من قوله: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ..)

وهذا ذكر الأحاديث الواردة في قصة الحديبية، وقصة الصلح:
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا محمد بن إسحاق بن يسار، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم رضي الله عنهما قالا: خرج رسول الله ﷺ يريد زيارة البيت لا يريد قتالًا، وساق معه الهدي سبعين بدنة، وكان الناس سبعمائة رجل، فكانت كل بدنة عن عشرة، وخرج رسول الله ﷺ حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي فقال: يا رسول الله، هذه قريش قد سمعت بمسيرك؛ فخرجت معها العوذ المطافيل، قد لبست جلود النمور، يعاهدون الله تعالى أن لا تدخلها عليهم عنوة أبدًا، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموه إلى كراع الغميم، فقال رسول الله ﷺ: يا ويح قريش! قد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس؟ فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله تعالى دخلوا في الإسلام، وهم وافرون، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فماذا تظن قريش فوالله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله تعالى به حتى يظهرني الله ، أو انفرد هذه السالفة.
ثم أمر الناس فسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض على طريق تخرجه على ثنية المرار، والحديبية من أسفل مكة، قال فسلك بالجيش تلك الطريق، فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم، ركضوا راجعين إلى قريش، فخرج رسول الله ﷺ حتى إذا سلك ثنية المرار بركت ناقته، فقال الناس خلأت، فقال رسول الله ﷺ: ما خلأت، وما ذلك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، والله لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها.
ثم قال ﷺ للناس: انزلوا قالوا: يا رسول الله ما بالوادي من ماء ينزل عليه الناس، فأخرج رسول الله ﷺ سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه، فنزل في قليب من تلك القلب فغرزه فيه، فجاش بالماء حتى ضرب الناس عنه بعطن. فلما اطمأن رسول الله ﷺ إذا بديل بن ورقاء في رجال من خزاعة، فقال لهم كقوله لبشر بن سفيان، فرجعوا إلى قريش فقالوا: يا معشر قريش إنكم تعجلون على محمد ﷺ، إن محمدًا لم يأت لقتال، إنما جاء زائرًا لهذا البيت معظمًا لحقه، فاتهموهم.
قال محمد بن إسحاق: قال الزهري: وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم، مشركها ومسلمها، لا يخفون على رسول الله ﷺ شيئًا كان بمكة، فقالوا: وإن كان إنما جاء لذلك فوالله لا يدخلها أبدًا علينا عنوة، ولا يتحدث بذلك العرب، ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص أحد بني عامر بن لؤي، فلما رآه رسول الله ﷺ قال: هذا رجل غادر فلما انتهى إلى رسول الله ﷺ، كلمه رسول الله ﷺ بنحو مما تكلم به مع أصحابه، ثم رجع إلى قريش فأخبرهم بما قال له رسول الله ﷺ، فبعثوا إليه الحليس بن علقمة الكناني، وهو يومئذ سيد الأحابيش، فلما رآه رسول الله ﷺ قال: هذا من قوم يتألهون، فابعثوا الهدي فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، رجع ولم يصل إلى رسول الله ﷺ إعظامًا لما رأى، فقال: يا معشر قريش لقد رأيت ما لا يحل صده، الهدي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، قالوا: اجلس إنما أنت أعرابي لا علم لك.
فبعثوا إليه عروة بن مسعود الثقفي فقال: يا معشر قريش إني قد رأيت ما يلقى منكم من تبعثون إلى محمد إذا جاءكم من التعنيف، وسوء اللفظ، وقد عرفتم أنكم والد، وأني ولد، وقد سمعت بالذي نابكم فجمعت من أطاعني من قومي ثم جئت حتى آسيتكم بنفسي. قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم. فخرج حتى أتي رسول الله ﷺ فجلس بين يديه، فقال: يا محمد جمعت أوباش الناس، ثم جئت بهم لبيضتك لتفضها، إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله تعالى أن لا تدخلها عليهم عنوة أبدًا، وايم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا، قال: وأبو بكر قاعد خلف رسول الله ﷺ فقال: امصص بظر اللات، أنحن ننكشف عنه؟ قال من هذا يا محمد؟ قال ﷺ: هذا ابن أبي قحافة قال: أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها، ولكن هذه بها.
ثم تناول لحية رسول الله ﷺ، والمغيرة بن شعبة ، واقف على رأس رسول الله ﷺ بالحديد، قال: فقرع يده، ثم قال: أمسك يدك عن لحية رسول الله ﷺ قبل والله أن لا تصل إليك، قال: ويحك ما أفظك، وأغلظك! فتبسم رسول الله ﷺ قال: من هذا يا محمد؟
قال ﷺ: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة قال: أَغُدَر، وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس؟
قال: فكلمه رسول الله ﷺبمثل ما كلم به أصحابه، وأخبره أنه لم يأت يريد حربا. قال فقام من عند رسول الله ﷺ، وقد رأى ما يصنع به أصحابه، لا يتوضأ وضوءًا إلا ابتدروه، ولا يبصق بصاقًا إلا ابتدروه، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه، فرجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش، إني جئت كسرى في ملكه، وجئت قيصر والنجاشي في ملكهما، والله ما رأيت ملكًا قط مثل محمد ﷺفي أصحابه، ولقد رأيت قومًا لا يسلمونه لشيء أبدًا فروا رأيكم.

الشيخ: وفي هذه القصة جواز اتخاذ الحرس، كان المغيرة على رأسه حارسًا عليه الصلاة والسلام، وفيه منع من أساء الأدب؛ ولهذا قرعه المغيرة بنصل السيف ليكف يده عن لحية رسول الله، ففي هذا عن مثل هذا لا بأس به، ولا حرج فيه أن يقف الحارس على رأس السلطان، أو الأمير لحمايته من الأعداء حارسًا، ولا ينافي التوكل، التوكل مع الأخذ بالأسباب.

قال: وقد كان رسول الله ﷺ قبل ذلك بعث خراش بن أمية الخزاعي إلى مكة، وحمله على جمل له يقال له: الثعلب، فلما دخل مكة عقرت به قريش، وأرادوا قتل خراش، فمنعتهم الأحابيش حتى آتي رسول الله ﷺ، فدعا عمر ليبعثه إلى مكة فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشًا على نفسي، وليس بها من بني عدي أحد يمنعني. وقد عرفت قريش عداوتي إياها، وغلظتي عليها، ولكن أدلك على رجل هو أعز مني بها عثمان بن عفان .
قال: فدعاه رسول الله ﷺ، فبعثه يخبرهم أنه لم يأت لحرب أحد، وإنما جاء زائرًا لهذا البيت معظمًا لحرمته، فخرج عثمان حتى أتى مكة، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص، فنزل عن دابته، وحمله بين يديه، وأردفه خلفه، وأجاره حتى بلغ رسالة رسول الله ﷺ، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان، وعظماء قريش، فبلغهم عن رسول الله ﷺ ما أرسله به، فقالوا لعثمان : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به، فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله ﷺ. قال: واحتبسته قريش عندها. قال: وبلغ رسول الله ﷺ أن عثمان قد قتل.
قال محمد: فحدثني الزهري أن قريشًا بعثوا سهيل بن عمرو، وقالوا: ائت محمدًا فصالحه، ولا تلن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فو الله لا تحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة أبدًا، فأتاه سهيل بن عمرو فلما رآه رسول الله ﷺ قال: قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل فلما انتهى إلى رسول الله ﷺ، تكلما، وأطالا الكلام، وتراجعا حتى جرى بينهما الصلح، فلما التأم الأمر، ولم يبق إلا الكتاب، وثب عمر بن الخطاب ، فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر، أوليس برسول الله؟ أولسنا بالمسلمين؟ أوليسوا بالمشركين؟
قال: بلى.
قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟
فقال أبو بكر : الزم غرزه حيث كان، فإني أشهد أنه رسول الله ﷺ.
فقال عمر : وأنا أشهد، ثم أتى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، أولسنا بالمسلمين؟ أوليسوا بالمشركين؟
قال ﷺ: بلى.
قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟
فقال ﷺ: أنا عبدالله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يضيعني.
الشيخ: عمر ما تحمل هذا الأمر، وشق عليه كونهم قالوا: اكتب محمد بن عبدالله، ولا يكتب محمد رسول الله، واكتب باسمك اللهم، ولا تكتب باسم الله الرحمن الرحيم، عظم عليه هذا الأمر، وكذلك (من جاءك منا مسلمًا ترده إلينا، ومن جاءنا منك لا نرده إليك)، عظم الأمر من هذا التساهل الذي وقع، والغضاضة التي على المسلمين، لم يتحملها عمر ، بين له الصديق، ثم بين له النبي ﷺ أن هذا أمر الله لما أراد الله من الصلح، والخير العظيم من هذا الصلح، وهذا يدل على أنه يجوز الصلح ولو فيه غضاضة على المسلمين، إذا كان فيه مصالح يرى ولي الأمر فيه مصالح فلا بأس، ولو كان فيه غضاضة، فكان صلحا فيه غضاضة، ولكنه صار فتحًا، أمن الناس ودخلوا في دين الله أفواجًا، وتراجع الناس، وأمنت الطرق، ثم جاءهم بحمد الله بعد سنتين فاتحًا منصورًا مؤيدًا.
ثم قال عمر : ما زلت أصوم، وأصلي، وأتصدق، وأعتق من الذي صنعت، مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ، حتى رجوت أن يكون خيرًا.
قال: ثم دعا رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم. فقال رسول الله ﷺ: اكتب باسمك اللهم. هذا ما صالح عليه محمد رسول الله فقال له سهيل بن عمرو: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله، وسهيل بن عمرو على وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى رسول الله ﷺ من أصحابه بغير إذن وليه رده عليهم، ومن أتى قريشًا ممن مع رسول الله ﷺ لم يردوه عليه، وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال، ولا إغلال، وكان في شرطهم حين كتبوا الكتاب: أنه من أحب أن يدخل في عقد محمد ﷺ وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد رسول الله ﷺ، وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش، وعهدهم، وأنك ترجع عنا عامنا هذا فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فتدخلها بأصحابك، وأقمت بها ثلاثًا، معك سلاح الراكب، لا تدخلها بغير السيوف في القرب.
فبينا رسول الله ﷺ يكتب الكتاب إذ جاءه أبو جندل بن سهيل بن عمرو في الحديد قد انفلت إلى رسول الله ﷺ، قال وقد كان أصحاب رسول الله ﷺ خرجوا، وهم لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله ﷺ، فلما رأوا ما رأوا من الصلح، والرجوع، وما تحمل رسول الله ﷺ على نفسه، دخل الناس من ذلك أمر عظيم حتى كادوا أن يهلكوا. فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه، وقال: يا محمد قد تمت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا. قال: صدقت، فقام إليه فأخذ بتلابيبه قال وصرخ أبو جندل بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أتردونني إلى أهل الشرك فيفتنوني في ديني؟
الشيخ: هذا من الابتلاء، والامتحان في هذا الوقت العظيم العصيب، جاء أبو جندل يريد الخلاص من قريش، والنبي ﷺ في بنود الصلح، يجب أن يرده إليهم، الله المستعان هذا من البلاء العظيم، والفتنة، ولكن الله صبر المسلمين.
س: الفرق بين باسمك اللهم، وبسم الله الرحمن الرحيم؟
الشيخ: باسمك اللهم صحيحة، لكن بسم الله الرحمن الرحيم أصرح في أسماء الله، وتعظيمه.
قال فزاد الناس شرًا إلى ما بهم. فقال رسول الله ﷺ: يا أبا جندل اصبر، واحتسب، فإن الله تعالى جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا، ومخرجًا. إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا، فأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عليه عهدًا، وإنا لن نغدر بهم.
قال: فوثب إليه عمر بن الخطاب ، فجعل يمشي مع أبي جندل إلى جنبه، ويقول: اصبر أبا جندل فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب، قال: ويدني قائم السيف منه، قال يقول: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه. قال: فضن الرجل بأبيه، قال: ونفذت القضية، فلما فرغا من الكتاب، وكان رسول الله ﷺ يصلي في الحرم، وهو مضطرب في الحل، قال: فقام رسول الله ﷺ فقال: يا أيها الناس انحروا، واحلقوا قال: فما قام أحد، قال ثم دعا رسول الله ﷺ بمثلها، فما قام رجل، ثم عاد ﷺ بمثلها فما قام رجل، فرجع رسول الله ﷺ فدخل على أم سلمة رضي الله عنها، فقال: يا أم سلمة ما شأن الناس؟ قالت: يا رسول الله قد دخلهم ما رأيت، فلا تكلمن منهم إنسانًا، واعمد إلى هديك حيث كان فانحره، واحلق، فلو قد فعلت ذلك فعل الناس ذلك.
الشيخ: رضي الله عنها، رأي عظيم رضي الله عنها، يعني ابدأ بنفسك، وسوف يفعلون، تأخروا يرجون الصلح، يرجون أن يحصل صلح، وأن يدخلوا مكة، وأن يؤذن لهم بدخول مكة، فلما رأوه ﷺ بادر بالنحر نحروا، وهذا معنى قوله: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196]، يعني فاذبحوا.
فخرج رسول الله ﷺ لا يكلم أحدًا حتى إذا أتى هديه فنحره ثم جلس فحلق، قال: فقام الناس ينحرون، ويحلقون، حتى إذا كان بين مكة والمدينة في وسط الطريق نزلت سورة الفتح.
هكذا ساقه أحمد من هذا الوجه.
الشيخ: سورة الفتح إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1] سماه الله فتحًا.
وهكذا رواه يونس بن بكير، وزياد البكائي عن أبي إسحاق بنحوه.
وقد رواه أيضًا عن عبدالرزاق، عن معمر، عن الزهري به نحوه، وخالفه في أشياء، وفيه إغراب.
س: وإنما هو دم كلب؟
الشيخ: يعني الكافر الحربي.
س: خاص بالحربي؟
الشيخ: خاص به نعم.
س: والكتابي له دية؟
الشيخ: نعم.
وقد رواه البخاري رحمه الله في صحيحه فساقه سياقة حسنة مطولة بزيادات جيدة، فقال في كتاب الشروط من صحيحه: حدثنا عبدالله بن محمد، حدثنا عبدالرزاق، أنبأنا معمر، أخبرني الزهري أخبرني عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم، يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه، قالا: خرج رسول الله ﷺ زمن الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه.
فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي، وأشعره، وأحرم منها بعمرة، وبعث عينًا له من خزاعة، وسار حتى إذا كان بغدير الأشطاط أتاه عينه، فقال: إن قريشًا قد جمعوا لك جموعًا، وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك، وصادوك، ومانعوك. فقال ﷺ: أشيروا أيها الناس علي، أترون أن نميل على عيالهم، وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت؟ وفي لفظ: أترون أن نميل على ذراري هؤلاء الذين أعانوهم، فإن يأتونا كان الله قد قطع عنقًا من المشركين، وإلا تركناهم محزونين، وفي لفظ: فإن قعدوا قعدوا موتورين مجهودين محزونين، وإن نجوا يكن عنقًا قطعها الله ، أم ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه؟.
فقال أبو بكر : يا رسول الله؟ خرجت عامدًا لهذا البيت لا تريد قتل أحد، ولا حربًا، فتوجه له، فمن صدنا عنه قاتلناه، وفي لفظ: فقال أبو بكر : الله ورسوله علم إنما جئنا معتمرين، ولم نجئ لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه، فقال النبي ﷺ: فروحوا إذن، وفي لفظ: فامضوا على اسم الله تعالى، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي ﷺ: إن خالد بن الوليد في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين فو الله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيرًا لقريش.
وسار النبي ﷺ حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس:
حل حل فألحت، فقالوا: خلأت القصواء، خلأت القصواء. فقال النبي ﷺ: ما خلأت القصواء، وما ذلك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال ﷺ: والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة.
الشيخ: ومعنى خلأت يعني حرنت، يسمونها العامة حرنت ما قامت، يعني لأمر الله؛ لأن الله حبسها حتى يتم الصلح الذي أراده الله، كما حبس الفيل على أهل مكة.
والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله تعالى إلا أعطيتهم إياها. ثم زجرها، فوثبت، فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضًا، فلم يلبث الناس حتى نزحوه، وشكي إلى رسول الله ﷺ العطش، فانتزع ﷺ من كنانته سهمًا ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فو الله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه.
الشيخ: وهذا من علامات النبوة، وأن الله رد إليها الماء لما وضع فيها السهم.
فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة، وكانوا عيبة نصح رسول الله ﷺ من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي، وعامر بن لؤي نزلوا أعداد.
الشيخ: إيش عندكم؟
الطالب: أعداد مياه.
طالب آخر: أعداد، وإعداد.
الشيخ: لا إعداد، العود التي يسمونها عدود، المياه الموجودة يعني الآبار الموجودة.
س: العد بالكسر؟
الشيخ: نعم جمع أعداد.
نزلوا أعداد مياه الحديبية، معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك، وصادوك عن البيت. فقال النبي ﷺ: إننا لم نجئ لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشًا قد نهكتهم الحرب، فأضرت بهم، فإن شاؤوا ماددتهم مدة، ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر، فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا.
الشيخ: جموا يعني جموا بها الحرب، رجعت إليهم قوتهم.
وإن هم أبوا، فو الذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذن الله أمره. قال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشًا فقال: إنا قد جئنا من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولًا، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء.
وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول. قال: سمعته يقول كذا، وكذا، فحدثهم بما قاله رسول الله ﷺ فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: أولست بالولد؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتهمونني؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ، فلما بلحوا.
الشيخ: يعني حرنوا تثاقلوا.
علي جئتكم بأهلي، وولدي، ومن أطاعني؟ قالوا: بلى.
قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، ودعوني آته. قالوا: ائته، فأتاه فجعل يكلم النبي ﷺ.
الشيخ: عروة هذا من كبار أهل الطائف من ثقيف، ومن رؤساء ثقيف، عروة بن مسعود.
فقال النبي ﷺ له نحوًا من قوله لبديل بن ورقاء، فقال عروة عند ذلك: أي محمد، أرأيت إن استأصلت قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك؟ وإن تك الأخرى فإني، والله لأرى وجوها، وإني لأرى أشوابًا.
الشيخ: المعروف أوباشًا.
من الناس خليقًا أن يفروا، ويدعوك، فقال له أبو بكر : امصص بظر اللات.
الشيخ: بظر يعني فرجها.
أنحن نفر، وندعه؟ قال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر. قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. قال: وجعل يكلم النبي ﷺ فكلما كلمه أخذ بلحيته ﷺ، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي ﷺ، ومعه السيف، وعليه المغفر، وكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي ﷺ ضرب يده بنعل السيف، وقال: أخر يدك عن لحية رسول الله ﷺ. فرفع عروة رأسه، وقال: من هذا؟ قال: المغيرة بن شعبة. قال: أي غدر ألست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة بن شعبة صحب قومًا في الجاهلية فقتلهم، وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي ﷺ: أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء.
ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي ﷺ بعينيه، قال: فو الله ما تنخم رسول الله ﷺ نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيمًا له ﷺ، فرجع عروة إلى أصحابه. فقال: أي قوم!، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على كسرى، وقيصر، والنجاشي، والله إن رأيت ملكًا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدًا.
الشيخ: إن رأيت يعني ما رأيت، إن نافية يعني ما رأيت أحدًا من الرعايا تعظم ملوكها كما يعظم أصحاب محمد محمدًا، اللهم صل عليه وسلم؛ لأنهم يعظمونه عن إيمان، وتقرب إلى الله، وعبادة.
س: رد النبي للمال مع أنهم محاربون، الذين قتلهم المغيرة؟
الشيخ: هذا ما للنبي منها نظر، إنما قبل إسلامه فقط، أما .. قتلهم فلهم شأن آخر، ما تعرض له النبي ﷺ...
والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيمًا له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فقال رجل منهم من بني كنانة: دعوني آته. فقالوا: ائته. فلما أشرف على النبي ﷺ، وأصحابه ، قال النبي ﷺ: هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له.
فبعثت له، واستقبله الناس يلبون. فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت، وأشعرت فما أرى أن يصدوا عن البيت. فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص، فقال: دعوني آته. فقالوا: ائته. فلما أشرف عليهم قال النبي ﷺ: هذا مكرز، وهو رجل فاجر فجعل يكلم النبي ﷺ، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو.
وقال معمر: أخبرني أيوب عن عكرمة أنه قال: لما جاء سهيل بن عمرو، قال النبي ﷺ: قد سُهِّل لكم من أمركم.
الشيخ: تفاؤل باسم سهيل.
قال معمر: قال الزهري في حديثه: فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات أكتب بيننا وبينك كتابًا. فدعا النبي ﷺ بعلي ، وقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم» فقال سهيل بن عمرو: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم، كما كنت تكتب. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم. فقال النبي ﷺ: اكتب باسمك اللهم- ثم قال-: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله ﷺ فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبدالله. فقال النبي ﷺ: والله إني لرسول الله، وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبدالله. قال الزهري: وذلك لقوله: والله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله تعالى إلا أعطيتهم إياها، فقال له النبي ﷺ: على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به. فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب، فقال سهيل: وعلى أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، فقال المسلمون: سبحان الله! كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلمًا؟
فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين.
الشيخ: وهذا من الابتلاء، والامتحان.
فقال سهيل: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي. فقال النبي ﷺ: إنا لم نقض الكتاب بعد، قال: فوالله إذا لا أصالحك على شيء أبدًا، فقال النبي ﷺ: فأجزه لي قال: ما أنا بمجيز ذلك لك، قال: بلى فافعل، قال: ما أنا بفاعل. قال مكرز: بلى قد أجزناه لك. قال أبو جندل: أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلمًا، ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب عذابًا شديدًا في الله . قال عمر : فأتيت نبي الله ﷺ فقلت: ألست نبي الله حقًا؟ قال ﷺ: بلى، قلت: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال ﷺ: بلى، قلت: فلم نعط الدنية في ديننا إذا؟ قال ﷺ: إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري، قلت: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت، ونطوف به؟ قال ﷺ: بلى، أفأخبرتك أنا نأتيه العام؟ . قلت: لا. قال ﷺ: فإنك آتيه، ومطوف به.
الشيخ: هذا من المحن العظيمة التي حيرت الناس كون أبو جندل جاء معذب مؤذى في قيوده، ويرده عليهم، أشتد الأمر على المسلمين حتى عمر ، وكذلك من جاء مسلمًا يرد، ولا يكتب بسم الله الرحمن الرحيم، ولا يكتب محمد رسول الله، كل هذه الأشياء فيها غضاضة على المسلمين، ومع هذا صبر عليهم؛ لأن الله أمر بذلك، أمره الله بهذه الأشياء، وصارت العاقبة حميدة، صار فتحًا للمسلمين، وأنزل الله فيه: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1]، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وهاجر المسلمون إلى المدينة، وعظم المسلمون، وكثر المسلمون في المدينة، ثم فتح الله عليهم، وجعله فاتحًا منصورًا مؤيدًا مثل ما قال الله جل وعلا: فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا ويَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19] كرهوا هذا الصلح لما فيه من الغضاضة، ولكن جعل الله فيه الخير الكثير.
قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر، أليس هذا نبي الله حقًا؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فلم نعط الدنية في ديننا إذا؟ قال: أيها الرجل إنه رسول الله ﷺ، وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه، فوالله إنه على الحق.
قلت: أوليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت، ونطوف به؟ قال بلى، قال: أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنك تأتيه، وتطوف به.
الشيخ: هذا يبين لنا فضل الصديق ، وتقدم علمه، وإيمانه، أجاب بما أجاب به النبي ﷺ، وهذا يدل على الفضل العظيم، والإيمان العظيم، وأن الله جل وعلا له الحكمة البالغة في كون هذا الرجل خير الناس، وأفضل الناس بعد رسول الله؛ لما أعطاه الله من الإيمان العظيم، والصبر، والثبات عند وجود الفتن.
س: هو أجاب بهذا، ولم يسمعه من النبي؟
الشيخ: نعم نعم.
قال الزهري: قال عمر : فعملت لذلك أعمالًا.
الشيخ: يعني عمل أعمالاً طيبة لهذا التردد الذي فعله مع النبي، ومع الصديق، عمل أعمالاً صالحة لعلها تكفر ما حصل له من التردد، والشك، والله المستعان.
قال فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله ﷺ لأصحابه: قوموا فانحروا، ثم احلقوا قال: فوالله ما قام منهم رجل، حتى قال النبي ﷺ ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل ﷺ على أم سلمة رضي الله عنها، فذكر لها ما لقي من الناس، قالت له أم سلمة رضي الله عنها: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج رسول الله ﷺ، فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضًا حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غما.
الشيخ: وهذا فيه أن المشورة ما تختص بالرجال، وأن بعض النساء قد يوفقن للرأي السديد، والمشورة الحسنة، ولهذا لما أخبر أم سلمة قالت له هذا الكلام العظيم رضي الله عنها، قالت: ابدأ بنفسك اخرج يا رسول الله، ولا تكلم أحدًا، وانحر هديك أنت، واحلق رأسك، فإذا رأوك بادروا، ففعل وصار الأمر كما قالت لما رأوه، كانوا يرجون أن يحصل له فرصة يدخل مكة، ولم يعجلوا في النحر، والحلق، فلما رأوه صمم، وبادر، ونحر هديه، وأمر الحلاق أن يحلق بادروا ، سارعوا، عرفوا أن الأمر جد، وأن ما فيه حيلة لا بدّ من هذا.
س: قوله: كاد يقتل بعضهم بعضًا غمًا؟
الشيخ: من الحرص على الامتثال، غمًا عن تأخرهم.
ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ حتى بلغ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ [الممتحنة:10] فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أمية.
الشيخ: يعني أن النساء ما دخلن في الصلح، أمره الله أن يقبلهن، ولا يردهن إلى الكفار؛ لأنهن لو ردوا عذبن، فمن رحمة الله أن أمر نبيه أن يقبلهن، وأنهن غير داخلات في الصلح، الصلح مع الرجال.
ثم رجع النبي ﷺ إلى المدينة فجاءه أبو بصير رجل من قريش، وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين، فقالوا: العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به حتى إذا بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدًا، فاستله الآخر، فقال: أجل والله إنه لجيد، لقد جربت منه ثم جربت. فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه فضربه حتى برد، وفر الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو فقال رسول الله ﷺ حين رآه: لقد رأى هذا ذعرًا، فلما انتهى إلى النبي ﷺ قال: قتل والله صاحبي، وإني لمقتول. فجاء أبو بصير فقال: يا رسول الله، قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم، ثم نجاني الله تعالى منهم. فقال النبي ﷺ: ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد.
فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر، قال: وتفلت منهم أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، فو الله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها، فقتلوهم، وأخذوا أموالهم. فأرسلت قريش إلى النبي ﷺ تناشده الله، والرحم، لما أرسل إليهم: فمن أتاه منهم فهو آمن، فأرسل النبي ﷺ إليهم، وأنزل الله : وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ، حتى بلغ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه رسول الله ﷺ، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينهم وبين البيت.
هكذا ساقه البخاري هاهنا.
الشيخ: ورد الله أبا جندل، وفرج الله كربة أبا جندل، وأبا بصير، واضطر المشركون إلى أن يطلبوا من الرسول أن يردهم إليه، حتى يسلموا من أذاهم في الطرق، وهذا من رحمة الله للجميع، ومن تمهيد الفتح في المستقبل.
وقد أخرجه في التفسير، وفي عمرة الحديبية، وفي الحج، وغير ذلك من حديث معمر، وسفيان بن عيينة، كلاهما عن الزهري به، ووقع في بعض الأماكن عن الزهري عن عروة عن مروان، والمسور عن رجال من أصحاب النبي ﷺ بذلك، وهذا أشبه، والله أعلم، ولم يسقه أبسط من هاهنا، وبينه وبين سياق ابن إسحاق تباين في مواضع. وهناك فوائد ينبغي إضافتها إلى ما هنا، ولذلك سقنا تلك الرواية، وهذه والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
س:.......
الشيخ: ما أطاع سهيل، ما أطاع أباه، أبوه هو الوكيل عن قريش.
وقال البخاري في التفسير: حدثنا أحمد بن إسحاق السلمي، حدثنا يعلى، حدثنا عبدالعزيز بن سياه، عن حبيب بن أبي ثابت قال: أتيت أبا وائل أسأله، فقال: كنا بصفين، فقال رجل: ألم تر إلى الذين يدعون إلى كتاب الله، فقال علي بن أبي طالب : نعم، فقال سهل بن حنيف: اتهموا أنفسكم، فلقد رأيتنا يوم الحديبية -يعني الصلح الذي كان بين النبي ﷺ، والمشركين-، ولو نرى قتالًا لقاتلنا، فجاء عمر فقال: ألسنا على الحق، وهم على الباطل؟ أليس قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار؟ فقال: بلى. قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا، ونرجع، ولما يحكم الله بيننا؟ فقال النبي ﷺ: يا ابن الخطاب إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبدًا، فرجع متغيظًا فلم يصبر حتى جاء أبا بكر فقال: يا أبا بكر ألسنا على الحق، وهم على الباطل؟ فقال: يا ابن الخطاب إنه رسول الله، ولن يضيعه الله أبدًا، فنزلت سورة الفتح.
وقد رواه البخاري أيضًا في مواضع أخر، ومسلم، والنسائي من طرق أخر عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن سهل بن حنيف به.
الشيخ: وهذا هو الواجب على المؤمنين اتهام الرأي، والتبصر، وعدم العجلة؛ لأن الله حكيم عليم جل وعلا، له الحكمة البالغة، فلهذا أمر نبيه ﷺ يوم الحديبية بالصلح، ولو كان فيه غضاضة على المسلمين لما في ذلك من العاقبة الحميدة، والخير الكثير بعد ذلك، والعباد لا يدرون ما يعلمون، الله هو الذي يعلم المغيبات، وله الحكمة البالغة، فالواجب هو اتباع الشرع، والأخذ بالشرع، وإن رأى الإنسان فيه بعض الغضاضة؛ لأن العاقبة الحميدة للمؤمنين، فإذا اقتضت المصلحة الشرعية شيئًا يفعله ولي الأمر، وفيه غضاضة على المسلمين لكن يرى أن فيه المصلحة العظيمة للمسلمين، والنصر على الأعداء فلا بأس كما فعله سيد الخلق، وأفضلهم، وإمامهم يوم الحديبية.
وفي بعض ألفاظه: يا أيها الناس، اتهموا الرأي، فلقد رأيتني يوم أبي جندل.
الشيخ: يعني لا تثقوا بآرائكم، معناه اتهموا آرائكم، ما هو بكل واحد يقول: لا أنا رأيي هو الصواب..، قد تكون مخطئًا، وغير مصيب، لا تعجل، كل واحد يتهم رأيه، ويتثبت.
فلقد رأيتني يوم أبي جندل، ولو أقدر على أن أرد على رسول الله ﷺ أمره لرددته، وفي رواية: فنزلت سورة الفتح فدعا رسول الله ﷺ عمر بن الخطاب فقرأها عليه.
الشيخ: ليقبل، ويعلم أنه فتح، سماه الله فتحًا إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا كأن عمر ما تحمل هذا الأمر كونهم يقولون: لا تكتب رسول الله، قل: محمد بن عبدالله، ولا تكتب بسم الله الرحمن الرحيم، قل: باسمك اللهم، ومن جاءنا منكم لا نرده عليكم، ومن جاءكم منا ردوه علينا، ثلاث خصال عظيمة ما تحملها عمر، فلهذا قال: فلم نعط الدنية في ديننا؟ ألسنا على الحق، وهم على الباطل؟ ألست رسول الله؟ فأقنعه النبي، قال: أنا رسول الله، ولن يضيعني الله، وأقنعه الصديق قال عمر: فعلمت لهذا أعمالًا بعد ذلك، لهذا الاعتراض عمل له أعمالًا من الأعمال الصالحات، والذي حمله على هذا شدة غيرته، وشدة بغضه للكفار.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس قال: إن قريشًا صالحوا النبي ﷺ، وفيهم سهيل بن عمرو، فقال النبي ﷺ لعلي : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم»فقال سهيل: لا ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم، ولكن اكتب باسمك اللهم. فقال ﷺ: اكتب من محمد رسول الله قال: لو نعلم أنك رسول الله لا تبعناك، ولكن اكتب اسمك، واسم أبيك، فقال النبي ﷺ: اكتب محمد بن عبدالله.
الشيخ: عندكم (من)؟ ما في (من) اكتب محمد يعني هذا ما قاضى عليه محمد، هذا ما صالح عليه محمد.
واشترطوا على النبي ﷺ أن من جاء منكم لم نرده عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه علينا، فقال: يا رسول الله أنكتب هذا؟ قال ﷺ: نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة به.
الشيخ: وفي زيادة قال: ومن جاءنا منهم فسيجعل الله له فرجًا، ومخرجًا، هذه النقاط الثلاث هي التي أوجبت لعمر الشدة، والحيرة.
الحالة الأولى قوله: اكتب محمد بن عبدالله، لا تكتب محمد رسول الله.
والثانية: قوله: اكتب باسمك اللهم، لا تكتب بسم الله الرحمن الرحيم.
والثالثة: أن من جاءنا منكم لا نرده إليكم، ومن جاءكم منا تردونه إلينا، هذه ثلاث عظيمة لكن صبر عليها النبي بأمر الله، الله أمره أن يصبر عليها، وأمره سبحانه أن يوافق عليها؛ لما فيها من الخير العظيم بعد ذلك، والفتح، والأمن، ودخول الناس في دين الله أفواجًا، وتسابقهم إلى الهجرة.
وقال أحمد أيضًا، حدثنا عبدالرحمن بن مهدي، عن عكرمة بن عمار، قال حدثني سماك، عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: لما خرجت الحرورية اعتزلوا فقلت: لهم إن رسول الله ﷺ يوم الحديبية صالح المشركين، فقال لعلي : اكتب يا علي هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، قالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، فقال رسول الله ﷺ: امح يا علي -اللهم إنك تعلم أني رسولك امح يا علي-، واكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله، والله لرسول الله خير من علي، وقد محا نفسه، ولم يكن محوه ذلك يمحوه من النبوة، أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم، ورواه أبو داود من حديث عكرمة بن عمار اليمامي بنحوه.
وروى الإمام أحمد عن يحيى بن آدم عن زهير بن حرب عن محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نحر رسول الله ﷺ يوم الحديبية سبعين بدنة، فيها جمل لأبي جهل، فلما صدت عن البيت حنت كما تحن إلى أولادها.