِ وحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ أَيْ: هَذَا الَّذِي جِئْتُكُمْ به هو الصراط المستقيم، وهو عبادة الرب جل وعلا، وحده.

وقوله : فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ أَيِ: اخْتَلَفَتِ الْفِرَقُ، وصَارُوا شِيَعًا فِيهِ، مِنْهُمْ مَنْ يُقِرُّ بِأَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ ورَسُولُهُ، وهُوَ الْحَقُّ، ومِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ ولَدُ اللَّهِ، ومِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ اللَّهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا، ولهذا قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ.

الشيخ: ظلمهم الشرك بالله، الظلم: الشرك؛ لأنهم قالوا: إنه ابن الله، أو ثالث ثلاثة، أو أنه الله، هم الظالمون، ومن قال: إنه عبد الله ورسوله فهو المهتدي، نسأل الله العافية.

وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ظاهر السياق الضحك، يعني أنهم سوف ينتصروا على محمد بأن عيسى ليس من أهل النار، والرسول قرأ عليهم أن الله قال: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء:98] أو يصيحون ضحكًا، ولعبًا، وانتصارًا. ويحتمل: يصُدون يعرضون بالصاد بضمها، وكسرها يصِدون، ويصدون يعني يعرضون عن الحق لما قيل لهم إن عيسى عبد الله ورسوله ليس من هؤلاء، فهم يعرضون عن قبول الحق، فهذا محتمل، محتمل هذا، وهذا كله واقع منهم، فالإعراض واقع، والضحك واللعب واقع، كله واقع منهم، صدهم بمعنى اللعب، والإعراض، وزعمهم أنهم منتصرون، وأن عيسى ليس من أهل النار، والإعراض بمعنى أنهم لم يقبلوا الحق لما بين لهم أن عيسى عبد الله ورسوله ليس داخلاً في هذا، كله واقع من المشركين، صدهم بمعنى الإعراض، وصدهم بمعنى الصياح، والضحك، واللعب كله واقع.

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ۝ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ۝ يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ۝ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ۝ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ۝ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ، وأَكْوابٍ، وفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ، وتَلَذُّ الْأَعْيُنُ، وأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ ۝ ، وتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ۝ لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ [الزخرف:66-73].

يَقُولُ تَعَالَى: هَلْ يَنْتَظِرُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الْمُكَذِّبُونَ لِلرُّسُلِ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ أَيْ: فَإِنَّهَا كَائِنَةٌ لَا مَحَالَةَ، ووَاقِعَةٌ، وهَؤُلَاءِ غَافِلُونَ عَنْهَا غير مستعدين.

الشيخ: غافلون بل مكذبون، كذبوا وأنكروا، نسأل الله العافية، ولهذا استمروا في طغيانهم؛ لأنهم آمنون أن ما هناك بعثًا، ونشورًا، وجزاء، وحسابًا، غرهم الغرور حتى هلكوا، نسأل الله العافية.

فَإِذَا جَاءَتْ إِنَّمَا تَجِيءُ وهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِهَا، فَحِينَئِذٍ يَنْدَمُونَ كُلَّ النَّدَمِ حَيْثُ لَا ينفعهم، ولا يدفع عنهم، وقوله تَعَالَى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ أَيْ: كُلُّ صَدَاقَةٍ وصَحَابَةٍ لِغَيْرِ اللَّهِ فَإِنَّهَا تَنْقَلِبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَدَاوَةً، إِلَّا مَا كَانَ لِلَّهِ فَإِنَّهُ دَائِمٌ بِدَوَامِهِ، وهذا كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لِقَوْمِهِ: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [الْعَنْكَبُوتِ:25].

وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ : الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ قَالَ: خَلِيلَانِ مُؤْمِنَانِ، وخَلِيلَانِ كَافِرَانِ، فَتُوُفِّيَ أَحَدُ الْمُؤْمِنَيْنِ، وبُشِّرَ بِالْجَنَّةِ، فَذَكَرَ خَلِيلَهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ فُلَانًا خَلِيلِي كَانَ يَأْمُرُنِي بِطَاعَتِكَ، وطَاعَةِ رَسُولِكَ، ويَأْمُرُنِي بِالْخَيْرِ، ويَنْهَانِي عَنِ الشَّرِّ، ويُنْبِئُنِي أَنِّي مُلَاقِيكَ، اللَّهُمَّ فَلَا تُضِلَّهُ بَعْدِي حتى تريه مثلما أَرَيْتَنِي، وتَرْضَى عَنْهُ كَمَا رَضِيتَ عَنِّي، فَيُقَالُ له: اذهب فلو تعلم ما له عِنْدِي لَضَحِكْتَ كَثِيرًا، وبَكَيْتَ قَلِيلًا، قَالَ: ثُمَّ يَمُوتُ الْآخَرُ فَتَجْتَمِعُ أَرْوَاحُهُمَا فَيُقَالُ: لِيُثْنِ أَحَدُكُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، فَيَقُولُ كُلُّ واحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ: نِعْمَ الْأَخُ، ونِعْمَ الصَّاحِبُ، ونِعْمَ الْخَلِيلُ.

وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْكَافِرَيْنِ، وبُشِّرَ بِالنَّارِ ذَكَرَ خَلِيلَهُ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّ خَلِيلِي فُلَانًا كَانَ يَأْمُرُنِي بِمَعْصِيَتِكَ، ومَعْصِيَةِ رَسُولِكَ، ويَأْمُرُنِي بِالشَّرِّ، ويَنْهَانِي عَنِ الْخَيْرِ، ويُخْبِرُنِي أَنِّي غَيْرُ مُلَاقِيكَ، اللَّهُمَّ فَلَا تَهْدِهِ بَعْدِي حَتَّى تُرِيَهُ مِثْلَ مَا أَرَيْتَنِي، وتَسْخَطَ عَلَيْهِ كَمَا سَخِطْتَ عَلَيَّ. قَالَ: فَيَمُوتُ الْكَافِرُ الْآخَرُ فَيُجْمَعُ بَيْنَ أَرْوَاحِهِمَا فَيُقَالُ: لِيُثْنِ  كُلُّ واحِدٍ مِنْكُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فَيَقُولُ كُلُّ واحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ: بِئْسَ الْأَخُ، وبِئْسَ الصَّاحِبُ، وبِئْسَ الْخَلِيلُ! رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.

الشيخ: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا [الأعراف:38]، نسأل الله العافية، هكذا العاقبة الوخيمة لما كانت في غير الله، وتعاونوا على الإثم والعدوان، وعلى المعاصي والكفر، صاروا في غاية من الندامة، والسب لبعضهم البعض، نسأل الله العافية.

وقَالَ ابن عباس رضي الله عنهما، ومُجَاهِدٌ، وقَتَادَةُ: صَارَتْ كُلُّ خِلَّةٍ.

الشيخ: خُلة، الخَلة الخصلة. والخُلة المحبة.

صَارَتْ كُلُّ خُلة عَدَاوَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا الْمُتَّقِينَ.

وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ هِشَامِ بْنِ أَحْمَدَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْخَضِرِ بِالرِّقَّةِ، عَنْ مُعَافًى، حَدَّثَنَا حَكِيمُ بْنُ نَافِعٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ أَحَدُهُمَا بِالْمُشْرِقِ والْآخَرُ بِالْمَغْرِبِ لَجَمَعَ اللَّهُ تعالى بَيْنَهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ: هَذَا الَّذِي أَحْبَبْتَهُ فيّ.

الشيخ: وفي الحديث الصحيح يقول النبي ﷺ: يقول الله يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟! اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي. الله يجعلنا، وإياكم منهم، ويقول ﷺ: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه، وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه أخرجه الشيخان في الصحيحين.

س: ما صحة حديث المرء مع من أحب؟

الشيخ: صحيح هذا ثابت المرء مع من أحب، والمرء على دين خليله كلها صحيحة، ولهذا قال أنس لما سمع الحديث هذا: اللهم إني أحب الله ورسوله فاجعلني مع رسول الله، وقال: اللهم إني أحب رسول الله، وأحب أبا بكر، وعمر فاجعلني معهم.