فَصْلُ
فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ
في الصحيحين: عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رجالًا من أصحاب النبي ﷺ أُرُوا ليلةَ القدرِ في المنام، في السبع الأواخر من رمضان، فقال رسول الله ﷺ: أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر.
وروى مسلم عن النبي ﷺ قال: التمسوهَا في العشْرِ الأواخر، فإن ضعُف أحدُكم أو عجز، فلا يُغلبْ على السبع البَوَاقي. وكان رسولُ الله ﷺ يأمُر بالتماسها في أوتار العشر الأواخر من رمضان.
ففي صحيح البخاري، عن النبي ﷺ قال: التمسوها في العشر الأواخر من رمضان؛ في تاسعةٍ تبقى، في سابعةٍ تبقى، في خامسةٍ تبقى. وفي رواية: هي في العشر، سبع يمضين، أو سبع يبقين.
قال أبو بكرة: ما أنا بملتمسها لشيء سمعته من رسول الله ﷺ إلا في العشر الأواخر، فإني سمعته يقول: التمسوها في تسع يبقين، أو سبع يبقين، أو خمسٍ يبقين، أو آخر ليلة.
وروى أحمد والنسائي عن أبي ذر ، قال: كنت أسأل الناس عنها -يعني ليلة القدر- فقلت: يا رسول الله، أخبرني عن ليلة القدر: أفي رمضان هي أم في غيره؟ قال: بلى هي في رمضان. قلت: تكون مع الأنبياء ما كانوا، فإذا قبضوا رفعت، أم هي إلى يوم القيامة؟ قال: بل هي إلى يوم القيامة. قلت: في أي رمضان؟ قال: التمسوها في العشر الأول، والعشر الأواخر قلت: في أي العشرين؟ قال: في العشر الأواخر لا تسألني عن شيء بعدها.
ثم حدَّث رسول الله ﷺ، ثم اهتبلتُ غفلته، فقلت: يا رسول الله أقسمت عليك بحقي لما أخبرتني، في أي العشر هي؟ فغضب علي غضبًا لم يغضب مثله منذ صحبته، قال: التمسوها في السبع الأواخر، لا تسألني عن شيء بعدها ورواه ابن حبان والحاكم.
وفي رواية لهما أنه قال له: ألم أنهك أن تسألني عنها؟ إن الله لو أذن لي أن أخبركم بها لأخبرتكم، لا آمن أن تكون في السبع الأواخر.
ولمسلم وأبي داود عن عبدالله بن أنيس، أنه قال: يا رسول الله، إني أكون ببادية، وإني أصلي بهم، فمرني بليلة في هذا الشهر أنزلها إلى المسجد فأصلي فيه، قال: انزل في ليلة ثلاث وعشرين لفظ أبي داود.
كانت طائفة تجتهد ليلة أربع وعشرين، روي عن أنس والحسن، وروي عنه قال: راقبتُ الشمس عشرين سنة ليلة أربع وعشرين. فكانت تطلع لا شعاع لها، وروي عن ابن عباس، ذكره البخاري عنه. وقيل: إن المحفوظ عنه: أنها ليلة ثلاثٍ وعشرين.
وكان أيوب السختياني يغتسل ليلة ثلاث وعشرين، ويمس طيبًا ليلة أربع وعشرين، ويقول: ليلةُ ثلاث وعشرين ليلةُ أهل المدينة، وليلةُ أربع وعشرين، ليلتنا أهل البصرة.
وقد اختلف الناس في ليلة القدر؟
والجمهور: أنها في العشر الأواخر، كما دلَّت عليه الأحاديث الصحيحة.
واختلفوا في أيِّ ليالي العشر أرجى؟
وحكي عن الحسن ومالك: أنها تُطْلَبُ في جميع ليالي العشر، ورجّحَهُ بعضُ أصحابنا.
وقال الأكثرون: بل بعض لياليه أرجى من بعض، ثم قالوا: أوتاره أرجى في الجملة. ولم يرد نصٌّ صريحٌ عن النبي ﷺ أنها في ليلة معينة.
والحكمة في ذلك -والله أعلم- ليجتهد المؤمن في هذه الليالي الشريفة، كل ليلة يقول: هذه ليلة القدر، واجتهاده في هذه الليالي العشر، واعتكافه فيها لأجل هذه الليلة يدلُّ على ذلك، والله أعلم.
فَصْلٌ في أرْجَى ليلة لها
وأرجاها ليلةُ سبعٍ وعشرين، لما روى مسلم عن أبيّ بن كعب ، قال: «والله إني أعلم أيَّ ليلةٍ هي، هي الليلة التي أمرنا رسولُ الله ﷺ بقيامها؛ وهي ليلة سبع وعشرين».
وفي لفظ: «كان يحلف على ذلك، ويقولُ: بالآيةِ والعلامةِ التي أخبرنا بها رسول الله ﷺ، أن الشمس تطلُع صبيحتها لا شُعاع لها».
وخرجه أيضًا بلفظ آخر عن أبيٍّ، قال: «والله إني لأعلمُ أيَّ ليلةٍ هي؟ هي الليلةُ التي أمرنا رسول الله ﷺ بقيامها، هي ليلة سبعٍ وعشرين».
وروى أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلًا قال: يا رسول الله: إني شيخٌ كبيرٌ عليلٌ يشقُّ عليَّ القيامُ، فمرني بليلة يوفقني الله فيها لليلة القدر، فقال: عليك بالسابعة وإسنادُه على شرط البخاري.
وروي أيضًا، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله ﷺ: من كان متحريًا فليتحرَّها ليلةَ سبع وعشرين، أو قال: تحرَّوها ليلةَ سبعٍ وعشرين. وعن معاوية مرفوعًا: ليلةُ القدر ليلةُ سبع وعشرين. والصحيحُ عند أحمد وقفه.
ومما يدلُّ على ذلك: حديث أبي ذر في قيام النبي ﷺ بهم، في أفراد السبع الأواخر، وأنه قام بهم في الثالثة والعشرين إلى ثلث الليل. وفي الخامسة إلى نصف الليل، وفي السابعة إلى آخر الليل، حتى خشوا أن يفوتهم الفلاحُ، وجمع أهله ليلتئذ، وجمع الناس. و الفلاحُ: السحور.
ومما استدلَّ به بعضُهم من الآيات والعلامات: ما تقدم عن أبيِّ بن كعب، أنه استدل على ذلك بطلوع الشمس في صبيحتها لا شعاع لها؛ وطاف بعضُ السلف بالبيت الحرام، ليلةَ سبع وعشرين، فرأى الملائكة في الهواء طائفين فوق رؤوس الناس.
ورجلٌ بالسواد ينظرُ، فقال له آخر: أيُّ شيءٍ تنظر؟ فقال: إلى ليلة القدر. فقال: نم فسأخبرك؛ فلما كانت ليلةُ سبع وعشرين، ذهب به إلى النخل، فإذا النخلُ واضعٌ سعفه بالأرض، وقال: لسنا نرى هذا في السنة كلِّها إلا في هذه الليلة.
ومُقْعَدٌ دعا الله فيها فأطلقه، ومقعدةٌ كذلك، وأخرسُ ثلاثين سنة دعا الله فأطلق لسانه وتكلَّم.
وذكر الوزير أبو المظفر: أنَّهُ رأى ليلةَ سبع وعشرين -وكانت ليلة جمعةٍ- بابًا في السماء مفتوحًا شاميَّ الكعبة، ظنه حيال الحجرة النبوية، ولم يزل كذلك إلى طلوع الشمس.
وإن وقع في ليلةٍ من أوتار العشر ليلةُ جمعةٍ، فهي أرجى من غيرها.
فصل في العمل في ليلة القدر
ثبت عن النبيِّ ﷺ أنه قال: من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، وفي المسند عن عبادة: من قامها ابتغاءها، ثم وقعت له غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، وللنسائي في حديث قتيبة بن سعيد عن سفيان: غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال الحافظ: وإسناده على شرط الصحيح.
وقيامُها: إنما هو بالتهجد فيها والصلاة. وقد أمر ﷺ عائشة بالدعاء فيها. قال سفيان: الدعاءُ في الليلة أحبُّ إليَّ من الصلاة. وإذا كان يقرأُ ويدعُو، ويرغبُ إلى الله في الدعاء والمسألةِ لعله يوافق.
وقد كان ﷺ يتهجد في ليالي رمضان، ويقرأُ قراءةً مُرتَّلة، لا يمرُّ بآية فيها رحمةٌ إلاَّ سأل، ولا بآية فيها عذاب إلا تعوذ. فجمع بين الصلاة والقراءة والدعاء والتفكر. وهذا أفضل الأعمال وأكملها في ليالي العشر وغيرها.
قال الشعبي في ليلة القدر: ليلُها كنهارها.
وقال الشافعي: أستحب أن يكون اجتهادُه في نهارها كاجتهاده في ليلها.
قالت عائشة رضي الله عنها: «يا رسول الله، إن وافقتُ ليلةَ القدر ما أقول؟ قال: قولي: اللهمَّ إنك عفوٌّ تحبُّ العفو فاعفُ عنِّي.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: إنَّ الله ينظرُ ليلة القدر إلى المؤمنين من أمة محمد ﷺ، فيعفو عنهم، ويرحمهم، إلَّا أربعةً: مدمنُ خمرٍ، وعاقٌ، ومشاحنٌ، وقاطعُ رحم.
لما عرف العارفون بجلاله خضعُوا، ولما سمع المذنبون بعفوه طمعُوا، ما ثمَّ إلا عفوُ الله أو النارُ، إنما أمر بسؤال العفو في ليلة القدر بعد الاجتهاد في الأعمال فيها، وفي ليالي العشر: لأنَّ العارفين يجتهدون في الأعمال الصالحة، ثم لا يرون لأنفسهم عملًا، ولا حالًا، ولا مقالًا، فيرجعون إلى سؤال العفو، كحال المذنب المعترف. كان مطرِّفُ يقولُ في دعائه: اللهم ارض عنّا، فإن لم ترض عنّا، فاعفُ عنَّا.
يا ربِّ، عبدُك قد أتا | كَ وقد أساءَ، وقد هفا |
يَكْفيهِ منكَ حياؤه | من سوء ما قدْ أسلفا |
حملَ الذُّنوبَ على الذُّنو | ب الموبقاتِ، وأسرَفا |
وقد استجارَ بذيلِ عفْـ | ـوكَ من عقابك مُلْحِفا |
الشيخ: هذه الأحاديث الكثيرة والآثار السلفية كلها تتعلق بليلة القدر، الله جل وعلا أنعم على عباده في هذا الشهر الكريم بأنواع من النعم، ورغبهم سبحانه في صيامه وقيامه والاستكثار من العمل الصالح في هذا الشهر الكريم ليجود عليهم من فضله وليحسن إليهم، فالمشروع لأهل الإيمان في هذا الشهر الكريم المسابقة إلى الخيرات والمسارعة إلى أنواع الطاعات من صلاة وصدقات وتسبيح وتهليل وتكبير واستغفار وقراءة القرآن وصلة رحم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله وعيادة المريض واتباع الجنائز، إلى غير هذا من وجوه الخير.
هذا الشهر العظيم ميدان للسباق في الأعمال الصالحات والمسارعة إلى الخيرات، فهو شهر الصيام والقيام، وهو شهر المسابقة إلى الخيرات، شهر تضعف فيه الحسنات وترفع فيه الدرجات وتقال فيه العثرات، يجود الله به على عباده بأنواع الجود ، ولهذا قال ﷺ: من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه يعني إيمانا بأن الله شرع هذا الشيء واحتسابا للأجر عنده ، لا رياء ولا سمعة ولا لقصد آخر، بل يعمل لله يبتغي وجهه، يبتغي الأجر من عنده يرجو رحمته، يصوم ويقرأ القرآن ويتصدق ويسبح ويهلل ويستغفر يرجو رحمة الله، يرجو فضله ، فهذه الأيام أيام عظيمة لم يبق منها إلا هذا اليوم واليوم الذي بعده إن لم ير الهلال هذه الليلة، فهذا اليوم هو اليوم التاسع والعشرون وغدا هو يوم الثلاثين، فقد يرى هذه الليلة الهلال فتكون هذه الليلة أول شوال، فأنت ترى أنه لم يبق شيء متقين إلا هذه العصرية، هذه الساعات، هذه الدقائق القليلة المتيقن من شهر الصيام، أما الليلة وغدا فمحل نظر فقد يرى الهلال وقد لا يرى.
ومن أهم المهمات البدار بالتوبة، في هذه الفرصة القليلة البدار بالتوبة، توبة نصوح من جميع السيئات بالندم على الماضي من سيئاتك والإقلاع منها والحذر منها والعزم الصادق ألا تعود فيها، فالتوبة يجب الله بها ما قبلها من الذنوب كما قال النبي ﷺ: الإسلام يجب ما قبله، والتوبة تهدم ما كان قبلها وأنت مأمور بالتوبة دائما في كل وقت، رمضان وفي غيره، يقول الله سبحانه: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، أما ليلة القدر بين الرسول ﷺ أنها في العشر الأواخر ولم يبق منها إلا هذه الليلة إن ير لم الهلال، وهذه الليلة العظيمة العمل فيها والاجتهاد فيها خير من العمل في ألف شهر فيما سواه، وأنت بحمد الله لك متسع في جميع السنة بل في جميع عمرك، لكن جاهد وساعد وسارع إلى الخيرات لأنك لا تدري ماذا بقي من عمرك؟ هل بقي ساعة أو أيام أو شهور أو سنة أو أكثر؟ لا تدري، فالحزم والكيس والجد في الطاعة دائما، والحذر من المعاصي دائما، والمسارعة إلى الخيرات دائما، والتوبة من كل ما سلف من الذنوب، هذا هو الكيس، هذا هو الحزم، هذا هو الواجب على المؤمن أينما كان، لا يقول أنا شاب قد يبقى لي سنوات، يبقى لي كذا، ما تدري كم من شاب مات وعاش الشيخ الكبير!
البدار بالتوبة ولزوم الأعمال الصالحات والاستكثار منها من الشاب والشيخ هكذا يكون الحزم، هكذا يكون الكيس في رمضان وفي غيره، المسابقة إلى الخيرات والمسارعة إلى الطاعات والحذر من السيئات ولزوم التوبة من جميع ما سلف من ذنوبك وسيئاتك، والله جل وعلا يقول في وصف عباده الصالحين من الأنبياء والصالحين وأتباعهم: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]، ويقول : إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:57-61] يُؤْتُونَ مَا آتَوْا يعني من الأعمال الصالحات، يعني يعملون ما يعملون من الطاعات وهم على خوف، على وجل، يخشون ألا تقبل منهم أعمالهم، يخشون من التقصير، يخشون من الرياء، وهم على وجل يعملون باجتهاد وحذر وخوف، ولهذا سابقوا إلى الطاعات، وسارعوا إليها وصدقوا لها.
فأنت هكذا، كن هكذا كن حريصا على الخير راغبا فيه مسارعة إليه أينما كنت في أي زمان وفي أي مكان ترجو ثواب الله وتخشى عقابه، هذا هو الحزم، هذا هو الكيس، وهذا هو شأن الأخيار حفظ الأوقات وعمارتها بالطاعات والحزم في كل شيء، هكذا يكون المؤمن بعيدا عن السيئات، حذرا منها مسارعا للطاعات، مجتهدا في تحصيلها تائبا إلى الله مما سلف من ذنوبه، مجتهدا في كل خير، يدعو الله ويتضرع إليه أن يعفو عنه ويكفر سيئاته ويغفر سيئاته، هكذا لا يغفل.
قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر ما أقول؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني نسأل الله العفو في كل وقت، ومن أفضل القربات: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني في رمضان وفي غيره، وفي ليلة القدر وفي غيرها، يقول الله جل وعلا: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، ويقول النبي ﷺ: ما من عبد مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تعجل له دعوته في الدنيا، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء الشر مثل ذلك مثلها. قالوا: إذا نكثر، قال: الله أكثر.
والمستحب للمؤمن في ليلة العيد الإكثار من التكبير، من نعم لله شرع لنا التكبير ليلة العيد كما قال جل وعلا: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185] فيشرع للمسلمين التكبير ليلة العيد من غروب الشمس إلى الفراغ من خطبة صلاة العيد، كله تكبير: في البيت، والمسجد، والطريق، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، هكذا صلاة العيد شرع الله صلاة العيد شكرا لله على هذه النعمة العظيمة، المسلمون إذا فرغوا من رمضان صلوا صلاة العيد صباح أول يوم من شوال شكرا لله ، ركعتان يصلي بهم الإمام ركعتين ويخطب ويذكرهم ويعظهم، وشرع الله لنا صدقة الفطر -زكاة الفطر- تؤدى قبل خروج الناس إلى صلاة العيد، صاعا من الطعام، صاعا من قوت البلد على كل ذكر أو أنثى وصغير أو كبير وحر أو عبد، فرضا فرضه الله على المسلمين، على كل واحد صاع للفقراء والمساكين من قوت البلد على الذكر والأنثى الصغير والكبير والحر والعبد من المسلمين، وأن تؤدى قبل خروج الناس إلى صلاة العيد، وإذا أدوها قبل العيد بيوم أو يومين فلا بأس توزع بين الفقراء والمحاويج، وهذه الصلاة -صلاة العيد- مشروعة للرجال والنساء، أمر بها النبي ﷺ الرجال والنساء، وكان الرسول ﷺ إذا خطب الناس ففرغ من خطبته أتى النساء وخطبهن وذكرهن عليه الصلاة والسلام، إذا كن لا يسمعن الخطبة يشرع للإمام أن يأتيهن ويخطبهن ويذكرهن ويحثهن على الصدقة، وعلى ترك المعاصي والحذر منها، والمسارعة إلى الخيرات، أما اليوم الحمد لله قد يسر الله المكبرات التي تبلغ النساء فيسمعن الخطبة، خطبة الرجال يسمعها الرجال والنساء، وبهذا يحصل المقصود والحمد لله لأن الخطبة تعم الجميع عن طريق المكبرات.
والمقصود أن الصلاة مشروعة للجميع، والخطبة لتذكير الجميع، وزكاة الفطر على الجميع، والتكبير والتسبيح والتهليل والإكثار من ذلك مطلوب من الجميع.
في ختام هذا الشهر نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم ومن جميع المسلمين، ونسأل الله أن يجعلنا وإياكم وسائر إخواننا من العتقاء من النار، وأن يعيده علينا وعلى المسلمين أعواما كثيرة في خير وعافية وصحة واستقامة وعز للإسلام وظهور، وكبت لأعداء الإسلام، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
س:هل على الجنين زكاة وهو في بطن أمه قبل أن يتحرك؟
ج: يستحب ما يجب، على الحمل يستحب إخراجها عنه، ولكن ما يجب إذا ما ولد، يستحب استحبابا حتى يولد وإن كان مولودا ولو رضيعا ما يأكل الطعام، كان عثمان يخرج الزكاة عن الحمل زكاة الفطر.
س: ما حكم ترك تكبيرة الإحرام واللحاق بالجماعة في أي ركعة؟
ج: الواجب عليه أن يبادر حتى يكبر مع الإمام، حتى يدرك الصلاة في الركعة الأولى ولا يتكاسل، حتى يؤدي الصلاة كلها في الجماعة، هذا هو الواجب على المؤمن أن يحافظ على الجماعة وأن يسارع حتى لا تفوته الجماعة.
س: لكن إذا تعمد أنه لا يدرك إلا الركعة الثانية أو الثالثة؟
ج: يجب عليه أن يدرك الصلاة كلها في جماعة من أولها إلى آخرها.
س: في العشر الأواخر في مكة يكثر الناس وبعضهم يصعدون فوق الجبل المشرف على الكعبة، فما حكم صلاتهم؟
ج: إذا ما وجدوا مكانا ويشاهدون الناس أثناء صلاتهم تصح الصلاة.
س: الإنسان في داخل الفندق أو في الغرفة وتأخر؟
ج: الواجب المسارعة إلى المساجد، لكن لو قدر زحمة صلى في السوق أو في الغرفة يشاهد الناس لو انقطع الصوت شاهدهم لا بأس.
فصْلٌ
في: ودَاعِ رَمضانَ
تقدم ما ثبتَ في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر لهُ ما تقدم من ذنبه، ولأحمد وما تأخر وإسنادهُ حسن؛ و من قام ليلةَ القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر لهُ ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه زاد النسائي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
ولأحمد عن عبادة مرفوعًا في ليلة القدر: من قامها ابتغاءها ثم وقعت له غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. ولابن حبان والبيهقي عن أبي سعيد مرفوعًا: من صام رمضان، وعرف حدوده، وتحفظ مما ينبغي له أن يتحفَّظ منه كفّر ما قبله. وعن أبي هريرة مرفوعًا: شهر رمضان، يكفِّرُ ما بين يديه إلى شهر رمضان المقبل رواه ابن أبي الدنيا.
والتكفيرُ مشروطٌ: بالتحفظ مما ينبغي أن يُتحفَّظ منه؛ والجمهور على أن ذلك إنما يكفِّرُ الصغائر؛ لما روى مسلمٌ أن النبي ﷺ قال: الصلواتُ الخمس، والجمعةُ إلى الجمعة، ورمضانُ إلى رمضان مكفراتٌ لما بينهنَّ، ما اجتنبت الكبائر.
وفي تأويله قولان:
أحدهما: أن التكفير مشروطٌ باجتناب الكبائر.
الثاني: أن المراد: أنّ هذه الفرائض: تكفِّرُ الصغائر خاصة.
وقال ابن المنذر في ليلة القدر: يرجى بها مغفرةُ الذنوب كبائرها وصغائرها؛ وقال غيره: مثل ذلك في الصوم.
والجمهور: على أن الكبائر لا بدّ لها من توبة نصوح؛ وحديث أبي هريرة: يدلُّ على أن هذه الأسباب الثلاثة، كلُّ واحدٍ منها مكفرٌ لما سلف من الذنوب، فقيامُ ليلةِ القدر يقع التكفير به إذا وافقها ولو لم يشعر بها، وأما صيامُ رمضان وقيامُه: فيتوقفُ التكفيرُ بهما على تمام الشهر.
وقيل: يغفر لهم آخر ليلة من رمضان، ويدلُّ عليه: ما رواه أحمد عن أبي هريرة قال: ويغفر لهم في آخر ليلة، فقيل: يا رسول الله، أهي ليلةُ القدر؟ قال: لا، ولكنَّ العامل إنما يوفَّى أجره إذا قضى عمله.
وروي: أن الصائمين يرجعون يوم الفطر مغفورًا لهم، وأن يوم الفطر يسمى يوم الجوائز.
وأخرج البزّارُ عن معاذ مرفوعًا: من صام رمضان وصلَّى الصوات الخمس، وحجَّ البيت، كان حقًا على الله أن يغفر له.
قال الزهري: إذا كان يومُ الفطر وخرج الناس إلى الصلاة اطلع الله عليهم، فقال: يا عبادي، لي صُمْتُم، ولي قمتم، ارجعوا مغفورًا لكم. وقال مورِّق: يرجعُ هذا اليوم قومٌ كما ولدتهم أمهاتهم.
روي عن ابن عباس مرفوعًا: إذا كان يومُ الفطر هبطت الملائكةُ إلى الأرض، فيقفون على أفواه السِّكك، ينادون بصوت يسمعُه مَنْ خلق الله، إلا الجنَ والإنس، يقولون يا أمة محمد، أخرجوا إلى ربّ كريم، يعطي الجزيل، ويغفر الذنب العظيم. فإذا برزوا إلى مصلاهم يقول الله لملائكته: ما جزاءُ الأجير إذا عمل عمله؟ فيقولون: إلهنا وسيدنا أن يوفّى أجره. فيقولُ: إني أشهدكم أنِّي جعلت ثوابهم من صيامهم وقيامهم رضائي ومغفرتي، ارجعوا مغفورًا لكم خرّجه سلمة بن شبيب.
زاد البيهقي: يا عبادي، فوعزتي وجلالي لا تسألوني اليوم شيئًا في جمعكم لآخرتكم إلا أعطيتكم، ولا لدنياكم إلا نظرت لكم، فوعزتي لأسترن عليكم عثراتكم ما راقبتموني، وعزّتي وجلالي لا أخزيكم، ولا أفضحكم بين أصحاب الحدود، انصرفوا مغفورًا لكم، قد أرضيتموني ورضيت عنكم، فتفرحُ الملائكةُ وتستبشرُ بما يعطي اللهُ هذه الأمة إذا أفطروا من شهر رمضان.
الصيامُ وسائر الأعمال: من وفَّاها فهو من خيار عباد الله الموفين، ومن طفّف فيها فويل للمطففين، إذا كان الويلُ لمن طفَّف ميكال الدنيا. فكيف حالُ من طفّفَ ميكال الدِّين؟
غدًا توفّى النفوسُ ما عَمِلت | ويحصدُ الزَّارعُونَ ما زرعوا |
إِن أحسنوا أحسنوا لأنفسِهمُ | وإن أساءُوا، فبئْسَما صنعوا |
كان السلفُ الصالحُ يجتهدون في إتمام العمل، وإكماله وإتقانه، ثم يهتمون بعدَ ذلك بقبوله ويخافون من ردِّه، وهؤلاء الذين يُؤتُون ما آتو وقلوبهم وجلة، رُوي عن عليٍّ : كُونُوا لقبول العمل أشدَّ اهتمامًا منكم بالعمل، ألم تسمعُوا الله يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27].
وعن فضالةَ: لأن أعلم أن الله تقبّل مني مثقال حبةِ خردلٍ، أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها، لأن الله تعالى يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27].
وقال مالك بنُ دينار: الخوفُ على العمل أن لا يُقبل أشدُّ من العمل.
وقال عطاءٌ السلميُّ: الحذر الاتقاء على العمل الصالح أن لا يكون لله.
وقال عبدالعزيز بن أبي رَوَّاد: أدركتُهم يجتهدُون في العمل الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهمُّ: أتُقُبِّلَ منهم أم لا؟ قال بعض السلف: كانوا يدعون الله ستة أشهرٍ أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبله منهم.
وكان بعض السلف يظهرُ عليه الحزنُ يوم عيد الفطر، فيقال له: إنه يومُ فرح وسرور، فيقول: صدقتم، ولكني عبدٌ أمرني مولاي أن أعمل له عملًا، فلا أدري أيقبله مني أم لا؟
رأى وهيبٌ قومًا يضحكون يوم عيدٍ، فقال: إن كان هؤلاء تُقُبِّل منهم صيامُهم، فما هذا فعل الشاكرين، وإن كان لم يُتقبل منهم فما هذا فعل الخائفين.
وعن الحسن قال: إن الله جعل رمضانَ مضمارًا لخلقه، يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبقَ قومٌ ففازوا، وتخلَّف آخرون فخابوا، فالعجبُ من اللاّعب الضاحك في اليوم الذي يفوزُ فيه المحسنون، ويخسرُ فيه المبطلون.
روي عن علي : أنه كان ينادي في آخر ليلةٍ من رمضان: يا ليت شعري من هذا المقبولُ فنهنيه، ومن هذا المحرومُ فنعزِّيه. أيُّها المقبولُ: هنيئًا لك، أيُّهَا المردودُ: جبر اللهُ مصيبتك.
الشيخ: هذه الأحاديث والآثار عن السلف الصلاح كلها تتعلق بصوم رمضان وقيامه وما شرع الله فيه من الأعمال، وأن المؤمن على خير عظيم إذا أحسن وأدى ما عليه واجتهد فهو على خير عظيم، فالله سبحانه لا يخلف الميعاد، وهو الكريم الجواد قد وعد عباده إذا أحسنوا أن يحسن إليهم هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرحمن:60]، ومن أحسن فله البشرى بالسعادة والتوفيق والمغفرة والعتق من النار، ومن أساء فباب الله مفتوح، باب الله مفتوح فليبادر بالتوبة والرجوع إلى الله والإنابة إليه، والله يتوب عليه .
وهذه الأيام التي منّ الله بها على عباده في هذا الشهر الكريم أيام مسابقة، أيام مسارعة إلى الخيرات، أيام السباق فمن سابق بالخيرات وسارع إليها فليحمد الله وليسأل ربه القبول، ولا يعجب ولا يمن بعمله ولكن يسأل ربه القبول ويخاف أن يرد عليه عمله بأسباب وقعت منه، فليحذر العجب، وليحذر المن بعمله، وليسأل ربه المغفرة والعفو عن التقصير، ومن كان أساء وقصر فليبادر بالتوبة، ومن تاب تاب الله عليه، فهو القائل سبحانه: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ [الشورى:25]، وهو القائل جل وعلا: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وهو القائل سبحانه قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53].
فالحاصل أن هذا الشهر الكريم الذي هذه الليلة آخر لياليه فينبغي للمؤمن أن يختمه بالتوبة الصادقة والاستغفار والإكثار من ذكر الله بالتسبيح والتهليل والتحميد، ويحسن الظن بالله ورجائه جل وعلا أن يتقبل منه عمله وأن يغفر له ذنبه، ثم ليعزم العزم الصادق على الاستمرار في الخير والجد في الخير وعدم الرجوع إلى الشر، يعزم العزم الصادق على الاستقامة والثبات على الحق، وألا يرجع إلى ما سلف منه من تقصير، لقد وعده الله المغفرة من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه.
فهو موعود بالمغفرة في صيامه وقيامه وقيام ليلة القدر، فليحسن الظن بربه وليرجو هذه المغفرة مع الخوف والحذر أن يرد عليه عمله ليكون راجيا خائفا كما حكى الله عن أنبيائه ورسله والإخبار عن عباده قال سبحانه: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:57-61].
يؤدي ما يؤدي من العمل عن جد وعن نشاط وعن رغبة بما عند الله ، وعن خوف ووجل أن ترد عليه أعماله، هذا حال الأخيار، هذا حال السابقين، ليس على منّ بالعمل ولا عجب بالعمل، لا يمنون على الله بأعمالهم ولا يعجبون بأعمالهم، بل يعملون وهم منكسرون خائفون وجلون مشفقون، يرجون الرحمة ويخشون العقاب، ومن أجل هذا يجود الله عليهم ويحسن إليهم ويجبر كسرهم ويعينهم ويثبتهم، ولهذا قال: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [الأنبياء:90]، وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:61]. سارعوا وسبقوا بسبب توفيق الله لهم وإعانته لهم وبسبب صدقهم وإخلاصهم وخوفهم ورجائهم.
فأنت يا عبدالله عليك أن تتأسى بهؤلاء الأخيار في جميع أعمالك بجد ونشاط وإخلاص وصدق، ومع ذلك تخافه وترجوه، لا تمنّ بعملك ولا تعجب بعملك بل كن خائفا راجيا بين الخوف والرجاء، قال بعض السلف: فليكن الرجاء والخوف للمؤمن كجناحي الطائر يطير بهما، وقال بعضهم: ويغلب جانب الرجاء في حال المرض، ويغلب جانب الخوف في حال الصحة حتى يكون في حال الصحة أكثر حذرا وأكثر مسارعة للخيرات، وفي حال المرض والضعف يكون حسن الظن بالله، يغلب عليه الرجاء وحسن الظن بالله، ولكن ظاهر القرآن والسنة أنه ينبغي له أن يكون بين الرجاء والخوف لا هذا ولا هذا، يرجو ربه ويخاف ذنبه وحسن الظن بالله، ولكن مع هذا هو خائف أيضا، فهو بين الخوف والرجاء كما قال الله عن رسله وأنبيائه: وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]، قال: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:57].
نسأل الله أن يوفق الجميع لما يرضيه، ويختم لنا بالخاتمة الحسنة، وأن يجعلنا وإياكم من العتقاء من النار، ويمنّ علينا وعليكم بإكمال ما بقي على الوجه الذي يرضيه، وأن يبلغنا صيامه وقيامه إيمانا واحتسابا أعواما كثيرة على الوجه الذي يرضيه، وأن يوفق المسلمين جميعا في كل مكان لما يرضيه، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يكثر بينهم دعاة الهدى، وأن يولي عليهم خيارهم ويصلح قادتهم، إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.
س: الزيادة عند النسائي وما تأخر هل هي صحيحة؟
ج: ما راجعتها قد يكون سندها حسن، ولكن يرجى من الله جل وعلا ذلك، لأن الصيام إيمانا واحتسابا يتضمن التوبة، ومن تاب تاب الله عليه، لكن ما تأخر يحتاج إلى توبة، وإلى عمل صالح، وإلى استقامة لو صحت معناه أي ما دام مستقيما مثلما قال الرسول ﷺ: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفارات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر. إذا اجتنب الكبائر لو صحت فالمعنى إذا استقام.
س: بعض الشباب ما يعرفون اللغة العربية ولا يعرفون القراءة من المصحف، لكن بعضهم يحفظ جزءا واحدا أو جزءا ونصف، هل يصلون التهجد جماعة دائما ويكررون نفس السور؟
ج: ما فيه بأس، يكررون ما تيسر الحمد لله، الله يقول: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل:20] الحمد لله.
س: زكاة الفطر هل تعطى لمن يبيع الطعام الذي يعطاه؟
ج: ما فيه بأس إذا كان فقيرا.
س: بعضهم يتردد على الناس يأخذ ويبيع، ويرجع يأخذ ويبيع، إذا علم منه ذلك هل يعطى؟
ج: ما دام معروفا بالفقر يعطى لا بأس، لأنه لو أعطى مائة صاع ما تكفية لسنة، والسنة تحتاج إلى شيء كثير.
س: ما هي مشروعة لمطعمة يا شيخ كما في الحديث طعمة؟
ج: الحديث ضعيف، أغنوهم عن الطواف هذا حديث ضعيف، هو يعطى لفقره وحاجته، وأما أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم هذا حديث ضعيف.
س: ما هو طعمة للمسكين؟
ج: هو مثلما قال: طعمة للمساكين: وهو مسكين ما لم يجد الكفاية سنة كاملة.
س: الذين يجلسون على الشوارع معهم الطعام كما ذكر الأخ أن بعض الناس يأخذون من هنا ويبيعون أيضا من هنا هؤلاء يجوز إعطاءهم؟
ج: ما داموا يدّعون الفقر والحاجة نعم.
س: يعطوهم على حسب ظاهرهم؟
ج: نعم لأنه قد يبيع ويشتري وهو فقير.
س: أقول يجزئ؟
ج: نعم ما دام يدّعي الفقر.
س: بعض الناس يفهم أن من أخذ الزكاة يعني زكاة الفطر ولو ثلاث كيلو على أن هذا لا يستحق أن يأخذ مرة ثانية، هذا ما يفهمونه؟
ج: لا، هذا غلط، يعطى ما دام ما عنده شيء يغنيه سنته.
شهرُ رمضان تكثر فيه أسبابُ العتق والغفران؛ فمن أسباب المغفرة فيه: صيامُه وقيامُه؛ وقيامُ ليلة القدر.
ومنها: تفطيرُ الصّوامِ، والتخفيف عن المملوك.
ومنها: الذكرُ. وفي حديث مرفوع ذاكرُ الله فيه مغفورُ له، وسائلُ الله فيه لا يخيبُ.
ومنها: الاستغفار، وطلبُ المغفرةِ، ودعاءُ الصائم مستجابٌ في صيامه وعند فطره. وفي حديث أبي هريرة: ويغفر فيه إلا لمن أبى. قالوا: يا أبا هريرة ومن يأبى؟ قال: يأبى أن يستغفر الله.
ومنها: استغفارُ الملائكة للصائمين حتى يفطروا.
لما كثرت أسبابُ المغفرة في رمضانَ، كان الذي تفوتُه فيه المغفرة محرومًا غاية الحرمان. صعدَ النبيُّ ﷺ المنبر فقال: آمين، آمين، آمين. فقيل له. فقال: إن جبرائيل أتاني، فقال: من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فمات، فدخل النار، فأبعده الله. قل: آمين. فقلت: آمين الحديث. رواه ابن حبان.
وقال قتادة: كان يقالُ من لم يغفرْ لَه في رمضان، فلن يغفر له فيما سواه؛ وفي حديث آخر من لم يغفرْ له في رمضان، فمتى يُغفرْ له؟.
متى يغفر لمن لم يغفر له في هذا الشهر؟ متى يُقبل من رُدَّ في ليلة القدر؟ متى يصلُح من لا يصلحُ في رمضان؟ متى يصلحْ من كان فيه من داء الجهالة والغفلةِ مرْضان؟
ترحَّلَ الشَّهرُ وَا لهْفَاهُ وانصرمَا | واختصَّ بالفوزِ بالجنات مَنْ خَدَما |
وأصبح الغافلُ المسكينُ منكسرا | مثلي، فيا ويْحهُ، ياعُظْمَ ما حُرِما |
من فاته الزرعُ في وقت البذارِ فما | تراهُ يحصد إلاّ الهمّ والنَّدَمَا |
شهرُ رمضانَ: أولُه رحمةٌ، وأوسطُه مغفرةٌ، وآخرُه عتق من النار.
وفي الحديث الصحيح: أنه تفتَّحُ فيه أبوابُ الرحمة، وفي الترمذي إِن للهِ عتقاءَ من النار، وذلك كلَّ ليلة.
الأغلب على أوله: الرحمة، وأوسطه: المغفرة، وآخره: العتقُ فيه من النار لمن أوبقته الأوزار، واستوجب النار، بالذنوب الكبار.
وفي حديث ابن عباس المرفوع: إن لله في كل ليلة من شهر رمضان عند الإفطار ألفَ ألفَ عتيقٍ من النار، فإذا كان يومُ الجمعة أعتق الله في كل ساعة منها ألفَ ألفَ عتيقٍ من النار، كلُّهم قد استوجب العذاب. فإذا كان آخرُ ليلة من شهر رمضان: أعتق اللهُ في ذلك اليوم بعدد ما أعتق من أول الشهرِ إلى آخره أخرجه سلمةُ بنُ شبيب وغيرُه.
ورَوى البزّارُ عن أبي سعيد مرفوعًا: إن لله تبارك وتعالى عُتقاء كلَّ يومٍ وليلة، يعني في رمضان، وإنَّ لكل مسلم في كلِّ يومٍ وليلةٍ دعوةً مستجابة.
وإنما كان يومُ الفطر من رمضان عيدًا لجميع الأمة: لأنه يعتق فيه أهل الكبائر من الصائمين من النار، فيلتحق فيه المذنبون بالأبرار، كما أنَّ يوم النحر هو العيدُ الأكبر، لأنّ قبله يوم عرفة، وهو: اليوم الذي لا يرى في يوم من أيام الدنيا، أكثر عتقاء من النار منه، فمن أعتق من النار في اليومين، فله يومُ عيد، ومن فاته العتقُ في اليومين، فله يومُ وعيد.
لما كانت المغفرةُ والعتقُ كلُّ منهما مرتبٌ على صيام رمضان وقيامه، أمر الله سبحانه عند إكمال العدة بتكبيره وشكره، فقال: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185] فشكْرُ من أنعم على عبده بتوفيقهم للصيام والقيام، وإعانتهم عليه، ومغفرته لهم وعتقهم من النار: أن يذكروه ويشكروه، ويتَّقوه حقَّ تقاته.
يا من أعتقهُ مولاهُ من النَّار، إياك أن تعودَ بعد أن صرت حرًّا إلى رقِّ الأوزار، أيبعدُك مولاك من النّار، وأنت تقربُ منها؟ وينقذُك منها، وأنت توقعُ نفسك فيها، ولا تحيدُ عنها؟ إن كانت الرحمةُ للمحسنين فالمسيءُ لا ييأس منها، وإن تكن المغفرة للمتقين، فالظالم لنفسه غيرُ محجوب عنها.
إن كانَ لا يرجوكَ إلا مُحسنٌ | فمن الذي الذي يرجوُ ويدعو المذنبُ؟ |
لم لا يُرجَى العفوُ من ربِّنا؟ وكيف لا يُطمع في حلمه؟
وفي الصحيح: أنه تعالى بعبده أرحمُ من أمه قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53].
فيا أيُّها العاصي -وكلُّنا كذلك- لا تقنط من رحمة الله لسوء أفعالك، فكم في هذه الأيام من معتق من النار من أمثالك؟ فأحسن الظن بمولاك، وتب إليه، فإنه لا يهلك على الله إلا هالك.
إذا أوجعتْك الذنوب فداوِها | برفع يَدٍ بالليل والليلُ مظلمُ |
ولا تقنطن من رحمة الله، إنما | قنوطك منها من ذنوبك أعظم |
ينبغي لمن يرجو العتق في رمضان من النار: أن يأتي بأسبابٍ توجبُ العتق من النار؛ كان أبو قلابةَ يُعتقُ في آخر الشهر جارية حسناء مزينةً، يرجو بعتقها العتق من النار.
وتقدم في حديث سلمان: من فطر فيه صائمًا، كان مغفرةً لذنوبه، وعتقًا لرقبته من النار، ومن خفّف عن مملوكه، كان له عتقًا من النار، وفيه: فاستكثروا فيه من أربع خصالٍ: خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غناء لكم عنهما، فأمَّا الخصلتان اللتان ترضون بهما ربَّكم: فشهادةُ أن لا إله إلا الله، والاستغفار؛ وأما اللتان لا غناءَ لكم عنهما: فتسألون الله الجنةَ وتستعيذون به من النّار فهذه الخصالُ كلٌ منها سببٌ للعتق والمغفرة.
فأما كلمةُ التوحيد فإنها تهدم الذنوب وتمحوها، ولا تُبقي ذنبًا ولا يسبقُها عمل، وهي تعدلُ عتق الرِّقاب الذي يوجب العتق من النار، ومن أتى بها أربع مرات -حين يصبح وحين يمسي- أعتقه الله من النار، ومن قالها مخلصًا من قلبه حرمه الله على النار.
وأما كلمة الاستغفار: فمن أعظم أسباب المغفرة، فإن الاستغفار دعاءٌ بالمغفرة، ودعاءُ الصائم مستجابٌ في حال صيامه وعند فطره.
قال الحسن: أكثروا من الاستغفار؛ فإنكم لا تدرُون متى تنزلُ الرَّحمةُ، وقال لقمان لابنه: يا بنيَّ عوِّد لسانك الاستغفار، فإن لله ساعاتٍ لا يردُ فيها سائلًا، وفي الأثر: إن إبليس قال: أهلكتُ الناس بالذُّنوبِ، وأهلكوني بلا إله إلا الله، والاستغفار.
والاستغفارُ: ختامُ الأعمال الصالحة كلِّها، فتختم به الصلاة والحج وقيامُ الليل، وتختم به المجالسُ، فإن كانت ذكرًا، كان كالطابع عليها، وإن كانت لغوًا كان كفارةً لها؛ فكذلك ينبغي أن يُختم صيامُ رمضان بالاستغفار؛ وكتب عمر بن عبدالعزيز إلى الأمصار: يأمرُهم بختم رمضان بالاستغفار، والصدقة، صدقةِ الفطر؛ فإن صدقة الفطر طُهرةٌ للصائم من اللغو والرفث، والاستغفارُ يرقِّعُ ما تخرَّقَ من الصيام باللغو والرفث.
قال عُمر بنُ عبدالعزيز، في كتابه: قُولوا كما قال أبُوكم آدمُ عليه السلام: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23]، وقولوا كما قال نوحٌ عليه السلام: وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [هود:47].
وقولوا كما قال موسى عليه السلام: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [القصص:16]، وقولوا كما قال ذو النون: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87].
الصِّيامُ جُنةٌ من النار ما لم يخرِّقها، والكلام السيءُ يخرِّقُ هذه الجُنة، والاستغفارُ يرقِّعُ ما تخرق منها.
أمر النبيُّ ﷺ عائشة ليلة القدر بسؤال العفو؛ فإنَّ المؤمن يجتهدُ في شهر رمضان في صيامه وقيامه، فإذا قَرُبَ فراغه وصادف ليلة القدر لم يسأل الله إلاَّ العفو، كالمسيء المقصِّر.
قال يحيى بنُ معاذ: ليس بعارفٍ من لم يكن غايةُ أمله من الله العفو، من استغفر بلسانه وقلبُه على المعصية معقود، وعزمُه أن يرجع إلى المعصية بعد الشهر ويعود، فصومُه عليه مردود، وبابُ القبولِ في وجهه مسدود.
قال كعبٌ: من صامَ رمضانَ، وهو يحدِّث نفسهُ إذا أَفطر بعد رمضان: عصى ربَّه، فصيامُه عليه مردُود، ومن صامَ رمضان، وهو يحدث نفسه إذا أفطر بعد رمضان أن لا يعصي الله دخل الجنة بغير حساب، ولا مساءلة.
وأما سؤالُ الجنةِ والاستعاذةُ من النار فمن أهمِّ الدعاءِ. قال ﷺ: حولها نُدَنْدِن، فالصائمُ يُرجى استجابة دعائه، فينبَغي أن لا يدعو إلا بأهم الأمور.
وفي الحديث: تعرضوا لنفحات ربِّكم، فإن لله نفحاتٍ من رحمته، يصيب بها من يشاء من عباده فمن أصابته سعدَ سعادة لا يشقى بعدها أبدًا.
فإن أعظم نفحاته: مصادفةُ ساعة إجابةٍ، يسأل العبدُ فيها الجنة والنجاةَ من النار، فيجابُ سُؤالهُ، فيفوزُ بسعادة الأبد، قال تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185].
ليس السعيد الذي دنياه تسعِدُه | إن السعيدَ الذي ينجُو من النار |
عباد الله، شهرُ رمضان قد عزم على الرحيل، ولم يبق منه إلَا القليل، فمن كان منكم أحسن فعليه بالتَّمام، ومن كان فرَّط فليختمه بالحسنى، فالعملُ بالختام، فاغتنموا منه ما بقي، وودِّعوهُ بأزكى تحيةٍ وسلام.
قُلوبُ المتَّقين إلى هذا الشهر | تحِنُّ، ومن ألمِ فراقه تَئنُّ |
إذا كان هذا جزعُ من ربح فيه، فكيف بمن خسر في أيامه ولياليه؟ ماذا ينفعُ المفرطُ فيه بكاؤه، وقد عظمتْ فيه مصيبتُه وجلَّ عزاؤه؟
كم نُصِحَ المسكينُ فما قبلَ النُّصحَ، كَم دُعيَ إلى المصالحة فما أجاب إلى الصُّلح؟ كما شاهد الواصلين فيه، وهو متباعدٌ، كم مرَّت به زُمرُ السائرين وهو قاعد؟ حتى إذا ضاق به الوقتُ، وحاقَ به المقتُ، ندِمَ على التفريط حين لا ينفعُ النَّدم.
فنفسَك لُمْ، ولا تَلُمِ المطايا | ومُتْ كَمَدًا، فليس لك اعتذارُ |
شهرَ رمضانَ ترفَّق، دموُع المحبين تدَفَّق، قُلوبُهم من ألمِ الفراق تشقَّق، عسَى وقفةٌ للوداعِ تُطفي من نار الشوق ما أَحرَق، عسَى ساعةُ توبةٍ وإقِلاعٍ ترفو من الصيام كلَّ ما تخرَّق، عسَى مُنقَطعٌ عن رَكب المقبولين يَلْحق، عسى أسيْرُ الأوزارِ يُطلَق، عسَى مَنْ استوجبَ النار يُعتق.
عسَى وعسَى مِن قَبلِ وقتِ التَّفرقِ | إلى كُلِّ مَا نَرجُو مِنَ الْخَيْرِ نَرْتَقِي |
فيُجبرُ مَكسورٌ، ويُقبل تَائبٌ | ويُعتَقُ خَطّاءٌ، ويُسعَدُ مَنْ شَقِي |
الشيخ: من المعلوم أن شهر الصيام والقيام هو شهر رمضان، من نعم الله على عباده وجعله سبحانه ميدانا لهم يتسابقون فيه إلى الطاعات، كل عام يتردد عليهم ويتكرر مرة كل عام رحمة من الله ليتوبوا إليه وليستكثروا من الصالحات ويحاسبوا أنفسهم ويجاهدوها لله، وهو شهر مجاهدة وشهر الصيام وشهر القيام وشهر المسابقة إلى كل خير، وشهر المساعدة للمحاويج والمساكين وشهر الاستكثار من الاستغفار وأسباب العتق من النار، هو شهر عظيم تكثر فيه أسباب المغفرة وأسباب الفوز بالجنة والنجاة من النار.
فينبغي للمؤمن أن يعرف لهذا الشهر قدره بالجد والاجتهاد والمسارعة إلى الخيرات، وأن يختمه بأحسن ما يستطيع من أعمال الصالحات، وذلك بالإكثار من قول: (لا إله إلا الله)، هذه كلمة عظيمة كلمة التوحيد، يقول النبي ﷺ: من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، عشر مرار كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل.
ويقول عليه الصلاة والسلام: من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب -يعني يعتقها-، وكتب له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه، ومن قالها صباحا ومساء عشر مرات غفر له قال هذه الكلمة العظيمة، ومن أتى بها عن توحيد وعن صدق وإخلاص محا الله بها سيئاته، وهي كلمة التوحيد، كلمة العتق من النار، من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صادقا من قلبه، وإخلاصا من قلبه، وتوبة صادقة، محا الله بها كفره وسيئاته وسائر أعماله السيئة، وكانت سببا لعتقه من النار.
والشهادتان: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، أعظم واجب، أعظم فريضة، وهي وحدها من أسباب العتق من النار، ومن أسباب تكفير السيئات لمن صدق فيها وأتى بها عن توبة وعن صدق وعن إخلاص، فإن الله يتوب بها عليه من جميع سيئاته، وإذا مات عليها صادقا مخلصا دخل بها الجنة وأنجاه الله بها من النار، وكم من شهيد أسلم ثم قتل في الحال ودخل بها الجنة؛ لأنه قالها عن صدق، وعن إخلاص، وعن توبة، وعن ندم، فغفر الله بها سيئاته كلها من كفر ومعاصٍ، ودخل بها الجنة.
قال الله جل وعلا: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:135-136] هذا جزاء من استغفر ربه وأتى بالتوحيد عن إقلاع وعن ندم وعن توبة من غير إصرار، بل يأتي بالتوبة والتوحيد عن إخلاص وعن صدق وعن ندم على ما مضى من الذنوب، وعن عزم صادق ألا يعود فيها، فإن الله يغفر بها سيئاته من كفر وغيره، ولهذا قال: وَلَمْ يُصِرُّوا الإصرار الإقامة.
أما من قالها أو أتى بالتوبة باللسان وقلبه مقيم على المعاصي، فهذا ليس بتوبة، بل هو على خطر عظيم إلا أن يعفو الله عنه، والله جل وعلا يقول: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]. من أتى بالتوحيد ولكن عنده إصرار على المعاصي، فهو تحت مشيئة الله إذا مات على ذلك إن شاء الله غفر له بأعماله الصالحة، أو بشفاعة الشفعاء، أو بمصائب أصابته من أمراض وغيرها، أو لأسباب أخرى غفر الله بها سيئاته، وإن لم يكن له أسباب توجب المغفرة فهو تحت مشيئة الله، قد يعفو الله عنه فضلا منه لتوحيده وإيمانه، وقد يعذب في النار قدر جريرته، فيعذب في النار على قدر المعاصي التي مات عليها، ثم يخرجه الله من النار، لا يخلد في النار إلا الكفار، أما العاصي فلا يخلد، لو دخلها عذب بقدر المعاصي، لو دخلها بالزنا أو بالسرقة أو بالظلم أو بالربا أو بالعقوق لا يخلد فيها ما دام موحدا مسلما، لكن يعذب على قدر المعاصي التي مات عليها، ثم يخرجه الله من النار، العصاة يخرجهم الله من النار وقد امتحشوا واحترقوا فيلقون في نهر الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل.
والله جل وعلا يشفع أنبياءه في العصاة، ويشفع نبيه محمد ﷺ في العصاة، ويشفع الأولياء المؤمنين في العصاة، ويشفع عدة بالشفاعات في العصاة الذين دخلوا النار فيخرجهم الله منها جما غفيرا، وبشفاعته ﷺ يحد له حدا فيخرجهم، ثم يشفع فيحد الله له حدا فيخرجهم، ثم يشفع فيحد الله له حدا فيخرجهم، ثم يشفع فيحد الله له حدا، وهكذا الأنبياء والصالحون والملائكة والأفراط كلهم له شفاعة، ولا يخلد في النار أبد الآباد إلا من مات على كفره بالله والعياذ بالله، من مات على شركه هذا مخلد في النار كما قال جل وعلا: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167]، وقال : يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:37] هذه حال الكفرة، نسأل الله العافية.
المقصود: أن هذا الشهر الكريم ولم يبق منه إلا هذا اليوم وهذه الليلة اليوم الآتي وهذه الليلة هو شهر الصيام، شهر القيام، شهر المغفرة، شهر العتق من النار، شهر مضاعفة الأجور، فأنت يا عبدالله لا تيأس، اجتهد في الخيرات، وأحسن ظنك بربك، واعرف أن ربك جواد كريم، يعطي الجزيل، ويغفر الذنب العظيم، فاصدق في توبتك، واصدق في استغفارك، فهذه أيام الاستغفار تزال فيها الذنوب، الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين الصبر والصدق والصدقة والنفقة في الخير والاستغفار وعتق الرقبة كل ذلك من أسباب العتق من النار، كله من أسباب المغفرة، كله من أسباب النجاة من النار، فعليك بالجد والاجتهاد والاستغفار في آخر الليل، وفي أدبار الصلوات في عقب انتهاء الحج، في كل وقت أكثر من الاستغفار، الله جل وعلا يقول: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ [هود:3]، ويقول جل وعلا: وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:199].
وهو سبحانه يحب من عباده أن يستغفروه ويضرعوا إليه ويلجئوا إليه وينكسروا بين يديه ، ثم أكثر من كلمة التوحيد: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، أكثر منها في الليل والنهار، في الطريق، في البيت، في محل العمل وأنت تعمل، وأنت تحمل اللبن، وأنت تحمل الحجر، وأنت تحمل الحديد، وأنت على الجدار، وأنت في السيارة، أكثر من ذكر لا إله إلا الله، من الاستغفار، يقول النبي ﷺ: أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ويقول عليه الصلاة والسلام: الباقيات الصالحات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ويقول عليه الصلاة والسلام: لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس أخرجه مسلم في الصحيح، ويقول عليه الصلاة والسلام: كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم متفق على صحته.
ويقول عليه الصلاة والسلام: من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، عشر مرار كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل، وفي اللفظ الآخر: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وفي اللفظ الآخر: يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
فأنت يا عبدالله أكثر من هذه الكلمة العظيمة، وإذا قالها الإنسان مائة مرة صارت تعدل عشر رقاب، يعتقها عدل عشر رقاب، يعتقها ويكتب الله له بها مائة حسنة، ومحا عنه بها مائة سيئة، وكان في حرز من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه.
هكذا الصلاة أكثر منها في الليل، في الضحى، في الظهر، أكثر من صلاة النافلة، هكذا الصدقة على الفقراء ولو بالقليل، هذا ريال، وهذا عشرة، وهذا خمسة، وهذه مائة، على حسب ما تيسر، هذا تمرة، وهذا تمرتين، اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة، ويقول جل وعلا: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:274] فضل عظيم، إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ [البقرة:271]، ويقول النبي ﷺ: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وذكر منهم رجلا تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجلا ذكر الله خاليا ففاضت عيناه هم سبعة: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله -يعني ترك الزنا خوفا من الله-، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه.
وفي الصحيحين: أن ثلاثة من الناس ممن قبلنا أواهم المبيت في الليل والمطر إلى غار أصابهم المطر وجاءهم الليل فدخلوا في الغار يتقون المطر ليبيتوا ويستريحوا فانحدرت صخرة من ظهر الجبل سدت عليهم الغار آية من الله حكمة ليبين لعباده فضل الأعمال التي ذكروها، انحدرت صخرة سدت عليهم الغار فلم يستطيعوا دفعها، وهم ثلاثة أرادوا دفعها فما استطاعوا، قالوا فيما بينهم: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تسألوا الله بصالح أعمالكم يعني يسألوا الله ويتوسلوا بصالح أعمالهم فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا أغبق يعني أسقي اليل، الغبق عند البدو ما كان في أول الليل، يشربون اللبن يحلبون ويشربون وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا فأنى بي طلب الشجر ذات ليلة يعني صيف عليهم فتأخر عليها، فلما جاء باللبن إذا هما قد ناما فكرهت أن أوقظهما الصبية يتضاربون بين رجلي يريدون اللبن وكرهت أن أسقي قبلهما أحدا من كمال بره بوالديه ما استطاع أن يسقي أولاده ولا أهله من هذا اللبن، فوقف عندهما والقدح على يديه ينتظر، فلما استيقظا سقاهما اللهم إن كنت تعلم أني فعلت هذا ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة بعض الشيء أجاب الله دعوته فانفرجت الصخرة ففي هذا بيان فضل البر.
ثم قال الثاني: اللهم إنه كانت لي ابنت عم وكنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء فأردتها على نفسها أرداها للزنا فأبت أبت عليه وامتنعت فألمت بها سنة حاجة وجدب فجاءت إلي قالت: يا ابن عم أنا محتاجة تصدق علي فقال: لا، إلا أن تمكنيني من نفسك إلا أن تسمحي لي بالزنا بك، ومن شدة الحاجة سمحت له وأعطاها مائة وعشرين دينارا فلما جلس بين رجليها وهي ليست راضية لكن الضرورة قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه يعني بما أحل الله لك هو بالزواج اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه فارتعد من هذا وخاف وقام ولم يزن بها وترك لها الذهب الذي أعطاها تركه لها اللهم إن كنت تعلم أني فعلت هذا ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة شيئا زيادة لكن ما يستطيعوا الخروج حتى يتمم الله سبحانه مراده.
ثم قال الثالث: اللهم إنه كان لي أجراء فأعطيت كل أجير أجره يعني عنده عمال لهم أجور من رز أو من ذرة، أجور أصواع فأعطى كل إنسان أجره من العمال بقي واحد ما أعطاه أجره ليس بحاضر ثمره له ونماه له واشترى منه عبيدا وإبلا وبقرا وغنما، فلما مضى مدة جاء الرجل قال: يا عبدالله أعطني مالي أجري الذي عندك، ترى ما أعطيتني قال: يا عبدالله كل ما تجده مالك الإبل، والبقر، والغنم، والعبيد، كلها من أجرك الذي عندي قال: يا عبدالله لا تستهزئ بي، قال: إني لا أستهزئ بك، هذا مالك نميته لك ثمرته، فساقه كله ساق الإبل والبقر والغنم والعبيد من تلك الأصواع التي نماها له اللهم إن كنت تعلم أني فعلت هذا ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة وخرجوا.
هذه آيات الله، ومن أصح الأحاديث، رواه البخاري ومسلم في الصحيحين عمن قبلنا خبّر النبي ﷺ أمته بها ليستفيدوا من هذا الخبر، النبي ﷺ يخبر أمته حتى يعرفوا فضل بر الوالدين، ويعرفوا فضل العفة عن الزنا وما فيه من الخير العظيم ولاسيما مع القدرة عليه، إذا عفّ عن الزنا وهو قادر له أجر عظيم، وفضل أداء الأمانة وتنميتها، والحرص على نفع الناس، نفع الفقير، نفع الأجير، تنمية نصيبه، أداء الأمانة أنها من أسباب تفريج الكربة، بر الوالدين، والعفة عن الفواحش، وأداء الأمانات من أسباب تفريج الكروب، ومن أسباب تيسير الأمور، ومن أسباب رضا الله، ومن أسباب دخول الجنة والنجاة من النار.
فهكذا هذا الشهر العظيم -شهر رمضان- الأعمال الصالحات فيه والصدقات والنفقات والتسبيح والتهليل والتحميد والتكبير وقراءة القرآن كلها من أسباب المغفرة، كلها من أسباب العتق من النار، وهكذا في شوال، في ذي القعدة، في ذي الحجة، في كل وقت هذه الأعمال الصالحات كلها من أسباب المغفرة في أي وقت، وفي أي مكان كنت ولو في بطن صخرة هذه الأسباب كلها من أسباب المغفرة والعتق من النار، فاستكثر منها أينما كنت في البر والبحر، في السيارة، في الباخرة، في الطائرة، في البيت على الفراش، في كل مكان احرص على هذه الأشياء، افعل منها ما تستطيع من الذكر والاستغفار والتسبيح والتهليل والتحميد والتكبير والصدقات والإنفاق في وجوه الخير وقراءة القرآن بالتدبر والتعقل، في أي وقت كان ليس خاصا برمضان، في رمضان، في شهر ذي الحجة، في شوال، في صفر، في كل وقت وفي كل مكان، في بيتك، وفي الطريق، وفي السيارة، وفي الباخرة، وفي الطائرة، وفي كل مكان، ترجو ثواب الله وتخشى عقاب الله.
نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لمزيد من الخير، وأن يختم لنا بالخاتمة الحسنة، ويجعلنا وإياكم من العتقاء من النار، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
تَتِمَّةٌ: في صيام ستٍّ من شوّال
عن أبي أيوب : أن رسول الله ﷺ قال: من صام رمضانَ، ثم أتبع ستًا من شوال، كان كصيام الدّهر رواه مسلم. وروى أحمدُ والنسائي عن ثوبان مرفوعًا: صيامُ شهرِ رمضانَ بعشرة أشهر، وصيامُ ستة أيامٍ بشهرين فذلك صيام السنة.
وعن أبي هريرة مرفوعًا: من صام رمضان وأتبعه بستٍ من شوّال، فكأنما صام الدّهر رواه البزّار وغيره.
وروى الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله ﷺ: من صامَ رمضانَ وأتبعه ستًّا من شوّال، خرج من ذنوبه كيومِ ولدتُهُ أُمّه.
آخره، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
الشيخ: إن من نعم الله العظيمة أن شرع لعباده صيام رمضان وقيامه، وجعله ميدانا للعباد، للمسابقة إلى الطاعات والمسارعة إلى الخيرات، ووعدهم على هذا سبحانه الخير الكثير والفضل العظيم، وعدهم مغفرة ومضاعفة الأجر والعتق من النار، وهذا من فضله سبحانه وجوده وكرمه، وشرع لهم فيه أنواع العبادات من قراءة القرآن والتسبيح والتهليل والتكبير والاستغفار والدعاء والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى غير هذا من وجوه الخير، وإن كانت مشروعة في غير رمضان لكن في رمضان يتأكد ذلك، وكان النبي ﷺ كما تقدم يدارس جبرائيل القرآن في رمضان كل ليلة، قد قال الله جل وعلا: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185] ولم يبق من هذا الشهر إلا هذا اليوم بقية هذا اليوم.
فجدير بالمؤمن أن يحرص على ختمه بأفضل ما يستطيع من: ذكر الله، واستغفاره، والتوبة إليه ، وسؤاله جل وعلا القبول والمغفرة، وأن يبلغه رمضانات أخرى على الوجه الذي يرضيه ، يسأل ربه أن يعيده عليه أعواما كثيرة في خير واستقامة وصلاح، وأن يتقبل منه هذا الشهر، وأن يجعله من أسباب المغفرة والعتق من النار، ومن كمال صيام هذا الشهر اتباعه بست من شوال لقوله ﷺ: من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر أخرجه مسلم في الصحيح.
هذا من تمام هذا الخير، ومن كمال هذا الخير اتباعه بصيام ست من شوال إذا تيسر ذلك، ويشرع لك يا عبدالله الصوم في جميع السنة، لا تنس الصوم فيه عظيم، ففي حديث رواه أحمد وغيره يقول النبي ﷺ لبعض الصحابة: عليك بالصوم فإنه لا مثل له.
والصوم له شأن عظيم، في الحديث الصحيح: الصوم جنّة يعني جنّة من النار، وكان النبي ﷺ يصوم الاثنين والخميس، ويصوم ثلاثة أيام من كل شهر إذا تيسر له ذلك، وكان يصل في الصوم كثيرا حتى يقال: لا يفطر، ويصل في الإفطار حتى يقال: لا يصوم، على حسب مشاغله وفراغه عليه الصلاة والسلام، هكذا أمته يشرع لهم التأسي به في الاستكثار من الصوم في بقية السنة، وفي صوم الاثنين والخميس، وفي صيام ثلاثة أيام من كل شهر، يرجون ما عند الله من المثوبة.
وأفضل الصيام بعد رمضان صيام شهر الله المحرم عاشوراء، وأفضل الصيام التطوع في الجملة، صوم يوم وفطر يوم هذا أفضل التطوع، أن يصوم يوما ويفطر يوما، وهذا صوم داوم عليه الصلاة والسلام كان يصوم شطر الدهر -نصف الدهر- يصوم يوما ويفطر يوما، قال عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما لرسول الله ﷺ: إني أريد أفضل من ذلك، فقال لعبدالله بن عمرو: لا أفضل من ذلك ليس هناك أفضل من شطر الدهر، يصوم يوما ويفطر يوما إذا تيسر له لك، إما إذا شغله ذلك عن مهمات أخرى وعن طلب الرزق لا، فهذا لا يشرع له، لا بد أن يراعي حاجات أهله، طلب الرزق التسبب، ولا بد أن يشغله ما هو أهم من طلب العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإنسان يتطوع بالتطوعات التي لا تشغله عمّا هو أهم منها.
وهذه الكفارات تقدم غير مرة أن المراد عند اجتناب الكبائر، فينبغي الحذر من الكبائر لأن الله يقول سبحانه: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء:31] فجعل التكفير مشروطا باجتناب الكبائر، وهذا يعم المؤمنين جميعا، وقال النبي ﷺ: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر، وفي لفظ: مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر دل على أن الكبائر تحتاج إلى توبة، وأنها من أسباب حرمان المغفرة لمن أصرّ عليها.
والكبائر هي المعاصي العظيمة التي جاء فيها الوعيد بالنار، أو جاء فيها الوعيد بغضب الله، أو باللعنة، أو فيها حدود كالزنا والسرقة والعقوق للوالدين أو أحدهما، أو قطيعة الرحم، والغيبة والنميمة، وأكل الربا وقذف المحصنات الغافلات، وأكل مال اليتيم، إلى غير هذا من المعاصي الكبيرة يجب الحذر منها لأنها معاصٍ، ويجب الحذر منها أيضا لأنها من أسباب حرمانك المغفرة، في هذه الأعمال العظيمة فجاهد نفسك يا عبدالله في الحذر مما حرّم الله عليك، دقيقه وجليله، صغيره وكبيره، وحاسب هذه النفس وذكرها موقفها بين يدي الله، وأن الله أباح لها ما يكفي، وشرع لها ما يكفي، ليس لها حاجة فيما نهى الله عنه، وقد أباح الله لها ما يكفي ويغنيها عما حرم الله عليها.
ومما ينبغي أن يختم به هذا الشهر العزم الصادق على طاعة الله ورسوله، وأن تستمر في الخيرات بقية زمانك، وعندك عزم وعندك قوة ونشاط على أن تستقيم على طاعة ربك، وأن تستمر في الخير من صلاة وصدقات واستغفار ودعاء وقراءة قرآن وغير ذلك، ويكون عندك العزم على جهاد نفسك على هذا الخير، مع الحذر من جميع ما نهى الله عنه.
وهكذا يجب الحذر من صحبة الأشرار، فإن صحبة الأشرار شرها عظيم المرء على دين خليله فيجب عليك أن تحذر صحبة من لا يعينك على الخير أو يجرك إلى الشر، واحرص على صحبة من يعينك على الخير ويثبتك ويشجعك، احرص على صحبته، أما من يثبطك عن الخير ويكسلك عنه أو يدعوك إلى الشر فاحذر صحبته.
وفق الله الجميع، وتقبل الله من الجميع، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.
س: كم يقدر الصاع النبوي بالكيلو؟
ج: ثلاثة كيلو إلا شيئا قليلا، ثلاثة كيلو تقريبا.
س: لو قال قائل: يكفيني صمت ستا من شوال مرة واحدة، وكذلك عمرة في رمضان واحدة، ماذا يقال له؟
ج: يكفي، الحمد لله يكفيه، هي نافلة، يكفيه ما أوجب الله عليه.
س: من قال إن الزيادة في دعاء القنوت الوارد في حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما أنها بدعة؟
ج: لا، ما نعلم أحدا قال ذلك، ليس صحيحا.
س: فقيل له: إن بعض الصحابة زادوا فقال: الصحابة ليسوا معصومين من البدعة؟
ج: لا، الدعاء مشروع للإنسان، النبي ﷺ شرع الدعاء، وهذا مثال للدعاء مثل ما في حديث علي : أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، والمقصود من مثل هذا يسمى تمثيل للدعاء ونموذج للدعاء، وليس معنى ساروا عليه.
س: كلمة الصحابة ليسوا معصومين من البدعة، ما وزن هذه الكلمة، وهل وقع منهم بدع؟
ج: يعني الفرد الواحد فيهم ليس بمعصوم، أما هم في الجملة معصومون، وما نعرف أنه وقع منهم بدع.
س: يقع منهم البدع؟
ج: الفرد الواحد غير معصوم، ما نعرف أنه وقع منهم بدعة، لكن الفرد ليس معصوما، كل واحد ليس بمعصوم.
س: من يطيل جلسة التحيات بقصد الدعاء في أدبار الصلوات يطيلها كثيرا؟
ج: لا ينبغي له، ينبغي له أن يتوسط في قدر الدعاء، المشروع لا يمل الناس بالتطويل ولا يقصر.
س: هل يجعل جلسته أكثر من قيامه؟
ج: يعني صلاة النافلة؟
س: نعم.
ج: هذا له، مثلما قال النبي ﷺ: وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء إذا صلاته لنفسه ما وراءه ناس لا بأس.
س: يمكن يكون أكثر من قيامه؟
ج: المقصود ما فيه بأس، النبي ﷺ أطلقه، قال عليه الصلاة والسلام: إذا صلى أحدكم للناس فليخفف، فإن منهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء.
س: بالنسبة للحركات التي حصلت من النبي ﷺ في أثناء الصلاة مثل خلع نعليه عندما أخبره جبريل، ثم أيضا عندما كان يحمل الحسن والحسين وهو في الصلاة، الشاهد في هذا الحركات، هل هي من خصوصية النبي ﷺ أم عامة؟
ج: لا، ليست بخاصة مثل صعوده المنبر ونزوله من المنبر وهو يصلي، مثل حملة أمامة بنت زينب، مثل تقدمه وتأخره في صلاة الكسوف لما عرضت عليه الجنة والنار، يبدو عليها إن كان لها أسباب لا بأس.
س: ما ينقص الصلاة بهذا العبث؟
ج: ما يسمى عبث هذه لمصلحة التشريع وبيان التشريع.
س: منها حمل الطفلة؟
ج: أي: بيان التشريع حملها النبي ﷺ ليعرف الناس أنه جائز.
س: بالنسبة للتهنئة بأيام العيد يقول: كل عام وأنت بخير، أو من الفائزين، أو عيد سعيد، فما هو الحكم؟
ج: لا حرج في ذلك، أي كلمة فيها خير، لا يوجد شيء مخصوص، تقبل الله منا ومنكم، أو غفر الله لنا ولكم.
س: صحة الحديث: من تفل تجاه القبلة جاء بها وهي بين عينيه؟
ج: ما أعرفه، ما أذكر حاله.