فلما غير الناس وتخلفوا عن العمل، وعملوا للدنيا، وتقسَّموا، وصارت الدنيا أقسامًا، كل جهة فيها منبر، وفيها خطيب، وفيها والي يدعو لنفسه، ويعمل لنفسه، وينصر من دين الله ما وافق هواه إلى غير ذلك، إلا من رحم الله، فلما انقسموا طمع فيهم الأعداء، ومزقهم الأعداء، وجاهدوا كل قسم وحده، حتى طمعوا في بلادهم، وأخذوا غالب بلادهم منهم، وحتى نشأ في الناس أجيال كثيرة لا تعرف الدين، ولا تعرف الإسلام، وإنما تعرف شهواتها وأهواءها، وإنما تتعلم للمعاش والمادة والأكل والشرب والفرج ونحو ذلك، فعند هذا طمع فيهم الأعداء، ودخلوا عليهم، وعلموهم من دين الله ما هو ضد دين الله، وصار الأعداء سادة ومدرسين وأساتذة، يعلمون الناس الجهل والضلال وضد الإسلام، وينشرون بينهم أسباب الفرقة والاختلاف، والتحاسد والتقاطع، وإثارة بعضهم على بعض، حتى تقاتلوا وحملوا السلاح فيما بينهم، هذه هي المصيبة العظيمة التي جرت على المسلمين، فجرى ما جرى من الانقسام والافتراق، والتغير والجهل بدين الله، فجاءتهم من أعداء الله علوم دخلت عليهم وهم جهال، فظنوها دينًا، وظنوها خيرًا، وتمسكوا بها، ونسوا دينهم، وأعرضوا عن دينهم، كما قال جل وعلا: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام:44]، ويقول الشاعر هنا:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى | فصادف قلبا خاليًا فتمكنا |
جاءت علوم الكفرة من الشرق والغرب إلى الجم الغفير من الناس ما عندهم علم بالشرع فأخذوا هذه العلوم الباطلة، وهذه الآراء الفاسدة، فظنوها نافعة، وعرضوا بها دين الله وعرضوا بها العلماء فارتاحوا إليها، وصارت سببًا لهلاكهم وتفرقهم، وانقسامهم وخذلانهم لدينهم، وإعراضهم عما أوجب الله عليهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والدين ليس محصورًا في المسجد، ولا في الوضوء، وفي الصلاة، الدين عام يشمل العبادات، ويشمل المعاملات، ويشمل العلاقة مع الرب عز وجل، والعلاقة مع الأهل والزوجات والأولاد، والعلاقة مع المجتمع في كل شيء، في كل شيء، والعلاقة مع الأعداء في الحرب والسلم، فهو دين متكامل، نظَّم للناس كل شيء في أمور دينهم ودنياهم، فلا سبيل إلى استعادة عز المسلمين ومجدهم الغابر وعزهم السليب لا سبيل إلى استعادة ذلك ولا سبيل إلى إنقاذهم مما هم فيه وإزالة هذا التخلف والعودة إلى الرقي والتقدم لا سبيل إلى ذلك إلا برجوعهم إلى دينهم، واجتماع كلمتهم، وتعاونهم على البر والتقوى، وأخذهم من عدوهم ما ينفعهم، مثل ما قال الشيخ محمد بن حسن الدريعي الأمور أربعة: إما أن نأخذ خيرهم وشرهم، وإما أن ندع خيرهم وشرهم، وإما أن ندع خيرهم ونأخذ شرهم، فهذه الثلاث لا تصلح، فلم يبق إلا الرابع وهو أن نأخذ خيرهم ما عندهم مما ينفعنا وندع شرهم، هذا هو الواجب، أن نأخذ ما عندهم مما ينفعنا من سلاح ومن غير ذلك من أنواع النفع، نأخذ ما عندهم مما ينفعنا وقد أخذوه عن أسلافنا، قد أخذوا عن أسلافنا خيرًا عظيمًا، وانتفعوا به، واستفادوا من علوم خلفها الأسلاف من الأخيار، وانتفعوا بها في علومهم، في طبهم، وفي رقيهم المادي، وفي غير ذلك من شؤون حياتهم، فلنأخذ منهم ما ينفعنا؛ لأن الله قال: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]، وقال: خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71]، فعلينا أن نأخذ ما ينفعنا فنعد القوة التي نستطيعها، قوة البدن، قوة المال، قوة الزراعة، قوة التجارب والتدرب، قوة السلاح والصِنْعة، نعد كل شيء نستطيعه، ونأخذ من سلاحهم ما ينفعنا من طائرات ودبابات وسيارات وتلفون ومركبات فضائية إذا استطعنا وغير ذلك، نأخذ منهم ما ينفعنا، وندع من أخلاقهم وأعمالهم الخبيثة ما يضرنا من أخلاقهم الفاسدة، وليس التقدم أن نتقدم بالصناعة، أو في علم الجيولوجيا، أو في علم الحساب، أو في أي علم، علم الزراعة، وأخلاقنا فاسدة، أخلاقنا هالكة، ليس هذا بتقدم، ولا علم، إذا شاعت الفاحشة بين الناس والسلب والنهب واختل الأمن فأي خير في تقدم صناعي أو زراعي أو علمي علم دنيوي، أي خير في هذا إذا كانت الحرمات تنتهك، والأخلاق مطرحة، والنهب والسلب واختلال الأمن، أي خير في هذا، وإنما التقدم بالأخلاق بالدين، بالاستقامة على أمر الله، بالخلق الكريم، يضاف إلى ذلك التقدم الصناعي والمالي والزراعي إلى غير ذلك مما ينفعنا، يضم هذا إلى هذا، كما قال الله جل وعلا في وصف نبيه عليه الصلاة والسلام : وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4] يقول الشاعر:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت | فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا |
فالأخلاق التي هي الاستقامة على أمر الله، والإخلاص لله، والصبر على دين الله، وأداء فرائض الله، وترك محارم الله، والوقوف عند حدود الله، وبر الوالدين، والصدق والحلم، وقيام العدل إلى غير ذلك من الأخلاق الفاضلة، هذه أسباب النجاة والسعادة، أما ما ذكره الله في قوله سبحانه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73]، المعنى فيما نعلم وفيما علمناه من أقوال أهل العلم -المعنى-: إلا تفعلوا هذا الأمر، يعني: إلا تجعلوه أولياء فيما بينهم، وتجتنبوا ولايتهم، ولا توالوهم أنتم، يعني: اجعلوهم أولياء فيما بينهم، ولا توالوهم أنتم، فإن وليتموهم أنتم وفعلتم الولاية فيما بينكم وبينهم صار الفساد في الأرض والفتنة والفساد الكبير، المعنى: إذا اتخذتم الكفار أولياء صار الفساد والفتنة، ولكن إذا جعلتموهم أولياء فيما بينهم، وحذرتموهم، واستغنيتم عنهم بالمسلمين، وأخذتم منهم ما ينفعكم، وتركتم عقولهم التي تضركم، وأخلاقهم التي تضركم، وأعمالهم التي تضركم، سلمتم من شرهم، أما إذا واليتموهم واتخذتموهم بطانة وأصحاب دسوا عليكم كل سوء، وأدخلوا عليكم كل بلاء، واجتهدوا في خبالكم وفسادكم، فتهلكون حينئذ كما قد وقع في غالب الدنيا، اتخذوهم أولياء وأمنوهم، ووظفوهم، فصار بذلك الشر العظيم، والفساد الكبير، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا [آل عمران:118]، يعني: فسادًا، وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ [آل عمران:118]، يعني: ود الكفار عنتكم ومشقتكم وضرركم، وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118] هذا شأن الكفرة، ولهذا قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ [آل عمران:118]، يعني: من غيركم من الكفار، يعني: لا تتخذوهم بطانة، فإنهم يضرونكم، ويفسدونكم، ويؤذونكم، ويدخلون عليكم السموم باسم المصلحة، وباسم النفع، وباسم النصح، وهم كاذبون، حتى يفسدوا أولادكم، ويفسدوا أخلاقكم، ويفسدوا دينكم، ويمزقونكم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118]، هذه حال الكفرة، هذه حالهم إذا والاهم المسلمون، أفسدوا عليهم دينهم ودنياهم، وخربوا عليهم دينهم ودنياهم، ولهذا قال في الآية الأخرى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51].
فالمراد بقوله: إِلَّا تَفْعَلُوهُ يعني: إلا تفعلوا ما ذكرنا من جعل الكفار أولياء وأنتم أولياء فيما بينكم -أنتم أولياء، وهم أولياء، هم أولياء فيما بينهم، وأنتم أولياء فيما بينكم، فإذا خلطتم الولاية مع الكفار، وصار الكفار لكم بطانة وأولياء- جاء الفساد والفتنة، ولكن النجاة والعصمة أن تكونوا متحدين، أن يكون المسلمون متحدين، أولياء فيما بينهم متعاونين متناصرين، وأن يكون الكفار فيما بينهم متحدين أولياء فيما بينهم، لا يدخلون في شؤوننا، ولا يكونون بطانة لنا، ولا نطلعهم على أسرارنا، ولا نأمنهم على ديننا ودنيانا، بهذا ننجو من شرهم، ويخافوننا، ولا يعلمون أسرارنا، ونستعين بما عندهم مما يصلح ومما ينفع، ونتجنب ما يضر وما يخشى منه الضرر.
هذه خلاصة ما ظهر لي من المحاضرة، وأسأل الله للجميع التوفيق والهداية، وأسأل الله للجميع التوفيق والهداية، كما أسأله سبحانه أن يصلح ولاة أمر المسلمين جميعًا، وأن يهديهم صراطه المستقيم، وأن يجمع كلمتهم على الحق والهدى، وأن يصلح عامة المسلمين في كل مكان، وأن يفقههم في الدين، وأن يولي عليهم خيارهم، وأن يكثر فيهم علماء الإسلام، العلماء الصالحين الفقهاء في دين الله الناصحين لله ولعباده، كما أسأله أن يجزي إخواننا المشايخ أصحاب الندوة، أسأل الله أن يجزيهم خيرًا، وأن يثيبهم ويضاعف أجرهم، وأن يزيدنا وإياكم وإياهم علمًا وهدى وتوفيقا، إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.